كادحو- ات مدينة أزمور يستأنفون النضال الشعبي: التنظيم من أسفل والتضامن الوطني شرطا الانتصار
قد يتمكن تكميم الأفواه، والقمع بصفة عامة، من إيقاف تقدم النضال الشعبي مؤقتا، كما حدث مع حراكي الريف وجرادة. ولكن عمق الكارثة الاجتماعية التي تفاقمت مع جائحة كوفيد- 19 والجفاف، وموجة الغلاء، والتطورات الدولية الحالية (حروب روسيا على أوكرانيا)، تدفع الاستعداد الشعبي الكامن والمكبوت بفعل صنوف القهر نحو الغليان.
وصلت درجة الحرارة إلى الغليان في أحد مراجل النضال الشعبي. خرجت ساكنة أزمور بالمئات ليلة 24 سبتمبر 2022، للاحتجاج ضد مظاهر الأزمة الاجتماعية والاقتصادية بالمدينة. وكان التنديد بالغلاء والبطالة والفقر وغياب البنية التحتية على رأس الشعارات والمطالب التي صدحت بها حناجر المتظاهرين- ات. ورفع المحتجون- ات شعارات تذكّر بتلك التي عمت شوارع البلد إبان حركة 20 فبراير: “كيف تعيش يا مسكين المعيشة دارت جنحين” و”ناضل ضد التهميش، ضد الحكرة، ضد الفساد…”.
إن الشعارات النابعة من قلب الشعب تكون أصدق من مئات التقارير الصادرة عن مؤسسات الاستشارات المعيَّنة من فوق والمحدَّدة لها الخطوط الحمراء.
قبل 3 أيام (21 سبتمبر) تظاهر عشرات سكان المدينة بمناسبة زيارة حاجب الديوان الملكي وعامل الإقليم لأحد أضرحة المدينة، وقاموا بتبليغ هذين المسؤولين مطالب المحتجين.
احتجاج قديم ضد الغلاء
ليست هذه أول مرة يخرج فيها سكان مدينة أزمور ضد غلاء فواتير الكهرباء والماء. ففي هذه المدينة التي تسيِّر فيها الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء للجديدة (راديج) التي تعمل تحت وصاية وزارة الداخلية ويترأس مجلسها الإداري عامل الإقليم، استمر احتجاج السكان ضد غلاء الفواتير منذ سنوات.
تأسست راديج في 1 يناير 1971 لتوزيع الماء والكهرباء في مدينة الجديدة، وامتدت أنشطتها إلى مدينة أزمور في 1 يناير 1976[1].
احتج السكان ضد هذا الغلاء في أكتوبر 2019، رافضين أداء المبالغ الفلكية. وتجدد الاحتجاج في نوفمبر 2021 حيث اتهم السكان وكالة لاراديج بنهب جيوبهم. لم تكن الشعارات موجَهة فحسب ضد الغلاء بل ضد أوجه أخرى من المعاناة الشعبية وعلى رأسها البطالة في مدينة مخنوقة: “هلكتونا بالضور الماء، لا خدمة لا ردمة”. يُذكِّرنا هذا بالاحتجاجات الشعبية الضخمة التي عرفتها مدينة طنجة سنة 2015 ضد شركة أمانديس.
لم تخل مدينة أزمور من الاحتجاجات منذ سنوات، إذ نظم السكان وقفة احتجاجية أمام المستشفى المحلي يوم 2 يناير 2021، هذه المرة ليس ضد الغلاء، ولكن ضد تردي الخدمات الصحية بالمدينة: غياب أطباء مختصين وعدم توفير الوسائل اللوجستية الكافية داخلها، نقص كبير في الأدوية وتعطل جهاز “الراديو” ونقص حاد في الأوكسجين، خاصة في ظل توافد حالات إصابة بـ”كوفيد- 19″.
نموذج تنموي مولِّد للفقر والتهميش
“مدينة مدمَّرة، مدينة مهلوكة”[2]؛ هكذا صرح أحد متزعمي التظاهرة بمناسبة زيارة حاجب الديوان الملكي وعامل الإقليم. طبعا، فغلاء أسعار فواتير الماء والكهرباء مفجر لاحتجاج ضد أوضاع تمد جذورها في تربة نموذج التنمية المتبنى منذ الاستقلال الشكلي، ونشهد حاليا نسخته المنقَّحة المسماة “نموذجا تنمويا جديدا”. يقوم نموذج التنمية القديم/ الجديد هذا على الاهتمام بما يحقق أرباح رأسمال من توجيه المالية العامة لحفزه وتجهيز البنية التحتية لاستقطابه وسياسية ضريبية لتشجيعه. أما ثمار تنمية الرأسمال هذا الموعود بأن تشمل فقراء البلد وكادحيه، فلا توجد إلا على الورق، أو على شكل إحسان اجتماعي (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، راميد، إعانات الأرامل والمطلقات، مليون محفظة.. إلخ) والتي سُميَّت مؤخرا “حماية اجتماعية معمَّمة”. إنه نموذج تنمية يحصل فيه الأغنياء والرأسماليون على العسل، في حين تقتصر حصة الفقراء والكادحين- ات على الدخان.
تبنت الدولة منذ سنوات خطابا يركز على انتقاد القطاع العام وإبراز فوائد التنمية القائمة على القطاع الخاص. وهو منظور البنك الدولي ومجمل المؤسسات المالية الدولية. منظور يشجعه أرباب القطاع الخاص بالمغرب، لأنه مفتاح استفادتهم من سياسات عمومية تنمي أرباحهم فقط. ولكن بعد عشرين سنة من تطبيق هذا النموذج التنموي تبدت الكارثة التي أبرزتها إلى الوجود فاجعة كوفيد- 19.
لم يغب هذا عن أحد مواقع المدينة (azemmourinfo24)، وإن غلف ذلك بالخطاب السائد حول أن المشكل يتعلق بـ”الفساد” وليس بنظام اقتصادي واجتماعي: “كان هناك فساد في ظل القطاع العام، وكذلك أصبح متواجدا في ظل القطاع الخاص ولكن المؤكد أن حجم الفساد تزايد مع تزايد حجم النشاط الاقتصادي الإقليمي وتزايد عدد المشروعات وتزايد حجم الأموال التي تتعامل فيها هذه المشروعات”[3]. وهو تشخيص صحيح لنموذج التنمية الرأسمالية بصيغتها القديمة (القطاع العام رائد إنماء رأسمالية محلية)، والجديدة (القطاع الخاص رائد التنمية الرأسمالية).
تقع أزمور على الضفة اليسرى لنهر أم الربيع غيرَ بعيد عن مصبه. تقع على محور الطريق الوطنية رقم 1، وتبعد شمالا عن مدينة الجديدة بـ15 كم، وبـ80 كم جنوبا عن مدينة الدار البيضاء، وهي تابعة إداريا لإقليم الجديدة، ما يجعلها في هامش أكبر قطب اقتصادي بالبلد.
توجد المدينة في قلب سهل دكالة ومصب نهر أم الربيع. وهي منطقة غنية بتربتها الخصبة وتوفرها على غطاء نباتي متنوع ووفرة المياه وكل هذه العوامل ساعدت على ازدهار المنطقة وذلك بتنوع منتجاتها الفلاحية كالقرع والذرة وكذلك المواشي. لكن السياسة الفلاحية القائمة على حفز الاستثمار الزراعي الكبير (مخطط المغرب الأخضر)، قد أدى إلى دفع صغار الفلاحين بالسهول المحيطة بأزمور إلى الهجرة نحو المدينة.
تضخم عدد سكان المدينة وتفاقم الأمر بسبب ضعف البنيات الاقتصادية القادرة على استيعاب هذه الهجرة. نشر أحد أبناء المدينة (إدريس ديباحي) مقالا بموقع أزمور- انفو، يلخص واقع المدينة هذا:
” إذا ما تتبعنا سيرورة التوسع الحضري لمدينة أزمور سنلاحظ بان هذا التوسع لم يأت نتيجة نمو طبيعي في البنيات الاقتصادية والاجتماعية، وإنما نتيجة العلاقات في البنيات اللامتكافئة بين مدينة ازمور ومحيطها الريفي، والتي كانت من نتائجها تحول عدد كبير من سكان الأرياف المجاورة بين عشية وضحاها من سكان قرويين إلى سكان حضريين.
هذا المد الريفي نحو المدينة خلق اقتصادا غير مهيكل، ولا يقل هشاشة عن النسيج والاجتماعي. فالاقتصاد غير المهيكل أو غير المنظم هو القطاع الذي أصبح سائدا في المدينة، وأمام غياب أنشطة اقتصادية مهيكلة ومنظمة توفر مناصب الشغل لكل السكان النشيطين، ظهرت وتولدت بشكل سريع الأنشطة غير المهيكلة: الفراشة، العربات المجرورة… إلخ”.
غيابُ الأنشطة الاقتصادية القادرة على توفير مناصب الشغل، ليس سمة خاصة بمدينة أزمور، بل إحدى السمات البنيوية لنموذج تنمية رأسمالي جرى إرساؤه منذ قدوم الاستعمار وترسيخه مع الاستقلال، وهذا النموذج هو الذي يحكم على ملايين الكادحين في المدن الكبرى والصغرى وفي المجالات الجغرافية البعيدة عن المراكز بالفقر والحرمان.
كي لا يعيد كادحو- ات ازمور إعادة إنتاج نقاط قصور الحِراكات السابقة
يحتاج إدراك جذور الفقر والتهميش هذه اهتماما يوميا. لكن الكادحين- ات ليس لديهم وقت لذلك، فهم غارقون في البحث اليومي عن القوت والمسكن والملبس، أي الحدود الدنيا للبقاء على قيد الحياة. وعندما يستيقظ الكادحون- ات فجأة للاحتجاج، يتناولون السائد في وسائل الإعلام وما تروجه مختلف أشكال المعارضة القائمة من خطاب.
توجه أصابع الاتهام في الاحتجاج الأخير لسكان مدينة أزمور إلى المسؤولين المحليين (خاصة رئيس المجلس البلدي)، محملين إياهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع المدينة. في تنزيه للسياسة العامة للدولة التي تولِّد الحرمان في كل مناطق المغرب. وهكذا فإن مدينة أزمور مقصية من تنمية يجري إعلان أوجِ نجاحها يوميا في وسائل إعلام الدولة.
يؤدي هذا إلى زرع أوهام مثيل تلك التي راجت إبان انتفاضة مدينة سيدي إيفني(2005-2008)، أوهام حول التقسيم الإداري وتعديله بإحداث عمالة خاصة بالإقليم[4] لتجد مشاكل المدينة طريقها إلى الحل. لكن مثال مدينة سيدي إيفني بعد أكثر من 10 سنوات من إحداث عمالتها يدل على العكس.
جرى التركيز في الاحتجاج على تعطل مشاريع تهيئة المدينة (الكورنيش، ساحة الزنك، مفوضية الشرطة… إلخ). وهو نفس ما لوحظ أيضا إبان حراك الريف، ورُكِّز عليه بالحديث عن اختلالات شابت برنامج “الحسيمة منارة المتوسط”. ولكن مشاريع التهيئة بدون سياسة عامة موجهة لضمان تشغيل واسع وتعليم وصحة عموميين ومجانيين، ستكون مثل إخفاء الجرح الاجتماعي بضمادة. وهو ما عبَّر عنه ببلاغة أحد شباب حراك الريف بقول: “بعد مرور كل هذه الأعوام لا يوجد أي تحسن في أحوالنا. الدولة تقول إنها تفعل ما بوسعها، ولكن طالما ظلت المشافي تعاني من نقص الأطقم الطبية فلن تكون إلا مبانٍ خرسانية”[5].
الدولة لا يمكن إقناعها بالخطابات
من بين الدروس الذي استقاها كادحو جرادة من حراك الريف، هو الابتعاد عن التصادم السياسي مع الدولة، وتجلى ذلك من خلال رفع العلم الرسمي وترديد النشيد الوطني… إلخ. ورغم ذلك لم يسلم حراك المدينة من القمع وسجن مناضليها. فالدولة تعرف أن ما يوجد في أعماق الاحتجاج أصدق بكثير من الذي يطفو على سطحه، لذلك تعمل جاهدة على وأده في المهد.
صرح أحد المحتجين قائلا: “هؤلاء سُرَّاق، سلوكهم سيؤدي إلى تحريض الشعب، يا ملك البلاد، هؤلاء سيوقعونك في ورطة، مع الفقراء والدراويش، إذا كنتَ ملك الفقراء، راجع وكالة لاراديج… إذا كانت الدولة تبحث عن الأموال، فلتلتفت جهة البرجوازيين الذين لا يؤدون الضرائب، أما نحن فمجرد فقراء، هناك من يشتغل بـ 50 درهم لليوم فقط”، في حين صرخ محتج آخر: “الدولة يجب ان تكون إلى جانبنا، وليس إلى جانب الظالمين”[6].
تُدرك الدولة جيدا أن ما يهم في خطاب هذا المحتج هو تشخيصه الطبقي “البرجوازيين الذين لا يؤدون الضرائب… إلخ”. وتعرف أيضا أن استمرار النضال سيؤدي إلى بروز هذا الشق من الخطاب وتواري ذلك الشق الذي يتوسل تدخل رئيس الدولة. لذلك لن تتردد في قمع احتجاج كادحي أزمور، إذا لم يجرِ تنظيمه من أسفل والعمل على امتداده وطنيا، أي تفادي نقاط قصور حراك الريف قبل ست سنوات. التنظيم الذاتي والتضامن الوطني هما الوحيدان القادران على ضمان استمرار نفس الاحتجاج وتنحية إمكان قمعه وفي نفس الوقت ضمان إمكان تحقق مطالبه.
ضرورة التنظيم من أسفل
منذ سنوات وكادحو- ات أزمور في احتجاج ضد الغلاء وضد ما يُطلقون عليه “سوء تدبير من طرف المجالس المحلية”. بدون تنظيم من أسفل ستتواتر جولات الاحتجاج هذه التي تتفجر في لحظات بعينها: وفاة سيدة بالمستشفى، انقطاع الماء الصالح للشرب، ارتفاع فواتير الكهرباء والماء.
لكن معالجة فعلية لأوضاع الفقر والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، تحتاج اهتماما بشكل مستمر وتعبئة متواصلة. وهذا لن يكون إلا بمقدور تنظيم من أسفل: لجان أحياء تتكلف بجرد مطالب كل حي، على أن يجري انتخاب لجنة مكلفة بتنظيم الاحتجاج داخل المدينة كلها، لجنة تكون تحت الرقابة المباشرة والمحاسبة من طرف لجان الأحياء التي انتخبتها.
سيكون من مهام هذه اللجنة ربط التواصل مع منظمات النضال خاصة بالمدن المجاورة، وعلى رأسها الجديدة والدار البيضاء، ذلك العملاق الاقتصادي حيث ترقد أكبر قوة نضالية في المغرب: الطبقة العاملة في المعامل والأوراش العمومية والأبناك والإدارات العمومية… إلخ.
سيكون هذا أجدى بكثير من التماس “ضمير المسؤولين المحليين” و”تدخل المسؤولين المركزيين لتقويم المشاكل المحلية”. فالمسؤولين المحليين والمركزيين هما أدوات تنفيذ النموذج التنموي الجديد القائم على تسخير خيرات البلد وقوته العاملة لتراكم أرباح القلة الرأسمالية المالكة، وليس خدمة مصالح الأغلبية الكادحة وضمان عيشها الكريم.
المراسل
[1]– https://www.radeej.ma/%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%83%d8%a7%d9%84%d8%a9/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae/?lang=ar#.
[2]– https://www.youtube.com/watch?v=wvh8DltrJ0A، 21 sept. 2022.
[3]– https://azemmourinfo24.com/906.htmlK، 5 أكتوبر 2013.
[4]– https://azemmourinfo24.com/15737.html، 9 أبريل 2015.
[5]– https://carnegieendowment.org/sada/85769.
[6]– https://web.facebook.com/SOSazemmour/videos/438119870421567، 24 أكتوبر 2019
اقرأ أيضا