التضخم قضية صراع طبقي بين الرأسمال والعمل
بقلم: سليم نعمان
ما هو التضخم؟
التضخم ببساطة هو زيادة تكلفة المعيشة. ترتفع الأسعار، وتفقد النقود قيمتها، أي قدرتها على اقتناء نفس الكمية من البضائع مقارنة مع فترة سابقة. وتتمثل تجلياته في نُدرة العرض وارتفاع تكاليف المواد الخام والنقل والإنتاج وزيادة المعروض النقدي[1]، وأقصى شكل له هو التضخم المفرط.
كيف يُقاس التضخم؟
يتم قياس التضخم على أساس مؤشر اقتصادي من المفترض أن يعكس التطور العام للأسعار في عملة معينة وإقليم معين وخلال فترة معينة (عادة خلال الاثني عشر شهرا الماضية). ومن الناحية العملية، تقيس المعاهد الإحصائية الوطنية التضخم عن طريق مؤشر أسعار المستهلك. وهذا يعكس تطور أسعار عدد معين من السلع والخدمات ذات الاستهلاك الحالي (700 من السلع والخدمات للمؤشر الذي يستخدمه المكتب الإحصائي للمجموعة الأوروبية): الخبز، والملابس، والأجهزة المنزلية، وقص الشعر… والهدف من ذلك هو حساب كل من تطور الأسعار وتطور القدرة الشرائية للعُملة: عندما ترتفع الأسعار من سنة إلى أخرى، فإن نفس المبلغ من العملة يجعل ممكنا شراء عدد أقل من المنتجات.
التضخم: من الدولة التدخلية إلى النيوليبرالية
كان التضخم في طليعة المخاوف الاقتصادية في الولايات المتحدة أثناء سنوات 1970 وسنوات 1980. واجه البلد ارتفاعا سريعا في الأسعار- من رقمين في عام 1974 ثم أيضا من عام 1979 إلى عام 1981- في سياق ركود وبطالة. استغل الاقتصاديون النيوليبراليون، الذين كانوا يشحذون أسلحتهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هذه الأزمة المشهورة باسم “الركود التضخمي” (الركود والتضخم) لفرض وجهات نظرهم. وحتى ذلك الحين، كانت السياسة الاقتصادية المستوحاة من كينز تهدف في الأساس إلى ضمان أعلى مستويات النشاط الاقتصادي، حتى لو كان ذلك يعني توليد مستوى معين من التضخم. وبقيادة ميلتون فريدمان[2]، جعل التيار الجديد من مكافحة التضخم أولوية، حتى عندما ينطوي ذلك على إغراق الاقتصاد في الركود.
يوصي المبدأ الجديد للسياسة النقدية بمراقبة التضخم عن كثب. ويترجم ذلك، من الناحية العملية، إلى سياسة تقييدية تقضي برفع أسعار الفائدة كي يتم الحد من الائتمان والنشاط عندما يكون الاقتصاد في حالة نشاط مفرط، أي بالموازاة مع انخفاض معدل البطالة إلى ما دون المستوى الذي يسميه النقديون “طبيعيا” (تحدث فريدمان عن “معدل بطالة لا يُسرِّع التضخم”). يتعلق الأمر بإخضاع السياسات العمومية والنقدية وسياسات الميزانية لرغبات أصحاب الريوع والدائنين. إن الزيادات في الأسعار نتيجة، من بين أمور أخرى، للتحفيز المالي المفرط والسياسة النقدية التيسيرية[3] المفرطة.
السياق الحالي للتضخم
هكذا إذن، لم تطلق حرب روسيا على أوكرانيا التضخم، بل أججته، بالنظر لما لها من تبعات وآثار ثقيلة على التضخم. لكن الأخير ليس ظرفيا ولا مرتبطا بالأزمة الأوكرانية، إذ انطلق منذ منتصف سنة 2021 وقبلها بوقت طويل.
بعد ذلك صارت الطاقة أول وأكبر “حامل” لارتفاع التضخم، لكنها لا تفسر سوى جزء منه، وطال التضخم بعد ذلك السلع والخدمات، بالتالي كان للطاقة أثر لكنه محدود نسبيا. كان التضخم موجودا قبل الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته.
فبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وقبل كل شيء البنك المركزي الأوروبي- وهو معبد الصرامة من أجل تجنب التضخم- صب محيطات من السيولة على الاقتصاد العالمي، بأمل دفع الأسعار إلى الارتفاع. بيد أن ذلك قاد لنتيجة معاكسة: ارتفاع حاد في الأسعار من شأنه بدوره أن يزعزع استقرار الاقتصاد العالمي.
إن أول الأسباب المفجرة للتضخم الحالي هو الخروج من أزمة كوفيد 19 سنة 2021، الذي قاد لتوازنات مختلة بين العرض والطلب ما جر أسعار مواد وخدمات عديدة إلى الارتفاع. عاد الطلب للارتفاع بعد الحجر ولم يستطع الإنتاج المواكبة بفعل عوامل عدة منها: ارتفاع أسعار مختلف أنواع النقل، واختلال سلسلة الإمداد العالمي، وندرة بعض مدخلات الإنتاج من قبيل أشباه الموصلات الخاصة بقطاع السيارات، وبعد ذلك تأتي مشكلة الطاقة التي زادت أسعارها بشدة، شيئا ما بفعل كوفيد- 19، وأيضا بفعل أن الرأسمالية أوصلت الكوكب إلى مرحلة “ذروة النفط”. صارت بلدان عدة تواجه حدودا من حيث الإنتاج، تجاوزت الرأسمالية السقف في كل مكان، وهذا أمر مفهوم لأن النفط ليس أزليا.
هناك أيضا، سياق المضاربة، التي لا يمكن قياس حجمها بدقة. كل الزيادات التي نشهدها وثيقة الارتباط بها أيضا، فأن ترتفع الأسعار بنسب معتدلة أمر، أما أن ترتفع بنسب مفرطة فذلك راجع للمضاربة التي غذاها طبع النقود المفرط من قبل البنوك المركزية، لا سيما منذ سنة 2015. حينها كان التضخم منعدما أو حتى صار يميل ليكون سلبيا. ما يعتبر مشكلا عويصا بالنسبة للاقتصاد، وكان الرد: “يجب طبع النقود لزيادة التضخم”، والهدف كان بلوغ نسبة 2 في المئة، لكنه يشارف الآن 10 في المئة، أي أبعد بكثير من أهداف البنوك المركزية.
التضخم جزء بنيوي من الرأسمالية وليس عَرَضاً
إنه المنطق الرئيسي للرأسمالية. يوجد الرأسمال من أجل ربح المزيد من رأس المال. يجري توظيف الرأسمال من سنة لأخرى للحصول على ربحية أكبر بواسطة ما نسميه طبعا معدل الفائدة.
إن التضخم الدائم سمة أساس من سمات الرأسمالية الآفلة. يجري الحديث الآن عن التضخم الذي يطال المواد الاستهلاكية، لكن التضخم موجود دائما لا سيما في قطاعي العقار والمال منذ ما يزيد عن 15 سنة. “تسعى الرأسمالية المعاصرة من خلال استخدام تقنيات التضخم إلى تجنب تحول الأزمات الاقتصادية الدورية والحتمية (تسمى الآن مجازا “الركود”) إلى أزمات بحجم كارثي من قبيل أزمة 1929-32. فمن خلال التلاعب بتضخم القروض للشركات بواسطة النظام المصرفي، تضمن الاحتكارات الكبيرة توفير الموارد المالية اللازمة لتنفيذ مشاريعها الاستثمارية العملاقة أكثر فأكثر. وبحفز التضخم في القروض الاستهلاكية (مبيعات بالإقراض) تسعى رؤوس الأموال الكبيرة لتسهيل تدفق أكوام من السلع التي يتم إنتاجها دون زيادة بالنسب المطلوبة في الأجور الحقيقية للعمال. وعبر توسيع مستمر للإنفاق غير المنتج للدولة البرجوازية (الإنفاق العسكري في المقام الأول) تضمن الاحتكارات سيطرة على دفاتر التموين اللازمة لضمان أرباح الشركات العملاقة في الصناعة الثقيلة”[4].
يصعب تحديد المسؤول الرئيسي عن التضخم، فكل شيء في الرأسمالية المعاصرة مرتبط بعضه ببعض ارتباطا وثيقا. ولن تفيد أيضا أي مسكنات مهما بلغ مفعولها في القضاء على التضخم، لذا ليس منتظرا حدوث زيادات في الأجور من مستوى ما بلغه التضخم، لأنه في مثل هذه الظروف سيستهلك الأفراد أقل وبالتالي نشهد انخفاضا في النمو، أي الركود والمزيد من البطالة وتراكم صعوبات اقتصادية عديدة. لا توجد وسيلة لوقف التضخم دون إزالة الرأسمالية، فالأخيرة يمكنها أن تجعله معتدلا لكن وفق شروط مدمرة لحياة الطبقة العاملة: بطالة جماهيرية، وتجميد الأجور.
التضخم لتبرير التقشف وقضم الأجور
إنه نفس الموال على الدوام: تبرير سياسات التقشف الصارمة. يقال لنا إن التضخم يأتي من الأجور، بالتالي يتعين علينا، إن أردنا تجنب دوامته، أن نرضى بزيادتها المحدودة. يريد الرأسماليون الانتعاش على ألا يشمل هذا الأجور. باسم الدوامة الجهنمية التي يمثلها ارتفاع التضخم، ينبغي أن تكون سياسات البنوك المركزية صارمة جدا. وهذا من شأنه خلق أزمة مديونية، والمخاطرة بإفلاس الشركات المثقلة بالديون، وانقلاب سوق السندات بسرعة إلى أزمة مالية كبرى.
جرى القضاء على تضخم أسعار السلع والخدمات بفعل السياسات النيوليبرالية وتحول الرأسمالية إلى رأسمالية مالية معولمة. لكن تناقضات تراكم رأس المال لم تختف. كيف يمكن إذن نقاش المخاطر التضخمية للأجور بينما نتغاضى عن تضخم أرباح الأسهم، أو تضخم الثروات، أو أسعار الأصول المالية والعقارية أو الشركات العملاقة الاحتكارية؟
يعني التضخم خفض قيمة قوة العمل وزيادة قيمة الربح الرأسمالي. إنه تفضيل لحاملي الأسهم على حساب المستخدمين والأجراء. تسعى الرأسمالية لحل تناقضاتها بإعادة إنتاجها، منتقلة من تسارع موجات التضخم في نهاية الثلاثينيات المجيدة إلى زيادة دوامات مديونية الأسر والشركات والدول. من أزمة إلى أخرى أشد وأعنف، هروب إلى الأمام عبر الحمائية والتضخم، وزيادة الانفاق العمومي والديون بمثابة تمهيد الطريق لأزمات اقتصادية عالمية جديدة أعمق وأشمل.
بديل مناهض للرأسمالية وحده سيقضي على التضخم
لهذا، ليس على الطبقة العاملة التضحية بمصالحها المباشرة على مذبح “مكافحة التضخم”، وتتيح بذلك عملية إعادة توزيع للثروة لصالح رأس المال بزيادة أرباحه على حساب الأجور والأجراء وظروف عملهم. مثل هذه “المعركة ضد التضخم” سلاح لرأس المال في صراعه الطبقي ضد العمال.
حين تصبح السلطة السياسية والاقتصادية بأيدي الطبقة العاملة سيصير ممكنا إنهاء التضخم، وحتى ذلك الحين لن يجدي نفعا التضحية بمصالح العمال من أجل تضخم معتدل مزعوم، بالتالي، لا مفر من الدفاع عن القدرة الشرائية للعمال ضد التضخم وآثاره. هذا أمر أساسي (مبرر وجود) للنقابات العمالية، أن تركز، قبل أي شيء، على رفض دفع تكاليف التضخم، وعلى حماية الأجور والدخول الحقيقية للعمال ضد كل آثاره المباشرة وغير المباشرة.
من أجل السلم المتحرك للأجور
يستحيل النضال ضد التضخم دون رفع شعار السلَّم المتحرك للأجورـ لكنه لا يعوض النضال من أجل زيادة الأجور. إنه يعني زيادة تلقائية للأجور اطرادا مع ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية.
إن أي تأخر للأجور عن زيادة تكاليف المعيشة بمثابة خسارة للقدرة الشرائية للطبقة العاملة. بالتالي فإن سلما متحركا حقيقيا يقتضي الضبط التلقائي للأجور الاسمية بشكل متناسب مع أي زيادة للأسعار، بدون أي عتبة. وبهذه الطريقة يمكن الإبقاء على سلامة القوة الشرائية للعمال.
على مبدأ السلم المتحرك للأجور أن يشمل التقاعد ومنح البطالة وضحايا حوادث الشغل، ومنح المرض والعجز، ومنح الولادة والتعويضات العائلية. إنه مطلب حيوي لأن الأكثر تضررا من ارتفاع أسعار السلع الأساسية هم ذوي الدخل الثابت المحدود، وهم من يلقى بهم إلى الفقر المدقع بسبب التضخم.
من مصلحة العمال انتزاع سلم متحرك بسيط وشفاف وتلقائي، لتجنب التعرض للخداع وفقدان قدرتهم الشرائية. يصلح السلم المتحرك لهذا الغرض، وليس لمحاربة عدم مساواة الدخل. لنعمل كي يخدم هذه الغاية بالطريقة الدقيقة الممكنة، ولنستخدم أسلحة أخرى لتحقيق أهداف أخرى.
….
[1] المعروض النقدي هو مجموع مخزون العملة وجميع الأصول السائلة الأخرى المتداولة في اقتصاد الدولة خلال وقت مُعين، كما يشمل المعروض النّقدي الأوراق المالية، والعملات المعدنية، والأرصدة الموجودة داخل الحسابات الجارية وحسابات التوفير والبدائل الأخرى للمال.
[2] اقتصادي وأكاديمي أميركي، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لسنة 1976. يُعد من بين الوجوه البارزة على مستوى المدرسة النيوليبرالية في الاقتصاد، وأحد أهم منظري “النظرية النقدية”. أثرت أفكاره ونظرياته على العديد من رجالات السياسة داخل الولايات المتحدة وخارجها، فقد اتخذه الرئيس الأسبق رونالد ريغان مستشارا اقتصاديا له، كما ترجمت أفكاره على أرض الواقع من طرف مارغريت ثاتشر في بريطانيا، والديكتاتورية العسكرية في الشيلي في عهد أوغوستو بينوشيه.
[3] سياسة التيسير النقدي هي إحدى الآليات التي تلجأ إليها البنوك المركزية من ضمن السياسات النقدية، بهدف تحفيز النمو الاقتصادي. هذه العملية تقضي بضخ الأموال وزيادة السيولة في الأسواق خلال فترات الركود، من أجل تحريك عجلة الاقتصاد. ولتحقيق ذلك يقوم المركزي بطباعة النقود، ثم يشتري الأصول وسندات الخزانة من المؤسسات الحكومية والبنوك، وبالتالي زيادة المعروض المالي، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة وتزايد الاقتراض والاستثمار والإنفاق.
[4] أنظر الرابط التالي: الدفاع عن القدرة الشرائية للعمال ضد التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة:
أرنست ماندل https://www.almounadila.info/wp-content/uploads/2022/02/vie-cher.pdf
اقرأ أيضا