الإضراب في الوظيفة العمومية سلاح الشغيلة الذي ينبغي رفض تقنينه
بقلم، نجمي الأحمر
كشف الحراك الذي شهدته الوظيفة العمومية بالمغرب، أن سلاح الاضراب، يشكل أداة حاسمة في يد الشغيلة لتحسين أوضاعها وصون مكاسبها، متى تم توظيفه في المعارك العمالية بشكل ديمقراطي وجماهيري. ولعل ما تم تحقيقه بسبب الاضراب الجماهيري الأخير من مكاسب تاريخية لشغيلة التعليم لم يتحقق عبر عشرات الحوارات والنضالات بالوكالة في تاريخ شغيلة الوظيفة العمومية.
كما بددت هذه الإضرابات والاحتجاجات في الشارع؛ أوهام الاعتماد على عرائض الاحتجاج، وحمل الشارات، وتنفيذ الأشكال في العطل وأيام الآحاد، واستجداء الحوار والإثكال على البيروقراطية النقابية لتحسين أوضاعها وصيانة المكتسبات. وكشفت بالملموس، أن الحل الحاسم لتحقيق المطالب لا يتأتى إلا بالنضال الحازم، المبني على سلاح الإضراب الجماهيري والاحتجاج الميداني المقرر بشكل ديمقراطي.
وفي المقابل ضاعف هذا الحراك من منسوب الفزع الطبقي تجاه الإضراب لدى الباطرونا ودولتها وعزمها الإجهاز عليه، لما يشكله من سلاح في أيدي مستغليهم وتهديد لمصالحهم ومخططاتهم. ليس هذا المسعى وليد اللحظة بل هو مخطط قديم، حيث تعود أولى مشاريع تقنينه لسنة 2001 وثاني مشروع سنة 2015. وفشلت الحكومات السابقة في تمريره، وقد كان أحد التحديات الأساسية للحكومة الحالية هو تمرير هذا القانون بمعية قانون النقابات. لما يحمله هذه المشروع من نصوص تنظيمية تصب نحو تقييده وتجريمه وتشديد العقوبات الحبسية والمالية في حق ممارسيه وافراغه من كل ضغط اقتصادي وسياسي. لم يكن الحق في الإضراب مكفولا للجميع وفي جميع الأوقات بقدر ما كان مستهدفا بشكل دائم للحد من تأثيره وامتداده فالعديد من المضربين في القطاع الخاص يتم محاكمتهم واعتقالهم بالفصل 288 من القانون الجنائي بدعوى عرقلة حرية العمل، وقد يصل الأمر الى إصدار أحكام قضائية لوقف أو منع الاضراب وتوقيف تنفيذه كما هو الحال مع ربابنة الطائرات وإضراب المراقبين الجويين وفرض عسكرة قطاعهم، وحل تنظيماتهم «الجمعية المغربية للطيارين المدنيين» 2020، بسبب دعوتها للإضراب في القطاع، وسيستمر القمع بمنعهم من عقد مؤتمر تأسيسي لتنظيم نقابي داخل «لارام» بمقر كدش بالبيضاء يوم 16 أكتوبر 2023.
أما القطاع العام فقد تم اعتماد الاقتطاع من أجور المضربين، ويتم إنزال عقوبات تأديبية في حق المضربين بدعوى الغياب غير المشروع عن العمل، وإصدار التوقيفات الجماعية في حق المضربين بتهم ممارستهم لأعمال خطيرة واخلال بالالتزامات المهنية، واعتبار الاضراب انقطاع عن العمل بصفة غير مشروعة ترتب عنه ضياع حقوق الغير، واتهامهم بتحريض زملائهم على القيام بالتوقفات المتكررة عن العمل أثناء القيام بالتعبئة للإضراب، بناء على الفصل 73 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الذي ينص على “إذا ارتكب أحد الموظفين هفوة خطيرة سواء كان الأمر يتعلق بإخلال في التزاماته المهنية أم بجنحة ماسة بالحق العام فإنه يوقف حالا من طرف السلطة التي لها حق التأديب». وكانت آخرها توقيفات حراك التعليم الذي سجل إيقاف أزيد من 500 مضرب بسبب ممارسة حقهم في الاضراب مطلع السنة الجارية.
إن ما يشجع الباطرونا والدولة في مسعاها نحو الاجهاز عن الحق في الاضراب هو السياق الدولي الذي يعرف هجوما على هذا الحق، فالعديد من الدول سنت مؤخرا قوانين تقيد حق الاضراب وتعرقله، (الجزائر 2023، مصر قانون العمل 2023، الاكوادور 2015 …) ذهب ببعضها لاعتباره تهديدا قوميا، وقد بلغت جرأة العدوان مداه في مؤتمر العمل الدولي لعام 2012، بعدما قامت خلاله مجموعة أرباب العمل بالاعتراض على وجود حق الإضراب معترف به دوليا تحميه اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87.
في هذا السياق الهجومي على حق الاضراب، انساقت البيروقراطية النقابية وراء تبني خطاب تقنين الاضراب. وقبلت التفاوض حوله بل وضعته في كفة المقايضة مقابل مأسسة الحوار الاجتماعي، أي خلق مؤسسة وطنية (ذات الامتداد الجهوي والمحلي) تتكفل بالحوار الاجتماعي، وتستشرف النزاع وتوقّي/تجنب أرباب العمل ودولتهم من تكاليفه «مؤسسة وطنية للحوار الاجتماعي بإطار قانوني تنظيمي مبسط في مسطرته. واضح في منهجيته التواصلية والإدارية. شامل لأطرافه الثلاثية. منتظم في انعقاده. بامتداد جهوي وقطاعي واضح. ودور متكامل يضمن الالتقائية بين مختلف اليات التشاور والحوار والتفاوض. مع قدرة استباقية ونفس استشرافي…في إطار من الذكاء الجماعي التوافقي والتشاركي بين الشركاء الاجتماعيين.» مذكرة كدش.
متبنية بذلك الخطاب النيوليبرالي الذي يحث على استحضار “المتغيـرات البنيويـة التـي يشـهدها سـوق الشـغل وتنافسـية المقاولـة واليـد العاملـة المؤهلـة، والأنماط الجديـدة للتشـغيل، مـع اسـتحضار ضـرورة اسـتكمال الإطارات القانونيــة المتعلقــة بالمنظمــات النقابيــة والمهنيــة (قانــون الإضراب، قانــون النقابــات”) حسب رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وبالتالي تجاوز أنظمة الشغل والحريات الديمقراطية المبنية على ثقافة الصراع والاضرابات والتفاوض نحو أنظمة تكرس الشراكة والحوار والتوافق قصد تشجيع الاستثمار واستقرار مصالح الأغنياء، الذي ستتكفل به هذه المؤسسة التي ستعمل على «تطوير منظومة جديدة لممارسات جيدة، ونموذج فاعل وأدوات مبتكرة، بهدف إحداث التغييرات الضرورية والمطلوبة في مواقف وعادات الاطراف الاجتماعية، عبر تطوير أهداف وسياسات وبرامج الحوار الاجتماعي. واعتماد أفضل الممارسات، وتعزيز التعاون المشترك والتشاركي بين الشركاء الاجتماعيين» مذكرة كدش.
ليست هذه النزعة غريبة عن القيادات البيروقراطية التي ما فتأت تعبر عن استيائها من الإضرابات والاحتجاجات التي تخرج عن سيطرتها وتعرقل التزاماتها مع الدولة وارباب العمل، إن عجزت عن تفجيرها وتكسيرها من الداخل. أما موقفها من مأسسة الحوار الاجتماعي فهو موقف يعبرعن طموحات بيروقراطية للاندماج بأجهزة الدولة وعرض خدماتها في استقراء ما قد يهدد مصالح الأغنياء واقتراح سبل الوقاية منها وتوجيه الممارسات التقليدية المرتكزة على الإضرابات والاحتجاج نحو ممارسات الانتخاب والتنافس عبر صناديق الاقتراع لكسب التمثيلية داخل هذه المؤسسة وهياكلها.
المطلوب اليوم من المناضلين الكفاحيين رفض كل تقنين للحق في الاضراب والاحتجاج باعتبارها حقوق وممارسات فرضت بتضحيات الطبقة العاملة عبر تاريخها ولم يأت منة من الباطرونا ودولتها، والدفاع عن الحرية والابداع في ممارساته وأشكاله ومدده وفجائيته حتى يتوفر على المفعول اللازم لتحقيق الضغط. لا التضييق وتقييد ممارساته وحصر ممارسيه وأشكاله ومدده وطبيعته الفجائية، كما أن تاريخ الحركة العمالية ودروسها تؤكد على أن الاحتجاج في الميدان والشارع وحده الكفيل لفرض مكاسب حقيقية للطبقة العاملة (دروس 20 فبراير، حراك التعليم، والصحة…) وأن أي رهان على المؤسسات لتعويض هذه الممارسات والتقاليد ما هو إلا مسعى بيروقراطي بعد فقدانها المشروعية النضالية وخوفها من نضالات الطبقة العاملة ورد فعلها إزاء تعديات مستغليها.
اقرأ أيضا