“الهجرة القسرية”: وجه آخر للمأساة الاجتماعية المتفاقمة
يسيطر السعي للهجرة على أذهان شبان وشيب بلدان الجنوب ذكورا وإناثا، بشقيها «القانوني” والأكثر مأساوية التي يُطلق عليها “غير شرعية”. كما تشكل الهجرة إحدى المعضلات التي تواجهها الدول التابعة كحالة المغرب، الذي يعتبر بوابة ومَعْبَرًا نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، حيث أمل الحياة ورغدها المنشود، وبالتالي نزيفا لطاقات عاملة يحتاجها البلد.
أضحت “الهجرة السرية” بالمغرب ظاهرة اجتماعية مرتبطة بشظف العيش، إذ يقذف العازم على الهجرة نفسه نحو الظلمات، فيكون ضحية سماسرة المآسي الفردية والجماعية، بعد أن كان ضحية سياسات اقتصادية واجتماعية لدولة أرباب العمل.
عرفت “الهجرة السرية” بالمغرب تناميا مضطردا خلال السنوات الأخيرة 2016-2017-2018. فعكس الدعاية الرسمية تؤكد الأرقام أن أكثر من 10 آلاف مهاجر سري غادر نحو الضفة الأخرى سنة 2017 فقط. تضع التقارير الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة المغرب في المرتبة السادسة عالميا في ترتيب الدول التي يموت مواطنوها بسبب الهجرة صوب أوروبا، ففي سنة 2014 توفي 702 مغربي مهاجر. وقبل متم سنة 2022 توفي 13 مرشحا (ضمنهم امرأة ومسن) لبلوغ شواطئ جزر الكناري، إثر انقلاب زورقهم قبالة ساحل ميرلفت.
يُعرّض “المهاجرون- ات السريون- ات” حياتهم- هن للموت والمعاناة. تختلف سبل مغادرة البلد نحو الشمال من القوارب والشاحنات، إلى السفر السياحي وبعدها السير نحو البلد المنشود، فيواجه هؤلاء المجهول ويتعرضون للقتل أو الموت بسبب ظروف الهجرة. وإذا حالفهم- هن الحظ وبقوا على قيد الحياة، فإنهم- هن يعانون من فرط الاستغلال والإقصاء والتهميش والعنصرية وتهديد حيواتهم- هن.
هناك هجرة أخرى “قانونية” عبر عقود الشغل بدول الشمال التي تطلب، إلى جانب العمال اليدويين، كفاءات حاملي- ات شواهد ودبلومات وتغريهم بوضع مادي أفضل مما في البلد، حيث يفقد البلد كفاءاته. تنظم الدول الرأسمالية بأوروبا والولايات المتحدة فترات هجرة لفائدة الكفاءات المحلية بشكل دوري وبشروط معينة، بحثا عن يد عاملة رخيصة مرنة تقبل بأي وضع ما عدا البقاء في البلد والعيش في جحيم البطالة وفرط الاستغلال، الناتجين عن تنمية معاقة، تتحمل تلك الدول جزء كبيرا من مسؤوليتها.
تعبر الهجرة عن رفض المواطن- ة البقاء في البلد بسبب سوء أحواله المادية، وهي نوع من السخط على الوضع الكارثي الذي يعيشه البلد. فالسخط على الأوضاع الذي لا يتم التعبير عنه في ميدان النضال الاجتماعي الرامي للتغيير، يتحول إلى سعي فردي للانعتاق من وطن جاحد، لم يعد يقدم حتى الأمل، بالمغامرة بالهجرة.
الهجرة نتاجُ واقع اقتصادي مزرٍ بالبلد، فالبطالة والفقر ينخران ملايين المواطنين، إضافة إلى تردي الخدمات الاجتماعية، والغلاء الدائم والقدرة الشرائية المنهارة، بسبب تدمير الدولة لصندوق المقاصة، والقضاء على التوظيف العمومي والتوجه نحو التوظيف بالتعاقد الذي يكرس الهشاشة في العلاقات الشُغلية والمرونة، والترسانة القانونية المكبلة للحريات، وتخريب أنظمة التقاعد. مثلما يمثل غياب أداة عمالية شعبية للنضال السياسي من أجل التغيير الشامل، تغذي أمل الأجيال الحالية وتؤطر نضالاتهم وتجترح طرق إحراز انتصارات على السياسات القائمة، عاملا آخر يعمق السعي للقفز من سفينة بلد طال زمن انتظار رسوه على شط الأمان.
يرزح المهاجرون- ات الطامعون- ات في الفردوس المنشود، خاصة الأفارقة القادمون من دول جنوب الصحراء الفارون من ويلات الحروب والمآسي الاجتماعية والمجاعات والآفات البيئية داخل المغرب، ويتعرضون لكل مظاهر الاضطهاد والتنكيل والتقتيل والعنصرية وسوء المعاملة، قبل أن يبدأ شوط ثانٍ عند المغادرة نحو الضفة الأخرى، بسبب انخراط الدولة في مجموعة من الاتفاقيات الدولية الساعية للتحكم في حركية المهاجرين، وتستعين بكل السبل القمعية من أجل منع الهجرة.
رغم ذلك تفاخر الدولة بالمهاجرين- ات المغاربة وتنظم لهم عمليات استقبال سنوية ليس لسواد أعينهم، بل لعائداتهم المادية على الاقتصاد، فالمهاجرون- ات المغاربة ينعشون الاقتصاد المغربي من خلال التحويلات المالية والعملة الصعبة، بسبب الارتباط بالأسر داخل البلد، لوعي هؤلاء بالواقع المزري لذويهم، حيث بلغت التحويلات في النصف الأول من سنة 2022 الى 4.57 مليار دولار وصل الرقم الى 9.95 مليار دولار نهاية نونبر 2022. هكذا يستفيد النظام واقتصاديا من تحويلات الهاربين- ات من جحيم البطالة، وفي نفس الوقت ينفسون أزمة اجتماعيا محتدة.
لن تتوقف الأشكال المأساوية للهجرة إلى بلدان الشمال طالما بقيت الأوضاع القائمة في البلدان الرأسمالية التابعة، خاصة في القارة الإفريقية، على حالها، وطالما لم تنتزع الشعوب في الجنوب حقها في التمتع بحقوقها الأساسية في السكن والصحة والتعليم وباقي الخدمات الاجتماعية، أي بناء مجتمع بديل تنتفي فيه الحاجة إلى هجرة من أجل عيش أفضل. مثلما لن تتوقف الموجة اليمينية الكارهة للمهاجرين في بلدان الشمال عن كسب مساحات تأثير جديدة على أوساط مهمة في المجتمع بما فيها الأوساط العمالية والشعبية، طالما بقيت السياسات المعتمدة في الشمال تتجه نحو الإجهاز على مكتسبات اجتماعية بقيت صامدة لعقود. إن العامل المشترك في الجنوب والشمال هو تطبيق منظورات تستهدف تحميل الكادحين- ات أوزار أزمة عميقة للنظام الرأسمالي. مواجهة هذا النظام ببرنامج مضاد وأشكال تنظيم ونضال فعالة سيكون ترياقا ناجحا يحمي شبابنا من المغامرة بأرواحهم، كما سيحمي المهاجرين- ات في الشمال من تصاعد موجات العنصرية وكره الأجانب، ومن تحويلهم إلى حطب في يد التنظيمات الرجعية السلفية الدينية.
المناضل-ة
2 يناير 2023
اقرأ أيضا