الرأسمالية والاشتراكية والذكاء الاصطناعي
بقلم دانيال مورلي
Daniel Morley
كان الذكاء الاصطناعيُّ في السنوات الأخيرة موضوعَ حوارات وأفكار عديدةٍ. تنامت وثيرةُ هذه النقاشاتِ في الأشهر الأخيرة مع بروز أنظمةِ ذكاءٍ اصطناعي، مثل شات جي بي تي ChatGPT [المُحوّل التوليديّ المُدرَّب مُسبقًا للدردشة-م] أو دال-إي Dall-E ، [دال-إي نموذج تعلم متعمق، يمكنه انتاج صور استناداً إلى تلقينات-م]، بوسعها خلقُ نصوص متماسكةٍ أو صور معقدةٍ بناءً على طلباتٍ بسيطة للغاية. أدى هذا التقدمُ إلى إعلان بعضِ المُعلِّقين أن أنظمةَ الذكاء الاصطناعيّ أصبحت كائناتٍ «حساسةً» وحتى «واعيةً»، أو بالأقل ستغدو كذلك عمّا قريبٍ.
أدت مكْنَنَة الإنتاج، منذ ظهورها، إلى إثارة أحلامٍ ملتهبةٍ بشأن مقدراتها التحريرية، ولكن أيضا إلى خشيةِ أن تحل الآلاتُ مكاننا في نهاية المطاف. يُفضي اليومَ تطويرُ الآلات «الذكيةِ»، وحتى «فائقةِ الذكاء»، إلى بلوغ هذه الأحلام وهذه الكوابيس مستوياتٍ قُصوى.
كانت الآلاتُ «الذكية»، حتى وقت قريبِ، من وحي الخيال. لكن، منذ عام 2012، حققت «الشبكات العصبيةُ الاصطناعيةُ»، القادرةُ على استخدام ما يسمى بتقنية «التعلم العميق» deep learning ، تقدماً هائلاً ؛ وبدأت في إحراز نتائجَ مبهرةٍ. أدت هذه الثورةُ التقنيةُ إلى إقرار البعض ببروزٍ وشيك لنظام ذكاءٍ اصطناعيٍ فائقِ الذكاء سيحلُّ كل مشاكلِ البشرية، تماما كما تُعلن الطوائف الألفية بانتظام عودة يسوعٍ المسيح.
لكن احتمالَ ظهور نظامِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ ذكي للغاية يثيرُ عموماً خوفاً أكثر من حماسٍ. يخشى كثيرون (ليس بدون سبب) أنْ يؤدي إضفاءُ طابعٍ جماهيري على أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى بطالةِ ملايين الأشخاص، بينما يتصورُ آخرون أن يقود تطورها إلى استعباد الآلاتِ للبشر بنحو مباشرٍ، كما الأمر في فيلمي ماتريكس Matrix وتيرميناتور Terminator. في متمِّ شهر آذار/مارس الأخير، قام آلاف الأشخاصِ في قطاع التكنولوجيا، بما في ذلك مؤسسُ منشأة آبل Apple ستيف وزنياك Steve Wozniak، بتوقيع نداءٍ إلى وقفٍ جميع الأبحاثِ في مجال أنظمة الذكاءِ الاصطناعي مدةَ ستة أشهرٍ، بمبررِ أنها قد تُشكل «تهديدا خطيراً للمجتمع وللبشرية».
تتجاوز هذه المخاوفُ قطاعَ الاقتصاد هذا، لأن مصدرها ليس تكنولوجيا الذكاء الاصطناعيِّ ذاتِها، بل هو نمطُ اشتغالِ المجتمع الرأسمالي. إن فوضى السوق في ظل الرأسمالية تحولُ دون تحكم البشرية بتطور التكنولوجيا، التي لا تُستخدم في المقام الأول لتلبية حاجاتٍ، بل لتحقيق أرباحٍ. وبالطبع، ليست أنظمةُ الذكاء الاصطناعي استثناءً لهذه القاعدة.
الذكاء الاصطناعي والوعي
تقوم فكرةُ إمكان أن يُصبح ذكاءٌ اصطناعيٌّ «واعيا» على تصورٍ أحاديِّ الجانب جداً لماهية الوعي. وفقا لهذا التصور، يكمنُ الفرق الوحيد بين حاسوبٍ وإنسانٍ في كون دماغِنا أقوى من حاسوبٍ وأشدُّ تعقيدا منه. ومن ثمة، سيُفضي تطويرُ أجهزة حاسوبٍ معقدة باطراد، في النهاية، إلى بلوغِها بالأقل نفس قوةِ أداء الدماغ البشريِّ. وخلاصةُ الأمر أن الآلاتِ ستصبح «واعيةً»، إن لم تكن كذلك بالفعل.
في الواقع، تختلفُ طريقةُ تفكيرِ الرجال والنساء اختلافاً بالغا عن كيفيةِ معالجة الذكاء الاصطناعيِّ للمعلومات. تطوًّرَ فكرُ الإنسان -ولا يزال -على أساس أنشطةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية ترومُ تلبيةَ حاجاتٍ. إنّنا نبلور أفكاراً تصفُ العلاقاتِ بين الأشياء وتحلِّلُها، وبذلك نولي أهميةً خاصة في هذه العلاقات لما هو مفيدٍ أو ذي دلالةٍ من وجهة نظرنا، إذ يجب أن نفهم العالم كيْ نعيش فيه.
هذا بوجه التحديدِ ما تفتقرُ إليه أنظمةُ الذكاء الاصطناعيِّ، حتى أكثرُها تقدما. إنها مفيدةٌ جدا لتجميعِ كمياتٍ ضخمةٍ من البيانات وتحليلها، ولتحديد أنماط متكررةٍ بين هذه البيانات، وحتى لإعادة إحداث هذه الأنماطِ في شكل رسم أو جملةِ كلمات، كما يفعل شات جي بي تي ChatGPT أو دال-إي Dall-E. لكن ما من فكرةٍ لدى أنظمةِ الذكاء الاصطناعيِّ هاته عن دورِ ما تُحللُ من بيانات، أو عن الأشياء التي تُمثِّلُها تلك البياناتُ، أو عن علاقاتِ هذه الأخيرة فيما بينها. كما أنها أنظمةٌ لا تفهم أصلَ، ولا معنى، الأنماط المتكررة التي تمكنت من تحديدها.
تتفوَّقُ أحدثُ أنظمةِ الذكاء الاصطناعيِّ على البشر في أداءِ مهام معينةٍ، لكن هذه النجاحاتِ تأتي بوجه التحديد من كون هكذا أنظمةِ ذكاء اصطناعيٍّ غيرَ واعية وغيرَ حيةٍ. على سبيل المثال، في عام 2016، كتب برنامج ألفا غو AlphaGo صفحةً جديدةً في تاريخ أنظمةِ الذكاء الاصطناعي بانتصاره على أحدِ أفضل لاعبي الغو Go في العالم. لكن، كان على ألفا غو AlphaGo ، لبلوغ هذه النتيجةِ، «ممارسةُ 30 مليون جولة لعبة الغو، أكثر بكثير مما قد يلعبه شخص طيلة حياته». [1] والحالُ أن تعذرَ قيام شخصٍ بهذا العدد الكبيرِ من جولات لعبة الغو Go ليس مردُّه إلى عدمِ اتساع مدةِ حياته بما يكفي لذلك وحسبُ، بل أيضا لأنه سيشعُر بالملل في النهاية -ولأنه في حاجة إلى أكلٍ ونومِ وإلى كسبِ مالٍ لأداء إيجار سكنه، وأيضاً إلى التحدث إلى الناس حتى لا يُصاب بالجنون، الخ. تتميز آلات مثل ألفا غو AlphaGo بفعالية عاليةٍ لأنها بوجه التحديد قابلةٌ للبرمجة كي تختَبِرَ نفسَ الأشياء مرارا وتكرارا.
يكمنُ عنصرٌ أساسيٌّ آخرٌ مميزٌ للوعي، وغيرُ متاحٍ لأنظمة الذكاء الاصطناعيِّ، في فهمِ العلاقات القائمةِ بين مختلفِ المفاهيم. على سبيل المثال، إذا طُلب من نظامِ ذكاءٍ اصطناعي رسمُ دراجة، عادة ما يُنتجُ رسمَ دراجةٍ بنجاح. وإذا طُلب منه رسمَ عجلةِ دراجةٍ، سينفذُ العملية مرّة أخرى بلا مشكلةٍ. لكن، إذا طُلب منه رسمُ دراجة وعجلتين وادراجُ تسمياتٍ ايضاحيةً لمختلفٍ مكوناتها، سيعطي رسمَ دراجةٍ محاطا بتسميات توضيحيةٍ موضوعةٍ عشوائياً، لأنَّ أنظمةَ الذكاء الاصطناعيٍّ لا تفهم العلاقاتِ بين الكل والأجزاء. تمثلُ «عجلةٌ»، بالنسبة لهذه الأنظمة، نمطاً متكرراً خاصاً بدون صلة مميزةٍ بهذا النمط الآخر الذي هو «الدراجة»، بينما تُمثل العجلةُ للإنسان جسماً مميزاً ومكوناً أساسياً لأي دراجة جديرةٍ بهذا الاسم.
ويؤدي ـأيضا العجزُ عن فهمِ العلاقات القائمةِ بين الكل وأجزائهِ إلى إمكانِ تفوق أنظمةِ الذكاء الاصطناعيِّ بنحو بالغٍ في انجاز مهامٍ بعينها، لكن مع قصورٍ تامٍّ عن القيام بمهمة أخرى رغم قٌربها البالغ من الأولى. وقفَ نظامُ ذكاء اصطناعيٍّ جرت برمجته لإتقانِ لعبة فيديو عاجزا تماما عندَ تعديل تلك اللعبةِ ببضع بِكْسِلات [البِكْسِل أو عنصر الصورة، أصغر عنصر منفرد في مصفوفة صور نقطية أو في عتاد توليد صور-المترجم]. لقد عجز عن إدراك أنها كانت نفسَ اللعبة، إجمالاً.
وعلى النحو ذاته، تمَّ بانتظام، منذ فوز برنامج ألفا غو AlphaGo عام 2016، هزمُ أنظمة ذكاءٍ اصطناعيٍّ مماثلةٍ من قِبل لاعبين هواةٍ كانوا تعلَّموا «نصْبَ فخاخ» لأنظمة الذكاء الاصطناعيِّ. مع ذلك، كانت هذه الفخاخُ واضحةً جدا لدرجة أن لاعبين بشراً، حتى دون مستوى في إتقان اللعبة، رصدوها وتجاوزوها بشكل منهجي. ومردُّ هذا إلى أن ما مِن فكرة لدى برنامج ألفا غو AlphaGo عن ماهيةِ لعبة الغو Go بحد ذاتها؛ إذْ جرى تدريبُه فقط من أجل تطبيقِ جُملة تكتيكات وحساباتٍ، دون فهم الغرض منها.
ليست أنظمةُ الذكاء الاصطناعيِّ، في نهاية المطاف، غيرَ أداةٍ. وليس تفوقُها على المقدرات البشريةِ، في هذه المهمة الخاصة أو تلك، دليلا على ذكائها الأرقى. إنه بالأحرى نتيجةُ كونها صُمِّمت، على غرار كل الآلات، لتكون أقوى أو أدقَّ أو أسرَعَ من البشر. تُنتج المطرقةُ الآلية قوةً أشدَّ من قوة العامل. وتجاوزت الآلاتُ الحاسبة منذ فترة طويلةٍ المقدراتِ الحسابيةَ الذهنيةَ لأفضل علماء الرياضيات. لكن ذلك لم يؤدِّ إلى جعل هذه الأدوات «ذكيةً» أو «واعيةً».
مقدرات ثورية
حققتْ أنظمة الذكاء الاصطناعيِّ تقدما ملحوظا في السنوات العشرِ الأخيرة، لاسيما منذ أن أتاح تقدمُ التكنولوجيا استخدامَ تقنيات التعلم العميِقِ deep learning على نطاق واسع، وأدمجها مع شبكات «خلايا عصبية اصطناعية» (التي تحاكي سماتٍ معينةً لدى الخلايا العصبية البشرية) لمعالجة كمياتٍ ضخمةٍ من البيانات.
لن نشرح هنا كيفيةَ اشتغال هذه التقنيات. يكفي القولُ إِن أنظمةَ الذكاء الاصطناعيِّ تتعلم بشكل عام من «تلقاء نفسها»، إن جاز التعبير، بناءً على ما طوَّره بدايةً مُبرمِجوها من مبادئ منطقية. يتعين على هؤلاء المبرمجين مدُّها بأكبر قدر ممكنٍ من البيانات للمعالجة، مثل صورٍ فوتوغرافية، وحثُّها على تحديد الأنماط المتكررة في هذه الصور، مثل الشكلِ المميز لوجه انسان. قد يُفلح هكذا ذكاءٌ اصطناعيُّ، عبر معالجة قدرٍ هائل من البيانات، في تحديد الخصائص الرئيسية للنمط المطلوب التعرف عليه -وتحديدِه مرة أخرى بمجرد العثورِ عليه في صور أخرى. مع ذلك، ليس لدى الذكاءِ الاصطناعي أدنى فكرةٍ عما يُمثله هذا النمط، فهو ليس بنظره غير شكلٍ معين من وحدات البِكْسِل.
تكمن الفائدةُ الرئيسية لهذه الطريقة في استقلاليتها النسبية، ما يتيح تطبيقَها على مشاكل خاصةٍ في مدّة زمنية قصيرة جدا، فيما كانت سابقا تتطلبُ مدةَ برمجةٍ وتجريبٍ طويلة. تتيحُ هذه الطريقة، من خلال معالجة كمياتٍ هائلة من البيانات، تحديدَ أنماط متكررةٍ حيث يعجز كائن بشري عن القيام بذلك – أو حيث لن يكون قادرا على القيام به إلا بعد فترة تحضير مديدةٍ جدا.
باتت هذه المقدراتُ مستخدمةً في جملة مجالات، من تصميم الطائرات إلى فكِّ المُستغْلقِ في نصوص قديمة، مرورا بالبحوث الطبية. يستعمل علماءُ الأحياء أنظمةَ ذكاء اصطناعيٍّ بانتظام لتحديد أشكالِ الأحماض الأمينيّة ووظائفها، ما يتيح تطويرَ أدويةٍ بشكل أسرعَ وفهمٍ أمثلَ لكيفية اشتغال بعضِ الأمراض، بما في ذلك مرض فيروس كورونا المستجد 19.
يأمل باحثون أيضا التمكنَ من استخدام أنظمةِ ذكاء اصطناعيٍّ لتطوير تكنولوجيات جديدةٍ. على سبيل المثال، أُجريت تجاربُ عديدة في مجال الاندماج النووي، وهي طريقة من شأنها نظريا انتاجُ كميات هائلة من الطاقة بدون نفايات تقريبا. تكمنُ صعوبة هذه التكنولوجيا في ضرورة الحفاظ على غرفة المُفاعل النووي في درجات حرارةٍ عالية جدا ومستقرةٍ نسبيا، ما يتطلبُ اهتماما دائما بكثرة كثيرةٍ من المُعامِلات المختلفة. تبدو هذه المهمةُ مناسبةً تماما لنظام ذكاءٍ اصطناعيٍّ، ويبدو أن أولى الاختبارات واعدةٌ. [2]
تفتحُ هذه التكنولوجيات أيضا آفاقا مذهلةً في مجال الإبداع البشري. إذْ أنه بوسع أنظمةِ الذكاء الاصطناعي، مثل دال-إي Dall-E، خلقُ صور بناءً على الطلب، اعتماداً على الكم الهائل من البيانات المرئية المتاحةِ على إنترنت. تظلُّ تلك الصور عامةً نسبيا، لأنها نتيجةُ سيرورةِ تجميع صورٍ موجودةٍ أصلا. لكن يمكن، من خلال جمعِ عناصر مختلفة، أن تساعد مبتكري القصص المصورة أو الرسامين على اختبارِ أفكارٍ بسرعة (على سبيل المثال: «مباراة كرة قدم في مدينة سايبربانك» [السايبربنك هو نوع من أنواع الخيال العلمي-م]). من الصعب المبالغةُ في تقدير ما تنطوي عليه هذه التكنولوجيات من مقدُرات… إن وُظفت بحكمة.
سلاسل الرأسمالية
كان ماركس يوضح أن كلَّ نظام اقتصاديٍّ واجتماعي يتيح إطارا لتطوير قوى الانتاج، لكن قوى الإنتاج هذه تتجاوزُ، في طور معينٍ، الإطارَ المعني، أي علاقات الإنتاج التي تطورت ضمنها. آنئذ، تُصبح علاقات الإنتاج هذه عقبةً بوجه مواصلة تطور قوى الانتاج لاحقاً. ينطبق هذا، طبعا، على نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي أتاح تطورَ قوى الانتاج على نحو غير مسبوق، قبل أن يُصبح كابحا هائلا بوجه هذا التطور ذاته، ما يفسرُ بقاءَ الاستثمارات وتحسين مكاسب الإنتاجية منخفضين للغاية، على الرغم من تطور تكنولوجيات جديدة مذهلةٍ في السنوات الأخيرة.
الذكاء الاصطناعي، وغيره من التكنولوجيات الرقمية (مثل إنترنت)، أدواتٌ متقدمة إلى حد يتعذر معه استخدامُها بشكل صحيح على قاعدة النظام الرأسمالي. لا يُنتج هذا النظام سوى بقصد تحقيق ربحٍ، بحيث لا يُنفذ من الاستثمارات غيرُ المدرة لأرباح. والحالُ أن طريقةَ الرأسماليين الوحيدةَ لتحقيق الربح هي استغلالُ قوة عمل الأجراء وبيعُ نِتاج عملهم. تقوم التكنولوجيات، مثل الذكاءِ الاصطناعِّي، بتقويض هذه السيرورة برُمَّتها. على سبيل المثال، يتيحُ إنترنت نسخَ كميات هائلة من المعلومات وتشاركهابسرعة فائقة، بناءً على قدر ضئيلٍ جدا من العمل. يمكن لأي شخص تشاركُ الموسيقى أو أفلام دون عناء. إن مجردَ وجود إنترنت، والحالة هذه، قد حوَّل فرعا كاملا من صناعة الموسيقى والأفلام إلى قطاع متجاوزٍ باطراد: إنتاج الأشرطة وتوزيعها.
كان هذا يطرحُ على رأسماليي هذه الصناعة الخاصة المشكلةَ التالية: كيف يمكن مواصلة تحقيق الربح عندما يكون بوسع أي شخص الاستفادةُ من مشاهدة فيلم أو الاستماع إلى ألبوم مجانا؟ حاولوا حل المسألة، من ناحية عن طريق تجريم تشاركِ الملفات، ومن ناحية أخرى من خلال توفير خدماتِ بثٍّ مؤدى عنها. كان هذا الحل فعالا نسبيا، من وجهة نظر الدفاع عن أرباح الرأسماليين. وبالعكس، هي طريقة غير طبيعية للحد بشكل مصطنع من قدرات التكنولوجيا، من وجهة نظر إنتاج وتوزيع الأعمال الفنية.
ينطبق عينُ المنطق على أحدث أنظمة الذكاء الاصطناعيِّ. إذا كان بإمكان نظامِ ذكاء اصطناعيٍّ أن يُنتج في اللحظة قسماً كبيرا من النصوص والرسوم التوضيحية اللازمة لكتاب ما، أو أيضاً مسودات أولى لسيناريو، في لمحِ البصر، بناءً على فكرة بسيطة، فإن قيمة عمل الرسامين وكتاب السيناريو تتقلص بنحوٍ بالغ.
لن يكون هكذا تطورٌ سلبيا بالضرورة في مجتمعٍ اشتراكي. لن يتملك الفنانين والرسامين أيُّ خوف من أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على إنتاج «عمل فني» في بضع لحظات. إذ أن الابداعَ الفني لن يكون قاصداً تحقيقَ ربح أو كسبَ قوتٍ. فمع زوال الروابط القائمة بين الفن والملكية الخاصة، سيُنتَج الفن لنفسه -أو بالأحرى لمصلحة المجتمع ككل. سيُصبحُ الإبداع الفنيُّ تعبيرا أصيلا عن أفكار الأفرادِ ومواهبهم، وشكلا من أشكال التواصل. على هذا الأساس، لن تُمثل أنظمة الذكاء الاصطناعيِّ تهديدا بعد الآن، بل أداةً أخرى في متناول الفنانين.
الوضع مُغاير تماما في ظل الرأسمالية، إذْ أن حياة الفنانين هشةٌ وخاضعةٌ لتقلبات السوق. إنهم مُجبرون على الدفاع عن حقهم في بيع فنهم من أجل حمايةِ دخلهم وظروفهم المعيشية.
مراقبة واستغلال
في ظل الرأسمالية، لا يمكنُ أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي سوى إلى تزايدِ الميول نحو الاحتكار وتفاقمِ أوجهِ التفاوت. يتم تطويرُ أكثرِ أنظمةِ الذكاء الاصطناعيِّ فعاليةً، وسيتم تطويرها، من قِبل احتكارات ضخمةٍ مثل غوغل Google أو مايكروسوفت Microsoft، لامتلاكها أمثلَ الأجهزة وأفضلَ المهندسين وإمكانياتِ الوصول إلى أقصى قدرٍ من المعطيات. وتستخدمُ هذه المجموعات موقعها الاحتكاري لتحقيق أرباح ضخمة.
علاوةً على ذلك، بقدر ما تيَسِّرُ هذه التكنولوجيات الإنتاجَ وتجعله أرخصَ ثمناً، ستستخدمُها المنشآت الرأسمالية لتسريح بعض العمال وخفض أجور آخرين. وقد باتت مستعملةً لمراقبة العمال باستمرار وإجبارهم على إنتاج المزيد (بنفس الأجر). في هذا المجال، أصبحت مقاولة أمازون مشهورة: «في عام 2018، قامت المقاولة بتسجيل براءتي اختراع اثنتين لسوار متصل يبعث موجات فوق صوتية وراديو، مما يتيح متابعة أيدي أمين المستودع وفقا لمحتويات مخزونه وذلك لاستخدام منبهات حسية لإرشادهما إلى الشيء المراد الإمساك به.» [3]
وضعت الرأسمالية يدَها على تكنولوجيا ثوريةٍ قد تُساعد في تناغم الإنتاج وعقلنتِه مع حفزِ إبداع البشر. بدلا من ذلك، نرى الرأسمالية تستخدمُها لمراقبة العمال أو تسريحهم، ولجعلِ وجود الفنانين أقلَّ استقراراً، ولتركيز مزيد من السلطات في أيدي الاحتكارات الرأسمالية.
لن تُؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعيِّ، بتعزيزها طابع الاقتصاد الاحتكاري، وبخفض الأجور، وبتركيز مزيدٍ من الثروات في أيدي عدد أقل من الأفراد دوماً، سوى إلى تفاقمِ فوضى السوقِ الرأسمالية. وقد بِتْنا نشهد اليوم عواقبَ ذلك. على سبيل المثال، تعتمد منشاة أمازون على الذكاء الاصطناعي في «تقنيات المستوى الأمثل لسلاسل التوريد»(Supply Chain Optimization Technologies, ou SCOT) [سكوط]، من أجل تخطيط نمُوّها واستثماراتها. وفي أثناء جائحة كوفيد 19، تغيرت أنماطُ الاستهلاك، وزادت نسبة التسوق بانترنت بواسطة منشآت من قبيل أمازون إلى حد كبير. أخذت تقنيات سكوط بعيْنِ الاعتبار تطورَ الاستهلاك هذا، لكن دون فهمِ أنه كان ناتجاً عن تكرار فترات الحجر الصحي. اعتقدت أنظمةُ الذكاء الاصطناعي أن ذلك الميل طويلُ الأمد، فأوصتْ منشأةَ أمازون باستثمار مليارات الدولارات لزيادة مقدراتِ التخزين إلى المستوى الذي يستدعيه هذا النموذج الاستهلاكيُّ الجديد. تتطابق هذه النصيحة تماما مع تطلعاتِ مديري مقاولة أمازون التنفيذيين، فاتّبعوها. وبمجرد إنهاء فتراتِ الحجر الصحيِّ، انخفضت طلبات لأمازون إلى حد كبير – وأصبحتْ منشأةً بمستودعات كبيرة جدا ومنتجاتٍ كثيرة غير مباعة، ما أدى إلى تسريح العمال وإلى تخفيضات بالغةٍ في السلع. يؤدي استخدام الاحتكارات الرأسمالية لأنظمة الذكاء الاصطناعي إلى مفاقمة الفوضى وفيضِ الإنتاج عوضَ القضاء عليهما.
في هذا السياق، ليستِ المخاوف التي يستثيرها الذكاءُ الاصطناعيُّ مفاجئةً. بيد أنه لا علاقة لهذه المخاوفِ بالتكنولوجيا نفسها. إنها تكشفُ بوجه خاص التناقضاتِ المتأصلةَ في نمط الإنتاج الرأسمالي. في ظل الرأسمالية، نرى أسمى إنجازات فكر البشر بوجه التحديد، أي التكنولوجيات القادرة على القضاء على الفقر والجهل، هي التي تُهدد بخلق مزيدٍ من الفقر.
نخشى أن يستعْبدَنا نظام ذكاءٍ اصطناعيٍّ عديمِ الإحساس وغير شخصي وآلي. لكن في الواقع، نحن بالفعل مُخضعون لقوى السوق العمياء وغير الشخصية، وباردة وآلية بنفس القدر، مع أنها غير «ذكية» ولا «عقلانية».
الذكاء الاصطناعي والتخطيط
إن استخدامَ الذكاء الاصطناعيٍّ لزيادة الاستغلال الرأسمالي فوضى إجراميةٌ. من الصعب تصور مهمةٍ ملائمة لمثل هذه الأدوات أكثر من مهام تخطيط اقتصاد مُعقد، بقصد تلبية حاجات السكان. يُمكن بالفعل، كما أثبتت مقاولة أمازون، أتْمَتَةُ سلاسلِ التوريد بالكامل تقريبا.
تلجأ مقاولة أمازون، في مُجمَّعات تخزينها الضخمةِ، الى روبوتات وأنظمةِ ذكاء اصطناعيِّ بقصد بلوغِ أمثلِ تخطيط لوجهة البضائع وللكمية المطلوبة. سيكون ممكناً تماما دمجُ هذا النوع من التكنولوجيا في الاقتصاد إجمالاً، لإتاحة فورية لبيانات عن الاستهلاك، وحتى عن انتهاء صلاحياتِ الآلات والمعدات.
طورت المنشأة المصنِّعة لبرمجيات SAP تطبيقا مبنياً على نظام ذكاء اصطناعيٍّ يُسمى التطبيق التحليلي عاليَ الأداء HANA، تستخدمه مقاولات مثل وول مارت Walmart لتخطيط خدماتِها اللوجستيةِ والطلباتِ، باستعمال بياناتِ اللحظة (زمن حقيقي). بتزويد أنظمةِ ذكاء اصطناعيٍّ للتعلم العميق بهذا النوع من البيانات، قد يُساعد الأمر في وضعِ خطط إنتاج اقتصادي طويلة الأمد. وقد يتيح ذلك أمثلَ استخدام للموارد لتلبية حاجاتِ السكان مع تفادي قسطٍ كبير من التبذير، وتقليصِ مُدة العمل اللازمة.
لابدَّ طبعاً من إشراف البشر على هكذا أنظمةِ ذكاء اصطناعيٍّ. لن تكون هذه الأخيرةُ إلا أداةً في خدمتهم. فستكون، على سبيل المثال، عاجزةً عن الإجابة على أسئلة نوعِ الهندسة المعمارية المتعين تطويره -أو الشكلِ الذي يجب أن تبدو عليه مدننا. لكن، لن تكون إسهاماتها في إدارة الاقتصاد أقلَّ أهمية.
هنا تكمنُ مقدراتُ هذه التكنولوجيات الجديدة. إنها مقدراتٌ في متناولنا، لكنها مُفلتة منا. إذْ ليست التكنولوجيا نفسُها من يحدد تلقائيا استخدامها، على عكس ما يتصور كثيرون، بل نمطُ الإنتاج التي نعيش فيه.
إن النظامَ الرأسمالي هو من سيحدد كيفيةَ استخدام أنظمةِ الذكاء الاصطناعيِّ، ما دمنا نعيش في ظله. لذلك لا تستطيعُ هذه التكنولوجيا، في حد ذاتها، حلَّ مشاكل الرأسمالية. يجب إطاحةُ هذا النظام حتى نتمكَّن في آخر المطاف من الاستفادة الكاملة من جميع التكنولوجيات وإخضاعٍ الاقتصاد لتخطيطٍ عقلاني وواعٍ.
هذه هي الضرورةُ الحيويةُ لبقاء جنسنا البشريِّ على قيد الحياة، والتي أكدها سابقاً تروتسكي عام 1932 بقول: «حررتِ التقنيةُ الإنسانَ من طُغيان العناصر القديمة: الأرض والماء والنار والهواء، لتُخضعه فورا لطغيانها. يكفُّ الإنسان عن أن يكون عبدَ الطبيعة ليصبح عبدَ الآلة، وأسوأ من ذلك، عبدَ العرض والطلب. إن الأزمة العالمية الراهنةَ شاهدةٌ بنحوٍ مأساويٍّ خاصٍ على كونِ هذا المتحكمِ بالطبيعة، الفخورِ والجريء، لا يزال عبدَ قوى اقتصاده العمياءِ. تتمثلُ مهمة عصرنا التاريخية في إحلال خطةٍ معقولة مكانَ لعبةِ السوق المنفلتةِ من عِقالها، وفي إخضاع قوى الانتاج، وإجبارها على العمل بتناغم لخدمة حاجاتِ الإنسان بامتثال.» [4]
المصدر:
https://www.marxiste.org/theorie/3249-capitalisme-socialisme-et-intelligence-artificielle
ترجمة :المناضل-ة
___________________________________[1] G. Marcus, E Davis, Rebooting AI: Building Artificial Intelligence We Can Trust, Pantheon Books, 2019.[2] A. Katwala, « DeepMind Has Trained an AI to Control Nuclear Fusion », Wired, 16 February 2022[3] N. Dyer-Witheford, A. Mikkola Kjosen, J. Steinhoff, Inhuman Power: Artificial Intelligence and the Future of Capitalism, Pluto Press, 2019.[4] L. Trotsky, Discours sur la Révolution d’octobre, 1932.
اقرأ أيضا