فاتح مايو 2023 … مرآة واقعنا النقابي البائس
الأول من مايو يوم تأكيد طبقة الشغيلة قوتها وعزمها على السير قدما نحو أهداف تحررها، يوم تأكيد هويتها كطبقة واحدة عالميا بوجه جبروت رأس المال.
لكن يوم فاتح مايو 2023 كان في المغرب يوم استعراض ضعفنا التنظيمي، صفوفا مشتتة تتجاذبها انتماءات الى منظمات متعددة لا فرق بينها. حتى التمايز التاريخي في الحركة العمالية العالمية بين ذات الميل الإصلاحي وذات الثوري لا يفسر الفُرْقَةَ، لأنه لم يوجد تاريخيا ببلدنا. ما شق التنظيم النقابي بالمغرب هو تباين بين خط موالاة للقصر يتقنع بحجاب “الاستقلال النقابي” وخط ربط الحركة النقابية بمشاريع تحرر وطني (بورجوازي) أفلس، انضاف اليهما خط رجعية دينية متطفلة، وكلها تلتقي اليوم في التعاون مع الدولة البرجوازية لتدبير الجانب العمالي من المسألة الاجتماعية المتفاقمة بحدة.
نقاباتنا لا يمكن نعتها بالإصلاحية سوى بتعسف كبير على هذا المفهوم بالنظر إلى تدني ما هي فيه من امتناع عن نضال منظم بمطالب جوهرية لتحسين أوضاع عمل عامة الشغيلة وحياتهم. فداخل كل اتحاد نقابي، وكل قطاع، وكل مقاولة، يُمارس العمل النقابي بمنطق مهني بالغ الضيق محكوم بأنانية تقتل قتلا أي تضامن. وهذا ما يضفي على هجمات العدو الطبقي فعالية مثلى، حيث نشهد كل قطاع مستهدفٍ منفصلاً عن سواه من القطاعات المنظمة في النقابة، معزولا، يتلقى ضربات لا ينفع معها كلام بيانات التضامن (على قلتها)، إلى أن يسقط صريعا. أبرز أمثلة اليوم على هذا ما يشهده قطاعا الماء والكهرباء حيث الشغيلة مهددون بشركات خاصة لم يخجل أحد القادة من اعتبارها “شرا لابد منه”.
المنظور الإصلاحي ذاته يتطلب شمولية النظر إلى أوضاع الطبقة العاملة والتصدي للبرجوازية ودولتها بمطالب تهم كافة فئات الطبقة العاملة وقطاعات عملها، وليس الأقلية المنتمية إلى النقابة وحدها. إذ إن ثمة فئات تطحنها هشاشة التشغيل لدرجة تقتل معها بنيات التنظيم القائمة أو يستحيل معها لفئات أخرى أن تجد سبيلا إلى التنظيم. تلك حالة مئات آلاف الأجراء/ات المستعبدين/ات من قبل شركات السمسرة في اليد العاملة المسماة في مدونة الشغل مقاولات التشغيل المؤقت، وكذا معظم ما يسمى المقاولة من باطن. هذا فضلا عن القسم المعطل من الطبقة المستعصي ـأيضا عن توحيد قواه، وما بالك بمئات آلاف الأطفال العمال.
وإلى أوجه الضعف هذه التي نزل جزء يسير من الشغيلة لاستعراضها بالشوارع، يضاف أحد مكامن النقص المميزة للحركة النقابية، متمثلا في ما تشكل النساء من أقلية في التنظيمات بينما هن سواد اليد العاملة الأعظم في فروع إنتاج وعمل شتى لدى الخواص و نسبة كبيرة لدى الدولة نفسها. فرغم مزاعم الأدبيات وخطابات المناسبات، نعيد في منظماتنا إنتاج نفس مصير النساء ومكانتهن في التسيير. كما يتكرس نقص تنظيمهن بفعل كونهن أغلبية في معظم قطاعات هشاشة التشغيل. ولا أدل على درجة إغفال فرط استغلال النساء الأجيرات وإذلالهن من غياب حتى أدنى ذكر لهن في خطاب قائد المنظمة النقابية الذي لا يكف عن التذكير بأنها الأولى والأكبر.
وقد نزلنا إلى الشوارع وسموم الفرقة (“فخر الانتماء”) تفتك حتى بوعي النقابيين الطبقي ذاتهم، حيث يتكرس في قاعدة المنظمات ذلك التنافر والتنافس اللذان تغذيهما القيادات، إذ يكاد ينعدم أي مسعى لتوحيد الصف بوجه الخصم الطبقي، ما يجعل ما شهدته هذا العام بعض المواقع مثل مدينة تازة (تلاقي مناضلي ك.د.ش وإ.م.ش) وفي الناظور وسلا (فاتح ماي موحد بين FNE وفرعي تنسيقية التعاقد) مجرد تأكيد للقاعدة، كما يُقال، وإن هو بصيص أمل فيما يجب ان يكون عليه أمر فاتح مايو من وحدة متراصة تعيد للشغيلة الثقة في ذاتهم وقوتهم.
وحتى حجم المسيرات التي تبدو حاشدة، مثل الخاصة بالاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء، إنما تكشف وجها آخر قاتما، وجه النقابة التي تعمل يدا في يد مع رب العمل لضمان “السلم الاجتماعي” مقابل امتيازات وغض الطرف عن الويلات التي يكابدها شغيلة مقاولات وقطاعات أخرى وحتى مجمل الطبقة. إنها قطاعات استراتيجية حيث يُقتطع مبلغ الانخراط النقابي في بعضها من الأجرة، ما يجعل الأجير منتميا اتوماتيكيا وتغدو النقابة ساعدا أيمن للإدارة. فالعدد المحتشد من هذا النوع من القطاعات لا يعبر عن أي سمة نضالية بقدر ما يفضح إذعانا للقيادة النقابية وأنانية مهنية لا تأبه بمصير أخوة وأخوات الكدح بسائر فروع العمل.
وفوق هذا وذاك، ليس ضعفنا كميا وحسب بل حتى نوعي: إنه سياسي. فعوض منطق الكفاح الطبقي، ذودا عن مصالح طبقتنا، بقصد تحسين الوضع على طريق تغييره الجذري، يسود ضَلال “الشراكة الاجتماعية”، وما يستتبع من استجداء “الحوار الاجتماعي” والتهرب من التعبئة الفعلية لقوى الطبقة العاملة وفق خطة نضالية واقعية تستنهض الكامن من طاقة كفاحية. وبدلا من مطالب شمولية جوهرية، يكون لتحقيقها وقع فعلي على معيشة طبقتنا وظروف عملها ومقدرتها على النضال، يجري تجزيء المطالب وإغفال أهمها، لعل الأبرز في سياق الغلاء الفاحش الراهن السُلَّم المتحرك للأجور والأسعار، ومطلب صون حق الإضراب والتنظيم. لا بل بلغ التردي مستوى قبول القيادات التفاوض حول حق الإضراب لتفعيل ما ظل عالقا في دساتير الاستبداد طيلة ستة عقود. وبوجه الإجمال، بات النضال النقابي خلوا من أي مشروع مجتمعي بديل، مقتصرا على تضميد زائف لمخلفات الهجوم الرأسمالي الكاسح.
أين فاتح مايو المغربي من تقاليد الحركة العمالية المفعمة بالروح الطبقية والأممية؟ بعيدون نحن في مستنقع آسن وجو أفسدته أبخرة التعاون الطبقي مع البرجوازية ودولتها. هذا واقعنا، لكنه ليس قدرا محتما، بل نتيجة عقود من الفعل السياسي لقوى برجوازية “معارضة” وبيروقراطيات نقابية. واقع قابل للتغيير ومتطلب له. فثمة قوى نضال فتية من الأجراء والأجيرات، قلة منها داخل النقابات، هي طاقة الكفاح القادرة على بناء منظمات النضال بناء كفاحيا وديمقراطيا يجعلها أدوات لتحسين وضعنا وتغييره رأسا على عقب. واجب شباب النقابات، والشباب الواعي خارجها، أن يتعلم من التجارب وأن ينكب على دراسة المسألة النقابية بدروس تاريخها المديد في ارتباط مع الحاجة إلى تسييس النضال العمالي لتقدر طبقتنا على الانتفاض وكسر قيود الرأسمالية التي تحيلها” موارد بشرية،” تُعصر وتلقى كما يفعل بالليمون. هذا سبيل إعادة البناء النقابية، عوض الاتكالية ومجارات قيادات تسير بنا إلى الهلاك، او استبطان الهزيمة وهجر النقابة أو استبدال هذه بتلك.
مهمة استعادة المحتوى الطبقي للنضال العمالي وبناء أدواته النقابية والسياسية هي علة وجود جريدة المناضل-ة والراية التي يلتف عليها ويرفعها خفاقةً أنصارها ونصيراتها. فيا طليعة طبقتنا من الأجراء الشباب والأجيرات الشابات استفيدوا من هذا الصوت العمالي الأممي وأفيدوه وأفيدوا به.
المناضل-ة
اقرأ أيضا