تحدي السير قدما بالعمال والشعوب بوجه تضافر الأزمات
كُتب هذا النص بناء على التقرير عن الوضع العالمي المقدم للجنة العالمية للأممية الرابعة في أكتوبر العام 2023. يتطرق بنحو خاص للعلاقات بين مختلف القوى الامبريالية، وصعود أقصى اليمين ومهام الثوريين بوجه تركيب أزمات النظام.
بقلم: آنا كريستينا كارفالايس
ينضاف حصار غزة، وما يُقترف فيها من مذابح بحق الفلسطينيين/ات من قبل دولة إسرائيل المدعومة صراحة من الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل صمت متواطئ من سائر القوى الامبريالية الغربية، إلى حرب بوتين ضد أوكرانيا لإبراز عدم الاستقرار والعنف الشديد المميزان للنظام الجيوسياسي العالمي الجديد. ليس تكاثر الحروب وتفاقم التوترات بين الدول وداخلها سوى إحدى أمارات الحقبة التاريخية الجديدة المتسمة بتضافر الأزمات، التي بدأت مع أزمة العام 2008.
النص التالي ليس عملا شخصيا، بل ثمرة نقاشات خضناها في الأشهر الأخيرة بين أعضاء اللجنة العالمية للأممية الرابعة. نلاحظ البعد الدولي غير المسبوق الذي اتخذته المسائل الكبرى المطروحة على البشرية.
اتخذت أزمة الرأسمالية حجما جديدا منذ أزمة 2008 الاقتصادية وما تلاها من انكماش لاسيما مع جائحة كوفيد. وباتت أزمة الرأسمالية متعددة الأبعاد بصورة جلية. ثمة تضافر وتمفصل بين الأزمة البيئية- التي تنتج منذ بضع سنوات ظواهر مناخية قصوى باطراد، منها موجات الحر الأخيرة- وطور الركود الاقتصادي المستديم، واحتداد الصراع من أجل الهيمنة في النظام الدولي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وأوجه تقدم الاستبداد والفاشية الجديدة، ومقاومة الشعوب والشغيلة وتكاثر الحروب في العالم (فلسطين، أوكرانيا، السودان، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ميانمار).
يبين هذا التمفصل أننا دخلنا لحظة جديدة في تاريخ الرأسمالية. حقبة مغايرة نوعيا للتي عشنا منذ إرساء العولمة النيوليبرالية في متم سنوات 1980، وذات طابع صراعي أشد من وجهة نظر صراع الطبقات من تلك التي افتتحت مع انهيار الاتحاد السوفييتي والأنظمة البيروقراطية في أوروبا الشرقية. وكما قلنا في مارس 2021: تُفاقم الجائحة الأزمة متعددة الأبعاد للنظام الرأسمالي، وتفتح لحظة جديدة من تداخل ظواهر قديمة تطورت بنحو مستقل نسبيا، وتتضافر مع الجائحة بصورة تفجرية[…] يتعلق الأمر بسيروروات تتبدى وتتفاعل فيما بينها، مُغَيِّرة النظام العالمي الموروث عن سنوات 1990 مع نهاية الكتلة الشرقية وانفجار الاتحاد السوفييتي وإعادة الرأسمالية سواء في هذا القسم من العالم أو في الصين». (1)
خلفية هذه الأزمة متعددة الأبعاد ونقطة التقاء كل الأوجه هي الأزمة البيئية، الناتجة عن قرينين من التراكم الرأسمالي الافتراسي. يضرب تصاعد الأزمة المناخية والبيئية بعنف الإنسانية والحياة على كوكب الأرض: المناخ ينفلت من عقاله والتنوع الإحيائي يختفي، ونواجه التلوث وإصابات بالعدوى وبجائحات. وينتج الاقتصاد المعولم، القائم على حرق طاقات أحفورية واستهلاك متنام للحم وأغذية محولة بنحو فائق، مناخا سيقلص الفضاء الجغرافي الذي يمكن للبشرية أن تعيش فيه، وذلك بنحو سريع. ويسرع ذوبان القطبين والركام الجليدي صعود البحار وأزمة الماء. ويتقدم كل من الزراعة الصناعية والاستغلال المنجمي واستخراج الهيدروكربونات، رغم المقاومة، في الغابات المدارية، رغم أنها أساسية للحفاظ على الأنظمة المناخية والتنوع الإحيائي. وتستمر مفاعيل الأزمة المناخية في التجلي العنيف، مدمرة البنيات التحتية والأنظمة الزراعية ووسائل العيش ومسببة تنقلات كثيفة للسكان. ولا شيء من هذا سيحدث دون تفاقم الصراعات الاجتماعية.
هل لهذا الوضع سوابق؟ إنه نقاش ملحق لكن محتد ضمن المؤرخين. طبعا، الأقرب إلى ما نعيش اليوم هو تضافر الأزمات الذي شهده مطلع القرن 20 – الذي أفضى إلى «عصر الكوارث» كما سماه هوبزباوم (1914-1946) والى حربين عالميتين داميتين. وثمة بالأقل فرقين كبيرين في الوضع الراهن: أولا، نحن إزاء أزمة بيئية حيث خلق النظام ظروف تحول تراجعي شامل لحياة البشرية ولكل أشكال الحياة. ثانيا، وهو أمر لا يقل طابعا حاسما، يتمثل في أن التغيرات، المتسارعة أكثر فأكثر، تتراكب مع الحفاظ على عنصر من الحقبة السابقة، ألا وهو غياب بديل للرأسمالية ذي مصداقية بأنظار الجماهير، وغياب قوة أو جملة قوى معادية للرأسمالية تقود ثورات اقتصادية واجتماعية .
هذا لا يعني انعدام كفاحات ومقاومات. بالعكس، شهد هذا القرن موجتي نضالات ديمقراطية ومناوئة للنيوليبرالية، كان منها حركة النساء، كحركة متجددة، والحركة المناهضة للعنصرية البادئة في الولايات المتحدة الأمريكية. بيد أن هذه النضالات الكبيرة لم تواجه، من وجهة نظر موضوعية، الرأسمالية النيوليبرالية وحكوماتها وحسبُ، بل أيضا مآزق إعادة التنظيم الهيكلية لعالم الشغل-فقدت البروليتاريا الصناعية وزنها الاجتماعي في قسم كبير من الغرب، ولم ينظم المضطهدون/ات والشباب والقطاعات الجديدة من الشغيلة ضحايا الهشاشة أنفسهم بعدُ بشكل دائم، ويواجهون في الغالب صعوبات في الاتحاد مع الحركة الاجتماعية. وتترافق هذه الوضعية مع تقهقر لوعي المضطهدين/ات والمستغلين/ات، بفعل إعادة الهيكلة الجغرافية والتكنولوجية والبنيوية وكذا النزعة الفردية النيوليبرالية المفرطة. ويُضاف الى هذا التشظيُّ المفرط لليسار الاشتراكي لتشكيل وضع حيث النضالات أصعب وحيث النتائج نادرة على صعيد الوعي والتنظيم السياسي.
تضافر الأزمات يضخمها
توصيف الأزمة الرأسمالية بما هي متعددة الأبعاد يعني أن الأمر ليس مجرد جمع لأزمات، بل هو تركيب متمفصل ديالكتيكيا، حيث كل دائرة تؤثر على الأخريات وتتأثر بها. فيما يتعلق بالعلاقة بين دوائر الشأنين الاقتصادي والاجتماعي من جانب والإيكولوجيا من جانب آخر، توجد البلدان الامبريالية المركزية، غربا وشرقا على السواء، إن لم يكن في وضع انتحاري فإنها تواجه تحديا بالغ الصعوبة في تطبيق انتقال طاقي يقلل آثار تغير المناخ في لحظة يتسارع فيها ميل معدل الربح إلى الانخفاض.
فاقمت العلاقة بين الحرب في أوكرانيا (قبل تفجر الصراع في فلسطين) والركود الاقتصادي الوضع الغذائي الحرج لأفقر الناس في العالم، مع أكثر من 250 مليون شخص إضافي يعانون الجوع في عشر سنوات (2014-2023). ويتزايد تدفق الأشخاص المُهَجَّرين بسبب الحروب وتغير المناخ والأزمة الغذائية وتعزز الأنظمة القمعية، لاسيما في بلدان الجنوب، رغم أن وسائل الإعلام تولي أهمية أعظم للترحيلات القسرية من الجنوب إلى الشمال.
كان للآفاق الكارثية في المجالات البيئية والاقتصادية، منذ العام 2016 بالأقل وبلا شك، دور هام بدفع قسم من قطاعات برجوازية ببلدان مختلفة إلى الانفصال عن مشروع الديمقراطيات الشكلية كأفضل وسيلة لتطبيق الوصفات النيوليبرالية. تتبنى قطاعات متزايدة الأهمية من البرجوازية بدائل استبدادية داخل الديمقراطيات الليبرالية، ما أفضى إلى تعزيز الحركات الأصولية اليمينية وحكومات أقصى اليمين (ترامب، مودي، بولسونارو)، وكذا إرساء روابط بين أتصار هذه القوى على صعيد دولي.
يشجع تطور النزعة الفردانية الفائقة، كشكل من العلاقة الاجتماعية مرتبط بالنيوليبرالية، في تركيب مع استعمال اليمين للشبكات الاجتماعية وربما الآن للذكاء الاصطناعي- أكثر نزع التسيس وتشظي الطبقات والنزعة المحافظة. كما تُسهم التكنولوجيات الرقمية في تعميق الإخضاع والعلاقة الزبونية لدى الفلاحين الصغار والمتوسطين، فيما هم المنتج الرئيسي للغذاء في العالم، وحتى في زوالهم الكثيف. ومن جانب آخر، تقوم النيوليبرالية، بهجومها العنيف على ما تبقى من دولة الرعاية، وفرض فرط استغلال العاملات والعمال في الصناعة والخدمات، لا سيما المعالجات، بإلقاء النساء لاسيما العاملات في مأزق بقاء سيئ على الحياة أو النضال.
ومع خطط التقشف، يهاجم النظام بعنف الخدمات الاجتماعية التي خلقها في الماضي: يلغيها كليا أو يمنحها للقطاع الخاص عندما يُمكن جني أرباح منها. تُبقى النيوليبرالية النساء في إطار اليد العاملة بالقطاع المنظم في الشمال، وفي أشكال أقل تهيكلا ولا شكلية في الجنوب، بتقليص مداخيل وأجور العاملين كمستخدمين أو الذين يقدمون خدمات، مع إرهاق مجمل النساء النشيطات بمهام العناية بالأطفال والمسنين والمرضى والأشخاص المُغايرين- وهو العمل الذي كانت دولة الرعاية تنهض به من قبل لما كانت قائمة. توجد شبكات إعادة الإنتاج الاجتماعية في أزمة، بنحو أكثر في البلدان التابعة مما في بلدان المركز، ما يجعل المجتمع النيوليبرالي يدفع النساء إلى العمل المنزلي ويكثف مهام العناية لكنه لا يتحمل مسؤولية إعادة الإنتاج الاجتماعية بمجملها.
من وجهة نظر جيواقتصادية، تتيح الآليات الرقمية و الخوارزميات للرأسمالية النيوليبرالية اليوم ولنظام العلاقات بين الدول استغلال قوى إنتاج جديدة (منصات رقمية) وأنماط جديدة من علاقات الإنتاج الاجتماعية (إضفاء طابع أوبيريUberisation ) وتسليع مختلف العلاقات الاجتماعية. وفي الآن ذاته، انتقل مركز ثقل التراكم العالمي للرأسمال في القرن 21 من شمال الأطلسي (أوربا والولايات المتحدة) نحو الهادي (الولايات المتحدة لا سيما سيلكون فالي وآسيا الشرقية وجنوب شرق أسيا) ليست الصين وحدها حاسمة، بل المنطقة برمتها، اليابان، وكوريا، واستراليا، والهند.
على الصعيد السياسي، العدو الكبير
تتقدم قوى أقصى اليمين الجديدة، بمختلف صيغها، في أوروبا، وقد تصل إلى الحكومة في فرنسا بوجه خاص، وفي أمريكا اللاتينية حيث تمكنت من الظفر بكازا روزادا (الأرجنتين)، بعد انقلاب ديما بولوارتي في البيرو في 2022، وفي الولايات المتحدة حيث يمكن أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض. وتمثل خطرا حقيقيا في آسيا مع أبناء الديكتاتور ماركوس في الفلبين ومع كاره الأجانب المعادي للمسلمين ناريندا مودي في الهند. في هذه الأزمة السياسية طويلة الأمد، ينصب الاستياء مباشرة ليس فقط على اليمين «التقليدي» أو الكوزموبوليتي (الليبرالي التقدمي» حسب تعبير نانسي فرايزر) كما في الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا والهند (حزب المؤتمر) وفي الفلبين، بل أيضا على الاشتراكيات الديمقراطية و «الحركات التقدمية» التي شاركت في تسيير الدول النيوليبرالية في العقود الأخيرة (راجع انتصارات دوترت في 2016 ضد تحالف يمينيى وبولسورانو ضد حزب الشغيلة في 2018، وكذا الهزيمة الأخيرة للبيرونية و صعود حركة فوكس في اسبانيا).
منذ 2008، وبشكل أكثر حدة مند بريكسيت وانتصار ترامب في 2016، تعززت حركات وأحزاب اليمين المتطرف، وتطورت مع انتصارات انتخابية في إطار النظام. وهي تقدم نفسها بأنها ضد النظام رغم نزعتها النيوليبرالية الشديدة والمحافظة والقومية والكارهة للأجانب والعنصرية والكارهة للنساء وللنسوية ولحقوق مجتمع الميم LGBTQIA+ ومستوحية أو هي مدعومة بكثافة من الأصولية الدينية من النوع المسيحي في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية وهندوسية في الهند. وبخلاف فاشية ما قبل 100 سنة، تنشر هذه القوى اليمينية المتطرفة نزعة إنكارية علمية، لا سيما فيما يخص فهم تغير المناخ- لأنها بحاجة الى إنكار الواقع المأساوي كي تمثل أملا ما-وفي توجه التحمل الجماعي للسكان بوجه الجائحات.
هذا الصعود لهذا الخليط من الفاشية الجديدة وما بعد الفاشية نتيجة لما لا يقل عن عقدين من أزمة الديمقراطيات النيوليبرالية ومؤسساتها. كانت هذه الأنظمة النيوليبرالية مسؤولة – والسكان يعتبرونها مسؤولة- عن تزايد أوجه اللامساواة والإفقار والفساد والعنف وغياب الآفاق للشباب. واتضح أنها عاجزة عن الاستجابة بنحو مُرْضٍ لتطلعات الشعوب والشغيلة. هكذا فان جذر هذا اليمين المتطرف الجديد هو يأس قطاعات اجتماعية مفقرة بوجه تفاقم الأزمة وتفكك النسيج الاجتماعي الذي فرضته النيوليبرالية –الذي تتطور داخله الأصولية الدينية- في تركيب مع فشل «البدائل» المتمثلة في الليبرالية الاجتماعية «والتقدمية». ونتيجة ذلك نشهد تطور أقسام من البرجوازية داعمة للفاشية الجديدة بما هي حل سياسي وإيديولوجي قادر على ضبط الأنظمة والتحكم في الحركات الجماهيرية بيد من حديد وفرض تقويمات عنيفة وأشكال تجريد من الملكية بقصد استعادة معدل الربح. المثال الأبرز لهذه القسمة هو التقاطب في الولايات المتحدة الأمريكية بين الترومبية –التي اقتحمت الحزب الجمهوري- والحزب الديمقراطي.
ونشهد بالموازاة تعزز أنظمة الحكم الدينية الفتاكة، أنظمة خِلافة حقيقية في الشرق الأوسط، وديكتاتوريات في آسيا الوسطى والفاشية الجديدة الأوليغارشية الامبريالية لبوتين في روسيا، فيما يوسع الحزب الشيوعي الصيني نطاق القمع بقيادة شي جين بينغ. يمثل هذا التركيب تهديدا تاريخيا للحريات العامة وللمكاسب الديمقراطية في كل مكان بالعالم. وبدون أن نمحو انتقادنا لحدود الديمقراطيات البرجوازية الشكلية، ندافع نحن الثوريون بوجه خاص على حق المستغلين والمضطهدين في النضال وفي التنظيم. في هذا السياق غير الملائم للذين واللائي هو في أسفل، يساهم اليسار المزعوم المُحِنُّ الى الستالينيىة، والمدافع عن بوتين وعن النموذج الصيني وعن مادورا وأوتيغا، كبديل للنظام الامبريالي، في إضعاف واغتصاب هذه الحريات، خالقا بذلك عقبة إضافية بوجه النضال من أجل ديمقراطية حقيقية، أي اشتراكية.
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
لا زلنا نعيش تحت تأثير الأزمة المالية الكبرى لعام 2008، هذه التي فتحت فترة ركود كبير جديدة (بالمعنى الذي يقصد ميكائيل روبرتس)، على غرار تلك التي ميزت سنوات 1873-1890، وبوجه خاص سنوات 1929-1933. يرى معظم المحللين اليساريين أننا نعيش أزمة للعولمة النيوليبرالية. أولا، لأن نمط الاشتغال الرأسمالي هذا لم يعد، كما كان في الماضي، قادرا على تأمين ما شهد من نمو ومعدل ربح في متم سنوات 1980 و1990. ثم لأن التقاطب الجيوسياسي، المفاقَم بغزو أوكرانيا، وبتقدم النزعات القومية وحاليا بمذبحة غزة، يزعزع سلاسل القيمة فائقة التدويل (نذكر منها سلسلة الطاقة بأوروبا-روسيا، والإنتاج العالمي للشرائح الالكترونية، هدف السعي الأمريكي لمنع الزعامة الصينية في مجال الاتصالات والذكاء الاصطناعي). ومع جائحة كوفيدـ والغزو الروسي لأوكرانيا وعواقبه، وكذا التنافس المحتد بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، تخضع سلاسل الإنتاج العالمية، المهزوزة أصلا، لإعادة تشكيل. بيد أن أيا من هذه المصاعب لم يمنع الحكومات الامبريالية النيوليبرالية وتابعيها من مواصلة تقويماتها وهجماتها الشرسة على الأجور والميزانيات الاجتماعية وكذا إضفاء الطابع السلعي على الزراعة.
ورغم النمو الهزيل المسجل بعد العام 2008، يصارع الاقتصاد النيوليبرالي ضد أزمته بالهروب إلى أمام، عبر التركيز المستمر للرأسمال والأمولة والاستدانة العامة والخاصة، والرقمنة التي تمنح مزيدا من السلطة للشركات الكبرى العابرة للأوطان بوجه عام، ولكبريات المنشآت التكنولوجية بوجه خاص. إن ترافق الركود في الغرب والتضخم المتنامي (والمفاقَم بالحرب في أوكرانيا) وتطبيق نفس السياسات النيوليبرالية لا يؤدي سوى إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والإقليمية والعرقية والجندرية بين البلدان وداخلها.
سبب استئناف المبادلات الاقتصادية الدولية، وعرض القروض الهام لدعم الانتعاش بعد جائحة كوفيد، ارتفاعا مفاجئا للطلب، ومضاربة في الطاقة والمواد الأولية ومستوى تضخم غير مسبوق منذ عقود، ووضع متفاقم على كل الصُّعد بأثر الحروب الاقتصادي على سلاسل الإنتاج والتوزيع العالمية.
وتفاقم الارتفاع الحاد للتضخم بفعل دوامة ارتفاع لهوامش الربح والأسعار، وليس بدوامة ارتفاع للأجور والأسعار، بعكس ما يدعي البنك المركزي الأوربي والخزينة الأمريكية بوجه خاص. رفع البنك المركزي الأوربي والخزينة الأمريكية وبنوك مركزية أخرى نسب الفائدة، مع خطر انكماش عالمي في 2023، مع الإضرار بالأنظمة المالية الأقل تقنينا مثل أنظمة الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا. ويشجع السعي المحموم إلى الاحتماء من الأزمة (أو الحفاظ على الأرباح) المضاربة المالية ويهدد بنحو دائم النظام بموجة الإفلاس في 2008 التي لم تقتصر على البنوك، بل طالت أيضا منشآت صناعية كبيرة من قبيل جنرال موتورز وجنرال الكتريك وشركات عقارية كبيرة. وفضلا عن طابعه الانكماشي – الذي يزعزع مستوى معيشة الجماهير الكادحة- يؤدي ارتفاع نسب الفائدة إلى ديون سيادية وخاصة، ما يخلق شروط أزمات عجز عن السداد جديدة، إقليمية وحتى عالمية.
النظام الجيوسياسي وإعادة التشكل
«الفوضى الجيوسياسية» التي تحدثنا عنها قبل بضع سنوات تفاقمت من جهة، ومن جهة أخرى تؤدي إلى ما يسميه الاقتصادي الماركسي كلاوديو كاتز أزمة نظام إمبراطوري، أي إضعافا للقوة المهيمنة مرفوقا بتوطد إمبرياليات جديدة، مثل الصينية والروسية. يتعلق الأمر بإعادة تشكل جارية في سياق عالمي مطبوع بعدم استقرار هائل، دون توطيد أي شيء، بنحو يجعل كل جزم قاطع مراهنة على الفرضية الأكثر احتمالا. مهما يكن من أمر، لم تعد أحادية القطب بزعامة أمريكية قائمة.
تبرز الوقائع أننا، مع تعزز العملاق الأسيوي في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، نعيش بالأقل صراعا بين إمبرياليات قائم على التنافس بين النظام الإمبراطوري القديم – الكتلة الأمريكية مع الإمبرياليات الأوربية، وكندا واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا- والكتلة التي في طور التشكل حول الصين.
تتضمن الكتلة الصينية، المتوسعة والهاجمة، روسيا (رغم مصالحها الخاصة وتناقضاتها مع الصين)، وكوريا الشمالية والعديد من جمهوريات آسيا الوسطى، وتجد لها أصدقاء جدد في ممالك الشرق الأوسط (السعودية وقطر والبحرين وإيران) ويسعى إلى تحويل البريكس إلى تحالف ضد الإمبرياليات الغربية.
«الوثبة الكبرى» الصينية للعقود الثلاثة الأخيرة هي من طبيعة رأسمالية. إن الإمبريالية الصينية، الوريث لثورة اجتماعية عظيمة ولانعطاف مستعيد للرأسمالية في سنوات 1980، لا غنى عنه لإعادة بناء نيوليبرالي للعالم (تم بشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها)، تبدي خصائص متميزة، على غرار سائر الإمبرياليات. وهي ترتكز على رأسمالية دولتية مخططة، ممركزة في الحزب الشيوعي الصيني وفي الجيش الصيني، مع سياسات تنموية كلاسيكية، حيث العديد من المنشآت الكبرى هي مشتركة بين مقاولات تابعة للدولة أو تحت رقابتها ومنشآت خاصة. لا تزال إمبرياليتها طبعا في طور البناء، لكنه بناء متقدم جدا. في أثناء السنوات العشر الأخيرة، وثبت الصين إلى أمام في تصدير الرساميل، وأصبحت البلد الذي يحوز ويسجل أكبر عدد من براءات الاختراع في العالم. خلال السنتين الأخيرتين فقط أصبحت الصين مُصدرة رساميل أكثر من مستوردة لها، بالتركيز على مساهماتها في شركات طاقة ومناجم وبنيات تحتية في البلدان التابعة (بلدان جنوب شرق آسيا، وآسيا الوسطى وأفريقيا وأمريكا اللاتينية). وتستثمر بنحو متزايد في التسليح وتتجاوز بشدة الخط- تايوان وبحر الجنوب- الذي يجب على منافسيها والدول الأضعف ألا تتجاوزه. لم تقدم الإمبريالية الصينية بعدُ على غزو أو استعمار «بلد آخر» وفق النموذج الأوروبي أو الأمريكي، رغم أن سياستها إزاء التبت وشينجيانغ (تركستان الشرقية -وأراض صغيرة في نزاع تاريخي مع الهند وبوتانBhoutan) جوهرها استعماري وإمبريالي.
بيد أن روسيا اليوم هي الدولة الناتجة عن تدمير الاتحاد السوفييتي وعن الاستعادة الفوضوية وغير الممركزة للرأسمالية التي تمت، بارتكاز على الاستيلاء على منشآت قديمة وأخرى جديدة من قبل بيروقراطيين أصبحوا أوليغارشيين. وضع بوتين وزمرته، المتحدرين من أوساط المخابرات والقمع القديمة، في مطلع القرن تصورا لمشروع إعادة مركزة الرأسمالية الروسية، باستعمال العلاقات البونابارتية بين الأوليغارششين وصيغة القرن 21 من الإيديولوجية القومية الإمبريالية الروسية، محولة إلى إدارة رئيسة لتعزيز مكانة الرأسمالية الروسية في التنافس الإمبريالي ومن أجل تشديد نوعي لقمع شعوب الفيدرالية–ومنها شعب روسيا.
إنه في هذا السياق الجديد يجب أن نفهم الغزو الروسي لأوكرانيا، والحرب المستمرة منذ زهاء سنتين، والهجوم الإسرائيلي الأمريكي على غزة. قد تستمر الحرب في أوكرانيا أمدا طويلا دون أن ينتصر أي جيش على الآخر، لاسيما أن للولايات المتحدة الأمريكية مصلحة في أكتوبر 2023 في تأمين مساعدة عسكرية ومالية للمذبحة في غزة أكثر مما لها في الحرب الدفاعية للحكومة والشعب الأوكرانيين من أجل تقرير المصير. الولايات المتحدة الأمريكية مهاجِمة مع إسرائيل في فلسطين، ويظل تكتلهما نشيطا في مسرح العمليات في أوروبا الشرقية، مع الاستعداد لاحتمال صراعات في آسيا (تايوان وبحر الصين) أو في منطقة استراليا. إن سيناريو نظام العلاقات بين الدول الرأسمالية، في ظل مصاعب اقتصادية في الصين وتعزز نظام بوتين لحد الآن ونظام أمريكي في أزمة حادة- مع إمكان عودة ترام إلى البيت الأبيض- هو سيناريو نزاعات متصاعدة وتوترات وانعدام يقين كبيرة بالنسبة للشعوب والشغيلة.
لم يسبب هذا النظام (الفوضى) الإمبريالي الجديد حروبا في أوكرانيا وفي فلسطين وحسب. فنحن نشهد تكاثر أوضاع الحرب في العالم برمته، كما في سوريا واليمن والسودان وفي القسم الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، فضلا عن الحروب الأهلية السافرة أو المقنعة، كما في ماينمار، أول مثال عن الحروب الأهلية القادمة، وحرب الدول الأمريكية اللاتينية الدائمة ضد المنظمات الإجرامية، وحرب هذه ضد الجماهير، مثلا في المكسيك والبرازيل. هذا الوضع المفعم بالنزاعات يتقدم جيو- اقتصاديا وجيو- سياسيا في أفريقيا، حيث تنافس روسيا اقتصاديا وعسكريا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في المستعمرات السابقة الناطقة بالفرنسية بأفريقيا الغربية. ومن جانبها تواصل الصين السعي إلى زيادة نفوذها الاقتصادي في كل أقسام القارة الأفريقية. وتهدد هذه الفوضى الجديدة بإكثار النزاعات بين الإمبرياليات وبإعادة إطلاق سباق التسلح النووي، بما يزيد العالم عدم استقرار وعنف وخطورة.
ولا ينزع بروز منافسين شيئا من طبيعة الولايات المتحدة بما هي أغنى بلد والأقوى عسكريا، والذي به برجوازية هي الأشد اقتناعا بـ «رسالتها التاريخية» في الهيمنة على العالم بأي ثمن، وبالتالي الأكثر استعداد لشن الحرب لمواصلة هيمنتها. الواقع أن الولايات المتحدة إن كانت لا تنافَس في ميدان الإكراه، فلديها مشكل جدي: هيمنة إمبريالية (كسائر الهيمنات) لا يمكن الحفاظ عليها سوى إذا كانت تقنع أيضا حلفاءها والرأي العام الداخلي. العم سام هو فعلا من له الكلمة الفصل ضمن «المجموعة» الإمبريالية التي لا تزال مهيمنة، لكن لديها مشاكل عويصة لم تكن قائمة في الحقبة السابقة، إذ أن نخبتها الاقتصادية والسياسية منقسمة بنحو غير مسبوق في موضوع السيطرة الداخلية (مجتمع ونظام ديمقراطي برجوازي في أزمة مفتوحة منذ إمساك حزب الشاي وترامب بزمام الأمر في الحزب الجمهوري من داخله) وهي مرغمة على مواجهة ما أفسده تفكيك سلاسل القيمة التي ربطت بعمق الاقتصاد الأمريكي باقتصاد الصين خلال الأربعين سنة الأخيرة.
هذا التصور بات واضحا منذ صعود ترامب بالولايات المتحدة، وتعزز بموقف الصين من الحرب في أوكرانيا. (يعود بعض الخبراء بأصول هذا التنافس الراهن إلى 1991-2000 مع هيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب، وهذا رأي يستحق القراءة والنقاش). إن كان تحليل المتغير في كتلة القوى والقوى القديمة أمرا أساسيا، فإن إعادة الهيكلة هذه لها مستتبعات عميقة على بلدان الأطراف وشبه الأطراف.
مكانة الحرب في أوكرانيا
سرع غزو جيش بوتين لأوكرانيا إعادة تركيب العالم الجيوسياسي. ومع تصاعد التوترات في شرق آسيا، بصدد تايوان بحر الصين الجنوبي، تنامى خطر حروب مباشرة بين القوى الإمبريالية الرئيسة. ثمة خطر تصعيد نووي، رغم أنه ليس السيناريو الأرجح. إن «النظام الجديد» الجاري بناؤه، والحابل بخطر نزاعات أكثر بين إمبرياليات وباستئناف السباق النووي، يجعل العالم أكثر نزاعا وخطورة.
أسقط الغزو الروسي لأوكرانيا، الشنيع وغير المبرر، الذي قرره بوتين يوم 24 فبراير 2022، وما سبب من حرب، أكثر من 250 ألف قتيل (50 ألف في الجيش الروسي) وأكثر من 100 ألف مدني أوكراني. وتواصل روسيا قصف المناطق المدنية، ومهاجمة سكك الحديد والطرق والمصانع والمخازن، ما يدمر البنيات التحتية الأوكرانية. وأرغمت الحرب ملايين الأوكرانيين على مغادرة البلد، مخلفة أسراً وجماعات محطمة. وصارت لاجئين ولاجئات، ما قد يعني، حسب البلدان، انعدام وضع دائم، والبقاء بلا سكن وبلا عمل أو دخل، وهو ما يلقي ثقلا على البلدان المجاورة التي تعبأ سكانها لإتاحة دعم مادي.
إننا ندافع عن حق الشعب الأوكراني في تقرير مستقبله لما فيه مصلحته الخاصة وفي احترام لحقوق كافة الأقليات؛ حقه في تقرير مستقبله باستقلال عن مصالح الأوليغارشية أو النظام الرأسمالي النيوليبرالي الراهن، وعن شروط صندوق النقد الدولي أو الاتحاد الأوربي، مع إلغاء تام لديونه؛ وحق كل اللاجئين والأشخاص المرحلين في العودة إلى موطنهم في كل أمان واحترام لحقوقهم.
إن الحل الوحيد الدائم لهذه الحرب يمر عبر وقف قصف السكان المدنيين والبنيات التحتية للطاقة، وكذا عبر انسحاب القوات الروسية التام. يجب أن يكون كل تفاوض عموميا أمام الشعب الأوكراني. إننا نناضل من أجل تفكيك كل التكتلات العسكرية (الناتو ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي وتحالف أستراليا المملكة المتحدة والولايات المتحدة)، ونواصل أيضا النضال من أجل نزع السلاح العالمي، وبوجه خاص ما يتعلق بالسلاح النووي والكيماوي.
يتعرض معارضو حرب بوتين الإمبريالية في روسيا وروسيا البيضاء للتجريم. وفي روسيا قمع شديد للفارين من الجندية ولمن يتجرأ على احتجاج صريح. كما أُجبر مئات آلاف الأشخاص على الهروب من روسيا، وغالبا دون حصول على وضع لاجئ، مع التعرض للتدابير الموجهة لمعاقبة أنصار النظام الروسي. هؤلاء الفارين هم أيضا يستحقون تضامننا وندعو إلى وقف كل قمع للمعارضين الروس للحرب وعند الضرورة استقبالهم في بلدان يختارونها.
الانقلابات الحديثة في أفريقيا
تمثل الانقلابات العسكرية الحديثة في المستعمرات الفرنسية السابقة (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) مؤشرا على الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة التي تمر منها هذه المنطقة، التي أضعفها الصعود القوي للأعمال العسكرية للمجموعات الإرهابية الإسلامية، المعززة بهزيمة القذافي في ليبيا وتدخل القوى الغربية. في هذه البلدان الثلاثة، استفاد العسكر الذين استولوا على السلطة، دون مواجهة مقاومة في سياق أزمة نظام، من فقد المؤسسات السياسية التام للاعتبار، ومن الرفض العام للحضور الإمبريالي الفرنسي داخل السكان، لاسيما بين شباب الساحل. عبَّر رفض السكان هذا لفرنسا الإمبريالية عن نفسه أيضا بجلاء في السينغال إبان الحركات الاجتماعية في العام 2021. وفي حالة الانقلاب العسكري في الغابون، المنتمية إلى أفريقيا الوسطى والمستعمرة الفرنسية سابقا، كان الأمر الحاسم هو أزمة النظام لأن هذا البلد لا يشهد رفضا لفرنسا كما عند جيرانه.
مهما يكن من أمر، لا يقدم العسكر المستولون على السلطة بديلا حقيقيا للسياسات الإمبريالية وللنموذج النيوليبرالي، شأنهم في ذلك شأن الإسلاميين الذي وصلوا إلى السلطة بالانتخابات في تونس وفي مصر بعد الربيع العربي. ولا أحد منهم يتخذ موقفا في قضية مناهضة الإمبريالية–التي كانت قوية في القارة في سنوات 1960 و1970- وفي الحاجة إلى وحدة أفريقية مغايرة جذريا لتلك المزعومة التي يمثلها الاتحاد الأفريقيُّ وتوجُهُه للاندماج في العولمة النيوليبرالية.
بصفتنا أممية رابعة، نرفض الخطاب الإمبريالي الغربي الذي يسعى، بذريعة استتباب النظام في هذه البلدان، إلى دعم تدخل عسكري للحفاظ على مصالحه. ونساند مطلب سحب القوات العسكرية الفرنسية من كامل المنطقة، بدءا بالنيجر. ونطالب بإغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في أغاديس بالنيجر وانسحاب قوات فاغنر. ونساند كل الجهود لاستعادة سيادة الشعوب السياسية والاقتصادية في اتجاه حركة جديدة ضد النظام ومن أجل وحدة بلدان أفريقيا وشعوبها.
من هم في أسفل السلم يردون بتعبئات
بعد أزمة العام 2008 عادت التعبئات الجماهيرية في كل مكان بالعالم. الربيع العربي، احتلوا وول ستريت، بلاسا ديل سول في مدريد، تقسيم في استنبول، يونيو 2013 في البرازيل، نوي دوبو والسترات الصفر في فرنسا، والتعبئات في بوينس ايرس، هوغ كونغ، سانتياغو وبانكوك. وكانت هذه الموجة الأولى متبوعة بموجة ثانية من الانتفاضات والانفجارات الشعبية بين 2018 و2019، قطعتها الجائحة: الانتفاضة المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مع مقتل جورج فلويد، وتعبئات النساء في العديد من أقسام العالم، بما فيها كفاح نساء إيران البطولي، والتمردات ضد أنظمة الحكم المطلق كما في روسيا البيضاء (2020)، وتعبئة جماهيرية للفلاحين الهنود حققت نصرا في 2021. وشهد العام 2019 مظاهرات وإضرابات ومحاولات إطاحة حكومات في أكثر من مائة بلد- في أكثر من ثلثها، أفضت الانتفاضات إلى رحيل رئيس الدولة أو الحكومة (السودان والجزائر وبوليفيا ولبنان)، والى تعديل حكومي (العراق، غينيا، الشيلي) أو الى التخلي عن الإصلاحات التي فجرت التعبئات (فرنسا، هونغ كونغ، اندونيسيا، الاكوادور، ألبانيا، هوندوراس) [دراسة بالموقع الإعلامي الفرنسي ميديابارت].
وتجدر الإشارة، بعد الجائحة، إلى ثلاثة أشهر مقاومة في فرنسا صد إصلاح ماكرون لأنظمة التقاعد، وانتفاضة الشغيلة والطلاب في الصين التي أسهمت في إفشال سياسة الحزب الشيوعي الصيني المسماة «صفر كوفيد». وفي الولايات المتحدة الأمريكية تتواصل سيرورة التنظيم النقابي والنضال في فروع إنتاج جديدة (أمازون، ستاربوكس، UPS)، مع بروز سيرورات جديدة مناوئة للبيروقراطية في القاعدة، مع إضرابات شغيلة التعليم والعناية الصحية، وفي 2022-2023 الإضرابات الكبرى في هوليود، وكذا إضراب تاريخي ظافر لعمال ثلاثة من أكبر منشآت صناعة السيارات في البلد.
الطبقة العاملة، بمعناها الواسع، التي تتهيأ اليوم لتأثيرات الذكاء الاصطناعي (وتقاوم كما يدل إضراب كتاب السيناريو والممثلين الأمريكيين)، لا تزال حية وغفيرة، رغم أن هيكلتها مجدَّدَة، وهي عرضة للقمع، وأقل تنظيما ووعيا مما كانت في القرن الماضي. تستمر المركبات الصناعية الكبرى في الصين، وتمتد إلى جنوب شرق آسيا. ويقاوم فلاحو أفريقيا وجنوب آسيا (الهند وباكستان) وأمريكا اللاتينية بشجاعة اجتياح الزراعة الصناعية الامبريالية. وتقاوم الشعوب الأهلية، التي تمثل 10% من سكان العالم، تقدم رأس المال في أراضيها وتدافع عن الممتلكات المشتركة التي لا غنى لكل البشرية عنها. وتؤخر هزيمة الربيع العربي والمأساة السورية مقاومة شعوب الشرق الأوسط، ورغم ذلك شهدنا الانتفاضة البطولية للنساء والبنات في إيران.
وفي أمريكا اللاتينية، سارت الانفجارات الاجتماعية والنضالات- التي مزجت المطالب الديمقراطية والاقتصادية- في قنوات انتخابية لموجة ثانية من حكومات مسماة «تقدمية»، مع كل الفروق القائمة بين حكومات لولا و أملو وبيترو و بوريك. يجب ألا تكون سياستنا العامة معارضة مُواجهة وعصبوية لتلك الحكومات، بل سياسة مطالبة وتعبئة (بما فيه نحو وسائل أفضل لمحاربة أقصى اليمين)، مع الحفاظ عن استقلال الحركات والأحزاب التي نناضل فيها مع كل تناقضاتها.
يواصل الشغيلة مقاومة رأس المال، ويناضلون من أجل شروط حياة رغم أن ذلك يجري بأشكال تنظيم جديدة وبكيفيات جديدة للتنظيم والنضال، وبالتالي بمزيد من الصعوبات مما في السنوات «المجيدة» لدولة الرعاية بالقرن 20. الرهان هو العمل أكثر مما سبق، في كل بلد وفي كل ضاحية حضرية، وفي كل مكان عمل، وفي كل اعتصام، وفي كل إضراب، وفي كل نقابة جديدة بالقاعدة، وضمن كل فئة جديدة، وفي كل حركة مقاومة جديدة للنظام، ببناء الوحدة من أجل مطالب مشتركة، وبخلق وتعزيز التنظيم الذاتي وتسييس المطالب تسييسا مناهضا للرأسمالية، من أجل إعادة بناء وعي للمستغلين والمضطهدين ضد الرأسمالية ومن أجل استقلالهم الطبقي.
في أفريقيا جنوب الصحراء ثمة من جهة الحركات المسماة مواطنة (Le Balai citoyen, Y en a marre!, Lucha, etc.) التي يبدو أنها تبحث عن اندفاع جديد، ومن جهة أخرى المظاهرات الشعبية، بما فيها تلك التي تنظمها المعارضة السياسية، والتي ترد عليها الأنظمة بقمع شرس (السينغال سواتيني -سوازيلاد سابقا- وزيمبابوي،الخ). وبوجه عام ليس الاصطفاف اليساري أو «التقدمي» بديهيا، دون الحديث عن منظور مناهض للرأسمالية (أثاره رفاق الجزائر أثناء الحراك).
مطالب مركزية لعصر جديد
في هذا السياق، يدفع وضع الطبقات الكادحة، وضحايا الاستغلال والاضطهاد، إلى المقدمة مطالب تمزج المجالات الاقتصادية والنسوية والمناهضة للعنصرية مع القضايا البيئية الاجتماعية والديمقراطية بوجه عام- ضد الأنظمة المستبدة والفاشية الجديدة وكل الإمبرياليات. وتشكل السياسات الوحدوية اليسارية (الجبهات المتحدة) وحتى الوحدة الانتقالية مع القطاعات المتوسطة والبرجوازية ضد الفاشية (جبهات عريضة) قسما هاما من عُدَّتنا في هذه الأزمنة، لكن بلا تفاوض أو قبول فقد استقلالنا السياسي أو استقلال الحركات الاجتماعية بأي وجه كان.
الحاجات الأساسية والحقوق الأساسية يجب تلبيتها لجميع البشر، مع رعاية صحية مجانية، وسكن وعمل لائقين، وأجور ومعاشات تقاعد لائقة، وكذا الولوج إلى الماء. إن قسما من البشرية يستفيد أقل فأقل من هذه المزايا بسبب خصخصة الأرض ووسائل الإنتاج لصالح الأرباح الرأسمالية، وسياسات التقشف وتغير المناخ ذي العواقب الكارثية.
يجب أن نناضل ضد الحكومات المستبدة، ومن أجل الحقوق الديمقراطية، ومن أجل حق المجتمع في الرعاية الصحية، وضد الميز الذي تتعرض له النساء، الممنوعات من التصرف الحر بأجسادهن وحياتهن، من أجل الحق في الوقف الإرادي للحمل، ومن أجل مساواة الأجور والمداخيل، وضد العنصرية الهيكلية ضد السود والشعوب الأهلية وباقي الأعراق المضطهدة، وضد كره المثلية الجنسية الموجه ضد مجتمع الميم LGBTQI عبر العالم.
يجب توحيد كل هذه النضالات من أجل الانتصار على الفاشيات الجديدة، وإسقاط أنظمة الاستغلال والاضطهاد، ومن أجل النضال ضد الرأسمالية. كل هذه المهام، وسط الحروب، والكوارث المناخية وأخطار التقويم، تستوجب منطقا أمميا جديدا، نزعة أممية للشعوب التي في أسفل. بينما تتفجر حركات اجتماعية جديدة وتعبئات اليوم، يجب إعادة بناء روابط ومبادرات أممية–مثل تلك التي أقدم عليها شغيلة الموانئ في أوروبا لمقاطعة إسرائيل- وحملات تجميع اليسار والحركات الاجتماعية، مع مبادلات تتيح الدفاع عن المطالب المشتركة، وتسهيل انتصارات وأوجه تقدم قادرة على قلب الوضع لصالح الأغلبيات الاجتماعية.
21 نوفمبر 2023
آنا كريستينا كارفاليس Ana Cristina Carvalhaes مناضلة بحزب الحية والاشتراكية (البرازيل) وعضو المكتب التنفيذي للأممية الرابعة
اقرأ أيضا