الإضراب
بقلم باتيست جيرو
مقتطف من كتاب سيسيل بيشو وأوليفيه فيليول وليليان ماتيو، “قاموس الحركات الاجتماعية”، ترجمة عمر الشافعي، مراجعة وتحرير دينا الخواجة، مبادرة الإصلاح العربي، دار صفصافة للنشر والتوزيع، الجيزة- مصر،
الطبعة الأولى 2017.
فرض الإضراب نفسه تاريخيا كقطعة أساسية في الريبرتوار المعاصر للفعل الجماعي والنقابي. ومن المفارقات أن هذه المكانة البارزة يقابلها عدد صغير من الأعمال المكرَّسة لدراسة هذه الممارسة في سوسيولوجيا التعبئة الجماعية الفرنسية. ويتعين فهم قلة الاهتمام هذه في ضوء التراجع الظاهر في كثافة وحجم النشاط الإضرابي منذ ثمانينيات القرن العشرين في أغلب البلدان الغربية. وإذ يؤكد هذا التراجع فرضية تهميش صراعات العمل في فضاء الحركات الاجتماعية، فإنه قد أسهم أيضا في إعادة توجيه اهتمامات سوسيولوجيا النقابية إلى مسألة العمل النقابي وتقلص أعداد المنخرطين فيه. غير أنه يتعين إضفاء طابع نسبي على هذا التراجع، بسبب الثغرات في أدوات المعرفة الإحصائية بالصراعات الإضرابية، حيث تميل تلك الأدوات إلى إخفاء واقع أن صراعات العمل لم تختف، لكنها تنعكس في أنماط للفعل أقل مرئية، دون توقف عن العمل أو على شكل توقف قصير المدة. وبينما هجرت العلوم السياسية لأمد طويل الحقل الدراسي، لا سيما الأنجلوساكسوني، لعلاقات العمل، فإنه يتعين الالتفات إلى هذا الحقل لإيجاد النماذج الفكرية الرئيسية لتحليل الإضراب.
المحددات الاقتصادية للممارسة الإضرابية
يستند أول هذه النماذج الفكرية إلى نموذج للتحليل الاقتصادي الرياضي لتذبذبات الأنشطة الإضرابية. وتتمثل هذه المقاربة في بيان أن الإضرابات لا تحدث منعزلة وإنما على هيئة موجات من الإضرابات، يحددها تطور الدورات الاقتصادية. فمنحنيات الإضرابات معاكسة لمنحنيات البطالة. وهكذا تشير هذه العلاقة المتبادلة إلى أن وجود بطالة واسعة النطاق يُسهم في تثبيط لجوء الأجراء إلى الإضراب، من خلال زيادة خشيتهم من فقدان وظائفهم وتخفيض فرص نجاحهم في تحقيق مطالبهم عبر الإضراب. وفي المقابل، يميل مستوى التشغيل المرتفع، الذي تتسم به فترات النمو الاقتصادي، إلى تيسير بلورة تطلعات ومظالم الأجراء في نشاط إضرابي. فهذه الظروف تحفز لديهم إرادة الاستفادة من الرخاء الاقتصادي في تحسين شروط وجودهم، وتقلل من ثقل مخاطر الفصل من العمل التي قد تقترن بلانخراط في إضراب.
ومع عدم إنكار الأهمية الكبيرة للسياق الاقتصادي، ليس بوسع هذا الإطار النظري مع ذلك أن يوفر متغيرا تفسيريا آليا وكافيا لتباين ميل العمال للجوء إلى الإضراب. فحالة “الأزمة” الاقتصادية ليست بالضرورة، بداية غير مواتية لصعود الإضرابات، حيث إنها يمكن على العكس أن تُسهم في مفاقمة التوترات داخل الشركات، وذلك مثلا تحت تأثير تجميد الأجور أو خطط فصل العمالة. ولكن الأهم هو أن آثار الظرف الاقتصادي على عمليات التعبئة الإضرابية تظل متوقفة على وساطة مجموعة من العوامل التنظيمية والسياسية تحديدا. ولذا، على النقيض من كل وهم قائل بالعفوية، تنطلق موجات الإضراب أولا من العوالم المهنية الأكثر تنظيما من الناحية النقابية، قبل أن تسهم هذه التعبئة في تحريك أقل القطاعات تمتعا بتراث نقابي قائم. ومن ثم فإن الموارد المادية، والدراية النضالية، وذاكرة المعارك السابقة المنقولة عبر المنظمات النقابية تفرض نفسها كشروط ضرورية لترجمة مظالم العمال في إطار للفعل الجماعي، ولتنسيق تعبئتهم على نطاق يتجاوز أفق شركتهم وحدها.
العلاقات بين النقابات والمجال السياسي
من جهة أخرى، يتيح أيضا تبني منظور موسَّع لشروط إمكان اللجوء إلى الإضراب، فهم الرهانات المتنوعة للنضال التي يجري تنظيم الإضرابات في إطارها. ففي الولايات المتحدة كما في إيطاليا وفرنسا، يظل صعود الإضرابات في أوائل القرن العشرين عصيا على الفهم إذا ما اختزلناها في أسباب اقتصادية. ولم تكن أغلب عمليات التعبئة هذه على أي حال ناجحة بوجه عام في تلبية مطالب المضربين. والواقع أن الإضرابات راحت تتزايد على الرغم من هذا الفشل الظاهر والمتكرر لأن النقابات جعلت منها وسيلة رئيسية لترويج وترسيخ مشروعها لتوحيد العمال، ولتجنيد وتدريب نشطاء (الإضراب بوصفه “رياضة ثورية”)، ولكي تحظى بالاعتراف بها كأطراف محاورة لا غنى عنها بالنسبة لأرباب العمل والدولة. ومن وجهة النظر هذه، تشكل العلاقات المحدَّدة بين النقابات والمجال السياسي والحزبي عاملا حاسما آخر كفيلا بتفسير حدوث بعض موجات الإضرابات. فالموجات التي شهدتها إيطاليا بين 1942 و1947 (سقوط الفاشية) أو بين 1968 و1972، في جملة موجات إضراب أخرى، كانت أقل ارتباطا بخصائص الظرف الاقتصادي منها بتسييس الاستراتيجيات النقابية الموضوعة بغرض تأكيد القوة السياسية للحركة العمالية في سياق يتسم بهشاشة الحكومة. وبالعكس، فإن الإضعاف الذي لحق بحركة الإضرابات في نهاية سبعينيات القرن العشرين، و”الاعتدال” المفترض للمطالب العمالية الذي جاء هذا الإضعاف نتاجا له، لا ينفصلان عن إرادة قادة الكونفدرالية النقابية الإيطالية (CGIL)، المتأثرة بثقافة شيوعية قوية، الإسهام في إنجاح “المساومة التاريخية” التي أقام من خلالها الحزب الشيوعي الإيطالي تحالفا برنامجيا مع المسؤولين الحكوميين للديمقراطية المسيحية.
مأسسة الإضراب
امتدادا للنماذج الفكرية النيوكوربوراتية ولنماذج التبادل السياسي، سعى عدد كبير من الأعمال بشكل أكثر تحديدا إلى البرهنة على أن أنماط الترتيبات المؤسسية القومية التي تضبط المواجهات بين النقابات وأرباب العمل والدولة يمكن أن تفرز علاقات متباينة بين النقابات والإضراب. وهكذا، فإن المستوى الأدنى للصراعات الإضرابية في بلدان أوروبا الشمالية (البلدان الاسكندنافية وألمانيا وبلجيكا) يُنسب إلى الطريقة التي جرى بها الاعتراف المبكر مؤسسيا بالمنظمات النقابية، الوثيقة الصلة بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القوية، وإدراج تلك المنظمات في نظم بالغة الرسمية والمركزية للتفاوض على الاتفاقية الجماعية، المصحوبة ببنود “السلم الاجتماعي” أثناء فترة سريانها. ولا تؤدي هذه المنظومة إلى الحد من الفرص القانونية للجوء إلى الإضراب فحسب، ولكن من شأنها أيضا أن تتيح للممثلين النقابيين فرصة تفضيل اللجوء، كبديل للإضراب، إلى وسائل مؤسسية فعالة وأقل كلفة للتدخل في إدارة مجموع علاقات العمل.
ومن منظور مماثل، تعددت الدراسات المتمحورة حول توسيع آليات الضبط المؤسسي لعلاقات العمل في مجموع البلدان الغربية خلال السنوات الأخيرة. وتميل هذه الدراسات إلى أن تجعل من هذه الآليات عوامل آلية وطبيعية وراء الانخفاض في عدد الإضرابات المسجلة، من خلال تهدئة استراتيجيات المنظمات النقابية الناجمة عن مأسستها المتنامية. بيد أن القيمة الكشفية لمثل هذا المخطط التحليلي قد أثارت مع ذلك احتجاجات حيوية، بسبب عجزه عن تفسير السبب في استمرارية النشاط الإضرابي في التصاعد حينما يتكثف النشاط التفاوضي. ولعل الصعود الملموس في عدد الإضرابات خلال التفاوض على اتفاقات الشركات لتطبيق قانون “الـ 35 ساعة”[1] يوفر مثالا قريب العهد وبالغ الدلالة على ذلك. بيد أن هذه العلاقة المتبادلة لا يمكن اختزالها في كونها تعبيرا عن خلل في اللعبة المؤسسية لعلاقات العمل، بل هي تشير بالأحرى إلى أن الإضراب يظل أحد الموارد الرئيسية ضمن مجموع وسائل الفعل التي يمكن أن يستخدمها النقابيون من أجل تعزيز قوتهم التفاوضية. ومن هذا المنظور، فإن تطور استخدامات الإضراب ينبغي بادئ ذي بدء فهمه في ضوء الشروط الاجتماعية التي تعرقل الإبقاء عليه في استراتيجيات الفاعلين النقابيين.
وبهذا المعنى يحلل Fantasia وVoss (2003) ترويض الممارسات الصراعية للنقابات الأمريكية. ويضع الباحثان، بادء ذي بدء، هذه العملية في إطار التحول الطارئ على الكوادر النقابية القيادية. فمأسسة الحركة العمالية الأمريكية بدأت في الواقع باستراتيجية، فرضتها الحكومة، لطرد المسؤولين النقابيين الشيوعيين. وشجعت هذه المأسسة تعويضهم بنخبة من القادة ممن يحملون الشهادات الدراسية لكنهم يفتقرون إلى الخبرة النضالية. بيد أن هذه المواصفات جعلتهم مستعدين مسبقا لأن يتبنوا بشكل أيسر متطلبات الأداء البيروقراطي في حلبات التفاوض، وأن يعترفوا بشرعيتها، وأن يجعلوا من أنفسهم الوكلاء المتميزين لاستيعاب الصراعات التي قد يُطلقها ممثلوهم المحليون في القنوات المؤسسية. ومن جهة أخرى، يصطدم هؤلاء الممثلون المحليون بفعالية استراتيجيات التحايل على النقابات التي يتبعها أرباب العمل، تلك الاستراتيجيات التي يتيحها وجود ترسانة من الأحكام القانونية المواتية (إمكانية استبدال المضربين، وتنظيم سحب الثقة من النقابة عن طريق تصويت الأجراء…)، ولعبة إعادة هيكلة الشركات (إنشاء فروع، أو نقل الشركة من موقع إلى آخر)، أو من خلال وضع سياسة إدارية لتأطير القوى العاملة. وفي خارج الولايات المتحدة، تؤدي الديناميات المشتركة لإعادة تشكيل علاقات العمل (تفتيت القطاعات الصناعية الكبيرة ذات التراث النقابي القوي، واللااستقرار والتنويع المتزايدات للمراكز المهنية، وإعادة تنظيم أنماط الإنتاج) إلى إضعاف قدرة النقابات على الفعل الجماعي. كما أن النقابات تجد نفسها مدفوعة إلى تكييف استراتيجياتها المتعلقة بالتعبئة، من خلال اللجوء الأكثر تواترا إلى أنماط الفعل (مثل العرائض والمظاهرات) الأكثر تناسبا مع إعادة بناء أطر الفعل الموحدة في سياق يتسم بتقلص الموارد التنظيمية. وبينما يفند فرضية تلاشي صراعات العمل، يدعو هذا المنظور إلى إعادة النظر في آليات تحويل أنماط التعبير هذه مسار بحثي خصب للتفكير في مسألة باتت مركزية في سوسيولوجيا التعبئة، ألا وهي مسألة تجديد أشكال الفعل الجماعي.
[1] – المقصود قانون قصر أسبوع العمل يف فرنسا على 35 ساعة [المترجم].
اقرأ أيضا