نضال شغيلة التعليم وآفاقُ ما بعد توقيع اتفاق 14 يناير 2023
بلغ هُجوم الدولة حدوداً لم يكن أحدٌ يتصورها في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، رغم أنها كانت مبثُوتة في الوثيقة المرجعية المسماة “ميثاقا وطنيا للتربية والتكوين”. أصبح الهجوم أمرا واقعا تشريعيا في غشت 2019 بعد مصادقة البرلمان على وثيقة القانون- الإطار 51.17، الذي قنن هجمات مُرِّرت بفعل مراسيم ومذكرات وعلى رأسها التوظيف الجهوي مع الأكاديميات وإعادة الانتشار والهجوم على الحق في الترقية، فضلا عن تدمير جودة التعليم العمومي وتقليص مجانيته وفتح الباب لتناسل مؤسسات القطاع الخصوصي.
نجحت الدولة في تطبيق هُجومها هذا بفعل عوامل عدة على رأسها:
* أعطاب أدوات نضال شغيلة التعليم، إذ أن قيادات نقاباتها متفقة مع منظور الدولة النيوليبرالي داخل القطاع، إذ شاركت كلها في لجنة صياغة “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، وها هي حاليا قد شاركت كلها في اللجنة التقنية لصياغة النظام الأساسي الجديد. أدت هذه المقاربة التشاركية إلى تشتت أوصال النقابة وبروز ظاهرة التنسيقيات الفئوية.
* تلف أدوات نضال الشبيبة وعلى رأسها الحركة الطلابية التي حجَّمها القمع الشديد وآلت عمليا إلى الانقراض، نفس الشيء بالنسبة للجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب.
عندما فُرض التوظيف بموجب عقود سنة 2016، عانى جيل الشغيلة الجديد من أعطاب أدوات النضال هذه: فلا هو استفاد من خبرة نضال المنشأ (الحركة الطلابية وحركات المعطلين)، ولا وجد النقابة في حال تستطيع معه تنظيم نضاله ضد الهجمات المتعددة.
تمكن النظام بعد نجاحه في تجاوز عاصفة 2011، من المرور إلى السرعة القصوى في تنفيذ إملاءات البنك العالمي في الوظيفة العمومية. ساعده في ذلك توقيع القيادات النقابية لسلم اجتماعي، مع اتفاق أبريل 2011، الذي قدم وعودا بفتات (الدرجة الجديدة)، مترافقا مع توقيع تلك القيادات على ما سيكون وبالاً على شغيلة الوظيفة العمومية كلها: “المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية”، “إصلاح منظومة الأجور”، “مراجعة منظومة التنقيط والتقييم”، “الإصلاح الشامل لأنظمة التقاعد”… إلخ.
كان مرسوم فصل التوظيف عن التكوين سنة 2015 رصاصة التجربة الأولى في الهجوم، تلاها مباشرة توظيف واسع النطاق بموجب عقود مع الأكاديميات سنة 2016، تحول إلى توظيف جهوي بموجب أنظمة أساسية للأكاديميات الجهوية سنة 2018.
وقبل ذلك أثارَ الهجوم على الحق في الترقية منذ سنة 2003، ظهور تنسيقيات مرتكزة على مطلب وحيد متعلق بتلك الترقية: الزنزانة 9، الأساتذة حاملي الشهادات، المقصيين- ات من خارج السلم. لكن الهجوم الأكبر كان هو فرض التشغيل بموجب عقود في نوفمبر 2016، ما أدى إلى تأسيس تنسيقية المفروض عليهم- هن التعاقد في 4 مارس 2018.
جيلُ شغيلةٍ جديد بنضالٍ معزُولٍ
انطلق نضال المعنيين- ات بعد سنتين من أول توظيف بموجب عقود، أي سنة 2018، في إبانه تأسست “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذي فرض عليهم التعاقد”. ومن سوء حظ هذا الجيل الجديد وتنسيقيته أن نضاله انطلق في اللحظة التي سحق فيها النظام أكبر حَراكين اجتماعيين شهدهما البلد منذ خفوت حراك 20 فبراير: الريف وجرادة.
بلغ نضال التنسيقية ذروته القصوى في إضراب شهري مارس وأبريل 2019، واضطرت إلى التراجع بعد تأكد استحالة هزم هجوم الدولة بناءً على نضالها المنفرد عن نضال سائر الأجراء وشرائح الشعب الكادح.
تمكن ذلك الإضراب من دفع الدولة إلى التراجع عن مخططها الأصلي: التشغيل بعقود محددة المدة تجدد دوريا، سهولة التخلص من الموظَّفين- ات (يُعفى بدون إشعار أو تعويض)، فضلا عن مكاسب أخرى لطَّفت من شروط الاستغلال (الإلحاق بصندوق CMR، الحركة الانتقالية للأزواج). إنها مكاسب مهمة حققتها تلك المعركة، ولكن لأن الاستجابة لها جاء في ظرف جزر نضالي، لم تتمكن شغيلة التعاقد المفروض من جعلها رافعة لاستثارة أقسام أخرى من شغيلة القطاع والوظيفة العمومية، بل استغلتها الدولة لدفع المعنيين- ات إلى المزيد من الاستكانة.
على وقع تراجع ذلك الإضراب تمكنت الدولة من تمرير المصادقة على “القانون الإطار 51.17” في البرلمان في صيف 2019، تلته ترسانة متكاملة من المراسيم والمذكرات الوزارية لتفعيل مقتضياته.
كان تراجع إضراب مارس وأبريل 2019 ضربة قاصمة لجيل شاب اندفع إلى النضال مؤمنا بأن خطوة خاطفة ستدفع الدولة إلى تحقيق المطلب (الإدماج). ومنذُ تراجع ذلك الإضراب بدأت قاعدة التنسيقية في التقلص، مُحفَّزٍ ببرامج نضالية منهِكة ومُتسارعة، وإجراءات عقابية قصمت قدرة الأساتذة- ات على الصمود وعلى رأسها الاقتطاع من أجور المضربين- ات والقمع والاعتقالات والأحكام القضائية، ثم جرجرة التنسيقية في حوارات فارغة زرعت أوهاما سرعان ما تبددت.
كلما تقلصت قاعدة التنسيقية كلما ظهر الميل إلى أشكال النضال القصوى والانعزالية، ويجري التعويل على أقلية صامدة تُستنزَف بدورها في برامج نضال لإسقاط مخطط هجوم لا يمكن إلا لجسم الشغيلة الموحَّد إسقاطه. وهذا ما تقره بيانات التنسيقية (إسقاط مخطط التعاقد معركة الشعب المغربي)، لكن دون التمكن من تجسيده على أرض الواقع.
كان آخر هذه الخطوات مُقاطعة تسليم النّقط ومسكها في منظومة مَسار. ورغم المخاطر الأكيدة المحدقة بالخطوة، هناك تمسكٌ بها، ما سيؤدي إلى انهيار المعنويات وفقدان المصداقية، في حال فشلت. وما يُرجحُ هذا غياب مقومات الصُّمود: جموع عامة في أماكن العمل وأوسع ديمقراطية في النقاش.
النتيجة النهائية لهذا النوع من المعارك هي حلولُ الأقلية “الصامدة” محل أغلبية شغيلة القطاع، وحلول الجهاز محل القواعد، وتفشي آليات التحكم في القرار. من شأن هذا أن يؤدي إلى تدمير التنسيقية كأداة نضال في الوقت الذي تحتاج فيه الشغيلة إليها: توقيع اتفاق 14 يناير 2023 بين قيادات أربع نقابات والوزارة.
بهذا ستكون شغيلة القطاع بين مطرقة قيادات نقابية متواطئة مع الهجوم، وسندان تنسيقيات تعتقد بأنها قادرة بخطوات غير مسبوقة على إسقاط هجوم الدولة.
علينا إعادة الروح إلى الجموع العامة: جموع عامة في أماكن العمل تضم كل شغيلة القطاع (من هيئة تدريس وإدارة تربوية وأطر دعم اجتماعي والتربية غير النظامية وبرنامج أوراش وعمال- ات النظافة والحراسة والإيواء المدرسي…)، من أجل نقاش بلورة ملف مطلبي شامل وموحِّد وبرنامج نضالي. جموع عامة تضم جميع الشغيلة سواء المنتمية منها نقابيا أو غير المنتمية، تنتخب لجانا محلية وإقليمية ووطنية وتضعها تحت مراقبتها ومحاسبتها، فليست الجموع العامة هيئات تُستدعى للمصادقة على ما قررته الأجهزة العليا سواء كانت مكاتب تنفيذية أو مجالس وطنية.
سيُتيح هذا لطلائع التنسيقيات- وعلى رأسها تنسيقية التعاقد المفروض- أن تكون مثل السمكة في الماء، وأن تنقل خبرة سنوات من النضال الميداني وحدود دنيا من الاشتغال التنظيمي، إلى باقي أقسام الشغيلة الأخرى، المفتقدة لهذه التقاليد. لا طريق آخر للنصر غير هذا، والإصرار على ضرب حائط الدولة برأس صلب منفرد مآله تهشيم جمجمته.
صفحةٌ طُويت لنعمل على فتح أخرى
أثار نضال التنسيقية آنذاك آمالا بإمكان تخصيب الحركة النقابية بتقاليد كفاح وديمقراطية مفتقَدة، لكن نفاذ صبر الجيل الجديد الذي أمل تحقيق مطلبه بسرعة لم يسمح بذلك حينذاك. لكن وجب علينا استخلاص الدروس لاستشراف المستقبل.
كانت التنسيقيات الفئوية نتاجَ تفكك النقابة وتخلي قياداتها عن علة وجودها (النضال) واختيارها للتشارك مع الدولة، وأصبحت هذه التنسيقيات بعد ذلك سببا في المزيد من تفكك العمل النقابي. لكن، حاليا، كُلاّ النقابة والتنسيقيات، لا منظور لهما خارج تدبير نتائج هُجوم الدولة الاستراتيجي: الاستجابة للمطالب الفئوية مع استبطان المنظور النيوليبرالي الإجمالي الذي جرى إرساؤه مُنذُ “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”. لا ملف مطلبي شامل يستطيع لف كل الشغيلة في معركة نضالية موحدة، بل مناوشات متفرقة من أجل مطالب لا تستطيع وقف دكاكة الهجوم، بل أحيانا تُسرعه.
ليس المُشكل في طبيعة الخطوات (إضراب مفتوح، إنزال مركزي، مقاطعات للمهام… إلخ). المشكل الرئيس والجوهري كامن في عطب المنظور: الاعتقاد الراسخ في صفوف الشغيلة بأن الانعزال الفئوي من شأنه أن يسهل تحقيق المطلب، وهو ما يساهم في تكريس استبطان المنظور السياسي للدولة في تنظيمات شغيلة القطاع.
منذُ المصادقة على القانون الإطار 51.17 صيف 2019 انتهاءً بتوقيع اتفاق 14 يناير ستكون صفحة من نضال شغيلة التعليم قد طويت، وسِمتاها الرئيسيتان هُما:
* قيادات نقابية مشاركة في الهجوم على أمل تنازلات مادية تجنب القسم المنظم من شغيلة القطاع ويلات ذلك الهجوم.
* تنظيمات فئوية تعتقد أن التركيز على المطلب الفئوي قادر على تجنيبها ويلات ذلك الهجوم.
نجح هجوم الدولة بحكم امتلاكها منظورا شاملا، يتعدى قطاع التعليم، قوامه: نموذج تنموي قائم على استغلال الطبيعة (الموارد الطبيعية) واستثمار البشر (الموارد البشرية) يقطف ثمارَه الرأسمالُ المحلي والأجنبي، مع استهداف أكثر ضحايا هذا النموذج بؤسا بأشكال حماية اجتماعية لتسكين الآمه.
إن نضالا قائما على مطالب تندرج في نفس النموذج، وأحيانا تربط نجاح ذلك النموذج بالاستجابة لتلك المطالب، آيلٌ للهزيمة. فقط دمج مطالب شغيلة القطاع في منظور إجمالي يبتغي نموذجا تنمويا يخدم مصالح ملايين الشغيلة وكادحي- ات البلد، وليس الأقلية النهابة، فقط هذا ما سيتيح إمكان تحقيق تلك المطالب.
ستكون البداية بإصلاح أحد الأعطاب الرئيسية لأدوات النضال: القطيعة بين الجهاز والقاعدة. فلا يمكن صياغة منظور نضالي بديل من خارج الشغيلة، فقط باعتماد الديمقراطية والإيمان الراسخ بجدوى النقاش الجماعي الديمقراطي وإعادة امتلاك الشغيلة لأدوات نضالها، فقط هذا ما سيتيح نقطة لبدء نضال يستطيع رد الهجمات على أعقابها، والمشاركة في بناء مجتمع يليق بمنتجيه ومستهلكيه الأحرار المتشاركين.
سيؤدي توقيع قيادات النقابات الأربع على محضر 14 يناير إلى مزيد فقدان النقابة لمصداقيتها، بينما سيزيد تفكك قاعدة التنسيقيات بسبب إصرارها على فئوية وانعزالية نضاليتين. لكن دكاك الهجوم الذي سيفتحه النظام الأساسي الجديد سيدفع لا محالة الشغيلة إلى استئناف النضال ولو بعد حين، مسلَّحا بخبرة العقود الأخيرة بانتصاراتها وانكساراتها. والواجب الأولي في هذه اللحظة هي استخلاص تلك الخبرات والدروس والانخراط في أي حركة نضالية تنبعث من أسفل من أجل تسليحها وتخصيبها بتلك الخبرات.
نقابيي-ات تيار المناضل-ة
25 يناير 2023
اقرأ أيضا