رحيل جيل بيرو: كتاب “صديقنا الملك” زلزال
توفي جيل بيرو Gilles Perrault ليلةَ 2 إلى 3 أغسطس/آب 2023.
ألف كُتبا عديدة، منها “صديقنا الملك”، الذي كان وَبالاً على الحسن الثاني.
في الذكرى الثلاثين لصدوره، خصّ جيل بيرو موقعَ أوريون 21 Orient XXI بمقابلة بصدد عملية استقصاء خلفت لديه ذكرى راسخة، مُذكرا بتأثرٍ، من بيته في قرية نورماندية، بالتسونامي السياسي-الديبلوماسي الذي سببه الكتاب عند صدوره، في سبتمبر العام 1990.
– عمر بروكسي: كيف تبلورتْ فكرة كتابٍ عن الحسن الثاني؟
جيل بيرو: بدأ الأمرُ مع ورود معلوماتٍ عن المغرب لم تكن مُطمْئِنَةً جدا. تلقيتُ ذات يوم رسالةً من قارئ. كان فتى قرأ لتوه كتاب الأوركسترا الحمراء L’Orchestre rouge (Fayard, 1987)، وطرح عليَّ أسئلة بصدد هذا الكتاب، الذي يحكي تاريخ مجموعة جواسيس إبان الحرب العالمية الثانية. أجبتُه. وبعد أسبوعين، كتب إليَّ رسالة طويلة، طارحا أسئلة دقيقة. أجبتُه. أنا أجيب دائما. ثم بعد شهر، تلقيتُ منه مجددا رسالة. وهنا لم أستشعر تعبا – فقد كان جليا أن الفتى مُهْتم ومُهِم-بل خمَّنتُ أنه عسكري استبد
به الملل في تكنته. ولم يكن ثمة طبعا آنذاك بريد الكتروني. وكان يضع تواريخ لرسائله، على غرار كل الناس، مع تدقيق بإشارة ” PC القنيطرة”. وذات يوم كاتبْتُه سائلا إياه عما يفعل في مركز القيادة poste de commandement بالقنيطرة. رد قائلا:” لا، PC القنيطرة تعني السجن المركزي بالقنيطرة، حيث أوجدُ محكوما بعشرين سنة بسبب توزيع مناشير”. هذا الشاب كان يسمى (ولايزال) جواد مديدش.
إذن، عندما يكون المرء هنا في نورماندي، في هدوء قرية سانت ماري دي مون Sainte-Marie-du-Mont ، ويعلم أن شابا قد حُكم عليه بعشرين سنة سجناً لتوزيعه مناشير ، فإن يطرح أسئلة. كان أبنائي الكبار مناضلين يساريين آنذاك. وكانوا يوزعون الكثير من المناشير، ويتلقون ضربات عصي الشرطة، لكنهم لا يُسجنون. إذن، زعزعني هذا بشدة. وقلت لنفسي:” يجب فعل شيء ما”. شعرت بنفسي مُسخَّرا. كان هذا الفتى، الذي حافظتُ على علاقات صداقة معه، من رفاق أبراهام السرفاتي (1928-2010).
ثم كان اللقاء مع إيدوي بلينيل Edwy Plenel الذي كان يُشرف على سلسلة كتب لدى الناشر غاليمار، وكان صديقا لكرستين السرفاتي. التقينا نحن الثلاثة في كاين Caen في نورماندي، وعُدت مع إيدوي بلينيل. أعترفُ بأنه كان يخامرني بعض التردد. كنت أقول في قرارة نفسي: «سيكون مرة أخرى كتابَ مشاكل ومتاعب جمَّة”. كنتُ ثقيل الخطى. ثم اقترح عليَّ إيدوي قائلا: “أَتَرى، يجب أن يكون عنوان هذا الكتاب “صديقنا الملك”. وكان ذلك إشارة الانطلاق. قلت فورا: قُضي الأمر، سأكتبه”…
…
عمر بروكسي: ماذا كان دور كريستين السرفاتي؟
جيل بيرو: لقد كان دورا أساسيا. اقتسمتُ بكل بساطة حقوق المؤلف الخاصة بهذا الكتاب مع كريستين.
عمر بروكسي: لماذا؟
جيل بيرو: لأني كنت أتحقق من كل شيء بفضلها. كنتُ ذهبت الى المغرب وأنا شابٌّ يافع. كنت أعرف البلد جيِّدا، وكانت لدي فيه علاقات. لكن ما كان لي أن أكتب هذا الكتاب أبدا لولا مساعدة كريستين. تفاديتُ كتابة أمور كثيرة لأنه لم يكن ثمة غير شاهد واحد. ثمة قول مأثور قديم:” شاهد واحد، لا شاهد”. لمَّا حدثتنني أول مرة عن تازمامارت لم أصدقها. ليس لاعتقادي أنها تكذبُ، بل لأني لم أستطع تقبُّل ذلك الواقع. انتقل إلى أمر آخر، ثم في الأخير اقنعتني.
عمر بروكسي: فيما يخص الاشتغال بحصر المعني؟ كيف فعلت؟
جيل بيرو: اشتغلت كما تعودتُ الاشتغال، أي باستغلال الشهادات بعد مطابقتها. اقتضى مني ذلك أقل من عام.
عمر بروكسي: هل تحمس الناشر كثيرا للمشروع؟
جيل بيرو: لا بتاتا. لم يكن أحد يؤمن بالمشروع. قال لي أنطون غاليمار: “نعم، يجب تأليف هذا الكتاب، لكن يا جيل العزيز، حقوق الانسان بالمغرب موضوع لا يجذب الحشود”
عمر بروكسي: جرى تأليف كتب عديدة سابقا عن القمع في المغرب. لماذا كان لصديقنا الملك هكذا أثر؟
جيل بيرو: اسمع، لقد حالفني حظٌّ كثير. كانت لدي نافذة قصف كما يقال عن صواريخ أريان. في العام 1990 لم يبق وجود للاتحاد السوفييتي. والحال أن المغرب كان يُعتبر قلعةً ضد الجزائر الاشتراكية. لم يبق ثمة خطر شيوعي ولم يظهر بعد خطرٌ إسلامي.
عمر بروكسي: هل توقعتم كلَّ ردود الفعل تلك بعد صدور الكتاب؟
جيل بيرو: لا، بتاتا! لا، بأي وجه! كان ذلك زلزالا. لقد تفاجأت: أزمة ديبلوماسية وإلغاء سنة المغرب في فرنسا، والحسن الثاني يحتج، وآلاف المغاربة يرسلون احتجاجات مزعومة الى قصر الإليزيه، الخ.
أعتقد أن المرء حين يعيش، يكون محمولا على مركب في رحلة بحرية هادئة وعلى حين غرة يجد نفسه وسط عاصفة غير متوقعة بتاتا. تأرجح وحركة. الأمر مذهل! مذهل!
عمر بروكسي: كيف كانت ردود فعل الشخصيات السياسية الفرنسية؟
جيل بيرو: ردُّ الفعل الذي أتذكر أكثر هو ردُّ هوبير فِدرين، Hubert Védrine الناطق باسم الرئاسة آنذاك، وكان مقربا من فرانسوا ميتران. التقيته أياما قلائل بعد صدور الكتاب، وانتفض بوجهي بعنف قائلا: “بيرو أنت شخص لامسؤول، هل نسيتَ 25 ألف فرنسي مقيمين وعاملين بالمغرب، ومئات آلاف المغاربة الذين يعيشون ويعملون في فرنسا. كتابك غير مسؤول”. ولا حاجة لتوضيح كيف كان فدرين وأمثاله خاضعين للعرش. لكن، بعد أن أطلق الحسن الثاني سراح المعتقلين في تازمامارت والقنيطرة ومراكز الاعتقال الأخرى، التقيت فدرين من جديد. خاطبني قائلا: «أخيرا يا جيل (كان يدعوني جيل) كان كتابك نافعا للحسن الثاني، أتاح له إنقاذ نهاية حكمه” أجبته بقول:” انت محق يا هوبير (لذلك كنت أنا أيضا أدعوه هوبير)، لكنه كان مفيدا بوجه خاص للضحايا، وعائلاتهم وأقاربهم. كان بعضهم مسجونا منذ عشرين سنة”. لكنه لم يكن يأبه بأمر الضحايا. لم يكن يهمه غير الحسن الثاني الذي بوسعه إنقاذ نهاية حكمه.
عمر بروكسي: ماذا كان ردُّ فعل الحسن الثاني إزاء الكتاب؟
جيل بيرو: لم يقاضيني الحسن الثاني شخصيا قط. لكنه أقام عشرات الدعاوي على قنوات تلفزيون وصحف استجوبتني قائلا إن إتاحة الكلام لرجل بحقارة جيل بيرو ليُلطِّخ المغرب خطأ مهني. فأسقط مطرا من ذهب على نقباء المحاماة السابقين في باريس متخذا إياهم محامين له. طبعا غنِموا من ذلك، لكنه خسر كل دعاويه. ماذا كان يظن؟ أيظن أن العدالة الفرنسية تعمل بأوامر كما في دولته؟
عمر بروكسي: رد أيضا الحسن الثاني على الصعيد المالي…
جيل بيرو: نعم! بعث أولا خادمه الذليل إدريس البصري، وزيرَه في الداخلية، ورجلَ النظام القوي، الذي التقى نظيره الفرنسي بيار جوكس Pierre Joxe. قال له: «علِمنا أن كتابا سيصدر. سيكون لذلك أثر سلبي على العلاقات الفرنسية المغربية. نحن على استعداد لمنح الناشر تعويضاتٍ. وطبعا سينال الكاتب أيضا تعويضاتٍ. واقترحوا مبالغ كبيرة. أجابه جوكس بقول:” اسمع الناشر هو غاليمار، دار النشر الكبيرة، فرنسية وأوربية، الخ أما جيل بيرو، فأنا أعرفه جيدا (هذا غير صحيح، لم نلتق قط)، إن له طبعا سيئا جدا. لا أنصحكم بالذهاب للقائه، فالأمر سيكون سيئا”
لكن الحالة التي لم تُضحكني فهي عندما أبلغوني في وزارة الداخلية أنَّ ثمة عقدا مع الوسط الفرنسي وأعطيةً لمن يقتُلني. وجرى اتخاذ تدابير هنا في سانت ماري. رابطت هنا مركبة درك، غير بعيد من البيت. لكن الأمر أضر بجيراننا وأصدقائنا المساكين، إذ أدى بعضهم غرامات لأنهم لم يضعوا حزام السلامة(ضحك). هذه هدنة مزاح، كان الوضع صعبا مع ذلك. أن يهاجم المرء ملكَ المغرب، وأن يُسمى هذا الملك الحسن الثاني، فليس هجوما على ملكة إنجلترا، او ملك بلجيكا ولا ألبير موناكو. إنه زبون مغاير.
لاحظتُ أيضا إلى أي حد كان التواطؤ بين الحسن الثاني والنخبة السياسية الفرنسية كبيرا. كان ذلك بفضل فندق المأمونية. كان مدراء صحف ومجلات، مثل جان دانيال Jean Daniel من مجلة نوفيل أوبسرفاتور، أو جاك أمالريك Jacques Amalric في لوموند، يقصدون المغرب على متن طائرة الملك لإنجاز مقابلات معه. باختصار، كانت حول مسبح فندق المأمونية كل نخبة اليسار وكل نخبة اليمين.
لكن مهما يكن من أمر، أحتفظ بذكرى مؤثرة جدا لأن هذا الكتاب أسهم، أقول أسهم، في فتح السجون بالمغرب. إذ يجب ألا ننسى أن المكافحين الحقيقيين من أجل الحرية في المغرب هم عشرات المناضلين/ات المغاربة الذين قاتلوا قتال الأبطال لإجبار نظام الحسن الثاني على القيام بتنازلات.
عمر بروكسي: لكنك بقيت، حتى بعد موت الحسن الثاني، شخصاً غير مرغوب فيه في المغرب.
جيل بيرو: نعم، أعلمني أندريه أزولاي أن محمد السادس، وفاءً منه لذكرى والده، سيُعيدني في أول طائرة الى فرنسا إن وطئت قدماي أرض المغرب.
عمر بروكسي: ما رأيكم في خليفة الحسن الثاني؟
جيل بيرو: عندما يمارس المرءُ السياسة في ظل حكم الحسن الثاني قد يختفي. نهائيا. ليس الأمر على هذا المنوال في ظل حكم محمد السادس. وهذا فرقٌ كبير. لكن، في نهاية المطاف المشكلة الأساسية في المغرب هي أيضا مشكلة اجتماعية وهي مشكلة لم تنتفِ مع الملك الحالي.
وجليٌّ أن الملكية، كما هي اليوم، ليست هي النظامَ الذي سيشجع حلا لهذه المشكلة. أعتقد أن مستقبل المغرب مظلمٌ طالما يستمر اتساع هذا الأخدود بين الأغنياء والفقراء. وهو لم يعُد أخدودا، بات هاوية.
الحسن الثاني شخصية معقدة. كان دوغول يقول عنه: «إنه قاسٍ بنحو لا جدوى منه”. إنها صيغة رجل دولة، إذ لا يمكن أن يكون شخص ما قاسيا بلا جدوى. صحيح أنه كان كذلك. لكنه كان رجلَ دولة حقيقياًّ.
كان يحبُّ السلطة. وكان يحبُّ المال، لكنه كان يحبُّ السلطة بوجه خاص. أما محمد السادس فيُحبُّ المال أولا. يحبُّ السلطة لأنها تُيسِّر بوجه خاص الأعمال، لكنها ثانوية بالنسبة اليه. ليس رجل دولة، ولم يملأ ثوبَ ملك المغرب. في ظل حكم الحسن الثاني، كان الصحفيون يختفون. وفي ظل محمد السادس الصُّحف هي التي تختفي. كما تعلم، لا يمكن لجريدة جيدة أن تستغني عن الإعلانات التجارية. ومن يُتيح إعلانات تجارية لصحف مستقلة أو ناقدة لمحمد السادس تأتيه مكالمات هاتفية مفادها: “جلالة الملك حزين جدا من إعطائهم إعلانات تجارية لهذه الجريدة…” طبعا الرسالة وصلت واضحة. الإعلانات التجارية تتوقف والجريدة … إنكم على علم بشيء من ذلك!
عمر بروكسي: ما الذي تغير، وما الذي لم يتغير، بنظركم، مع وصول محمد السادس إلى الحكم؟
جيل بيرو: تغير كل شيء كي لا يتغير أي شيء. ليس ثمة، بعد إحدى وعشرين سنة من وصول محمد السادس الى الحكم، تغييرٌ ذو شأن. إنها دائما نفس الجماعة. كل شيء يأتي من القصر وكل شيء يعود الى القصر. لا بل إن الدائرة تضيق باطراد. كان ثمة جانب شكسبيري لدى الحسن الثاني. كان ثمة بعدٌ تراجيدي: الانقلابات، والقمع، وعذابات عائلة أوفقير… مع محمد السادس نحن إزاء أوبريت. كان ثمة في البداية سوء تفاهم كبير. كان حتى يسمى “ملك الفقراء”. وفي النهاية كان ملكَ الأغنياء. أغنياء متزايدي الثراء. صحيح أن الخيبة هي ما ينتظر المرء إزاء الحاكمين، لكن الخيبة عميقة هنا.
============
المصدر: https://orientxxi.info/fr/auteur189.html
ترجمة المناضل-ة
عمر بروكسي: صحفي وأستاذ العلوم السياسية. كان رئيس تحرير مجلة Journal hebdomadaire حتى إغلاقها، وصحفي لدى وكالة الانباء l’Agence France-Presse. . له كتاب بعنوان محمد السادس خلف الأقنعة. نجل صديقنا
Mohammed VI derrière les masques. Le fils de notre ami (éditions du Nouveau-Monde, Paris 2014)
La République de Sa Majesté. France-Maroc, liaisons dangereuses (Préface d’Alain Gresh)
هاذان الكتابان ممنوعان في المغرب.
اقرأ أيضا