الصين في إطار أزمة إزالة طابع العولمة
مقابلة مع بيار روسيه Pierre Rousset
لم يعد العالم الذي أتاح إقلاع اقتصاد الصين وتوسعه قائماَ. تتصاعد حدة التوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية أزمة إزالة طابع عولمة السوق. أثبت شي جين بينغ، بمناسبة اجتماع مجلس الشعب الصيني، سيطرته على أجهزة الحزب الشيوعي الصيني المركزية، لكن عليه مواجهة تدهور الوضع الاقتصادي. التقى «أعز أصدقائه»، فلاديمير بوتين في موسكو، مؤكداً مزيدَ انخراطِه في أزمة منطقة أوراسيا، ومجازفا بفقدان جزء من رهانه في أوروبا. يواجه النظام، خلف هذا الاستعراض الدبلوماسي وإجماع ظاهري، وضعا غير ثابت، داخلياً وعالمياً على حد سواء.
*******************************************
إنبريكور- كيف ترى «اللحظة الحالية» في الصين؟
بيار روسيه – تشهد الصين داخلياً وعالمياً على حد سواء، تسارع حدة تغيرات جارية مشوبا بزعزعة استقرار الوضع. اجتمع مجلس الشعب الصيني مدة تسعة أيام، وانتهت أشغاله يوم الاثنين 13 آذار/مارس. هناك نقطتان بارزتان جديرتان بالملاحظة: أعيد انتخاب شي جين بينغ لولاية ثالثة كرئيس للجمهورية الشعبية. جليٌّ أن ما حدث ليس مفاجأة، لكن انتخابه كان بالإجماع، على غير العادة. وعلى هذا النحو يبدي شي جين بينغ رغبة الانفراد بقيادة الحزب والجيش والدولة بلا منازع. ثم أقر مجلس الشعب الصيني تحقيق نمو بنسبة 5 في المائة هدف العام المقبل. إنها نسبة متدنية جدا (بلوغها غير مؤكد) وتعني زيادة معدل البطالة وانعدام مساواة اجتماعية. يواجه النظام داخليا، ضرورة استعادة التحكم بزمام الأمور في الوقت الذي يمر فيه البلد بأزمة عميقة الأسباب.
تظل الأمارات متناقضة عالمياً. تشتد حدة المواجهة الجيوستراتيجية بين واشنطن وبكين، ولكن رأس المال الكبير عابر الحدود القومية، يرى ضرورة استمرار عالم الأعمال دون عوائق، كما يتضح من زيارة تيم كوك، رئيس مقاولة أبيل Appel التنفيذي، إلى بكين حيث استُقبل بكل حفاوة. تبدو هذه الزيارة أكثر دلالة لأن المقاولة دفعت ثمنا باهظا، في العام الماضي، بسبب «الإخفاقات» القاتلة لما نهجه شي جين بينغ من سياسة فيروس كوفيد، وتسعى إلى تقليص حدة تبعيتها بترحيل جزء من إنتاجها، لكن لا يمكن تجاهل أهمية سوق الصين، ولا مزايا المنظومة الاقتصادية التي تتيحها الصين للمستثمرين.
يواجه نظام الصين خيارات صعبة بسبب حرب بوتين على أوكرانيا وإعادة تركيز الولايات المتحدة الأمريكية جهودها على آسيا. تؤكد زيارة شي جين بينغ الأخيرة إلى موسكو تحولا دالاَ في موقعه الاطار الجيوسياسي للنزاعات والتوترات العسكرية عالمياً. وتتيح تلك الزيارة (محاولة) تحديد العلاقات الروسية الصينية بدقة وتأثيرها في منطقة أوراسيا خاصة. دخل النزاع الجيوستراتيجي بين الصين، كقوة صاعدة، والولايات المتحدة الأمريكية، كقوة قائمة، طوراً حرجاً جديداً.
يرتبط تطور الصين اقتصادياً وإقلاعها عالمياً ارتباطا جوهريا بمكانتها في قسمة العمل الدولية وفي العولمة النيوليبرالية. أصبح ذلك من الماضي. وانتقلنا من أزمة عولمة السوق إلى تعذر حل أزمة إزالة طابع العولمة الرأسمالية.
تجدر الإشارة والحالة هذه إلى أن «اللحظة الراهنة» للحزب الشيوعي الصيني (PCP) لحظة غامضة، حيث تقرر لجنة المكتب السياسي الدائمة (تحت رقابة شي جين بينغ المشددة) كل شيء.
وللأسف، أصبحت عواقب عالمية مترتبة عن هذا الوضع جلية، مثل خطورة تفاقم أزمة المناخ أو تنامي عسكرة العالم.
ما رأيك في زيارة شي جين بينغ إلى موسكو؟
كان السؤال مطروحا في العام الماضي حول ما إذا كان غزو أوكرانيا بداية هجوم الصين على تايوان – أي قيام تحالف صيني روسي حقيقي مع فتح جبهتين في غرب أوراسيا وشرقها، ضد بلدان حلف شمال الأطلسي المنقسمة سياسيا وغير المستعدة عسكريا آنذاك. لم يكن الأمر كذلك، ويمكن القول بعد مرور زمن على تلك الأحداث إن بكين كانت عاجزة عن خوض مغامرة في التايوان، لأسباب عديدة. لم يكن شي جين بينغ قادرا على شن حرب، لكن لم يكن من الأرجح راغباً في اندلاع حرب قد تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة.
أصبحت مصالح الصين السياسية والاقتصادية، في أوروبا، وفي بلدان الغرب بوجه أعمن مهددة على المدى الطويل، بسبب النزاع الأوكراني. ليست هذه المسألة عديمة الأهمية. والحال أن شي جين بينغ لم يتمكن، على الرغم من كونه «الأخ الأكبر»، من التأثير في مجرى حرب بوتين. ذهب إلى موسكو، بعد عام، وسلط الضوء على صداقتهما المتينة، على الرغم من أوجه خلاف وتنافس متعددة. ما يعني في المقام الأول بادرة دعم مذهلة لبوتين إلى حد ما، في هذه «اللحظة الراهنة»، بعد فترة وجيزة من إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب على خلفية «ترحيل» أطفال أوكرانيين «بشكل غير قانوني». وصرحا معاً أنهما «أفضل صديقين».
أصبح موقف الصين، في شباط/فبراير 2022، حرجاً بسبب غزو روسيا لأوكرانيا. لم تدن بكين غزو موسكو لأوكرانيا بأي وجه، ولكن قيادة الحزب الشيوعي الصيني، على غرار جميع العواصم، استغرقت وقتا كافياً لمراقبة تطور الوضع والإعراب عن قلقها بشأنه. كانت العواقب وخيمة، متمثلة في فشل «العملية العسكرية الخاصة»، بوجه المقاومة القومية الأوكرانية، وارتكاب قوى الاحتلال أعمالا وحشية مفرطة البشاعة (بما في ذلك ضد السكان الناطقين بالروسية)، وإحياء نشاط منظمة حلف شمال الأطلسي المشلولة منذ اندحارها في أفغانستان، وعودة الولايات المتحدة إلى مشهد أوربا…
وباعتراف بوتن نفسه، لم يكن ضغط منظمة حلف شمال الأطلسي (الكامن وغير المباشر) مبررا وحيدا لغزو أوكرانيا: كان ينكر حق هذا البلد في الوجود، ويريد استعادة حدود الإمبراطورية القيصرية أو الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين (هدف يقض مضجع بلدان أخرى في أوربا الشرقية). وهكذا كان يقوض مبدأ بكين الرسمي بخصوص احترام الحدود الدولية، في حين كان تواتر التهديد باستعمال الأسلحة النووية ينتهك أحد المواقف الثابتة الرئيسية لدبلوماسية الصين…
كانت بكين استثمرت بكثافة اقتصاديا ودبلوماسيا في أوكرانيا وأوربا الشرقية والغربية، ونسجت شبكة واسعة من النفوذ. إذ تشكل المنطقة محوراً من محاور «طرق الحرير الجديدة» الخاصة بها. كانت والحالة هذه في ورطة كبيرة جدا. لم يكن شي جين بينغ راغباً في القطع مع روسيا أو خسارة رهانه بالمنطقة. ومن هنا جاء حذر موقف بكين، بما في ذلك بمنظمة الأمم المتحدة، بشأن أزمة أوكرانيا.
قطع سفر شي جين بينغ مع الحذر السابق. وعبر عن تعديل دال في أولويات الحزب الشيوعي الصيني، رغم سعيه اليوم طبعاً إلى الحد من تكاليف دعمه لروسيا في أوربا (بمساعدة رئيسي دولتي ألمانيا وفرنسا، كما يأمل). باتت أولوياته الجيوستراتيجية في آسيا، بعد اشتداد المواجهة مع واشنطن، متمثلة في بحر الصين الجنوبي وتايوان والمحيط الهادئ… والحال أن استمرار الحرب في أوكرانيا أصبح، من وجهة النظر هذه، أمرا جيدا لنظام الصين، إذ يفيد في منع انتشار أمور خطرة- كلما خصصت واشنطن مزيدا من الأسلحة والتمويل والقوات للجبهة الأوربية، اضطرت إلى الحد من مدى إعادة تموضعها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
كيف يمكن توصيف علاقات الصين وروسيا؟
وقع شي جين بينغ وفلاديمير بوتين «إعلانا مشتركا حول تعميق شراكة التنسيق الاستراتيجي الشاملة في العصر الجديد». ما يكتسي أهمية هنا على ما يبدو لي، هما كلمتي «الشاملة» و«العصر» (الجديد) اللتين ترسخان ما يسمى تحالفا «بلا حدود». كانت هذه الصيغة («بلا حدود») استخدمت بالفعل قبل وقت وجيز من غزو أوكرانيا، ثم أصبحت إلى هذا الحد أو ذاك في طي النسيان. وها هي تعود مرة أخرى بقوة. إنها تعني بالفعل، كما يبدو، تشكل تكتل صيني روسي ذي نزعة استراتيجية أمتن مما كانت عليه حتى اليوم، لكنه لا يزال مبنياً على علاقات متفاوتة.
تتسم العلاقة الصينية الروسية بانعدام التكافؤ إلى حد كبير، ولا تقوم معاملات البلدين على المساواة، بل العكس. وهذه حقيقة جلية. تصرف شي جين بينغ، خلال إقامته في موسكو، مثل إمبراطور متسامح وبوتين مثل تابع خنوع. أود فقط تقديم مزيد من الدقة حول هذه البداهة من خلال الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي الصيني في حاجة إلى هذه الشراكة. ما يقض مضجعه هو أن يصبح وحيدا عسكريا أمام الولايات المتحدة الأمريكية. إنه بحاجة إلى حليف معتد به في هذا المجال وما من خيار مغاير متاح سوى روسيا.
كما أنه لا يسعى إلى مواجهة حكومات معادية جديدة على حدوده. وأيا كان رأي شي جين بينغ في بوتين (أو كيم جون أون في كوريا الشمالية)، فإنه لا يستطيع المجازفة برؤية انهيار نظام هذا الأخير. وهكذا قدم دعما قويا لبوتين لإعادة فوزه في الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها عام 2024! ما يكفي إلى حد ما لتعزيز المصداقية الدبلوماسية التي يحتاجها مضيفه في الكرملين. يدعو شي جين بينغ بوتين إلى حضور لقاءات دولية في الصين ستتيح له التحدث (بإشراف الصين) مع رؤساء دول عديدين، دون خشية عواقب المتابعة القانونية من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
إذا كان هناك موضوع يستهجنه شي جين بينغ، فهو الطاقة النووية العسكرية بالضبط. والحال أن فلاديمير بوتين أعلن للتو أنه سينشر أسلحة نووية «تكتيكية» في بيلاروسيا ويشيد فيها مستودع أسلحة نووية… ما يثير استفزاز الغرب من جديد، ولكن أيضا استفزاز صديقه شي جين بينغ.
ماذا على صعيد الاقتصاد؟
يتكامل الاقتصادان الصيني والروسي من نواح كثيرة، حيث تصدر الصين السلع أو الرساميل وتستورد المنتجات من باطن أرض سيبيريا، بما في ذلك طبعاً النفط والغاز بأثمان رخيصة، بحيث أدى انخفاض نسبة الواردات الغربية إلى «تحريرها». تعد الصين الآن أكبر شريك تجاري لروسيا، بينما ليست هذه الأخيرة من جانبها إلا شريك بكين الحادي عشر وحسب (ومع ذلك، فإن صادراتها تتزايد بشكل كبير منذ عام 2022). وهذا مثال حالة من حالات التبادل غير المتكافئ. ومع ذلك، مرة أخرى، تحتاج بكين إلى روسيا، في مجال الطاقة، أو المعادن، بوجه خاص. يبدو أن شي جين بينغ لا يريد أن يصبح الروس في موضع قوة. يلجأ إلى المملكة العربية السعودية وإيران، ونفط الشرق الأوسط، لتفادي الاعتماد على الثروة النفطية الروسية إلى حد كبير.
يلزم الأخذ في الاعتبار قرب البلدين وتكاملهما الجغرافي، لفهم أهمية «الشراكة» مع روسيا من وجهة نظر بكين. من ناحية القرب: يمتلك هذان البلدان حدوداً مشتركة، ما يتيح إجراء مبادلات آمنة، كضمان في حالة تعطل التجارة العالمية بسبب أزمة جيوسياسية (أو صحية). ومن جانب التكامل: الصين بعيدة عن مركز منطقة أوراسيا. وتصبح مع روسيا، بلداً ذا وزن في جميع أنحاء القارة، في غرب القارة، ولكن أيضا في شمالها. لا تحد الصين بحار منطقة القطب الشمالي. وعلى روسيا، القوة السيبيرية، أن تتيح انخراط الصين في المنافسة (الشرسة) على منطقة الشمال العظيم [نصف الكرة الأرضية الشمالي] التي ينذر بمعالمها تغير المناخ وذوبان المناطق القطبية وممراتها البحرية.
على الرغم من ذلك، لا يزال التكتل الصيني الروسي محط نزاع. هل يحلم بوتين باستعادة حدود الإمبراطورية القيصرية أو الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين؟ مع ذلك، يرسخ نفوذ الصين ركائزه في منطقة آسيا الوسطى، والبلدان التي تشكل بوجه التحديد جزءا من هذا النطاق التاريخي. تتخذ هذه المنطقة أهمية كبيرة بسبب مواردها وموقعها الجغرافي على حد سواء، إذ تحتل مكانا محوريا بين سيبيريا والشرق الأوسط وجنوب آسيا والصين-الممر الإلزامي لمحاور الاتصال الاقتصادية أو العسكرية. أعلن شي جين بينغ، في أثناء إقامته في موسكو، تنظيم قمة الصين وآسيا الوسطى مستقبلا، ستضم كازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان. هذه هي روسيا المهمشة، وما على موسكو دفعه من ثمن مقابل دعم الصين. نعتقد بوضوح أنه لن يكون الثمن الوحيد. يتركز الجزء الأكبر من جيش روسيا في المنطقة الغربية وهذا مناسب جدا لبكين، التي لديها أيضا بعض الحسابات الإقليمية لتسويتها مع «أعز صديقها» في شمال شرق آسيا.
هل الصين طرف وسيط في النزاع الأوكراني؟
لا تشكل الصين قوة ثالثة محايدة، تعرض مساعيها الحميدة للتفاوض حول حل سياسي لأزمة أوكرانيا. ولا تمنح موسكو دعما حاسما وحسب، بل إنها أيضا جزء لا يتجزأ من النزاع الجيوستراتيجي الدائر في منطقة أوراسيا حول هذه الحرب، وهذا ما لا تخفيه. يتماشى ما عرضه شي جين بينغ من خطة مكونة من 12 بنداً مع هذا الوضع. تدافع هذه الخطة عن مبدأ احترام الحدود الدولية، الذي ينص عليه ميثاق منظمة الأمم المتحدة، لكنها لا تصرح بأن موسكو انتهكته. وفي الواقع، لا تضم أي مطلب محدد موجه إلى روسيا-ولذا استطاع بوتين ادعاء موافقته على هذه الخطة. تعيد وسائل الإعلام الصينية الرسمية بأمانة نشر الرواية الروسية حول أسباب الحرب: دفاع عن النفس ضد الناتو. كما نشرت مذكرة مطولة لوزارة الخارجية تقول: «سواء كانت هناك أزمة في أوكرانيا من عدمها، سيحافظ قادة الصين والروس على التبادلات والزيارات (…) تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تصعيد التوتر في مضيق تايوان…». «الطرف الوحيد القادر على حل المشكلة [الأوكرانية] هو من خلقها. لا يوجد مفتاح حل أزمة أوكرانيا لدى الصين، بل لدى الولايات المتحدة الأمريكية والغرب. (نقلا عن فريديريك لومير ونيكولاس رويسو في لوموند بتاريخ 22 آذار/مارس 2023). ثمة طرق أكثر إقناعا للظهور بمظهر الوسيط…
إن للخطة المؤلفة من 12 بنداً بوجه خاص وظيفة سياسية ودبلوماسية. ومن الأرجح أن تكون خطة فعالة، في هذا المجال. قامت الولايات المتحدة (وحلفاؤها) قبل عشرين عاما، في العام 2003، بغزو العراق لإطاحة نظام صدام حسين في انتهاك صارخ للقانون الدولي، على أساس اتهامات باطلة وتضليل الرأي العام العالمي على نحو سافر. لا يزال العراق يدفع ثمن هذه الحرب القذرة. وبذلك، يكون جورج دبليو بوش قد دمر ما تتباهى به الولايات المتحدة الأمريكية من حظوة شرعية وديمقراطية. تستفيد موسكو وبكين اليوم من فقدان الحظوة هذا.
ومع ذلك، تطرح مسألة وقف إطلاق النار…
إن الكلفة التي دفعها شعب أوكرانيا في هذه الحرب محزنة حقا، وأنا قلق، لكن وقفا لإطلاق النار لا يُسن من خارج. ويحصل عندما تعبر الأطراف المتحاربة عن الحاجة اليه. وهذه ليست حالة بوتين الذي يستعد لشن هجوم فصل الربيع، وليس لهدنة، بشرط أن يمتلك بالطبع ما يكفي من الأسلحة للقيام بذلك (الموضوع بحاجة الى متابعة). ليس هذا أيضا حال زيلينسكي، على ما يبدو. لم يتغلب برد الشتاء على سكان أوكرانيا، على الرغم من شن روسيا حملة قصف رهيبة. وتأمل كييف أن تؤدي زيادة المساعدات العسكرية الغربية كما ونوعا إلى التمكن من أخذ زمام المبادرة على جبهات رئيسية عديدة في الأشهر المقبلة.
عادة ما تصبح الأمور سيئة بعدما يُسند أمر تحديد شروط الهدنة للقوى العظمى. هذا ما حدث في عام 1954 بشأن فيتنام. لم تجر الانتخابات الموعودة، التي كان ممكناً فوز منظمة فيت مين [“اتحاد استقلال فيتنام”] بها، وحلت الولايات المتحدة الأمريكية محل الفرنسيين، وأدى التصعيد العسكري الأمريكي إلى شن حرب شاملة، لا مثيل لها، بطابعها المدمر، على ما أعتقد. كما أن الوضع في شمال شرقي آسيا يبرز ما يمكن أن تفضي إليه هدنة بدون توقيع على سلام دائم: أشد حالات الأزمة النووية حدة في العالم.
فيما يخصنا، أعتقد أن الأهمَّ الاستماعُ إلى ما تطلبه منا مكونات يسار أوكرانيا، وبذل كل ما في وسعنا للعمل وفقا لذلك في إطار تضامن عالمي. تتجلى الرسالة حالياً، في ضرورة إلحاق هزيمة كبيرة بجيش روسيا، لفتح آفاق سلام دائم. ولا تتمثل مهمتنا في وضع خطط سلام.
كيف يمكن توصيف نزاع الولايات المتحدة الأمريكية والصين؟
الولايات المتحدة الأمريكية قوة قائمة تواجه الصين بما هي قوة صاعدة جديدة، لدرجة أن هذه المواجهة بين الإمبرياليتين باتت تشكل عنصرا مُهيْكِلا للوضع الجيوستراتيجي العالمي. إنها حالة كلاسيكية، لكن على خلفية ليست كلاسيكية على الإطلاق…
هل هي «حرب باردة جديدة»؟…
…كنت سأشرح كيف أن خلفية النزاع بين بكين وواشنطن ليست ذات طابع «كلاسيكي»- ولماذا تبدو لي عبارة «حرب باردة جديدة» مضللة. كانت درجة الترابط الاقتصادي بين كتلتي الشرق والغرب، في حقبة ما يسمى بالحرب الباردة، ضئيلة. لكن الترابط بات اليوم وثيقاً. يختلف السياق العالمي جذريا عما كان عليه قبل نصف قرن، ولا يمكن فهم الوضع حالياً دون أخذ ذلك في الاعتبار. للقيام بذلك، من الأمثل تفادي توظيف نفس التعابير.
قبل العودة إلى الأمر، أود الإشارة إلى أن تعبير «الحرب الباردة»، كان يعكس أثناء المواجهة بين «كتلتي» الشرق والغرب وجهة نظر ضيقة متحورة حول أوربا. وفي الواقع، لم تكن الحرب بتاتاً «باردة» في آسيا، إذ شهدت تصعيد الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً في الهند الصينية. ومن المفارقات استحضار مبرر «الحرب الباردة الجديدة» اليوم… على الرغم من أن قلب أوربا مسرح أعنف نزاع عسكري منذ عام 1945. تشن حرب بوسائل قوة عظمى (روسيا)، على عكس النزاعات التي مزقت البلقان.
إن حديث الأطراف السائدة من وسائل إعلام وخبراء وعلماء سياسة اليوم عن حرب باردة جديدة، أمر محتوم، لكن ذلك لا يعني الاقتداء بها. تكتسي الكلمات أهمية وتحمل أحكاما مسبقة قد تساهم في طمس الواقع. يملك تعبير «الحرب الباردة» حمولة فكرية ونفسية قوية تستتبع تبني تفسير جيوسياسي قديم للغاية. تزداد إشكالية هذا الأمر مع استمرار تيارات يسارية كُثر في الانحياز، بصراحة إلى هذا الحد أو ذاك، إلى جانب روسيا والصين، أو حتى خلفهما، باسم الحرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي فإن وهم الحرب الباردة يناسب تلك التيارات تماما. كما يناسب كلياً، بشكل مماثل، ما يدعو إليه جو بايدن وتيارات من انحياز إلى واشنطن باسم «القيم الديمقراطية الغربية».
لا يكفي العمل، في النصوص، على تفسير الفرق بين الحقب أو تعقيد الأوضاع الجيوستراتيجية المعاصرة. من الضروري أيضا اختيار قاموس أكثر ملاءمة.
ماذا تعني بذلك؟
النزاع بين إمبرياليات: هذا كل ما يعنيه الأمر تحديداً، وقوله يستتبع فوراً وضوح الفرق بين الراهن و«النموذج» الجيوسياسي السابق. يأتي ذلك على خلفية استمرار إرث العولمة النيوليبرالية، أي درجة غير مسبوقة من تكامل السوق العالمية التي احتلت فيها الصين مكانا رئيسياً. تنخرط بكين وواشنطن اليوم في مواجهة جيوستراتيجية تمتد إلى جميع المجالات: الجيش وأنظمة التحالف والعقوبات الاقتصادية وتطوير التكنلوجيا البديلة، والتحكم بإمدادات الموارد الشحيحة… ما يعني تماماً مسألة إعادة تشكيل «معسكرات»، لكن هذه الدينامية السياسية تصطدم بالحقائق الاقتصادية. يرتبط هذان البلدان بطرق عديدة، وقد يكون الأهم من ذلك، أن كليهما معتمد على تنظيم عالمي للإنتاج، ما يجعل ترحيل المقاولات الرئيسية على نطاق واسع وبشكل سريع، أمراً صعباً للغاية، خاصة إلى بلدانها الأصلية، بعد تهجيرها سابقاً خارجها، في إطار اقتصاد حرب عالمي (باردة إلى هذا الحد أو ذاك، ساخنة إلى هذا الحد أو ذاك).
تبدو عملية التغلب على تراجع نسبة التصنيع في الغرب معقدة للغاية. ورغم أن هكذا تراجع التصنيع في صالح الصين بالمقام الأول، فإنها بلد غير مكتف ذاتيا. يكتسي مثال قطاع أشباه الموصِلات طابعاً ذا دلالة. ونجد عدم الاكتفاء الذاتي في كل قطاع تقريبا. كل من ينتج دوائر متكاملة [الشرائح الالكترونية] عالية الجودة جدا يكتسب ميزة حاسمة، خاصة في المجال العسكري. غالباً ما تكون تراخيص أشباه الموصلات أمريكية، لكن تصنيعها يجري في آسيا: تبدو تايوان وكوريا الجنوبية… (وبقدر قليل في هولندا)… بلدانا ضعيفة أمام جارتها الصين. تنفق بكين أموالا ضخمة على الأبحاث في هذا المجال، لكن تدارك تأخرها ليس في منتهى السهولة. أقر جو بايدن ميزانية ضخمة جدا لإنشاء مركز إنتاج في الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة مقاولة TSMC التايوانية [شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات]. لا يمتلك التكنولوجيا والمعرفة لتصميم رقائق دقيقة فائقة الصغر، إلا عدد قليل جدا من المقاولات.
تواجه عمليات إعادة توطين المقاولات عقبات عديدة. نرى ذلك مع مقاولات أبل Apple- لا تحل الهند محل الصين- بشأن الإنتاج حتى في الولايات المتحدة الأمريكية… تضع إدارة بايدن اليوم المقاولات الهامة أمام خيار ثنائي: ستتلقين مساعدات ضخمة لتأمين ترحيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بشرط مغادرة سوق الصين. لا يمكنك الكسب دون مقابل… يدل هكذا استعراض القوة غير محسوب العواقب على أننا لم نعد في زمن «الحرب الباردة».
ما قيمة عمليات إعادة توطين المقاولات في بلدانها الأصلية إذا ظلت سلاسل الإنتاج، أو ما يسمى بسلاسل القيمة، معولمة كما هي حالياً؟ تترتب عواقب مباشرة عن توقفها، سواء بسبب أزمة صحية أو جيوسياسية. يحتوي منتوج تام الصنع مثل السيارة على عدد كبير جدا من مكونات متحدرة من بلدان عديدة. إذا كان مكون من المكونات مفقودا وغير قابل للاستبدال، يتوقف الإنتاج. ذلك ما أظهرته أزمة كوفيد-19. وينطبق الشيء ذاته على الصناعة العسكرية.
أتاح خيار العولمة لرأس المال الانتشار إلى أبعد حد دون عوائق تقريبا على صعيد العالم، لتحقيق أقصى قدر من الأرباح، وضمان هيمنته، وتنظيم سلاسل الإنتاج وفقا لذلك. والآن، تريد الدول الإمبريالية الرئيسية إعادة تنشيط الحدود، وحتى إضافة مزيد منها. هذا وضع غير مسبوق ومتناقض للغاية.
سيكون ثمة بديل لأزمة إزالة طابع العولمة الرأسمالية، انه سياسة إضفاء طابع لامركزية إقليمية متقدمة لصالح السكان ومكافحة أزمة المناخ (مع تقليص لأشكال النقل بوجه خاص). يجب علينا تعميم هذا البديل، لكن المطلوب بناء القوى الاجتماعية القادرة على فرضه…
إن أزمة إزالة طابع العولمة الرأسمالية موجودة وستظل قائمة. وذات عواقب وخيمة على الصين. هذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل نظام الصين يرى تبخر أمل العودة إلى الظروف التي أمنت سابقاً مركزيته في السوق العالمية وإقلاعه الجيوسياسي.
ما هي الظروف الأخرى؟
أود الإشارة إلى اثنين منها هنا.
لم يكن شي جين بينغ هو من خلق الظروف المسبقة المحلية لإقلاع الصين. كان على البلد بداية أن يكون مستقلاً، بسكان متعلمين وأجراء متعلمين، وأساس صناعي خاص. هذا هو إرث ثورة عام 1949 (قد يميل المرء إلى تجاهل ذلك، نظرا إلى ما غرق فيه النظام الماوي من اضطرابات). ثم في ظل عهد دنغ شياو بينغ، نجح أنشط أجنحة البيروقراطية الصينية في قيادة ثورة برجوازية (مضادة)، وتشكيل برجوازية متعددة جديدة تضم (خاصة من خلال الشبكات العائلية) رأس مال بيروقراطيا ورأس مال خاصا. وأخيرا، تعززت معالم الاندماج في السوق العالمية في عهد جيانغ زيمين وهو جينتاو. أظهر شي جين بينغ قدرا كبيرا من الجحود بإهانة هيو جين تاو علنا في آخر مؤتمر للحزب الشيوعي الصيني.
استفاد شي جين بينغ على صعيد عالمي من وضع ملائم غير متوقع: امتداد عجز الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. بعد أن غرق أوباما في وحل الشرق الأوسط، لم يتمكن من ترجيح كفة النظام الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وبشكل غير منتظم، أثار ترامب قلق حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين وترك المجال مفتوحا إلى حد كبير أمام بكين، بما في ذلك على الصعيد الاقتصادي، بينما أقدم على فرض سياسة العقوبات. وقد وجب انتظار عهد جو بايدن كي يتمكن شي جين بينغ، في سياق الاندحار في أفغانستان، من استعادة زمام المبادرة في ذلك الجزء من العالم. و في غضون ذلك، قامت بكين بعسكرة بحر الصين الجنوبي، لمصلحتها الخاصة وعلى حساب البلدان المجاورة الساحلية الأخرى.
مع ذلك، يستمر توسع الصين عالمياً…
أجل، خاصة في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. يعد الاشراف على تقارب المملكة العربية السعودية وإيران نجاحاً لا يمكن إنكاره، ولا بد أن يثير عدم رضاء واشنطن! ومن ناحية أخرى، عانت بكين من انتكاسات في منطقة جنوب المحيط الهادئ وشرق آسيا، يعني في محيط نفوذها القريب ومنطقتها الأمنية المباشرة. ويا للمفارقة إلى حد ما. ترسم هذه النكسات معالم عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة، لكنها أيضا نتيجة سياسات شي جين بينغ نفسه. انتهك هذا الأخير حقوق البلدان المطلة على بحر الصين الجنوبي، معتقدا أنها ستصبح معتمدة اقتصاديا إلى حد كبير على استثمارات الصين وتمويلاتها وسوقها مقابل ذلك. لقد أفرط في شد الحبل.
وبشكل أعم، أصبحت جيوسياسة النزاع الجديدة تطبع بطابعها. زار رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا كييف لحظة كان شي جين بينغ في موسكو. لا يعني ذلك مجرد ولاء لواشنطن، بل له أجندته الخاصة، متمثلا في تأكيد وزن اليابان في مجموعة القوى العظمى، واستكمال إعادة تشكيل جيش تدخل، وانهاء الثقافة السلمية التي لا تزال سائدة بين سكان اليابان وعسكرة النظام، والدفاع عن المصالح الخاصة لإمبرياليتها في شمال شرق آسيا (شبه الجزيرة الكورية، مطالب بضم أراض…). وبالنظر إلى إيواء اليابان القواعد العسكرية الأمريكية الرئيسية في الخارج، يكون رئيس وزراء اليابان بعث أيضا، بزيارته لأكرانيا، رسالة إلى الصين بشأن تايوان.
هنا نجد نفس التوتر بين الدينامية الجيوستراتيجية وأشكال الترابط الاقتصادي، الشديد للغاية والحالة هذه: كانت الصين (عام 2019) ثاني أكبر شريك تجاري لليابان، على نحو متساو مع الولايات المتحدة الأمريكية. ظلت اليابان، بالنسبة للصين، أكبر مستثمر أجنبي، خارج الصين، وثالث أكبر مستقبل لصادرات الصين، بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
ضاعفت مانيلا، بعد عودة زمرة ماركوس إلى السلطة، عدد الموانئ التي سيكون من حق البحرية الأمريكية استخدامها. ومن المحتمل أن تخزن الفلبين الذخائر المستعملة بجنون في النزاعات المعاصرة.
كانت الصين تبدو متحكمة باللعبة العسكرية في محيطها المباشر، باستثناء غزو تايوان، ولكن تشكيل القوى يعود الى التوازن تدريجيا، جزئيا بالأقل.
قد يصبح بحر الصين الجنوبي لأمد طويل في وضع خطير من أوضاع «لا حرب ولا سلم»، مع بلوغ التوترات العسكرية والاقتصادية (حالات حصار) والدبلوماسية مستويات غير مسبوقة.
لا يزال العتاد العسكرية الصيني من أصل روسي جزئيا. وتراقب بكين عن كثب أداء جيش الاحتلال في أوكرانيا، مقارنة بفعالية الدعم الأمريكي لقوات أوكرانيا. يعاني شي جين بينغ من صعوبات تقض مضجعه إلى حد ما. تبدو جودة السلاح الروسي أقل بكثير من سمعته. بيد أن جودة المعلومات التي يتيحها البنتاغون لهيئة الأركان العامة الأوكرانية تفسر الدقة التي تمكنت بها هذه من توجيه دقيق لعملياتها. طبعا، يشهد المجمع الصناعي العسكري الصيني أقصى سرعة تعبئة وتحديثَ ترسانته، وتطوير تكنلوجياته الخاصة، لكنها لم تستخدم حتى الآن. يبدو أن بكين لا تزال معتمدة على روسيا في بعض المجالات، وقررت التعاون مع موسكو في هذا المجال خلال زيارة شي جين بينغ.
هل تدافع بكين عن عالم متعدد الأقطاب؟
هذا ما تقوله بكين، بصوت واحد، لكن لديها أصوات عديدة. لم يخف شي جين بينغ طموحاته في بسط الهيمنة، حيث عارض نموذجي حضارة اثنين على نطاق العالم، ويرى ضرورة استعادة الصين مركزيتها وعودة التاريخ إلى مساره الطبيعي بعد فترة وجيزة من سيادة بلدان غربية. وقال: «سيكون القرن الحادي والعشرون قرن الصين».
أصبح العالم اليوم، إلى حد ما، متعدد الأقطاب. لم تعد سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية قائمة. تتمتع كل دولة، من الهند إلى قطر، ومن تركيا إلى البرازيل، بحرية الدفاع عن مصالح (قسم من) طبقاتها الحاكمة (ما لم تغرق في أزمة نظام تشلها). وعلى هذا النحو، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية والصين صعوبة في تشكيل كتلة ائتلاف وحيدة تضم حلفائهما.
توقفت مسيرة الناتو باتجاه الشرق بسبب انحداره في أفغانستان. تمت طبعاً، في حزيران/يونيو 2022، لأول مرة، دعوة أستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية واليابان لحضور قمة المنظمة حيث اعتبرت صراحة الصين تهديدا للأمن الجماعي المشترك. والواقع أن التفويضات التي يتمتع بها حلف شمال الأطلسي تتيح له التدخل حيثما يرى تهديد «أمن» أعضائه.
مع ذلك، يتعين على جو بايدن حالياً تفعيل مختلف الاتفاقات السياسية والعسكرية الخاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي بوسعها تلبية مطالب كل بلد فيها: الحوار الأمني الرباعي، المعروف أيضًا باسم كواد (Quad)، مع أستراليا والهند واليابان… أو الاتفاقية الأمنية الثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، المسماة باختصار أوكوس (بالإنجليزية: AUKUS).
تقوم الصين بتنشيط شبكات مثل شبكة بريكس، وهي مختصر الحروف الأولى باللغة اللاتتينية BRICS المكونة لأسماء بلدان البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. مع ذلك، لا أرى إمكان تشكيل مجموعة البريكس لحلف عسكري، حتى لو كانت البرازيل حاليا تسعى إلى التقرب إلى بكين. وينطبق الشيء ذاته على شبكات التعاون الاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ حيث تضم دولاً (أوربية، على سبيل المثال) مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية.
تختلف «قراءتي» هنا عن تحليلات تقدمية ترى أن إعادة اصطفاف القوى (دول أو منشآت اقتصادية كبيرة) حول واشنطن أو بكين تجري بوتيرة متسارعة. بدلا من ذلك، أرى انقساما بوتيرة بطيئة قد لا يكتمل بأي وجه. تطرقت إلى هذا بقصد إغناء التفكير والنقاش بيننا…
بيد أنه ما من شيء بطيء في تأثير التوترات الصينية الأمريكية على صعيد عالمي. فقد بات كبيراً جدا، متمثلا في عسكرة العالم وتسريع وتيرة أزمة المناخ… يجب مواجهة هكذا دينامية عسكرة، ولن نفعل ذلك من خلال الاصطفاف خلف طرف من الأطراف-مع الولايات المتحدة الأمريكية بمبرر استبدادية السلطة الصينية، أو مع الصين بحجة عدم تحملها المسؤولية التاريخية في النظام الإمبريالي الذي تدافع عنه بلدان الناتو…
نجد أنفسنا، عند الاصطفاف وراء إحدى القوى، أسرى هكذا دينامية عسكرة العالم، وقد نترك ضحايا نظام إمبريالي أو غيره يواجهون مصيرهم: الفلسطينيون/ات ضحايا ما تمنحه الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل من دعم، والسوريون/ات ضحايا دعم روسيا لنظام الأسد، والبورميون/ات ضحايا دعم الصين للطغمة العسكرية…
«زاوية النظر» الخاصة بنا هي الدفاع عن حقوق الشعوب (بما في ذلك الحق في تقرير المصير) -وأيضاً الدفاع عن الحقوق الأساسية الإنسانية والاجتماعية في كل مكان. وليس الدفاع عن الحقوق «قيمة ذات طابع غربي». فقد شهدنا أسوأ الأنظمة في الغرب، مثل النازية، وتتعرض اليوم هذه الحقوق المنتزعة بشق الأنفس للهجوم من فرنسا إلى إيطاليا حتى الولايات المتحدة الأمريكية.
ألا يجب علينا النضال من أجل حقوق العمال/ات وحريات الجمعيات والنقابات وحقوق المرأة في كل أنحاء العالم؟ من أجل حقوق المهاجرين/ات وحرية التنقل أو التعبير، ومن أجل حق التصويت في انتخابات ذات معنى؟ من أجل حق اختيار الحياة الجنسية والهوية والتحكم بالجسد والوقف الارادي للحمل؟
يجب عدم توظيف التحليل الجيوسياسي للوضع الراهن لجعل الكفاح من أجل الحقوق مسألة نسبية أو إخفاء أصل النزاعات، مثل غزو روسيا لأوكرانيا، وسحق حركة عصيان مدني واسعة في بورما عسكرياً، وغزو تحالف تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية للعراق… ينبغي أيضاَ عدم نسيان أن تايوانيين/ات يعيشون في تايوان ولهم حق تقرير مستقبلهم بحرية، دون التعرض لتهديدات عسكرية متكررة وتدابير اقتصادية انتقامية وعمليات تضليل للرأي العام. أليس هذا هو النزعة الأممية؟
هل الحرب بين الإمبرياليات حتمية؟
من أنا للإجابة على مثل هذا السؤال! مع ذلك سأعبر عن شعوري!
يبدو أن السؤال الوحيد العالق عند محللين كًثر يتعلق بتاريخ اندلاعها: هل ستحدث عما قريب جدا، أو لاحقا؟ آمل أن يكون علماء السياسة هؤلاء الأفضل دراية مني، على خطأ. تترتب تداعيات عالمية عن الحرب في أوكرانيا، لكنها لن تتطور إلى حرب عالمية (ما لم تصبح نووية). وبالمقابل، من الأرجح ألا يكون نزاع في بحر الصين الجنوبي مجرد حرب بالوكالة. يمكن تعلم الكثير من أوكرانيا بشأن التاريخ العسكري المعاصر، لكن هذا لا يبين ما سيكون عليه نزاع كبير بين الإمبرياليتين الرئيسيتين. باستثناء كارثة بلا حدود.
لا يؤمن عالم الأعمال بقرب الحرب-إذ يواصل الاستثمار على المدى الطويل، تلك حال مقاولات صينية في الغرب (مؤخرا في قطاع المناجم في أستراليا) ومقاولات غربية في الصين. وعلى هذا النحو لا يريد القطع مع جزء من سوق العالم (بما في ذلك سوق الصين).
إن الحرب ممكنة، وقد تحدث «على الرغم من كل شيء»، لكنها ليست حتمية. غير أن إمكان اندلاعها يخلق تفاقم حالة انعدام أمن تنيخ بثقلها على الوعي. من الواضح أن ردنا السياسي هو تطوير الحركة المناهضة للحرب. هذه هي مشكلتنا أيضا، لأنها لا تزال حركة ضعيفة اليوم على صعيد العالم ومنقسمة بين «اصطفافيين» و«أمميين».
لنعد إلى وضع الصين ذاتها.
بدأ شي جين بينغ ولايته الثالثة على رأس الحزب والجيش والدولة بعد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني العام الماضي، والآن مع اجتماع مجلس الشعب الصيني. أصبحت نقطة لاعودة متجاوزة. كانت مدة ولاية القيادة العليا، قبل الإصلاح الدستوري الذي فرضه شي جين بينغ عام 2018، محددة في فترتين متتاليتين من خمس سنوات. كانت قاعدة ثابتة حظيت باحترام خلفي دنغ شياو بينغ: جيانغ زيمين (1992-2002) وهو جينتاو (2002-2012).
نص الإصلاح الدستوري للعام 2018 على رفع كل القيود على حدود مدة الولاية، لإتاحة حكم شي جين بينغ بقدر رغبته واستطاعته. ترجع الحمولة الرمزية لاجتماع مجلس الشعب الصيني إلى ذلك – وهكذا لم تدخل الصين إطار نظام الحزب الواحد بلا صعوبة وحسب، بل ولجت إطار نظام القائد الوحيد (بفكر من طراز فريد). يمثل ذلك تغييرا فعلياً في النظام. هاجم شي جين بينغ الإجراءات التي أقرها دنغ شياو بينغ للحد من احتكار فصيل واحد وزمرة واحدة ورجل واحد للسلطة. كان جيانغ زيمين وهو جينتاو، قبل شي جين بينغ طبعاً، شغلا المناصب الرئيسية الثلاثة بالفعل، على رأس الحزب والجيش والدولة في آن واحد. مع ذلك، كان من اللازم أن يحترما طابع تسيير جماعي في كل مستوى من مستويات القيادة وتحضير وصول فريق جديد إلى السلطة.
كانت الخلافة والحالة هذه رهان صراع طويل داخل الجهاز، ما أتاح انتصار فصائل مختلفة وفرض تسويات (استغلها شي جين بينغ). كان ذلك ضرورياً عندما كان يتعذر تجاوز مدة الولايات عشر سنوات متتالية. في الآن انتفى ذلك. انتهت مرحلة الإدارة الجماعية، وحتى في سن 70، نادرا ما يعد قائد منتخب مدى الحياة من يخلفه.
لكن إذا كان شي جين بينغ يتحكم فعلاَ بجوهر السلطة السياسية داخل الحزب الشيوعي الصيني، من اللجنة المركزية إلى أهم هيئة، وهي لجنة المكتب السياسي الدائمة، ماذا في الواقع عن حزب يضم 96 مليون عضو؟ في بلد قارة يبلغ عدد سكانه مليار وأربعمائة مليون نسمة؟
هل الصين دولة رأسمالية «عادية»؟
أجل، لكن لا. خذ جائحة كوفيد 19 مثالا. كان النظام بداية متشبثا بالإنكار، مفوتاً كل فرصة قضاء على الوباء في مهده (وتفادي الجائحة). وكرد فعل بعد فوات الأوان، اضطر إلى نهج سياسات حجر صحي «صارم»، مستفيداً من دعم شعبي منذ البداية. أقدم على الغاء تدابير الحجر الصحي لأسباب اقتصادية دون تحضير بينما سيؤدي ذلك إلى تفاقم انتشار العدوى (وإعادة اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية)، في ظل هذه الظروف. شهدنا دورة صحية مماثلة إلى حد ما في فرنسا. هذا هو حال الأوضاع العادية للرأسمالية في الصين.
تتمثل خصوصية الصين في اتخاذ سياساتها الصحية أشكالا صارمة، تصل إلى أسوأ «التجاوزات» (وفاة محذرين من انشار فيروس كورونا في السجن، وأسر محبوسة في شققها بلا ماء ولا طعام…). يعكس هذا الجنون ذو الطابع المؤسسي الكيفية التي يشتغل بها النظام البيروقراطي الصيني الذي عززه نظام الحكم الفردي لشي جين بينج. إذا عدنا إلى المقارنة مع فرنسا، من الصعب عدم استحضار تشابه (ما قام به الحكم الفردي لإيمانويل ماكرون من دور كبير)، ولكن أيضا خصوصية إمبريالية فرنسية ذات طابع فائق الاعتماد على بلدان أخرى (عاجزة عن إنتاج أقنعة صحية!) وسلطات سياسية أعمتها مركزية أوربية فظة مشوبة بالعنصرية: كنا نحظى بميزة تلقي التحذيرات من انتشار الجائحة وكان بوسعنا التعلم من تايوان وكوريا الجنوبية…
الأزمة القادمة
تشهد الصين نمواً بطيئاً، حيث ارتفع الناتج الداخلي الاجمالي بنسبة 3٪ في العام 2022 بحسب الأرقام الرسمية (أقل بنظر مراقبين عديدين) وسيصل 5٪ هذا العام. ما يعني أن حدة الأزمة الاجتماعية ستتفاقم. أصبح الميثاق الاجتماعي متدهوراً: كان الآباء يتقبلون نظاما استبداديا بقدر ما يعتقدون أن أطفالهم سيعيشون بشكل أمثل، والحال أن الوضع لم يعد كذلك. تتراكم الديون العامة والخاصة. وتترسخ البطالة الهيكلية، وخاصة بين الشباب (تشير الاحصائيات إلى أن البطالة ستصل نسبة 20٪).
بات التحول الديمغرافي أسرع مما كان متوقعا: بدأ انخفاض عدد السكان. إن حوافز الحزب الشيوعي الصيني للاشتغال أكثر، والزواج في سن مبكرة، وإنجاب أطفال دون تأخير، لا تحرك شباباً يميلون إلى العمل بقدر أقل (بالأقل من يتحدرون من الطبقات المتوسطة، التي قد تتحمل تكاليف ذلك). يتزايد عدد النساء اللواتي يخترن عدم إنجاب أطفال لأسباب اقتصادية (تربية الطفل مكلفة للغاية) ونتيجة تغيرات ناشئة بين الأجيال. لم تنس الطبقة العاملة كيفية التضحية بصحتها في محاولة الحفاظ على الإنتاج خلال تفشي فيروس كوفيد-19. يتظاهر كبار السن ضد تخفيضات في معاشات التقاعد. ويتعرض سكان «الأطراف» (الأويغور والتبتيون إلخ) دوماً لأكثر أشكال الاستعمار عدوانية.
يتغير مجتمع (مجتمعات) الصين في إطار كل تنوعه الإقليمي والحضري والقروي. هل يستطيع النظام تكييف نمط حكمه وفقا لذلك؟ ما من شيء يبدو مؤكداً، حيث التف النظام حول زمرة شي جين بينغ، التي ضمنت، في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، تحكمها وحيدة بالهيئات المركزية للقيادة. قد يبدو ذلك عاملاً من العوامل الرئيسية للأزمة الملوحة في الأفق.
يؤدي إذكاء النزعة القومية للقوة العظمى إلى خلق ترابط بين رغبة استعادة السيطرة داخلياً (إدانة مثيري الشغب باسم الوحدة القومية الذي لا غنى عنه) والصرامة المعلنة للسياسة الخارجية.
بيار روسيه
المصدر/ مجلة انبركور
(Inprecor 707-708 2023-04-05)
ترجمة المناضل-ة
اقرأ أيضا