حراك شغيلة التعليم: استنتاجات أولية
بقلم: جنين داود
بعد كل التطبيل للنظام الأساسي الجديد، وما خلق وأجج من انتظارات، كان إعلانه دون تضمينه مكاسب مادية لقاعدة الشغيلة العريضة، فضلا عن عبء المهام وخطر العقوبات، سببا مباشرا في انتفاض الشغيلة بنحو منقطع النظير تاريخيا. انتفاض ضد الدولة المشغل من جهة، وضد القيادات النقابية التي ساعدت الدولة في ورش النظام الأساسي من جهة أخرى.
اتخذ هذا الحراك شكل تنسيقيتين(التنسيقية الموحدة لهيئة التدريس وأطر الدعم وتنسيقية الثانوي التأهيلي) وتجمع التنسيقيات الفئوية القائمة أصلا،في إطار «التنسيق الوطني لقطاع التعليم»،حول جامعة التعليم-توجه ديمقراطي.
انعدام قوة معارضة داخل نقابات التعليم جعل سخط الشغيلة يعبر عن نفسه خارجها، بل ضدها بشيوع موقف رافض ليس للقيادات بل للنقابات بحد ذاتها، وهو موقف حد منه في البدايةوجود جامعة التوجه الديمقراطي ضمن الحراك، لكن سرعان ما فاقمت قيادتها الوضع بانضمامها إلى الرباعي في مفاوضات خلفت استياء عميقا. وسيكون الموقف الرافض للنقابات هذا أحد نقاط ضعف الحراك التي ستؤدي، من بين أسباب أخرى، إلى خفوته، فكون الحراك خارجها أزاح ضغط الشغيلة المناضلة عن تلك القيادات وأطلق أيديها لتوقع ما شاءت من مساومات مع الدولة.
وقد انعكس ما يخترق مجمل المجتمع في هذا الحراك، أي وزنا نسبيا أكبر لقوى سياسية دينية المرجعيةـ، وأقل منه لحساسيات يسارية، لاسيما التنسيقية الموحدة. وكالعادة اتخذ موقف التيار الاسلاموي من حركة النضال هذه شكل مسايرة بدون منظور نضالي لتطويره في أفق سياسي، بل البقاء في حدود التطفل عليه. فعدم مناهضته لجوهر السياسة النيولبرالية في التعليم(وبوجه عام) يرسم حدودا لما يمكن أن يسير إليه هذا التيار، حيث سيقتصر على مسايرة الحراك للاستفادة منه دون أن يفيده بشيء بل قد يضر به.وقد تجلى هذا الضرر بما تضعهعناصره من عقبات بوجه الميول الديمقراطية القاعدية التي نشأت عفويا مع الحراك (جموع عامة ونقاشات…).
اليسار الجذري منعدم عمليا كفاعل حامل لمنظور لتطوير الحراك تنظيميا والارتقاء به سياسيا، لا بل قام حزب النهج الديمقراطي العمالي، عبر كوادره النقابية في قطاع التعليم [في قيادتي ن.و.ت /ك.د.ش وجامعة التوجه بنفس دور اليسار التقليدي. أبان معظم اليسار عن قصوره سياسيا، حيث لا يرى في الحراك عاملا سياسيا ذي وقع على الوضع العام، يستوجب تدخلا سياسيا، بل مجرد نضال مطلبي يستوجب «الدعم» ضمن «الانحياز إلى الطبقة العاملة»، وهاجس «تمثيلية» جامعة التوجه الديمقراطي حيث يمارس تأثرا وازنا في جهازها.
ويخضع هذا الموقف لمنطق أن النضال النقابي مجرد نضال مطلبي يتطلب مهادنة البيروقراطيات النقابية وتفادي ما قد يثير سخطها، ومن ثمة هجومها على «المكاسب التنظيمية» الزائفة. ورغم السقوط المريع لقيادة ن.و.ت التي توجد بها عناصر من كوادر هذا اليسار، جرى تفادي التبرؤ السياسي من البيروقراطية.
ستزيد سياسة الالتصاق بالبيروقراطية سد آفاق تطور اليسار، وقد باتت مآزق تكتيك عمله في النقابات تتضح في خضوعه المتنامي للبيروقراطية في ظل تصاعد هجومها على «مواقعه» النقابية. هذه السياسة، إلى جانب التبقرط الذي يمارسه هذا اليسارفي نقابات عدة، يجعله على طرف نقيض من مستلزمات بناء أدوات كفاح للطبقة العاملة، وحتى من مصالح الشغيلة الآنية.
وقد سبق أن تجلى ضرر اليسار المتحدر من المجوعات القاعدية بالجامعة في حركة الأساتذة المفروض عليهم التعاقد، حيث تعمل بدون منظور سياسي، مستغلة انعدام تجربة لدى المدرسين-ات الشباب كي تمارس وصايتها البيروقراطية وتدفع الحركة إلى مآزق وهزائم.وقد قضم ظهور التنسيقية الموحدة بوجه خاض قسما من قاعدة تنسيقية المتعاقدين- ات بفعل وقع تلك المآزق والهزائم.
أدت عقود من هيمنة البروقراطيات النقابية المتعاونة مع الدولة إلى حالة من التخلف السياسي لشغيلة التعليم قصوى. وهو ما انعكس على الحراك الجاري، باقتصار معظم النقاشات في أماكن العمل على الجانب التقني-التنظيمي من الأمور، وعدم تطور النقاش بل انتفاؤه التدريجي في قسم مهم من مساحته الأولى. لكن لا شك أن الحراك فتح أعين القاعدة العريضة على حقيقة سياسة الدولة المعادية لهم، ما يستوجب جهود تنوير سياسي أعظم.
سيكون لحراك شغيلة التعليم وقع إعادة هيكلة للحركة النقابية المغربية، بفعل حجم كتلة أجراء- ات القطاع والمكانة التاريخية لشغيلة التعليم في الحركة النقابية المغربية، هذا شريطة التدخل لحفز النقاش في اتجاه تنظيم القوى المتقدمة في الحراك الجاري في منظمة نقابية موحدة لشغيلة التعليم، تكون نموذجا تقتدي باقي أقسام البروليتاريا بمثاله كفاحيا وديمقراطيا.
أكبر مكاسب الحراك هو الحراك ذاته: أي الانخراط الجماهيري شبه التام للشغيلة في النضال، معظمهم لأول مرة. نضال فعلي وليس الإضرابات المضبوطة (24 أو 28 ساعة) التي كرستها البيروقراطيات طيلة عقود.وتمثل الاشكال الابتدائية لممارسة الديمقراطية مكسبا عظيما قياسا بالتكلس البيروقراطي السائد في النقابات، حيث كان الشغيلة ينتظرون تعليق بيان إعلان الإضراب في السبورة النقابية، بدل المشاركة في تقريره. وهذه المشاركة الجماهيرية والميول الديمقراطية أسس مساعدة مستقبلا على بناء حركة نقابية جديدة في قطاع التعليم. الحراك يعني نهاية مصداقية القيادات «الأكثر تمثيلية»، ما يفتح احتمال بقاء حالة هلامية في غياب استفادة جامعة التوجه الديمقراطي تنظيميا (بعد التحاقها بالرباعي). فالقادم من هجمات يجعل شغيلة القطاع بحاجة إلى أداة دفاع عن النفس، ما يضفي أهمية بالغة على وجود تنظيم دائم (التنسيقيات قد تتلاشى بعد انتهاء الحراك، مع إمكان بقاء هيكل فوقي، وإمكان انتعاشها عند أي هجوم). يطرح هذا كله سؤال تنظيم شغيلة القطاع نقابيا، والأفيد ضمن المنظور العمالي الثوري الدفاع عن شعار اتحاد لشغيلة التعليم يستوعب التنسيقيات، اتحاد قائم على استخلاص درس التبقرط والشراكة الاجتماعية»، يكون قطبا كفاحيا وديمقراطيا على طرف نقيض من «نقابات» قياداتها مندمجة في الدولة.
ويمنح الحراك ببعده المناهض للبيروقراطيات النقابية أهمية بالغة غير مسبوقة لشعار اليسار النقابي (أو المعارضة النقابية أو التوجه الديمقراطي الكفاحي)، إذ تجلى أن غيابه أتاح للبروقراطيات خيانة مصالح الشغيلة. وقد أتاح الحراك فتح عقول قاعدة عريضة من الشغيلة علىأفكار نقد البيروقراطية والتقدم بنموذج بديل للعمل النقابي: نقابة الصراع الطبقي المسيرة ديمقراطيا.
وعلاوة على هذا يفتح حراك التعليم بما ميزه من مشاركة نسائية كثيفة إمكان عمل نسوي لبناء حركة نسوية تقدمية وجذرية، انطلاقا طبعا من مطالب نسائية مهنية خاصة، لكن بتخصيبه برؤية نسوية شاملة تتصدى لمسألة الاضطهاد الجندري بصفة عامة، وجلي أن هذه الفئة المتعلمة من الأجيرات تتيح عملا دعاويا وتحريضيا نسويا اشتراكيا بنحو أيسر مما في سائر الوسط النسائي البروليتاري المنسحق بفرط الاستغلال والتخبيل.
يؤكد الحراك مهمة مقارعة سياسية للتياراتالاسلامية ونقاش صريح لمنظورات معظم اليسار الخاطئة.
على الصعيد الشعبي، تضفي خصوصية إضراب التعليم المتمثلة في دخوله كل بيت، وحساسية مسألة التعليم كخدمة عمومية معرضة للتدمير،أهمية استثنائية على حراك التعليم. فإشعاع الإضراب الجماهيري يعزز منطق النضال في الأوساط الشعبية، حيث جسد شغيلة التعليم نموذج جسم ذائد عن حقوقه بوجه الدولة، بإضرابات ومسيرات في الشارع، بنحو يزعزع جدار الخوف الذي عززه تشديد القمع منذ حراك الريف، الأمر الذي يرفع جاهزية الكادحين للنضال.
وقد أتاح تحرك الأسر والتعبير عن تضامنها مع الاساتذة إمكان بناء حركة شعبية للدفاع عن المدرسة العمومية، غير أن طبيعة الحراك، أي ضفعه السياسي، يفوت هذه الفرصة. طبعا مع بقاء ما تحقق ركيزة لعمل في هذا الاتجاه مستقبلا.
بلغ هجوم الدولة على المدرسة العمومية مستوى يجعل الأسر الشعبية بالغة القلق والسخط على الوضع، ما يحسن شروط التوعية والتعبئة من أجل الحق في التعليم المجاني واللائق. ويطرح هذا مهمة تضمين شعار الدفاع عن المدرسة العمومية مدلوله الحقيقي بالمطالبة بتمويل التعليم العمومي بما يجعله قادر على تلبية الحاجات الشعبية بنحولائق، وتوضيح استحالة تعايش القطاعين ومن ثمة مطلب تأميم الخاص.
رغم عدم تحقيق الحراك كامل مطالبه،سيكون لمجرياته ولمكاسيه الجزئية وقع إيجابي كبير على صعيد الوعي العمالي والشعبي، إذ سنكون لأول مرة إزاء نضال جماعي وصلت أصداؤه أقاصي البلد وكل البيوت.ولا شك أن التنازل المادي، الذي طالما خشيته الدولة ورفضته، ضريبة تدفعها الدولة لقاء إطفاء الحراك قبل امتداده إلى قطاعات أخرى، وقبل توتير الجو العام بالبلد على خلفية الغلاء الفاحش.كما لا يستبعد أن يكون حراك التعليم حافزا لبروز تنسيقيات في قطاعات أخرى تكون حاملا لدينامية نضالية، وبصفة غير مباشرة سيؤثر هذا كله على شغيلة القطاع الخاص.
حراك التعليم نسمةأوكسيجين قوية منعشة للجسم العمالي وتفتح أمامه إمكانات تطور واعدة، غير مسبوقة لكن مشروطة بجهد واعي لتنوير الاستعداد النضالي بالفكر العمالي الكفاحي والديمقراطي.
إنها فرصة لليسار العمالي لينطلق في دوره في تنوير طلائع النضال العمالي والشعبي، وفي حفز ارتقاء النضالات نوعيا، وتوسيع أفقها،ما يستوجب تأطير المطالب المهنية والاجتماعية سياسيا، وبلورة شعار نضال تدفع في اتجاه طرح مسألة السلطة، واستشراف البديل الاشتراكي البيئي النسوي.
مهام اليسار العمالي الثوري
لم تتح لهذا اليسار قط، على طول العقود الثلاثة الأخيرة، فرصة مناسبة لعمله كالتي يتيحها اليوم حراك التعليم. فدخول هذه الآلاف المؤلفة من الأجراء و الأجيرات، من ذوي شروط العمل والحياة الأنسب لعمل نضالي، قياسا بغيرهم- هن من أقسام البروليتاريا المغربية، حلبة النضال المطلبي بوجه الدولة، يتيح إمكانات عمل تنوير وتنظيم غير مسبوقة.
ويمثل الحراك مدرسة عظيمة وخزان تجربة يتعين استثمار دروسها لتنظيم ذلك التنوير والجهد التنظيمي.
فتجربة النضال المديدة، وحجم الانخراط فيها، مادة خام لتربية سياسية ونضالية، فكرية وعملية، بالمنظور العمالي الثوري.
وإنها فرصة تدارك نقص جهود التنوير السابقة، التي غالبا ما كانت تقف في عند الدفاع عن منظور كفاحي وديمقراطي في حدود ما هو مطلبي آني.
يتمثل سد النقص هذا في ربط كل مسائل النضال اليومية بضرورة تغيير السلطة القائمة بسلطة الشغيلة، وتفصيل طبيعة هذا السلطة- الديمقراطية الاشتراكية- وطبيعة المشروع المجتمعي الذي ستبيه: الاشتراكية البيئية النسوية. هذا كله بمنظور انتقالي يمد الجسر بين الآني والاستراتيجي.
اقرأ أيضا