وفاة محمد بنسعيد أيت إيدر:”معارض” تبنى الملكية وتبنته
بقلم: رفيق الرامي
جنازة رسمية لسياسي “معارض”
يوم 6 فبراير 2024، توفي محمد بنسعيد أيت إيدر، أحد أبرز قادة اليسار التاريخيين. وبعث الملكُ برقية تعزية تعتبر أنه “برحيله المفجع فقد المغرب أحد أبنائه البررة الذي نذر حياته لمقاومة الاستعمارين الفرنسي والإسباني، والدفاع عن حرية المغرب واستقلاله وكرامته، والذود عن وحدته الترابية، في تشبث مكين بثوابت الأمة ومقدساتها”.
تقدم جنازته الأمير رشيد، شقيقُ الملك، وحضرها عدد من الوزراء، وقادة الأحزاب السياسية يمينا ويسارا. أثنى الجميع على مناقب الراحل ودوره السياسي بجمل التمجيد والوصف ببطل النضال من أجل الاستقلال والديمقراطية. وتجدر الإشارة أن الراحل حظي برضا النظام وإشادة منه حتى قبل وفاته، مجسدا في توشيحه من طرف الملك في 30 يوليوز 2015 بوسام العرش من درجة الحمالة الكبرى.
أعادت هذه الجنازة إلى الأذهان سابقة دفن ابراهام السرفاتي حيث شارك فيها هي أيضا وزراء ومستشار ملكي. وليس المشترك بين الحالتين غير انتقال المعارضين التاريخيين من معارضة جذرية للملكية إلى مراهنة عليها في إضفاء الديمقراطية على البلد.
قد يبدو هذا الإجماع الرسمي-“المعارض” مفارقة لمن يكتفي بالمظاهر، والحال أن الجنازة كحدث سياسي منسجمة تمام انسجام مع ما استقرت عليه الهوية السياسية لبنسعيد أيت ايدر، أي خط “نضال التوافق مع الملكية”. ولم ينطق أحد بكلمة حق في الفقيد من وجهة نظر ديمقراطية جدية حازمة.
مصلحة النضال ضد الاستبداد السياسي، وضد النظام الاقتصادي-الاجتماعي الذي يدمر حياة سواد الشعب المغربي الأعظم، تقتضي قول الحقيقة لشباب اليوم في شأن المسار السياسي لقائد من طراز بنسعيد أيت إيدر، بعيدا عن المجاملات التي تخدم في آخر المطاف خطا سياسيا جر الويلات و الإخفاقات على حركة التحرر الوطني والاجتماعي بالمغرب.
الوهم الدائم: التقدم بتعاون مع الملكية
لم يكن السياسي الراحل ديمقراطيا بالمعنى الجذري للكلمة، أي سياسيا يؤمن بسيادة الشعب، وبالتالي يهدف إلى كنس كل المؤسسات غير الديمقراطية وكل الامتيازات السياسية، ويناضل بحزم دون سعي إلى المساومة. صفة الديمقراطي تقتضي كامل الثقة في الجماهير الشعبية وتأييد نضالاتها لتبلغ مداها الأقصى، أي سيادة الشعب، وليس الخوف من كفاحية الشعب.
وقد كان بنسعيد يفطن أحيانا لعدم ثقة أشباه الديمقراطيين الذين كان ضمنهم في كفاحية الشعب. فقد قال في معرض تقييمه لفترة تحضير الحسن الثاني لما سمي حكومة تناوب: “يعلمنا التاريخ أن كثيرا من القوى التي تسعى للتغيير قد ترتعب أحيانا مما تصنعها أيديها هي نفسها عندما تنظر الى ما تفجره من طاقات وإمكانات بعين التوجس والخشية من فقدان السيطرة عليها” [1]
لكن هذا لم يمنع بنسعيد من مواصلة السير على نهج “التوافق مع الملكية” وليس الإيمان بكفاحية الشعب والعمل للرقي بها وعيا وتنظيما في أفق تغيير حقيقي، أي ثوري.
وبدل الرؤية الديمقراطية الحازمة المناضلة، من منطلق أن النضال الطبقي مصدر كل تغيير وأن الإصلاحات ليست إلا نتيجة ثانوية لذلك النضال، ظل بنسعيد من قادة يسار “وطني ليبرالي”، خطه السياسي التاريخي هو خط العمل بوهم التعاقد مع الملكية. رغم الثمار المرة لخرافة الميثاق مع الملكية من أجل الاستقلال، واصل هذا اليسار “الوطني الليبرالي” السير على نهج التحالف مع الملكية لتحقيق الديمقراطية.
وقد ظل الراحل على هذا النهج حتى نهاية مشواره، نأخذ مثلا عنه في حوار مع جريدة أنوال.
سؤال أنوال: الحركة الوطنية ناضلت طيلة 50 سنة من أجل ملكية دستورية، فلماذا تعثرت مسيرتها؟
- جواب بنسعيد: كان بين محمد الخامس والحركة الوطنية رباط مقدس من الوفاء والثقة، وهو ميثاق غير مكتوب، لكن قوته حفرت بقوة وبالدماء تاريخ المغرب، وهو عهد يقوم على الكفاح من أجل استرجاع استقلال المغرب لبناء نظام ملكية دستورية ديمقراطية وعلى أساس ذلك تم ما يعرف بثورة الملك والشعب، وضحى فيها الملك بعرشه في سبيل كرامة الشعب وسيادة الدولة وضحى فيها الشعب بأبنائه وأمواله فداء للوطن ومن أجل رجوع الملك إلى عرشه. وكانت فعلا ملحمة رائعة تحقق لها النصر بفضل الوفاق والتراضي والثقة بين الملك وبين الحركة الوطنية. لكن للأسف الشديد هذه المسيرة من التراضي والثقة لم تتواصل بعد الاستقلال كما كانت في معركة التحرير و الاستقلال… دخل المغرب بعد ذلك الحين في دوامة من التوترات والأزمات أساسها وجوهرها عدم قبول نهج التوافق لإقامة أسس ملكية دستورية. (..) كنا نريد ثورة جديدة للملك والشعب من أجل الديمقراطية” [2].
وقد كانت هذه الرؤية تحكم عمل مجمل ما سمي بالقوى الديمقراطية التي كانت، قبل 3 أسابيع من كلام بنسعيد الآنف لجريدة أنوال، أصدرت ما سمته “البيان من أجل الديمقراطية” الذي تنوي على حد قول جريدة الاتحاد الاشتراكي (21 فبراير 1994)، بعد تذكيرها بميثاق الحركة الوطنية مع محمد الخامس، “التجنيد لتحقيق بنوده مع رفيق كفاحه وخلفه جلالة الحسن الثاني”.
لا بل نخرت النزعة الديمقراطية الزائفة حتى حزبا كان ينتسب إلى الطبقة العاملة، الحزب الشيوعي المغربي المنحط إصلاحيا وليبراليا، بانضمامه التاريخي إلى جوقة الحركة الوطنية البرجوازية، بهجر حتى ألف باء الماركسية التي ترى في الصراع الطبقي المحرك الوحيد للتاريخ. فأحد أبرز قادته التاريخيين يوجز الرؤية التي عوض بها الحزب الماركسية بقول:”من سمات تاريخنا أنه كلما كان المغرب في موقف حرج، أو كلما كان عرضة للأخطار، إلا والتحمت المؤسسة الملكية مع الشعب بمختلف طبقاته وفئاته. ولنا أمثلة كثيرة من تاريخ المغرب، نذكر في جملتها معركة وادي المخازن، التي أدى فيها التوحد بين عبد الملك السعدي – من بعدما خلع ابن أخيه المتوكل – وبين الشعب المغربي إلى دحر الغزاة وعملائهم. كما أن التحام المغفور له محمد الخامس مع الحركة الوطنية والشعب المغربي هو الذي عجّل بالاستقلال، وشكل شعار “عودة الملك محمد الخامس إلى عرشه”، مظهراً من مظاهر النضال الوطني؛ بل جوهر مطالب الشعب المغربي والحركة الوطنية بكل مكوناتها. ولذلك، فالتوافق كان يمثل دائماً صمام الأمان للملكية، وأيضاً للشعب وقواه الحية”[3]
كل هذه الأضاليل السياسية انتهت وحسم التاريخ أمرها، بالنهاية السخيفة لتجربة ما سمي حكومة تناوب توافقي، وترسيخ الاستبداد إلى يومنا هذا، وبالحالة الراهنة لما يسمى القوى الوطنية والديمقراطية.
ولم يكن الأمر بحاجة إلى كل تلك التجربة التاريخية، ففي تاريخ بنسعيد أيت ايدر ذاته، يوم كان من قادة منظمة 23 مارس الثورية، انتقاد لخرافات الحركة الوطنية البرجوازية. ففي تسفيه تلك المنظمة لخط الاتحاد الاشتراكي نجد نقدا لكونه يعتبر أن المخزن “أصبح أداة بيد الحركة الوطنية”، وينفخ في الدور الوطني “للملك الراحل” ويعتبر أنه والشعب سواء في الطموح الى بناء الدولة الشعبية. وتضيف المنظمة الثورية:
“(…) وقد بينت الأحداث الملموسة فيما بعد، للغافلين على الخصوص، حدود وطنية القصر، وذلك في موقفه من جلاء الجيوش والقواعد الأجنبية، وموقفه من الوطنيين الحقيقيين، ومن المقاومة وجيش التحرير، ومن مسألة الأراضي المغربية المحتلة “.[4]
ورغم عقود التجربة التي مرت على تلك الخلاصة، لم يبرأ بنسعيد من أوهام المراهنة على الملكية حتى في عز أقوى تحرك سياسي شهده المغرب من أجل الديمقراطية، نعني أيام 20 فبراير لما نزلت الجماهير الكادحة بعشرات الآلاف إلى الشارع لإسقاط الاستبداد، ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فقد ختم بنسعيد رسالته إلى شباب 20 فبراير بقول:” انا متفائل …بأن مطالبكم العادلة وعلى رأسها “مطلب الملكية البرلمانية” ربما قد تجد استجابة من طرف ملك البلاد الشاب المسؤول عن وحدة الوطن وطمأنينة الشعب”.[5]
هذا هو بنسعيد الذي فقدته الحركة “الوطنية الديمقراطية”، حركة النضال من أجل الديمقراطية بتوافق مع الاستبداد. بنسعيد الذي انساق جل اليسار، حتى المنتسب منه الى البروليتاريا، مع تمجيده بطلا للنضال من أجل الديمقراطية. وقد أخطأ الرفيق أمين عبد الحميد بتصريحه في المقبرة بأن روح بنعسيد يجب أن تلهم الشباب.
فليس بنسعيد، ولا الحركة “الوطنية الديمقراطية” التي أفنى عمره فيها، نموذجاً يقدم قدوة لشباب مغرب اليوم التواق إلى التحرر من نير الاستبداد والاستغلال وشتى صنوف الاضطهاد. هذه الحركة أنهت دورتها التاريخية بإخفاق ناجز في بلوغ أهداف التحرر الوطني والديمقراطي. ولن تتحقق هذه الأهداف، ومعها التحرر الاجتماعي بالقضاء على الرأسمالية، إلا ببناء حركة ديمقراطية واشتراكية، مبدؤها النضال الطبقي، ببناء أدوات كفاح طبقة الشغيلة التي ستقود مجمل ضحايا نظام الاستعمار الجديد والرأسمالية التابعة الجاثم على صدر شعب المغرب. ولنا في حراك شغيلة التعليم الذي فاق 3 أشهر من الإضراب والمسيرات، مثال ساطع على ما تختزن طبقة الأجراء والأجيرات من كفاحية لا ينقصها إلا البوصلة السياسية.
فلتنصرف أنظار الشباب التواق إلى النضال من أجل التحرر الوطني والديمقراطية والاشتراكية إلى نماذج أخرى في النضال البروليتاري المسترشد بالنظرية الثورية: الماركسية.
============
إحالات:
[1] كتاب هكذا تكلم محمد بنسعيد، ص 293.
[2]: جريدة أنوال عدد 2 فبراير 1994
[3]: ذاكرة اليسار- عبد الله العياشي –الحلقة 27 إعداد عبد الفتاح بهجاجي –جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 5991 بتاريخ 5 يناير 2000
[4] مناقشات حول تطور المجتمع المغربي، منظمة 23 مارس – دار بن خلدون.
[5] كتاب “هكذا تكلم محمد بنسعيد”، ص 387
اقرأ أيضا