المدرسة الرائدة: الصيغة الجديدة لسيرورة وضع التعليم العمومي في خدمة رأس المال
بقلم: فاتح رضوان
في البدء كان البنك الدولي
أعلن البنك الدولي عن تقديم قرض جديد للمغرب بقيمة 250 مليون دولار، يضاف لقرض سابق سنة 2019 بقيمة 500 مليون دولار، في إطار تمويل خطة الدولة في التعليم، المسماة «خارطة الطريق»، هَم القرضان تمويل تعميم التعليم الأولي ومشروع المدرسة الرائدة ويندرجان في إطار رؤية البنك الدولي العامة التي حملتها وثيقة «المغرب في أفق 2040: الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي» التي شكلت الأساس الذي بني عليه ما يسمى بالنموذج التنموي الجديد.
لا يحتاج كل متتبع حصيف إلى كبير عناء ليتبين كيف يتدخل البنك الدولي في كل مفاصل تحديد السياسات العمومية ببلدنا، وكيف يحدد غاياتها وأولوياتها، بما يخدم بطبيعة الحال مصالح رأس المال. وأصبح قطاع التعليم منذ مدة طويلة مجالا يملك فيه البنك الدولي يدا طويلة في توجيهه وبناء سياساته. وفي المرحلة الراهنة، وأمام الحجم الهائل للقروض المعطاة من قبله، يظهر جليا أن صبر المؤسسات المالية والحاكمين بالمغرب قد نفذَ للعبور بالمدرسة المغربية نحو ضفة إرساء نهائي للمنظور الليبرالي الهادف لجعل المدرسة العمومية بكل مكوناتها خديمة لاستراتيجيات رأس المال وأهدافه. وتمثل خارطة الطريق الإطار العام الذي سيتم به هذا العبور، ويمثل «مشروع المدرسة الرائدة» الركيزة الأساسية فيه، ضمن المشروع العام للدولة حاليا المسمى النموذج التنموي الجديد.
خارطة الطريق: نفس طريق الجحيم المفروش بالنوايا الحسنة
نصت خارطة الطريق التي قدمتها الوزارة على مجموعة من الرؤى تستهدف تجاوز الاستعصاء الذي يعرفه مشروع بناء المدرسة النيوليبرالية بالمغرب منذ تبني الميثاق للمشروع الهادف لذلك. وقد تضمنت تلك الخارطة 12 التزامات تهم التلاميذ والأساتذة والمؤسسات التعليمية. تستعيد تلك الالتزامات شكلا شبه متطابق لما تم الإعلان عنه منذ صدور ميثاق التربية والتكوين وبعده البرنامج الاستعجالي وما جاء بعدهما من برامج وخطط، لكن مع التركيز على ما تم الالتزام به مع المؤسسات الدولية الدائنة ببعض التفصيل، خاصة في شق تعميم التعليم الأولي وفصل شغيلته عن الوظيفة العمومية، والدعم الاجتماعي في إطار خطة الدولة الإجمالية في هذا الشأن كجزء من مشروع الحماية الاجتماعية ذي الخلفية النيوليبرالية (المفكك لكل المكاسب في دعم أثمان مواد الاستهلاك -صندوق المقاصة- وقضم المكتسبات والحقوق المتعلقة بالتقاعد)، والتركيز على «جهوية التوظيف» وعلى ربط الترقية ب»المردودية» …الخ
في تفصيل هاته الالتزامات سنقف على ثلاث محددات أساسية تبرز طبيعة توجه الوزارة نحو اعتماد آليات تدبيرية مستمدة من القطاع الخاص ومن مشروع تفكيك الوظيفة العمومية:
أولا: ربط الارتقاء المهني بالأداء والتكوين:
1. الأستاذات والأساتذة يستفيدون من أسبوع في السنة على الأقل، للتكوين المستمر، يتلاءم مع احتياجاتهم ويُتوج بشهادة تؤخذ بعين الاعتبارفي الترقية المهنية.
2. إرساء نظام جديد لتقييم أداء أطر التدريس يعتمد على معايير أكثر موضوعية وإنصافا، تمكن من تثمين المردودية .
3. أطر التدريس يستفيدون من آلية جديدة للتحفيز تمكنهم من تحسين دخلهم وفق مردوديتهم والمهام التي يقومون بها ومساهماتهم في تعلمات التلاميذ
ثانيا: تثبيث التعاقد عبر «التوظيف الجهوي:
1. جميع أطر التدريس يخضعون لنظام أساسي موحد ومضمون من طرف الدولة، يخول لهم نفس الحقوق ونفس آفاق الترقية في المسار المهني، مع الحفاظ على منطق التوظيف الجهوي وقد تم إعداده بتوافق مع الشركاء الاجتماعيين، كما يحدد بدقة مهام أطر التدريس ويُحسنِّ مسارهم المهني.
ثالثا: إرساء «علامات الجودة»:
1. نظام لعلامة الجودة تم إرساؤه من أجل تجويد وقياس أداء المؤسسات التعليمية وتمنح من طرف جهاز مستقل ووفق معايير محددة تشمل كل جوانب تدبير المؤسسة التعليمية، وفي إطار الإنصاف، تتم مواكبة المؤسسات التعليمية في مسار الحصول على علامة الجودة مع الأخذ بعين الاعتبار وضعيتها البدئية.
2. تقييم الوضعية والشروط المادية للمؤسسات التعليمية بكيفية مستقلة وحسب إطار مرجعي وطني مع منح المؤسسات التي تستجيب للمعايير المطلوبة علامة الجودة وتمتيعها بهامش تصرف أوسع وموارد إضافية
رابعا: استقلالية المؤسسات التعليمية:
1. المؤسسات التعليمية تتمتع بهامش تصرف واسع يهم الجانب الإد اري والمالي والبيداغوجي، مع تبسيط المعايير والمساطر المعمول بها ، كما أن المديرات والمديرين يحضون بمجال أكبر للتدخل
المحاور الكبرى لمشروع المدرسة الرائدة
تطبيقا لخارطة الطريق، ذهبت الوزارة في اتجاه إرساء مشروع للتطبيق، سمته المدرسة الرائدة، ويستهدف تطبيق ثمانية من التزامات تلك الخارطة. يقود المشروع، إطار بنكي، موظف سابق للبنك العالمي وبنك المغرب وإطار حالي بصندوق الإيداع والتدبير، يوسف السعداني، وهو مستشار للوزير وعضو لجنة النموذج التنموي، ويظهر أن له اليد الطولى في كل ما تفعله الوزارة الآن، بما فيه النظام الأساسي الجديد، حيث كان عضوا في اللجنة التقنية، وهو من كان يقصف النقابيين، المصرين على مشاركته اجتماعات اللجنة التقنية لإعداد النظام الأساسي، بتلك المنظورات التي قدمها على أنها التجارب الدولية الناجحة.
ينبني مشروع المدرسة الرائدة على أربعة مشاريع: التدريس وفق المستوى المناسب (مقاربة Tarl)، مقاربة الأستاذ المتخصص، مشروع التدريس الناجع، علامة الجودة في ارتباط مع تنزيل مشروع المؤسسة. في المقابل سيتم إعطاء المؤسسات والمدرسين ما صار يصطلح عليه ب»تحفيزات» المدرسة الرائدة (منحة 50000 درهم سنويا لمشروع المؤسسة مع تبسيط مساطر الصرف ومنحة 10000 درهم سنويا للمدرسين وأدوات عمل رقمية) نظير الالتزام التام بالعمل وفق أهداف المدرسة الرائدة وعلامتها للجودة.
مشروع المدرسة الرائدة حلقة أخرى في مسلسل تفكيك المدرسة العمومية
يندرج المشروع ضمن ملتقى السياسات العمومية في التعليم والوظيفة العمومية، بغاية إدخال أنماط التدبير الشائعة في القطاع الخاص، وتهييئ مناسب للوضعية الحالية لمسار تسليع التعليم. يمكن إجمال المسائل المراد الوصول لها في الآتي:
أ- خلق التنافسية بين الأجراء: يمثل مشروع (المدرسة الرائدة) محطة في سيرورة طويلة من إدخال التنافس بين شغيلة القطاع، الذي كان رفعُ نسبة الترقي بالامتحانات المهنية على حساب الأقدمية أبرزَ محطاته السابقة (نظام 2003).
ب- إدخال أنماط جديدة للتأجير: ساعات الدعم المؤدى عنها، التي طالما حاولت الوزارة العمل بها، لكن حال دون نجاحها في ذلك مناخ رافض لذلك بالمؤسسات.
ت- استقلالية المؤسسات: التي تعني في حالة المدرسة الرائدة، تحمل أجراء التعليم مسؤولية بلورة وتنفيذ عمل محلي (داخل المؤسسات) وتحمل نتائج ذلك، على مستوى المسار المهني وعلى مستوى العلاقة مع «المرتفقين». إن فشلت المؤسسة فليس لأن النظام التعليمي ليس على ما يرام، بل لأن «الفريق التربوي» غير مؤهل للنجاح.
ث- علامة الجودة باعتبارها مدخلا «لتثمين» المؤسسة التعليمية، أي لإضفاء قيمة «مالية»/ ثمن عليها. وهو مدخل من مداخل التسليع والخوصصة، المؤسسة «الثمينة» ستصبح جاذبة لرأس المال، أو على الأقل يمكن جعل تسييرها وفق شراكة عام/ خاص مربحا.
ج- ستصبح المؤسسة ذات العلامة مؤسسة جاذبة للآباء والأمهات والتلاميذ، وبالتالي سيفتح الطريق نحو البحث عن طريقة للانتقاء بين الراغبين في الدراسة بها، وليس من طريقة في مجتمع قائم على الربح إلا جعل الخدمة في تلك المؤسسة مؤدى عنها.
ح- جعل «الموارد البشرية» للمؤسسات التعليمية، في خدمة دائمة لتلك العلامة، يمثل «تمييع» ساعات عمل المدرسين والإداريين مدخلا ضروريا لذلك: يجب العمل أكثر من الساعات المحددة لضمان الحفاظ على تلك العلامة، عبر ساعات مؤدى عنها (الساعات الإضافية) تارة، وتارة ساعات عمل ضرورية لإتمام أعمال لا تنتهي أو لإنجاز أنشطة موازية تخدم إشعاع العلامة.
خ- المدرسون في المؤسسات الرائدة، ذوي الإشعاع وذوي التجارب الناجحة، سيصبحون مطلوبين للعمل في مدارس أخرى، سيسمح ذلك بتقديم بعض «النماذج» الناجحة لهؤلاء المدرسين، المتعاقدين، الذين انتقلوا من مؤسساتهم «العمومية» إلى مؤسسات تعطيهم أجورا ومكانة وبروزا (visibilité) أحسن، باعتبارهم نموذجا للنجاح، ودليلا على أن سياسة التوظيف العمومي فاشلة لأنها لا تسمح بتطور الافراد.
أدوات الدولة حاليا للسير قدما في مشروعها:
ا- سيمثل النظام الأساسي الجديد أداة مرنة في يد الدولة (التوظيف مع الأكاديميات والمراجعة كل ثلاث سنوات) لتسريع الوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من لبرلة للعلاقات المهنية في التعليم، سيخدم النظام الاساسي الجديد المدرسة الرائدة من هذا الجانب: ربط الترقية بالمردودية وربط الارتقاء بالمردودية بالتكوين المستمر وتطبيق نتائجه داخل الفصول الدراسية.
ب- المدارس الرائدة المنشودة مدارس لا عمل نقابي فعلي فيها، لكن هذا لا يعني أنه لن تكون هناك نقابات، ستكون النقابات القائمة فيها نقابات تعين الدولة على السير في مشروعها. لا نضال ولا اضراب ولا وعي طبقي.
ت- الحركة النقابية بصيغتها الحالية، نقابات الشراكة والحوار الاجتماعي الممأسس، هي أداة رئيسية من أدوات الدولة لتنفيذ مخططها.
ث- تمثل منظومة الاتصالات والإعلام الحديثة أداة أساسية للرقابة على المؤسسات التعليمية، فمثلا برنام مسار يتم تطويره باستمرار، ستشمل الرقابة كافة جوانب الحياة في المؤسسات التعليمية وفي الزمن الذي تريده الجهات المراقبة. يخدم هذا البرنام استراتيجية الدولة في جعل كل المؤسسات التعليمية تعمل تحت مجهرها المباشر.
ج- استراتيجية تواصلية تستهدف بث الاطمئنان في نفوس الشغيلة، من حيث التأكيد على أن الانخراط في المشروع هو انخراط طوعي، وأن الامتيازات المعطاة في إطاره هي امتيازات إضافية على تلك الموجودة ولن تؤثر عليها، وعلى أنه لا تأثير لذلك على إمكانات الانتقال وعلى المراقبة والأعباء، وأن المئات من المؤسسات قد طلبت بالفعل الانخراط في المشروع. مع التأكيد على أن كل ما يقال من نقد على المشروع هو محض إشاعات مغرضة.
سبل المواجهة
يراهن مهندسو المشروع على نجاح الأدوات المعبأة لتنفيذ المشروع (المعروض جزء منها أعلاه)، متسلحة في ذلك بغياب أي منظور في وجه منظورها، خاصة بعد أن نجحت في تحييد الحركة النقابية في القطاع عبر التفييئ وعبر جر القيادات النقابية للعب في إطار منظور الدولة العام.
يبدو أن هزم معركة الأساتذة المفروض عليهم التعاقد كان شرطا أساسيا لتمرير المشروع الجهنمي للمدارس الرائدة، وسيكون بعض المهزومين أداة من الأدوات التي ستستعملها الدولة للتسويق لمشروعها (مثله فرض التزام على المدرسين المقاطعين في أكاديمية درعة تافيلالت)، بما يعني أن التربة مهيأة لتمرير المشروع الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد الاستسلام التام للحركة النقابية.
في المستوى الحالي من تفعيل المشروع، يبدو أن الدولة تتقدم فيه بشكل حذر وبمرونة كبيرة، وستتقدم بخطوات صغيرة مترابطة تنتهي بجر الشغيلة أولا لمستنقع التنافس على تبني المشروع، وبعد ذلك سيظهر جليا ما يخفيه بحذق الآن عبر استراتيجيتها التواصلية المنافقة. واجب من بقي على خط المعارضة النقابية أن يبني استراتيجية مضادة، قوامها في الطور الحالي تفكيك المشروع وتبيان أخطاره الاستراتيجية، على مضمون المدرسة ووظيفتها وعلى وضع شغيلتها، في أفق بناء منظور مطلبي جديد كليا، على أنقاض إفلاس المنظورات المطلبية للقيادات النقابية المتبني فعليا لمشروع الدولة والساعي لنيل فتات مقابل الانخراط فيه، رغم بعض الرطانة المعارضة الخافتة التي يقتضيها الحفاظ على هيمنتها على قسم من الشغيلة.
بهذا المعنى لا ينفصل النضال ضد مشاريع ربط المدرسة باستراتيجيات رأس المال وبمنظورات إدخال أنماط التدبير المستخدمة من القطاع الخاص، عن النضال من أجل تقويم الحركة النقابية وإعادة توجيهها نحو سياسة نقابية كفاحية وديموقراطية، ونزع التأثير الضار الذي خلفته سنين طويلة من اعتماد سياسة الشراكة الاجتماعية على الوعي والتنظيم النقابيين. صحيح أن تجربة تنسيقية التعاقد مثلث بارقة أمل لإعادة البناء النقابي في القطاع، لكن عوامل كثيرة أدت إلى وضعها الحالي. مما يستلزم الانطلاق من جديد على أسس ينبغي صياغتها عبر نقاش رفاقي عميق ومبادر يجمع كل معارضي خط القيادات النقابية وكل المقتنعين بضرورة إعادة بناء الحركة النقابية داخل التنسيقيات المناضلة وخاصة تنسيقية للتعاقد المفروض.
ماي 2023
اقرأ أيضا