عامٌ جديدٌ … في حقبةٍ جديدة
مع السنة الجديدة، لا غنى لأي استجلاء للآفاق عن نظرة إلى خلف، تمعن فيما تحقق وفيما يكبل انطلاقة جديدة أقوى لقوى النضال العمالي والشعبي. مثَّل حراك الريف/جرادة المجيد(2016-2017)، وحملة مقاطعة مواد استهلاك في العام 2018، آخر حلقتين من الدينامية النضالية الفريدة التي هزت المغرب منذ مطلع العام 2011. فمنذ تواريهما، بفعل حذق مناورات النظام وشدة القمع وأعطاب أدوات النضال، دخل البلد حقبة جزر نضالي غير مسبوقة منذ ما قبل أواسط سنوات 1990؛ حقبة لم تخل من هبات غضب ورد فعل، [التلاميذ ضد الساعة الإدارية، اندفاعة المدرسين المتعاقدين قسرا، رفض اجبارية التلقيح، رد خريجي الجامعة على رفع سن الترشح لمباراة توظيف المُدرسين،]، لكن هذه لم تبلغ مبتغاها ولم تعدل المنحى العام الآفل. وقد عمق هذا التراجع مناخُ جائحة كورونا التي أتقن النظام استغلاله لإحكام التحكم، وتمهيد طريق تصعيد الهجوم.
تدل وتيرة اشتغال النظام في مواصلة تنفيذ سياسات نيوليبرالية شرسة، وتشديده الطوق على كل اشكال التعبير، والتعامل القمعي لردع صبوات النضال العمالي والشعبي عن كثب، على عزيمة وإقدام غير مسبوقين، قائمين على اطمئنان واهم للنجاح المحقق في تدبير الوضع الاجتماعي-السياسي بتركيبة الاحتواء والقمع.
وإن كانت الجماهير الشعبية تستوعب حصيلة كفاحاتها السابقة، بما لها وما عليها، ولم تفلح بعد في إيجاد سبل استئناف النضال، فالأكيد الذي لا مراء فيه أن حدة التناقضات الاجتماعية ستجد مخرجا للاحتباس الراهن لا قدرة لمتوقع مهما نبغ على التنبؤ به.
لقد طوى النظام فترة تدبيره للوضع بالاستعانة بـ”معارضاته” التاريخية، الاتحادية والإسلامية، وعاد إلى الإشراف بأدواته المجدَّدَة، معززا تحالفه مع الامبريالية الأمريكية، ضاغطا على حلفاء آخرين لاستدراجهم لرؤاه لعقدة الوضع الإقليمي المتمثلة في المسألة الصحراوية، ومعمقا التعاون مع الكيان الصهيوني.
وإن كان التغيير العميق الذي يحل المشاكل من جذورها هو الحل الفعلي الوحيد لمعضلات البلد وطبقاته الشعبية، فإن كل موجات النضال التي شهدها البلد في العقود الثلاثة الأخيرة لازمت حدود سعي إلى الإصلاح، ضمن إطار مطالب اجتماعية أو مراهنة على تحسينات عبر المؤسسات الزائفة، كانت على الاتحاديين ثم لاحقا على حزب العدالة والتنمية. وحتى دينامية 2011-2012 بطليعتها السياسية، حراك 20 فبراير، أعوزها نفس ثوري رغم اندراجها في سياق إقليمي ثوري. ولا شك أن حراك الريف/جرادة النوعي لم يخرج عن هذا النطاق.
هكذا يستقوي النظام اليوم بحكم فردي تلتف حوله البرجوازية المحلية، بوجه معارضة برجوازية هامشية، منها ما تبقى من التاريخية، مجسدا في فيدرالية اليسار، و”نجوم” تدور في نفس الفلك بنبرة “راديكالية”؛ وبوجه حركة جماهيرية مفككة الأوصال ومخترقة، وفاقدة للبوصلة، وحتى متلاشية، كما شأن حركتي الطلاب والمعطلين، والحركة الأمازيغية التي أفلح النظام في إفراغها من حمولتها النضالية، والحركة النسائية التي جرها للسير في ركبه. كما يستفيد النظام من انتظارية جناح الحركة الإسلامية “الممانع” (جماعة العدل والاحسان) الممتنع عن أي فعل سياسي قد يجر قمعا يعصف بمكاسب تنظيمية يجري تكريسها وتطويرها بعمل دعاوي تربوي ديني. وقد تعزز موقف النظام بالآثار المحبطة للمآلات التي انتهت اليها السيرورة الثورية بالمنطقة، حيث بات كل توق إلى التحرر من الاستبداد يصطدم بالخوف من نتائج عكسية مدمرة.
يولد فرط استغلال قوة العمل، وقهر فئات شعبية أخرى عريضة، بالمدن والقرى، واضطهاد النساء، قوى نضال جديدة باستمرار، يصب قسم منها في أدوات النضال المعطوبة القائمة، فيما يتجسد قسم آخر في أشكال رافضة للإطارات القائمة، لكن مفتقرا إلى منظورات مكتملة. لم تعد الهيمنة السياسية للمعارضة البرجوازية عقبة رئيسة لتبلور وعي طبقي، فقد بددت المشاركة في حكومة الواجهة، وما نفذ باسمها من سياسات مضرة اجتماعيا بالطبقات الشعبية، تلك الهيمنة.
إن الأفواج الجديدة من الشباب العامل، وضحايا نظام التعليم المعطلين، وجماهير الطلاب والتلاميذ بقاعدة المجتمع المفقرة، وجماهير النساء المضطهدة، بحاجة إلى آفاق نضال واضحة، إلى مطالب اجمالية تشكل معالم للبديل المجتمعي من همجية الرأسمالية السائدة، ومنظورات لبناء منظمات نضال جماهيرية وديمقراطية وكفاحية وحزب عمال اشتراكي لا غنى عنه لقيادة عملية التغيير. هذا كله ليس من صفر، بل ارتكازا على دروس ما سلف من كفاحات عمالية وشعبية، وعلى علم التغيير الماركسي الثوري المُجمِل للخبرة التاريخية للمضطهدين.
هذا المنظور النضالي الذي تحتاجه القوى التي تدفعها شدة القهر دفعا إلى ساحات النضال، تقع مهمة إتاحته على عاتق الأقليات الثورية التي لم ترفع الراية البيضاء بوجه الهجوم الكاسح. في وضع التراجع، حيث تبدو الآفاق مسدودة، وخريطة الواقع متجاوزة بالتغيرات الهيكلية الطارئة في الواقع، تتأكد حاجة الأقليات الثورية إلى تدقيق الرؤية واستجلاء خريطة جديدة لإعمال البوصلة فيها. ما تزرعه الأقليات الثورية اليوم، حيث الجماهير خاملة، محبطة لقصيري النظر، هو ما سينبت ويؤتي ثماره بشق طريقه، برتابة تارة وبقفزات طورا، بين تلك الجماهير التي يفعل فيها القهر الرأسمالي البطريركي فعله بلا هوادة. فلتنكب تلك الأقليات على واجباتها بكل ثقة في الذات.
المناضل-ة
اقرأ أيضا