العنف الجنسي ضد النساء: جرائم تمد جذورها في نظام القهر الطبقي والسيطرة الذكورية
العنف الجنسي أفظع صنوف العنف الذكوري المدمر لحياة النساء باختلاف أعمارهن، ويتصدر جرم الاغتصاب قائمة الاعتداءات الجنسية الأشد فتكا بصحة النساء الجسدية والنفسية. تُقهر النساء ضحايا العنف الجنسي وبخاصة المعرضات للاغتصاب في صمت في مجتمع السيطرة الذكورية، ويتركن لعزلتهن يكابدن لوحدهن هول ما لحق بهن، ويبقين طوال حياتهن سجينات النظرة الدونية والإذلال في مجتمع محكوم بسطوة تقاليد رجعية بالية شديدة التحيز للجناة ومُجَرِّمة الضحايا.
نزعت واقعة الاغتصاب الجماعي والمتكرر للطفلة القاصر بمدينة تفلت، المنكشفة تفاصليها بالصدفة في الإعلام الشهر المنصرم، الستار عن فظاعة ما يصيب النساء والفتيات في بلدنا.
يبدو هذا النوع من العنف شاذا، بيد أنه لم يسقط من السماءـ، ولا هو خاصية بيولوجية أو نفسية ملازمة للذكور، ولا يمكن فهمه إلا بارتباط مع المجتمع الذي يتطور فيه، أي المجتمع الرأسمالي.
ليس العنف الجنسي، والعنف الجندري بصفة عامة، ظاهرةً معزولة في المجتمع الرأسمالي، بل مجرد عنصر ضمن منظومة عنف تمثل جزء لا يتجزأ من آلية الاشتغال اليومي للمجتمع الرأسمالي البطريركي، إذ أن هذا الأخير إنما يضمن استمراره بمزيج من الإكراه العنيف والقبول المصنوع.
ليست أنواع العنف التي نعيش اليوم اختلالا عابرا، بل جزء من آلية اشتغال النظام، ناتجة عن تناقضات تخترق الحياة الشخصية والعائلية، قائمة على الانقسامات المميزة للنظام الرأسمالي، بين إعادة انتاج البشر وتحقيق الربح، وبين الأسرة و”العمل”.
بعبارة أخرى، صنوف العنف الجندري راسخة الجذور في نظام اجتماعي حيث يتداخل إخضاع النساء مع تنظيم للعمل مطبوع بميز ضدهن ضمن ديناميات تراكم الرأسمال. وبالتالي لا يمكن فهم صنوف العنف تلك، ولا تصحيحها، بمعزل عن آليات العنف الرأسمالي الأوسع: عنفُ القوانين التي تُنكر حريةَ إعادة الإنتاج؛ والعنفُ الاقتصادي بمختلف درجاته، وعنفُ جهاز الدولة (شرطة، ومحاكم وسجون…)، وقمع حرية التنقل عبر الحدود، والعنف الامبريالي؛ والعنفُ الرمزي للثقافة السائدة التي تستعمر عقولنا، وتشوه أجسادنا وتخرس أصواتنا؛ وعنفُ تدمير البيئة الطبيعية لأغراض الربح.
وأشكال العنف الجندري تزداد حدة بوجه خاص في زمن الأزمة. في تلك اللحظات، حيث يزداد القلق والهشاشة الاقتصادية وعدم اليقين السياسي بقوة، يهتز نظام العلاقات الجندرية بدوره.
هل تعالج القوانين ظاهرة العنف الجنسي؟
أبانت جريمة مدينة تفلت البشعة عجز منظومة القوانين عن التصدي بحزم لجرم الاغتصاب وكافة أنواع الاعتداءات الجنسية. تقر فصول القانون الجنائي عقوبات حبسية تضاعف إذا كانت الضحية قاصرا أو حاملا أو معروفة بضعف قواها العقلية. غير أن ظروف التشديد قد تسقط أمام سلطة القضاة التقديرية الواسعة، وهو ما يفسح مجال إفلات المغتصبين من العقاب. وهذا ما كرسه الحكم الابتدائي الذي متع مرتكبي جريمة اغتصاب قاصر نتج عنه حمل وولادة بظروف التخفيف. واضطر جهاز القضاء إلى تدارك حكمه المنحاز استئنافيا تحث ضغط الاستنكار الواسع في مواقع التواصل الاجتماعي وتنظيم جمعيات نسائية وهيئات حقوقية لوقفة احتجاجية منددة بالحكم.
لن تندمل الجروح الغائرة التي تركها المجرمون الثلاثة على جسد الطفلة ونفسيتها بالرغم من رفع سقف العقوبات. كان من الواجب والضروري إجراء عملية طبية لوقف الحمل لإنقاذ حياة الطفلة وحمايتها بدلا من إنجابها لطفل جاء نتيجة جريمة اغتصاب شنيعة. تُسائل هذه الحادثة المأساوية مرة أخرى تجريم القانون الجنائي الحق في الوقف الإرادي للحمل وتكشف نفاق قوانين تدعي حماية النساء، والحال أنها تبقي على جبروت الرأسمالية البطريريكة المصادرة لسيادة النساء على حياتهن الجنسية والإنجابية.
لازالت منظومة القوانين رغم التنصيص على تجريمها للعنف تجاه النساء، ومنه العنف الجنسي، محكومة بعقلية ذكورية طاغية. يتجلى ذلك في ممارسات سلطة القضاء الموكول لها تطبيق القوانين. ليس الحكم الابتدائي في جريمة اغتصاب الطفلة القاصر مجرد خلل أو سلوك استثنائي، بل ينم عن نهج قضائي ذكوري يستخف بجرائم الاغتصاب وكل الاعتداءات الجنسية التي تطال النساء ووقعها عليهن، ويعتبر جهاز القضاء الجرائم الجنسية ثانوية بالمقارنة مع درجة خطورة الجرائم الأخرى التي تهدد السلامة البدنية والنفسية للأفراد.
بيد أن وجود قضاة من الإناث ليس حلا منصفا لضحايا العنف الجنسي، ولا رادعا لهذه الجرائم. إذ مهما بلغ التعاطف الانثوي يظل محكوما بقوانين تظل، حتى عند تحسينها، قانون الطبقة السائدة، وما يُنتزع من تحسينات يظل دوما مهددا. فضلا عن كون القوانين التي تجرم الاغتصاب الزوجي أو الاعتداءات في أماكن العمل لا تساعد النساء اللائي لا ملاذ لهن، ولا اللائي لا وسيلة لديهن.
إن الجواب الوحيد في ظل الرأسمالية هو العقوبات السجنية، لكن من الجلي أنه ليس حلا في الأمد البعيد، والمؤسسة السجنية ذاتها فيها كثير من العنف الجنسي.
إن الاعتقاد بأن التجريم والعقاب جواب على العنف الجندري اعتقاد لا يدرك أن القوانين والشرطة والمحاكم غير مستقلة عن بنية السلطة الرأسمالية وبالتالي فلن تتصدى لميلها العميق إلى إنتاج أنواع العنف الجندري.
+++
يحجب نظام القهر الذكوري السائد حجم النساء ضحايا العنف الجنسي لاسيما المتحدرات من أوساط اجتماعية اقتصادية كادحة، ويقطن مجالات جغرافية هامشية لا تلقى حظها في التناول الإعلامي الرسمي، ولا تتوفر بها مراكز وبنيات اجتماعية سهلة الولوج تتوجه لها النساء ضحايا العنف، فضلا عن افتقاد النساء لوسائل تمكنهن من التبليغ عن الاعتداءات الجنسية التي ترتكب في حقهن، كما يمنعهن الخوف من الوصم، و “العار”، و النبذ ، من طرف العائلة من التجرؤ على فضحها. تواجه النساء المنتميات لطبقات اجتماعية فقيرة اضطهادا مركبا يجعلهن غير قادرات على مواجهة مصائب الاغتصاب والتحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب والابتزاز الجنسي، ولا يستطعن النفاذ لعدالة طبقية تقوم في جوهرها على تثبيت الانقسامات الاجتماعية والجندرية.
يظل العنف الجنسي إلى جانب أنواع العنف الجندري الأخرى سلاحا فتاكا بفوهة موجهة باستمرار صوب النساء والأقليات الجنسية، ويمثل فضلا عن ذلك تجليا للهيمنة الرأسمالية البطريريكة على أجساد النساء واعتبارهن مجرد شيء يمكن حيازته غصبا وتعسفا، ولا يتوقف السطو على أجساد النساء عند الاعتداء عليهن جسديا و نفسيا وجنسيا فقط، بل يتعداه ذلك إلى سلبهن حق التصرف في أجسادهن بتجريم التشريعات لحقهن في الوقف الإرادي للحمل. وتخدم السيطرة على أجساد النساء في المقام الأول المجتمع الرأسمالي المرتهن إعادة إنتاجه بوجود يد عاملة تتيحها الوظيفة الإنجابية والرعائية التي تسند للنساء.
يحتل النضال ضد أوجه عنف الرأسمالية البطريركية مكانة مركزية في النضال من أجل تحرر النساء. ويجب تنظيم حملات التشهير به، وإدانته، ونشر الفهم الجوهري لطبيعته، والعمل على خلق مساحات تشجع ضحاياه على كسر حلقة الصمت وفضحه، وتفعيل شبكة للتضامن العاجل مع النساء الضحايا، والضغط لقطع الطريق أمام جهود طمس الجريمة باستغلال عوز الضحايا وأسرهن أو بإصدار أحكام مخففة. وتبقى خدمات المرافقة والتوجيه والإرشاد التي تقدمها شبكة الجمعيات النسائية والمراكز التابعة جد محدودة بالمقارنة مع حجم انتشار العنف ضد النساء، ولا يساهم هذا النوع من الخدمات في تجميع المعنفات ليتسنى لهن تنظيم أنفسهن والتضامن فيما بينهن ورفع وعيهن ضد أسباب قهرهن.
لا قضاء على شكل عنف دون القضاء على الأشكال الأخرى.
يقتضي اجتثاث كل أشكال العنف ربط النضالات ضد العنف الجندري بالنضالات ضد كل أشكال العنف في المجتمع الرأسمالي-وضد النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه.ولا دحر نهائي للظلم الجندري إلا بالانتفاض ضد طغيان رأس المال الذي يسرق عملنا ليصنع أرباحا.
يجب أن يجد النضال ضد أوجه القهر الذكوري مكانته في منظمات النضال العمالي حيث ينتظم جزء كبير من النساء العاملات، وعلى النقابات أن تعمل على خلق فضاءات خاصة تساهم في نشر وعي نسوي في المنظمات العمالية بدمج مطالب العاملات الخاصة بهن كنساء في ملفاتها المطلبية، هكذا يمكن أن تقوم النقابات بدور هام في تجميع قوة النساء الجماعية من أجل النضال بحزم ضد كافة أشكال اضطهاد النساء.
المناضل-ة
اقرأ أيضا