في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط شبيبةٍ غير مثقلة بنكسات الماضي
حلت الأسبوع الفارط مناسبتان تاريخيتان بالمغرب، أولهما ذكرى تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، والأخرى ذكرى انتفاضة 1965. مع 20 مارس تدخل النقابة العمالية عامها السبعين، وهي اليوم أبعد ما تكون عن النهوض بالأدوار المعلنة عند التأسيس، حتى على صعيد الدفاع عن الخبز اليومي والحريات الأساسية، فما بالك بأهداف التحرر الوطني والاجتماعي. ومع 23 مارس تكون انصرمت على انتفاضة الشبيبة 59 سنة، وما أبعد هذه اليوم عن تطلعاتها التي وسمها سياق ثوري عالمي يبدو اليوم كالحلم.
وبتجنب التمجيد الأجوف للبدايات التي شابتها هي ذاتها عيوبُ ولادة، والادعاءات الزائفة بمواصلة المسيرة النضالية كل هذه العقود، نجدُ الاتحاد المغربي للشغل اليوم كيانا ضامرا ضمن ساحة نقابية متشظية، عات فيها النظام والبيروقراطيات النقابية والأحزاب البرجوازية خرابا. فقد أفلح النظام منذ عقود في استمالة بيروقراطية نقابية ساهم في إنمائها، وحظي بدعمها السياسي، دعما يتخذ اليوم أشكالا غير مسبوقة، تبلغ مستوى المساندة الصريحة لحزب برجوازي يقوم، ضمن آلية النظام السياسي، بدور رئاسة حكومة الواجهة. وإلى جانب النقابة الأم نجد تفريخات دفعت بها قوى غير عمالية لغايات سياسية معاكسة لمصلحة الطبقة العاملة. وهي اليوم تقف كلها، بعد استعمالها في مناوشات أحزاب ما سُمي ذات يوم “كتلة ديمقراطية”، وبعد أن انضاف إليها مكون “إسلامي”، على نفس أرضية التعاون مع الدولة وأرباب العمل لضبط الساحة العمالية والتحكم في كفاحية الشغيلة بمنطق تأمين “السلم الاجتماعي”.
وعلى صعيد حركة الشباب، حيث كانت انتفاضة 23 مارس إيذانا بميلاد أعظم حركة شبيبة ثورية شهدها المغرب، وامتدت تأثيراتها السياسية و التنظيمية الايجابية حتى مطلع سنوات 90؛ وبالنظر بعين الواقعية إلى راهننا، لا يمكن سوى التأسي لحال كفاحية الشباب المغربي. فحركته التلاميذية التي بلغت الذروة مع النقابة الوطنية للتلاميذ، باتت ذكرى بعيدة. ورغم الصبوات الجديدة لتلاميذ المغرب، كان أعظمها في السنوات الأخيرة حراك الاحتجاج ضد توقيت الدراسة (الساعة المضافة) في العام 2018، لا يزال القصور السياسي والتنظيمي يبدد طاقة الكفاح. وينطبق هذا التشخيص على طلاب التعليم العالي، إذ كف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب عمليا عن التطور ايجابيا منذ تجربة اللجان الانتقالية في مطلع التسعينات، وسار إلى انحطاط سياسي وتنظيمي، وبلغ من التفكك درجة غير قابلة للتدارك. وجلي أن للأمر صلة وثيقة بمصير اليسار المنتسب إلى الماركسية، الذي كان في أزمة فأجهز عليه انهيار الأنظمة البيروقراطية المسماة زورا “اشتراكية”، دافعا أقساما عريضة من بقاياه إلى مواقع محض ديمقراطية وحتى ليبرالية. وقد أفسح ذلك في المجال، إلى جانب عوامل أخرى، لاكتساح قوى سياسية رجعية دينية الساحة الطلابية والشبيبية عامة، ولا يزال لها لحد اليوم دور أكبر مما لسواها في ما ينبثق من احتجاجات آنية محلية.
ولا ريب أن من أمارات التردي السياسي في الوسط الشبيبي ما نشهد من خمول تلاميذي وطلابي ، غير معهود، إزاء إبادة الجماهير الفلسطينية في غزة منذ زهاء نصف سنة.
و على صعيد آخر، كانت تجربة حركة المعطلين نقطة ضوء في المسار العام لأفول حركة الشبيبة المغربية ذات النزوع التقدمي، مع كل ما طبعها من نقص سياسي و عزلة كان فيها لتعامل القيادات النقابية دور كبير. ويُشهد لهذه الحركة، قبل تلاشيها الحالي شبه التام، بدور رائد في تعميم وحفز أشكال الاحتجاج في الشارع، وفي المناطق المهملة، ثم في مد الحركة النقابية بقطاعات الدولة بقوى جديدة.
لقد أحدث الهجوم النيوليبرالي، وتكييف اقتصاد البلد لحاجات الرأسمال المُقرض، تغيرات عميقة في بنية الطبقة العاملة، وكذا في ظروف وجود الفئة الشابة المتعلمة. وانعكس ذلك على صعيد المقدرات التنظيمية للشغيلة وللطلاب. فعلى الصعيد الأول فككت تحولات النسيج الصناعي والخدماتي، لا سيما الخوصصة بأسمائها المتنوعة، تركزات عمالية، ووسعت دائرة هشاشة التشغيل في قطاع الاقتصاد المنظم ذاته، فضلا عن اتساع القطاع غير المنظم، وامتداد الهشاشة سيرا إلى الإجهاز على الوظيفة العمومية. وفي الآن ذاته تطورت قطاعات تشغيل جديدة (خدمات الحراسة والنظافة ومراكز النداء وصناعة السيارات والكابلاج…) . كلها تحولات هيكلية لم تواكبها الحركة النقابية بجهد انغراس واع، فزادها الأمر ضعفا لاشك أنه سرع لجوء البيروقراطيات إلى اندماج أعمق بمؤسسات الدولة تعويضا لقوة تنظيمية مفتقدة. هكذا، وبنحو مواز لاضمحلال اليسار بمختلف مكوناته، الوطنية والماركسية، غاصت القيادات البيروقراطية في مستنقع التبعية للدولة، باندراج تام في آلية “الحوار الاجتماعي”، وبالمشاركة في مختلف الأدوار التي تعدها دولة رأس المال لتنفيذ خططها بأقل كلفة سياسية. وأدت هيمنة البروقراطيات النقابية، الحزبية ومدعية الاستقلالية على حد سواء، إلى تأخير وعي العمال السياسي، وحتى إفساده.
وفي عالم التعليم العالي، سارت جهود الدولة للقضاء على الحركة اليسارية مع تغيرات هيكلية في نظام الدراسة، وتعاظم لأعداد الطلاب بنحو بدّل كليا على مدى عقود شروط النضال. وبات العمل السياسي في الجامعة مستعصيا ليس فقط لأسباب القمع، بل أيضا بفعل إثقال كاهل الطلاب بنظام الدراسة الجديد، وتعاظم ظاهرة من يوازون الدراسة بالعمل لتحسين الدخل، ما يغني عن النضال لأجل ذلك. هذا علاوة على التأثير المنفر لتنامي الاقتتال بين مختلف التيارات العصبوية. ولا يزال تأثير الجماعات الدينية يحرف طاقة معظم الطلاب المتجذرين صوب آفاق البدائل الرجعية المسدودة. وقد دل بقاء الشباب الجامعي والتلاميذي بعيدا عن حراك 20 فبراير، وضعف تفاعله مع الحراكات الاجتماعية التي طبعت عقدين من الزمن، عن عمق أزمة النضال الشبيبي، وبذلك بات شعار الطلاب التاريخي “لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة” مجرد رجع صدى يعود بذاكرة النضال عقودا إلى الوراء.
واليوم وقد كاد ينتفي ما كان مشرقا نسبيا في تجربتي النضال العمالي والشبابي، لم يبق غير استخلاص الدروس لتنوير سبيل النضال بها أمام شباب اليوم، العمالي والطلابي. وتلك مهمة النخبة الثورية الراهنة، الماسكة براية الكفاح والمدركة للحاجة الماسة إلى انتشار الفكر الاشتراكي الثوري المتجدد بين الشباب باعتبار هؤلاء حاملا أساسيا له في اتجاه انصهار مع الأقسام المتقدمة نضاليا من الطبقة العاملة، لاسيما شبابها، سبيلا لتجاوز الضيق النقابي بما هو نضال اقتصادي مشتت، والتقدم في بناء حزب الطبقة العاملة الاشتراكي الثوري الذي لن تقوم له قائمة إلا بدور فعال للشباب العامل والطلابي سواء بسواء.
اقرأ أيضا