كرة القدم بين الاستلاب والمقاومة
ظهرت لعبة الرياضة كممارسة لعب ولهو منذ القدم، فكان أن جعل البشر، من الصينيين القدامى حتى اليوم، من المساحات والأزقة والشواطىء والحدائق…. مجالا للترفيه والمتعة والترويح عن النفس وخلق الفرح. ومع تطور المجتمعات البشرية خصوصا الصناعية منها، أصبح يوم الأحد وكرة القدم ملاذا لأولئك الذين يكدحون في المعامل.
شكلت المساحات بجانب الأحياء العمالية لقاء فرح بعد تعب ساعات العمل اليومية. يقول ستيفن كونور: ثمة جانب آخر للشك الذي يكتنف متعة الرياضة، وهو أن المر يُشتت نفسه. ولعل المعنى الكامل هو أن المرء يسحب نفسه، أو يبعد نفسه عن الانشغالات الجادة؛ كي يُقدِّم لنفسه محض مُتعة”(1). وفي نفس الوقت هَّدَأَ انشغال العمال، بنقاش التحضير للمباريات و التمرن الطويل لها، من خوف أرباب العمل على استثماراتهم. فأحب أرباب العمل ذهاب العمال لمزاولة كرة القدم عوض تحطيم الآلات أو التحضير للإضرابات، وقد عبر إدواردو غاليانو على ذلك، بقول: “… لكن وطن الرأسمالية الصناعية كان قد اكتشف أن كرة القدم، هوى الجماهير، توفر تسلية وعزاء للفقراء وتبعدهم عن الإضرابات وعن الأفكار الخبيثة الأخرى”(2).
قواعد اللعبة والسوق
– واكب ظهور قواعد جديدة في كرة القدم التطورات التي شهدها العالم الصناعي، فشكلت مجالا جذب اهتمام أصحاب القرارين الاقتصادي والسياسي. إن رياضة تستقطب ملايين الجماهير خير قناة لتمرير قيم: المنافسة من أجل الأفضل، العمل من أجل أحسن مردودية، السرعة والقوة من أجل الفوز، فأضحى العنف عاملا بارزا في اللعبة. وبدون شك رياضة يتابعها الملايين، هي بمثابة سوق لكسب المال بالنسبة للشركات، فأصبح المال عقيدة اللعبة.
خلال مشاهدة مباراة يتابع المتفرج بالملعب، والمتفرج على التلفاز بالمنزل بكثرة وعن قصد علامات الشركات الكبرى الراعية. وحين تنتهي المقابلة يحتفل المنتصر ويحزن الخاسر ويخرج الجمهور وتكثر النقاشات طيلة الأسبوع بوعد الانتقام في مباراة الإياب السبت أو الأحد القادم. إلى هنا، تبدو الأمور بسيطة: ملعب وحكم وكرة ومدرب ولاعبين وجمهور ونقاش… لكن هذه البساطة تخفي تبعيةً لقواعد محددة سلفا خارجة عن إرادة الجمهور أو اللاعبين أنفسهم. إنها قواعد وضعتها الشركات الكبرى. عندما تتوقف المباريات يُفسح المجال للبيع والشراء أي استهلاك سلع تلك الشركات الراعية.
أضحت الفيفا اليوم رائدا في الدفاع الكاذب عن القيم الإنسانية وعن المساواة بين النساء والرجال. حيث جعلت كل برامج تطوير سياسات كرة القدم تابعة لمؤسسات الإمبريالية العالمية الداعية إلى الدفاع عن النوع بما يساهم في الرفع من مكانة المرأة في المجتمعات عبر خرط وتشجيع النساء في الرياضة عامة وكرة القدم خاصة (ستشارك لأول مرة 6 نساء في مونديال 2022 بقطر، كحكمات). إن هذا العمل المنافق يحمل في طياته هدفا واحدا. جعل جمهور النساء العظيم لعبة في أيدي الشركات الممولة للرياضة. وإنها لأرباح عظيمة بالنسبة للشركات الراعية أن تستقطب مستهلكا جديدا لسلعها ألا وهو النساء.
كرة القدم بين المُقَاومة والديمقراطية
تحولت كرة القدم إلى مجال لاستلاب الجماهير وسوق استهلاكية، وأصبحت مجالا للصراع. إن في اللعبة من التعاون الجماعي ما يشكل حافزا طبيعيا على بلورة قيم التضامن ومقاومة الفردانية والتآخي. وإن لفي تجارب كروية العديد من الدروس لأولئك الذين ينتقدون لعبة الكرة ويتركون جماهيرها تحت تأثير البورجوازية. لقد وقفت فرق لكرة القدم في وجه الاستعمار كما قاومت غياب الديمقراطية والاستغلال.
في بداية القرن العشرين الماضي، شهدت الجزائر ميلاد فرق جزائرية كتعبير وطني منافس بوجه الفرق الفرنسية بالبلد. وقامت جبهة التحرير الوطني بتشكيل منتخب الجزائر رغم المنع الفرنسي، فرفع المنتخب الجزائري علم البلاد وأنشد في عدة بلدان نشيد المطالبة بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في بلدان تونس والصين ورومانيا وفيتنام… في الوقت الذي كان المنتخب الجزائري يخسر أو ينتصر بالمباريات كانت تفوز قضية مكافحة الاستعمار عاليا.
أما في ثمانينيات القرن الماضي1981، حين كان الملعب في البرازيل تحت سيطرة الجنرالات الذين حولوا البلد إلى سجن، برز فريق كرة القدم كورينثاينز Corinthians بوجه هذا الاستبداد.
شكل هذا الفريق أنموذجا قاعديا شعبيا ديمقراطيا في التسيير، كان اللاعبون يقررون بالتصويت في كل شيء من أدق التفاصيل حتى أعقدها: خطط، لاعبون، طاقم التسيير، طاقم التطبيب حتى الأمور التقنية المتعلقة بالنقل، متى السفر بالحافلة، متى بالقطار؟ بل حتى المحطات المخصصة للتبول. وكانت أيضا ضمن أمور النقاش، الأحوال السياسية والاجتماعية للبلد. كان للفريق مواقف سياسية جسدها في الملاعب، فشجعوا الناس على التصويت بعد تنحي العسكر وطالبوا بالديمقراطية. تحول الفريق إلى رمز للديمقراطية والعدالة بوجه جبروت الشركات المسيطرة على البلد وباقي الفرق. فأَلحقت ديمقراطية كورينثاينز Corinthians هزيمة بالاستبداد والتحكم المالي للشركات مرتين حين فاز الفريق بلقب البطولة عامي 1982 و1983.
هل نترك ممارسة كرة القدم ؟
تشكل هاتين التجربتين المذكورتين أعلاه أنموذجا من ضمن الكثير من تجارب الفرق والمنتخبات التي مارست كرة القدم ودعت لقيم الحرية، ووقفت في وجه الاستبداد وجعلت من قيم الإنسانية والمساواة مرتكزا لممارسة كرة القدم في الميدان. لقد أضحت رياضة كرة القدم اليوم، اللعبة الشعبية الأولى لدى جماهير الفقراء. بالفعل، هناك استغلالا لها من قبل الأنظمة التي تقوم بإخفاء الفوارق الاجتماعية والطبقية التي تجمع الشعب حول منتخبها تحت قميص واحد، بالفعل أيضا فالحكام يقومون بتوجيه مشاعر الكره والعنصرية والشوفينية المقيتة نحو الآخر مستعملين في ذلك مفهوم المنافسة والعنف. وهناك أيضا استلاب رياضي جماهيري نحو هذه اللعبة. بالنسبة للطبقات الحاكمة، كلما انشغل الناس عن مشاكلهم كان ذلك أفضل، فالحكام وأرباب العمل تفضل أن يلعب العمال كرة القدم بدل الاجتماع من أجل الإضرابات وطرح أسئلة من يَحْكُم ومن يُحْكَم؟ إن ممارسة كرة القدم تشكل مدرسة عميقة للتواصل والنقاش والعمل والتسيير الجماعي، خصوصا حين يذوب الفرد من الجماعة (الفريق).
يقوم اليسار عبر العالم بإطلاق أحكام رفضٍ لكرة القدم عنوانها البارز ” كرة القدم أفيون الشعوب”، تقوم على فكرة أن جماهير كرة القدم تكون مُنصاعة ومُستلبة ومُسْتَهلِكة لإنتاج سلع الطبقات الحاكمة المالية الاقتصادية والأيديولوجية. هذا صحيح. لكن كرة القدم تبقى لعبة الفقراء البسيطة، يمارسها ويستمتع بمشاهدة جماليتها العمال والشباب والأطفال. كل شيء تطور في لعبة كرة القدم حتى في جماعات المشجعين الذين يتبعون فرقهم أينما حلوا وارتحلوا، إذ تشكلت على المدرجات جماعات الألتراس المشجعة. الألتراس التي ترسم لوحات وتصدح بشعارات وأغان تعبر وتطالب بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولنا في أغنية ألتراس فريق الرجاء البيضاوي بالمغرب “في بلادي ظلموني” خير مثال. إن الأحياء الفقيرة وجنبات الأحياء العمالية والمدرجات تشكل فرصة لتدخل اليسار في هذه الممارسة الرياضية بأهدافه. ولنا في تجارب الفرق العمالية أو فرق الأحياء أو جماعات المشجعين دروسا عديدة. إن رياضة كرة القدم مثلها مثل باقي المجالات الفنية من مسرح وموسيقى ورسم وسينما…. تشكل مجالا لإبراز قيم مغايرة لقيم الاستهلاك وخلق النجومية والفردانية والشهرة الفارغة.
بقلم: العاصي
1- ستيفن كونور في كتاب ” فلسفة الرياضة” منشورات دار الثقافة والسياحة – أبوظبي، مشروع ” كلمة” طبعة 2019. ص 26
2- إدواردو غاليانو في كتاب” كرة القدم بين الشمس والظل”دار طوى للنشر والإعلام، ص 22.
اقرأ أيضا