أضاليلُ “الحوار الاجتماعي” غطاءٌ لتشديد العُدوان البُرجوازي على طَبقة الشّغيلة
تُمثل حُرية التّفاوض حول الأجور (المباشِرة وغير المباشِرة) مع أرباب العمل، باستعمال القوة الجماعية المنظمة في نقابات، وروابط وأشكال تنظيم أخرى، حقا مكتسبا بالنضال الطبقي في النظام الرأسمالي. يعتبر الدفاع عن الأجور مسألة حيوية في نظام قائم على ميل دائم نحو التضخم Inflation، باعتبار هذا الميل هو أداة لمواجهة أزمات الرأسمالية، رغم ريائها المعادي للتضخم، ووسيلتها الفضلى والمجربة والدائمة للاستحواذ على اكبر قسط مما ينتجه العمال لصالح الرأسمال. يمثل التأكيد على هاته المسلمة توطئة ضرورية لمقاربة شاملة لقضية ” الحوار الاجتماعي” بالمغرب ومساءلة أطرافه كافة، من وجهة نظر عمالية طبقية.
لطالما اعتبرت قيادات المنظمات النقابية بالمغرب “الحوار الاجتماعي” طريقا رئيسا للممارسة النقابية، معتبرة الإضراب “أبغض الحلال”، فبقدر ما تنشأ لدى البيروقراطية النقابية امتيازات مادية ومواقع اندماج في مؤسسات الدولة البرجوازية، تبتعد تلك البيروقراطية أكثر فأكثر عن تقاليد الكفاح العمالي لصالح تدبير لنزاعات الشغل لصالح أرباب العمل ودولتهم. ويفرز هذا ايديولوجيا التضامن الطبقي بين أرباب العمل والعمال، واعتبار مصلحة العمال متطابقة مع مصلحة المقاولة، المضفاة عليها صفة المُواطنة. وبهذه المعاني، تصبح النقابة أداة من أدوات الدفاع عن المقاولة، وعبرها عما يسمى الاقتصاد الوطني، باعتبار الدفاع عن المقاولة وعن تنافسية الاقتصاد الوطني في التحليل الأخير دفاعا عن العمال.
بهذه الروح كانت أهم مطالب الحركة النقابية بالمغرب، المتحكم بها بيروقراطيا، تتعلق بمأسسة الحوار الاجتماعي، أي جعله عملا مؤسساتيا محددا ببرنامج زمني وموضوعاتي منتم في النهاية لزمن إدارة الدولة. معتبرة أنه من شأن الحوار الممأسس والشامل، مركزيا وقطاعيا وجهويا ومحليا، وداخل كل مؤسسة على حدة، أن يساهم في جعل “الزمن الاجتماعي” بالبلد يمر هادئا لا ضجيج فيه، قوامه الوئام الدائم بين العمال وأرباب العمل. تُمكن مأسسة الحوار في قطاع أو مقاولة ما، أو على صعيد البلد، أرباب العمل من تخطيط عملها، ووضع سياستها الإنتاجية لمواجهة تحديات المنافسة وضبط تقلبات سعر قوة العمل وتفادي الإضرابات.
ومن جانب آخر، طالما يؤكد النقابيون المكافحون، على أن ما ينبغي مأسسته، ليس هو “الحوار الاجتماعي”، بل هو السلم المتحرك للأسعار والأجور، باعتباره المطلب الوحيد الذي ينزع عن التضخم آثاره المعادية للحقوق العمالية، ويرفع هاته الآلية الجهنمية من على رقاب الأجراء ليضعها حيث يجب أن تكون: على أرباح رأسمال. ويكون بذلك “الحوار الاجتماعي” حوارا بين العمال أنفسهم وبين منظماتهم، حول كيفية جعل هذا المطلب واقعا ناجزا مطبقا بصورة دائمة، عبر إعداد دائم للقوة الجماعية المنظمة لفرضه.
“الحوارُ الاجتماعي” بالمغرب: التّاريخ يُثبت أن الظفر بالمطالب لا يجري في فضاء الطاولة بل خَارجه.
تعتبر قيادات الحركة النقابية المغربية اتفاق فاتح غشت 1996 اتفاقا تاريخيا، لأنه يشكل اختراقا لمنطق استفراد الدولة بتدبير الملف الاجتماعي بالبلد وبأنه جر أرباب العمل مجتمعين إلى حوار “ثلاثي الأطراف”، رغم اعتراف ذات الحركة النقابية بأن نتائجه المادية المباشرة كانت ضعيفة. هذا الاتفاق الذي تلته بعد ذلك عدد من الاتفاقات بلغت في مجموعها ستة على مدى 26 عاما.
لكن المتمعن في تلك الاتفاقات يدرك أنها لم تكن نتيجة لـ”حوار اجتماعي” على طاولة، بل نتيجة لديناميات تجري على أرض الصراع الطبقي الفعلي. لم يكن الغرض من كل الحوارات/ الاتفاقات الاجتماعية المشار إليها تحسين وضعة الشغيلة المهني والمعيشي، بما ينمى قدرتها النضالية، بل كان الغرض منها تهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لمرور هجمات نيوليبرالية على مكاسب تاريخية (ترتيبات انتقال العرش وتمرير ميثاق التربية والتكوين -1999- ومدونة الشغل -2004- ولجنة إصلاح أنظمة التقاعد -2005- النموذج التنموي الجديد وفسح المجال انتخابيا لمن أنيط بهم تنزيله 2019….) أو لاتقاء موجة نضال اجتماعي قد توقظ الطبقة العاملة كما حدث عام 2011، الذي تعتبر مكاسب “حواره الاجتماعي” الأعظم على الإطلاق.
إن ما يجري بالبلد في إطار ما يسمى بالحوار الاجتماعي، هو عملية توريط للقيادات النقابية، [وبمباركة وطلب منها]، وإشراكها في السياسات التي تعيد تشكيل البلد على أسس معادية جوهريا للمصالح الآنية والتاريخية للطبقة العاملة، أو في المساهمة في تحييد الطبقة العاملة إزاء كل نضال عام معاكس بوجه الهجوم النيوليبرالي.
مأسسة “الحوار الاجتماعي”: فصل سيرورة التفاوض بين النقابات وأرباب العمل ودولتهم عن سيرورة النضال النقابي العمالي
يشارك القادة النقابيون في عدد كبير من المؤسسات التي تحتضن إلى جانبهم ممثلين عن الدولة وأرباب العمل، فبالإضافة إلى البرلمان (مجلس المستشارين) تشارك القيادات النقابية في المجلس الأعلى للوظيفــة العموميــة .. اللجن الإدارية المتساوية الأعضاء، وفي عدد كبير من المجالس واللجن “ثلاثية التركيب”: مجلس المفاوضة الجماعية.. مجلس طب الشغل والحماية من الاخطار المهنية.. المجلس الأعلى لإنعاش التشغيل.. اللجنــة الثلاثية المكلفــة بتتبــع التطبيــق الســليم للأحــكام المنظمــة لمقــاولات التشــغيل المؤقــت.. اللجنـة الثلاثية المكلفـة بالتشـاور بشـأن معاييـر العمـل الدوليـة.. اللجنـة الوطنيـة للبحـث والمصالحـة.. واللجن المحلية للبحث والمصالحة. هذه اللجن والمجالس المتعددة، وبعضها قديم قدم تشريع الشغل بالمغرب، هي هيآت طالما راهنت عليها القيادات النقابية لأجل تحصيل الحقوق ورد الاعتداءات، لكنها لم تنفع في ذلك، بل إن بعضها أنشئ بالضبط لأجل الاعتداء على حق عمالي أصيل هو الحق في العمل القار (اللجنــة الثلاثية المكلفــة بتتبــع التطبيــق الســليم للأحــكام المنظمــة لمقــاولات التشــغيل المؤقــت). ورغم وضوح خواء مؤسسات “الحوار الاجتماعي” القائمة من كل مضمون يحتضن مصالح الاجراء، لازالت قيادات الحركة النقابية تصر على مأسسته.
تعني مأسسة “الحوار الاجتماعي” فصل سيرورة التفاوض بين النقابات وأرباب العمل ودولتهم عن سيرورة النضال النقابي العمالي، أو على الاقل ربط النضالات النقابية بمحطات الحوار ونتائجه، عوض ضبط التفاوض على ساعة الاحتجاج العمالي وعلى ساعة تنظيماته، يتم تقييد النضال العمالي وتنظيماته بسيرورة تجري خارجه. بهذا ستتمكن الدولة، بداية، من “تجريم” سياسي لكل نضال عمالي منفلت من منطق السلم الاجتماعي، بناء على ترسانة من القوانين المزمع تمريرها: 1- مشروع القانون الذي سيضع ضوابط للإضراب تتوافق وسيرورةَ الحوار داخل المنشأة والقطاع والحوار المركزي..).
2- مشروع قانون النقابات، الذي سيزيد تقييد حق تأسيس نقابة، و سيضفي المشروعية على التدخل في شأن النقابة العمالية الداخلي).
اتّفاق 30 أبريل 2022: نَحو طور جديد من استسلام القيادات النقابية
في سياق مطبوع بالاستعداد لمواصلة هجوم الدولة وأرباب العمل، بصورة مكشوفة ومعلنة، على مكتسبات تاريخية للأجراء: في التقاعد والوظيفة العمومية وتشريعات الشغل والحقوق النقابية وعلى رأسها الإضراب، جرى توقيع اتفاق اجتماعي جديد، مؤطر برؤية شاملة واستراتيجية: النموذج التنموي الجديد، الذي يمثل تنزيله أساس البرنامج الحكومي المعلن، وعِلَّة من عِلَلِ وجود تلك التركيبة الحزبية في حكومة الواجهة.
تخوض الدولة، المعبر الجماعي عن مصلحة أرباب العمل، حربا على الأجراء في جبهات متعددة، مستفيدة من سياق متميز بضعف شديد في قيادة المنظمات العمالية، وتشتت هائل للنضالات رغم كفاحيتها (بدءا من حراكات المناطق وصولا لمعركة المفروض عليهم التعاقد). هكذا يجري الإعداد لانقلاب تاريخي في الوظيفة العمومية، عبر إخراج القسم الأهم من الموظفين (شغيلة التعليم) من تلك الوظيفة كما نعرفها، بعد إخراج الشغيلة الصحية، وذلك بتعاون حثيث من القيادات النقابية المشاركة في الحوار القطاعي وخاصة في اللجنة التقنية لإعداد النظام الأساسي الجديد لمهن التربية والتكوين. ويجري السعي للبدء في سيرورة تخريب جديد لأنظمة التقاعد، سواء تلك الخاصة بالموظفين أو بباقي الأجراء، في حين لازال التصميم على تمرير قانون تكبيلي للإضراب على رأس أولويات أرباب العمل ودولتهم. هذا فيما لازالت طموحات أرباب العمل قائمة في سعيهم لتغيير جديد لمدونة الشغل يطلق أياديهم، أكثر مما هي مطلوقة، لمزيد من تهشيش وضعية الأجراء.
هذا فيما المنظمات النقابية في أقصى درجات الضعف، إذ لم تخض نضالات تذكر، واكتفت قياداتها بلوك الكلام في المؤسسات المنتخبة (مجلس المستشارين)، بل حتى محطة فاتح ماي لم يَجرِ تخليدها من قبل أكبر المنظمات بمبررات كاذبة (إجراءات احترازية للوقاية من كوفيد-19)، لكن لإخفاء تعاون القيادة النقابية في تجاوز تداعيات جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، على حساب الشغيلة. إذا كانت القيادات النقابية قد استسلمت منذ زمن بعيد لمنطق الشراكة الاجتماعية، فإنها اليوم تؤسس لتعميق وترسيخ اشد لنقابة التعاون الطبقي : نقابة لا ترافق الهجوم على الأجراء وحسب، بل تقوم بتسويغ تلك الهجمات والدعاية لها في الأوساط العمالية على أنها مكاسب.
في هذا السياق، جرى عقد جلسات “حوار اجتماعي”، وبغض النظر عن تفاهة ما أعطته الدولة لتضمن بعضا من ماء وجه القيادات النقابية، ودون الدخول في تفاصيل الاتفاق، سنركز على شروط تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه. حيث أنه للتقيد بتلك الالتزامات الهزيلة، ينبغي الشروع في تنفيذ الإجراءات التالية، من بين إجراءات أخرى:
- إقرار قانون الإضراب في فاتح يناير 2023
- إقرار قانون النقابات الذي يقيد تأسيس النقابة و يشرعن تدخل الدولة في الشأن النقابي الداخلي
- تعديل مدونة الشغل في فاتح يوليوز 2023 عبر التنصيص على قانون يأخذ بعين الاعتبار انتظارات أرباب العمل وخاصة ما تعلق بما يسمونه “المرونة المسؤولة”، أي ببساطة حق أرباب العمل في طرد الأجراء.
- إطلاق عملية إصلاح أنظمة التقاعد، أي تخريب جديد يقضم من جديد حقوقا لشغيلة القطاعين العام والخاص.
لقد تمت مقايضة بعض المكتسبات الظرفية بما فيها الوعد بمناقشة رفع الأجور، التي سرعان ما سيلتهمها منطق التضخم، بمكاسب استراتيجية، كما جرى إهداء مهل جديدة لباطرونا القطاع الفلاحي لأجل الوفاء بمساواة الحد الأدنى للأجور الفلاحي مع الصناعي، دونما تحديد رزنامة زمنية واضحة لذلك.
هل كانت القيادات النقابية مجبرة على توقيع الاتفاق؟ وعلى التسويق له بين الأجراء؟ نعم كانت مجبرة على ذلك، لأنها ليست لها لا النية والرؤية التي يفترضها منطق الدفاع عن الحد الأدنى للحقوق العمالية. إن رفض اتفاقات من هذا النوع يستلزم إعداد العدة للنضال، وهو ما لم تعد القيادة النقابية مهتمة به ولا قادرة عليه، لذلك بشرت بأسلوب جديد للنقابة: نقابة الحوار الاجتماعي الممأسس، وقدمت هذا الاتفاق بشأن المأسسة، على أساس أنه لب كل المكاسب، مؤسسة بذلك لطور جديد من الاستسلام النقابي.
عود على بدء: من أجل منظومة مطالب تُوحد الطبقة العاملة في نضالها وتِؤسس لطور جديد من النّضال العُمالي الطّبقي المُكافح
تمثل أيديولوجيا الشراكة الاجتماعية الوجه الآخر لعملة الخيانة الدائمة لمصالح العمال من قبل قسم آخر من القيادات، وهو ما ينعكس في منظومة المطالب المرفوعة من قبل الحركة النقابية المستبطنة للأفق الليبرالي. حيث أضحت مجاراة منطق تفتيت وحدة الطبقة عبر تفتيت مطالبها، وعدم السعي لتوحيد نضالاتها سياسة واعية لهاته القيادات وخيارا ارتضته لنفسها. وإذا كان انتظام الشغيلة في نقابات واتحادات وطنية ناتجا عن كون الأجراء ذوي مطلب واحد وموحد هو، في نهاية المطاف، الرفع من قيمة أجورهم المباشرة وغير المباشرة، أي أن هناك صراعا دائما بين أرباب العمل، حول أكبر حصة من فائض القيمة المنتجة على صعيد كل مقاولة وكل البلد. فليس هناك من مبرر لتشتيت وحدة الطبقة العاملة وتفريخ تنسيقيات وفئات من داخل النقابة سوى خدمة مصالح البورجوازية.
وهذا ما يفرض المحاججة بمنطق آخر، والدفع ببناء منظومة مطالب توحد بمنطقها قوى الطبقة العاملة وتدفعها لتوحيد سيرورات نضالها وتنظيمها.
يمثل، في الوضع الحالي، الدفاع عن مطلب:
– السلم المتحرك للأسعار والأجور،
– و خفض ساعات العمل الأسبوعية لمواجهة تغول البطالة،
– والدفاع على العمل القار في القطاع الخاص، وفي الوظيفة العمومية،
-والتقاعد في 60 سنة،
-والدفاع على مكتسبي حرية التنظيم النقابي وحق الإضراب ضد ما يحيق بهما من مخاطر
أساس المطالب التي ينبغي رفعها وإيجاد أشكال التنظيم للدفاع عنها، بوجه أرباب العمل ودولتهم، كما بوجه سياسة نقابية منافقة تجر الأجراء صوب حتفهم التنظيمي والسياسي، لا صوب النصر.
بقلم : ي. ح
اقرأ أيضا