افتتاحية: توسيعُ نطاق الحماية الاجتماعية لتشمل بلدان الجنوب: تحديات زخم جديد وانحرافاته
فرانسوا بوليه [1]
افتتاحية عدد مجلة بدائل الجنوب الخاص بالحماية الاجتماعية : Volume 21-2014 / 1
استعادت الحماية الاجتماعية مكانة بارزة في سياسات التنمية، مستمدة شرعية خاصة عبر جيل جديد من برامج غير قائمة على المساهمة، مخصصة للأغلبية المستبعدة من التشغيل المنظم. بيد أن هذه الأجندة الفاضلة، التي يرفع لواءها فاعلون ذوو سمات أيديولوجية متباينة، تنطوي على انحرافات محتملة كثيرة. بدءاً من انحراف حماية اجتماعية مستعملة على نحو مغرض، وثيقة الارتباط بإصلاحات محكومة بمنطق السوق.
باتت الحماية الاجتماعية موضوع شغف جديد لدى حكومات البلدان البازغة والمنظمات الدولية على حد سواء [2]. بعد توار مديد لفكرة تكفل جماعي بالمخاطر الاجتماعية، باعتبارها متعذرة التحمل في سياق فقر أو متعارضة مع اندماج تنافسي في العولمة، أصبحت مجددا موضوع توظيف من قبل تحالف فاعلين ذوي رؤى وأجندات متنوعة نسبيا، بدء من حكومات تقدمية بأمريكا الجنوبية إلى البنك العالمي، مروراً بمنظمات الأمم المتحدة والبنوك الإقليمية ووكالات المساعدة والمجتمع المدني الدولي وشبكات التفكير الأكاديمية بشأن «النمو الشامل للجميع». وليس هذا التطور مذهبيا فحسب، بل إنه يعكس، بقدر ما يشجع، مضاعفة مبادرات السياسات العمومية في مجال الحماية الاجتماعية بالجنوب منذ مطلع الألفية.
نقص شديد في مجال التغطية الاجتماعية
رغم هذا الجموح المفاهيمي، وزيادة مستويات الموارد المخصصة للسياسات الاجتماعية في بعض المناطق النامية، منذ بضع سنوات، تقترن الحماية الاجتماعية في بلدان الجنوب عموماً بنمط الهشاشة، وحتى الانعدام التام. وعلى نحو يفوق ملفات اقتصادية-اجتماعية أخرى، فإن الفجوة مهولة بين الشمال والجنوب بشأن التغطية الاجتماعية. إن السواد الأعظم من نسبة 20٪ من سكان العالم في سن العمل المستفيدين من مستوى حماية اجتماعية «ملائم» وفقًا لمنظمة العمل الدولية (ILO) موجود في بلدان الشمال، بينما يوجد في الجنوب مجمل 50% من الأفراد معدومي أي حماية مهما كانت.
إن حجم الفجوة هو في المقام الأول مسألة تفاوت في الوسائل. إذا نظرنا إلى نصيب الفرد من نفقات الحماية الاجتماعية، يتضح أن الفوارق تتراوح بين واحد وعدة مئات بين بلدان أوروبا الغربية وأفقر بلدان أفريقيا وآسيا. يعزى هذا التفاوت الكبير إلى تضافر تأثيرات فارقين اثنين: الاختلافات في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بالطبع -30000 دولار أمريكي في الاتحاد الأوروبي، و4000 في تايلاند، و600 في بنغلاديش-، ولكن أيضًا الاختلافات في حجم نفقات الحماية الاجتماعية بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي -نسبة 29٪ في الاتحاد الأوروبي، ونسبة 3.6% في تايلاند ونسبة 1.4% في بنغلاديش (الاتحاد الأوروبي، عام 2013؛ البنك الأسيوي للتنمية، عام 2013).
يجب النظر إلى عجز التغطية الاجتماعية الإجمالي بمختلف أبعادها. يتعلق الأمر أولاً، بعرض آليات الحماية الاجتماعية. رغم وجود أشكال حماية في جميع البلدان، إلا أن ثلثها الذي يمثل نسبة 28٪ من سكان العالم وحسب، يعتمد نظاماً «كاملاً»، أي الحماية ضد جميع المخاطر التي حددتها منظمة العمل الدولية [3] (منظمة العمل الدولية، عام 2011). وهذه أساساً بلدان غنية. ولم يعتمد أنظمة من هذا القبيل سوى حفنة بلدان من الجنوب (منها البرازيل وكولومبيا والجزائر وتايلاند). باتت بعض الفروع معولمة أكثر من غيرها-وبالتالي إذا كان فرع «حادثة الشغل» قائماً في جميع البلدان تقريبًا، فإن فرع «تعويضات البطالة» غير موجود إلا في نسبة 54٪ من البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، ونسبة 35٪ من بلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى وفقط نسبة 8٪ من البلدان المنخفضة الدخل (منظمة العمل الدولية، عام 2011).
ثانيًا، باتت معدلات تغطية الأنظمة القائمة منخفضة للغاية، بغض النظر عن تنوع عروضها. تمتلك كولومبيا، على سبيل المثال، جميع فروع الحماية الاجتماعية، مع ذلك لا يستفيد من معاش تقاعد إلا نسبة 20٪ من سكانها المسنين (منظمة العمل الدولية، 2011). في الواقع، لا تحمي معظم الأنظمة القائمة إلا أقلية السكان الذين يمارسون (أو مارسوا) شغلاً منظماً، وعلى هذا النحو، يساهمون أو ساهموا في نظام تأمين اجتماعي و/أو يستفيدون من الالتزامات المفروضة على رب العمل. مع ذلك، إذا كان ما يفوق نسبة 85٪ من العمال في البلدان الغنية يمارسون شغلاً منظماً، تنخفض هذه النسبة إلى 50٪ في شمال إفريقيا، و40٪ في أمريكا اللاتينية و20٪ في جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء (منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، 2009 أ). تجاري معدلات التغطية والحالة هذه عن كثب معدلات إضفاء الطابع المنظم على سوق العمل: على هذا النحو لا يستفيد من معاشات الشيخوخة إلا نسبة 10٪ من السكان المسنين في أفريقيا جنوب الصحراء، وما يناهز نسبة 20٪ في البلدان المكتظة بالسكان في جنوب آسيا وجنوب شرقها، وما بين 30٪ و60٪ في أمريكا اللاتينية (منظمة العمل الدولية، 2011).
مع ذلك، ينبغي فهم هذه العلاقة بين التغطية ودرجة إضفاء الطابع المنظم على سوق الشغل من منظور نسبي. تضاعف عدد الأنظمة غير القائمة على المساهمة أو شبه القائمة على المساهمة التي تروم تغطية السكان العاجزين اقتصاديًا على الاشتراك في نظام من النمط ِالقائمِ على تقنيةِ التأمينِ في السنوات الأخيرة في القارات الجنوبية الثلاث. وبفعل استهدافها الفئات الأشد فقرا إلى هذا الحد أو ذاك، تتعلق في أغلب الأحيان بمعاشات التقاعد، والمساعدة الاجتماعية، خاصة في شكل برامج تحويلات نقدية مشروطة، والاستفادة من الرعاية الصحية مجاناً، أو بأسعار منخفضة. هكذا أتاح برنامج معاشات الشيخوخة Old Age Pension في جنوب إفريقيا تحقيق معدل تغطية الشيخوخة بنسبة تجاوزت 95٪، وهي تفوق بكثير نسبة 50٪ من السكان النشطين في سوق الشغل المنظم.
ثالثًا، يعكس عجز أنظمة الحماية الاجتماعية في الجنوب هشاشة الأنظمة القائمة. وبعبارات أخرى، لا يشكل عدد ذوي الحقوق نسبة قليلة جدا وحسب، بل يتعين أيضاً على هؤلاء الأخيرين بانتظام الاكتفاء بتعويضات غير كافية وخدمات رعاية صحية رديئة الجودة، عندما لا يحرمون ببساطة من منافع يستحقونها نظريًا. في بوليفيا، على سبيل المثال، لا يحصل على معاش التقاعد العام (le Bono Dignidad) فعلياً سوى ثلثي من هم في السن المطلوب، لكن يستمر أغلب المستفيدين في الاشتغال بسبب ضعف قيمته.
وكما رأينا، قد تكون الفوارق بين بلدان الجنوب في التغطية الاجتماعية دالة كما الفوارق بين الشمال والجنوب. وعند فحص حالات قصوى، يتضح أن مستويات الحماية التي يستفيد منها مواطنو بلدان المخروط الجنوبي في أمريكا اللاتينية (الأرجنتين وأوروغواي وتشيلي) أو البلدان المغاربية (الجزائر وتونس) هي في نواح كثر أقرب إلى مستويات أوروبا الشرقية وحتى الجنوبية من مستويات أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وجنوب آسيا، وحتى أمريكا الوسطى. وعلى النحو ذاته، في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أصبحت الفوارق بين بلدان جنوب أفريقيا (جنوب أفريقيا وبوتسوانا وزامبيا وناميبيا، إلخ)، حيث أصبحت أسواق الشغل ذات طابع منظم إلى حد كبير، وبقية القارة، فوارق كبيرة بشأن تغطية الشيخوخة أو المساعدة الاجتماعية أو الحماية من حوادث الشغل.
تطور أنظمة الحماية الاجتماعية
اعتمدت أولى عناصر دولة الرفاه تدريجياً أثناء عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته في البلدان الرائدة في أمريكا اللاتينية، وفي سنوات ما بعد الحرب في الفضاء الأفريقي-الآسيوي الذي كان قيد عملية إنهاء الاستعمار. إذا كانت الأنظمة المعتمدة متنوعة للغاية في شكلها المؤسسي والمخاطر التي تغطيها على حد سواء، إلا أنها مشتركة في بعض الخصائص الرئيسية. بادئ ذي بدء، نشأت هذه الأنظمة الاجتماعية في مجتمعات ذات تصنيع ضعيف (وحديث) جدًا، حيث لا تشمل حالة العمل المأجور إلا أقلية من السكان. ثم خضع تطورها لمنطق تنازلي. إنها ليست نتيجة هيكلة الحركات العمالية أو الشعبية والاقتراع العام، بل ناجمة عن مبادرة قادة استهدفوا تحديدا تعزيز سطوتهم على الجماهير الشعبية وتفادي تحررها السياسي.
في آخر المطاف، كانت الحلول المعتمدة مستوحاة مباشرة من دول الرفاه ذات نماذج بسماركية وبيفريدجيّة [4] تطورت في أوروبا. تعتبر الحماية الاجتماعية بالفعل بمثابة رمز حداثة لدى نخب مشبعة بفكرة اللحاق بالركب وحريصة على إعادة إنتاج مختلف جوانب التنمية الصناعية في بلدانها. تتميز الأنظمة المعتمدة بسمة هذه الإرادة القائم على التحديث: تأخذ شكل آليات التأمين الاجتماعي القائم على المساهمة التي تغطي الفئات «المتقدمة» ممثلة في أجراء الوظيفة العمومية وعالم الشغل، لكنها تهدف إلى تغطية فئات المجتمع الأخرى تدريجياً بقدر اندماجها في القطاع الحديث. تساهم منظمة العمل الدولية بنشاط في نشر نماذج التغطية الاجتماعية من النمط ِالقائمِ على تقنيةِ التأمينِ، من خلال سن المعايير، خاصة الاتفاقية 102 لعام 1952 بشأن الحماية الاجتماعية.
في أمريكا اللاتينية، ظهرت أنظمة الحماية الاجتماعية في إطار الأنظمة القومية الشعبوية المنخرطة بدرجات متفاوتة في تطبيق سياسات التصنيع عبر نهج سياسة إحلال الواردات. وفي البرازيل بقيادة جيتوليو فارجاس والأرجنتين بقيادة خوان بيرون بوجه خاص، كان هدف قوانين العمل والإصلاحات الاجتماعية استمالة عالم الشغل سياسيا على أساس نمط ذي طابع أبوي. «توسيع مجال الحماية الاجتماعية وفقًا للحاجة إلى إقامة تحالفات مع فئات “رئيسية” من الأجراء: في المقام الأول الوظيفة العمومية (العسكرية والمدنية)؛ وأجراء قطاع النقل (السكك الحديدية، وعمال المرافئ) ثم قطاع الطاقة؛ وقطاع عالم المال وقطاع المناجم، الخ. (لوتييه، 2006).
وبالتالي، فإن آليات التغطية الناتجة ذات طابع فئوي إلى حد كبير (كل فرع بصندوق تأمين، وإدارته تكاد تكون مكتفية ذاتيًا)، ومتسمة بالتشتت (قد يصل عدد هذه الصناديق إلى المئات)، وتعدد المستويات (تختلف المزايا بشكل كبير من قطاع إلى آخر حسب قدرته على الضغط السياسي) وأخيراً تقود للإقصاء، لأن الفئات التي لها أقل قدر من الموارد السياسية (الفلاحون، عمال القطاع الخاص، شغيلة المنازل، التجار) غير مستفيدة منها (ميسا لاغو، 1978). ورغم تفاوت حجمها من بلد إلى آخر، فإن البرامج التي طورتها السلطات العامة لتشمل المقصيين من الأنظمة القائمة على المساهمة ستكون غير كافية ومعتمدة إلى حد كبير على الظروف السياسية لبناء تغطية اجتماعية جديرة بهذا الاسم.
أحدث المستعمر في أفريقيا، أولى عناصر الحماية الاجتماعية تحت شكل صناديق الاحتياط التي تغطي مستخدمي الوظيفة العمومية. وسيجري الحفاظ على هذه البرامج ثم توسيعها لتشمل بعض فئات القطاع الخاص بعد عمليات الاستقلال – إذ ألقي بغالبية السكان العظمى، وخاصة خارج المدن، إلى آلياتها التقليدية للتضامن. هكذا فإذا كان النظام القائمِ على تقنيةِ التأمينِ سائداً في كل مكان، ستكون دول الرفاه ما بعد الاستعمار مستوحاة بقوة من النماذج الاجتماعية للبلدان الاستعمارية سابقاً، مع التركيز على مسؤوليات أرباب العمل إزاء حوادث الشغل وتكييف أنظمة قائمة على المساهمة مع مشاركة عمال القطاع غير المنظم في الجانب الناطق باللغة الإنجليزية وإدراج عناصر السياسة الأسرية في الجانب الناطق بالفرنسية. وسيخضع تخصيص موارد الحماية الاجتماعية عملياً لتسييس شديد للغاية بهدف محاباة أتباع.
تشبه بلدان شمال إفريقيا بلدان أمريكا الجنوبية أكثر مما تشبه جيرانها في جنوب الصحراء الكبرى من حيث مدى تغطية سكانها ودرجتها على حد سواء. أتاح لها ريع الموارد الاستخراجية بناء خدمات أساسية مجانية عموماً ودعم بعض المنتجات الأساسية، بينما استفاد شغيلة الوظيفة العمومية ومقاولات الدولة من تأمين اجتماعي يحميها من مجموعة مخاطر واسعة. وأصبحت فيها الحماية الاجتماعية أيضًا مطروحة في إطار اندماج العمال الاستبدادي في المشروع القومي للتصنيع.
شهدت الصين والهند مسارات خاصة. اعتمدت الأولى غداة إنشاء الجمهورية الشعبية نظاما حضريا قائماً على وحدات العمل التي يعين فيها العمال، وفي القرى على الخدمات الاجتماعية التي تقدمها البلديات. وحتى نهاية السبعينيات، استفاد جميع سكان الصين من حماية اجتماعية ذات حد أدنى، على الرغم من أن الهوة بين المدينة والقرية كان كبيرًا. أما الهند فستراهن بعد الاستقلال على إرساء أنظمة ذات طابع شامل تهم التعليم والصحة لتغطية الغالبية العظمى من السكان المقصيين من سوق الشغل المنظم. ورغم شمولية هذا الطموح، ظلت التغطية غير متساوية ومعتمدة إلى حد كبير على القدرة السياسية لاستمالة الفئات الاجتماعية (Gosh، 2002).
عمليات إعادة نظر نيوليبرالية
واجهت أنظمة الحماية الاجتماعية في البلدان النامية أشكال إعادة نظر بوثائر ودرجات مختلفة في حوالي سنوات الثمانينيات. يبدو أن أشكال المراجعة هذه حتمية في سياق الأزمات الاقتصادية المرتبطة بانهيار ريع الصادرات، مما أدى إلى انخفاض التشغيل وعدد المساهمين. لم يؤد تقليص حجم الإدارات وخصخصة المقاولات في إطار برامج التقويم الهيكلي لاستعادة التوازنات الماكرو اقتصادية الكبرى لإنعاش النمو وسداد الديون، سوى إلى مفاقمة الأمور بتحويل قسم جديد من السكان المستفيدين من الحماية (يؤدون الاشتراكات) إلى دائرة القطاع غير المنظم، دون خلق مصادر جديدة للتشغيل المنظم.
ومع ذلك، فإن هذه الصدمات الاقتصادية والمالية تعمل كذريعة وكأسباب موضوعية لتفكيك دول الرفاه. إن ملاحظة برونو لوتييه بشأن الأساسي من أسباب تفكيك أنظمة الحماية الاجتماعية في أمريكا اللاتينية صالحة إلى حد ما في بلدان القارات الأخرى: إنها في آخر المطاف أسباب سياسية وأيديولوجية. لم يصبح الحكام «مرغمين» على تقليص النفقات الاجتماعية وحسب، بل استغلوا أيضا الوضع الاقتصادي الجديد لتحقيق أهداف سياسية: «هدف “تهشيم” النقابات، خاصة عن طريق نزع ما يمثل أساس جزء مما تبقى من سلطتها: التدبير أو التدبير المشترك للحماية الاجتماعية؛ وهدف توسيع مجال عمل الرأسمالية المُؤَمْولة financiarisé المحلية من خلال تكليفها بإدارة معظم نظام الحماية الاجتماعية؛ وهدف تفكيك قانون الشغل من خلال مهاجمته على نحو غير مباشر بإصلاح قانون الحماية الاجتماعية» (لوتييه، 2012).
ساهم السياق الإيديولوجي الدولي المحافظ في سنوات الثمانينيات، الذي نقلته وكالات التنمية الكبرى إلى بلدان الجنوب، في دحر السياسات العامة الموجهة نحو التحويلات الاجتماعية ونزع طابع التسليع عن الخدمات. لن يوفر رفاهية مادية أكبر للجميع إلا حرية آليات الأسواق (خاصة التشغيل) وليس الحفاظ على أنظمة الحماية الاجتماعية المعتبرة بيروقراطية ومنحازة لمجموعات مصالح محظوظة. بقدر ما أن البلدان المثقلة بالديون التي تعاني عجزا ماليا لا تملك ببساطة الوسائل اللازمة للقيام بأعمال اجتماعية «غير مربحة». تهدف الإصلاحات المقترحة إلى تفكيك آليات التضامن أو الضغط عليها والاستعاضة عنها أو استكمالها بأشكال احتياط فردي من خلال صناديق التأمين الخاصة. على الفقراء في حالة الاعسار الاعتماد على القطاع الاحساني والتسويات غير المنظمة للحماية الاجتماعية (التضامن العائلي، وتضامن الجيران، إلخ).
إذا كان الاتجاه نحو وقف الاستثمار العمومي في الحماية الاجتماعية قائم في كل مكان، تظل الأشكال الملموسة من طرق الإصلاحات ونطاقها بالسياقات السياسية والوطنية. هذا ما توضحه فلافيا ماركو نافارو في هذا العدد من مجلة «بدائل الجنوب» حول إصلاحات أنظمة التقاعد في سنوات التسعينيات بأمريكا اللاتينية. كانت هذه الإصلاحات هيكلية تارة، عندما استعيض عن النظام القائم على التوزيع (بوليفيا، السلفادور، تشيلي، المكسيك) بنظام قائم على الرسملة الفردية، أو أصبح هذا الأخير تكميليا (الأرجنتين، أوروغواي، كوستاريكا) أو منافساً (كولومبيا، بيرو)، وطوراً غير هيكلي، لما شهدت الأنظمة القائمة على التوزيع تغييرات لتوسيع التغطية مع تقليص أشكال العجز أو إزالتها (البرازيل، فنزويلا، نيكاراغوا).
مع ذلك، أدت وحشية التأثيرات الاجتماعية المترتبة على التقويمات الهيكلية، إلى اجبار البنك العالمي عام 1990 على إعادة ادراج الشأن الاجتماعي في توصياته، في إطار شكل نفعي وذي حد أدنى من أشكال «شبكات الحماية الاجتماعية» (social safety nets). تتخذ هذه الشبكات أشكالًا مختلفة (برامج التوظيفات العمومية، ودعم المواد الغذائية، التحويلات النقدية)، لكنها تخضع لصرامة حساب التكلفة والربح واستهداف دقيق لتحديد «الفقراء الحقيقين» (truly poors)، يعني «الأشخاص العاجزون دوماً عن المشاركة في النمو (كبار السن، عاجزين)» والأشخاص «المعرضون مؤقتا للخطر عندما تسوء الأمور» (البنك الدولي، 1990).
إعادة الاهتمام والتعبئة الدولية
عادت فكرة الحماية الاجتماعية تدريجياً إلى جدول أعمال التنمية في نهاية سنوات التسعينيات عبر «استراتيجيات الحد من الفقر» التي شهدت رواجاً في إطار مبادرات تخفيف عبء الديون الخارجية ثم «الأهداف الإنمائية للألفية» (OMD). تشير هذه العودة إلى تراجع التصورات النيوليبرالية الأكثر تشددًا للتنمية وتعبر عن عجز المبادرات التي تستهدف بالفعل حماية جماهير الخاسرين من عملية اللبرلة. مع ذلك، يعتبر فقر هذه الجماهير، منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، التربة الخصبة لتهديدات جديدة لأمن البلدان الغنية. نجم هذا التغيير أيضًا عن تحول المنظور داخل وكالات التنمية الدولية، التي اكتشفت (من جديد) المزايا المثمرة للحماية الاجتماعية، التي طالما كان النظر إليها من زاوية تكلفتها المالية.
استفاد هكذا رد الاعتبار النظري للحماية الاجتماعية من ملاءمة جيل جديد من برامج الحماية الاجتماعية غير قائمة على المساهمة (وبالتالي ممولة من الضرائب). نشأت الحركة في أمريكا اللاتينية واكتسبت زخمًا بعد المنعطف السياسي التقدمي في المنطقة، على الرغم من عدم اقتصار الاتجاه على البلدان التي انتقلت إلى اليسار. تتكون البرامج المعنية غير القائمة على المساهمة أساسًا من ثلاثة أنواع: برامج التحويلات النقدية، والمعاشات الاجتماعية، واستفادة أشد الناس فقرا من الرعاية الصحية.
شهدت برامج التحويل النقدي المشروط من نوع المنحة العائلية Bolsa Família في البرازيل (2003) أو تقدم Progresa في المكسيك (1997) بوجه خاص رواجاً دولياً كبيرا. ابتعدت عن فلسفة الاستهداف بواسطة التوجه إلى جميع الأسر ذات دخل أقل من سقف معين («بشرطِ توافرِ المواردِ»)، ومنحها إعانة طويلة الأمد بشرط احترامها جملة التزامات في مجال الصحة والتعليم. في عام 2011، طبقت هذه البرامج في أحد عشر بلدا في أمريكا اللاتينية وشملت 135 مليون مستفيد (ستامينا وتونارولي، 2012). كما اكتسبت برامج التحويلات الاجتماعية لأشد الناس فقراً تقدماً في آسيا وأفريقيا، خاصة في البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى. تختلف كيفيات وشروط الاستفادة. أطلقت الهند، على سبيل المثال، في عام 2005 برنامجًا ضخمًا للتوظيف العمومي -المخطط الوطني الهندي لضمان التشغيل في القرى- يضمن قانونياً لكل أسرة قروية مائة يوم عمل سنويًا في أوراش البنيات التحتية، بالحد الأدنى للأجور في المنطقة. استفادت منه أربعون مليون أسرة عام 2010 (منظمة العمل الدولية، 2011).
كما ازداد حجم أنظمة التقاعد غير القائمة على المساهمة في بلدان عديدة. كانت تارة ذات طابع شامل، وطورا خاضعة «لشرط توافرِ المواردِ». يضمن برنامج “الاستفادة من الاعانة الدائمة” Beneficio de Prestação Continuo البرازيلي، الأقل شهرة من المنحة العائلية Bolsa Família، استفادة 3.7 مليون مصاب بعاهة و/أو مسن دخلهم أقل من مبلغ معين، من اعانة أعلى بكثير، مرتبطة بالحد الأدنى للأجور. بالإضافة إلى ذلك، أحدثت بلدان عديدة من الجنوب الأفريقي (جنوب إفريقيا وناميبيا وليسوتو) أنظمة تقاعد غير قائمة على المساهمة أتاحت لها تحقيق معدلات تغطية تفوق نسبة 80٪.
شهدت الفئة الثالثة من النظام غير القائم على المساهمة طفرة كبيرة: برامج توسيع استفادة السكان الفقراء من الرعاية الصحية. تتخذ هذه الأخيرة أشكالاً عديدة: تغطية صحية غير قائمة على المساهمة مخصصة للأشخاص المحتاجين ومرتبطة بسلة علاجات مضمونة، وتغطية شبه قائمة على المساهمة ممولة بشكل مشترك من المساهمات الاجتماعية والإعانات الحكومية، وشبكة عامة من مراكز صحية في متناول أشد الناس فقراً أو جميع السكان، وأنظمة تأمين صحي ذات طابع محلي. في تايلاند، أتاح إنشاء نظام رعاية صحية ذي طابع شامل وغير قائم على المساهمة في أعقاب الأزمة المالية سنة 1997-1998 (ضدا على نصيحة الخبراء الأجانب)، تحقيق معدل تغطية يفوق 98٪ في غضون بضع سنوات.
تعدت إعادة الاهتمام بالحماية الاجتماعية مستوى جديدا في أعقاب أزمة عام 2008 الاقتصادية والمالية وعواقبها. أصبحت والحالة هذه بلدان ناشئة عديدة، ضمنها الصين والبرازيل، ترى في توسيع نطاق تغطيتها الاجتماعية استراتيجيةً تتيحُ الحد من التكاليف الاجتماعية للتباطؤ الاقتصادي وتخفيف حدة هذا الأخير بواسطة إنعاش الطلب. إنها أيضًا مسألة تخفيف حدة التوترات الاجتماعية المرتبطة اطرادا بتفاقم انعدام المساوات أثناء سنوات النمو القوي. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن تفاقم أوجه انعدام المساواة باتت (في آخر المطاف) مثار انشغالات قادة الوكالات الكبيرة، التي «اكتشفت» أن الفروقات الكبيرة للغاية في الثروة غير جيدة لا للتماسك الاجتماعي ولا حتى للنمو (منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، 2011).
اعتمدت منظمة العمل الدولية، في حزيران/يونيو عام 2012، التوصية رقم 202 بشأن «الأرضيات الوطنية للحماية الاجتماعية» التي تروم عمل كل بلد على ضمان العناصر الأساسية للحماية الاجتماعية، أي الاستفادة من الرعاية الصحية الأساسية وضمان الدخل، لسكانه برمتهم. وفي الوقت نفسه، أدى الفشل المبرمج لمعظم الأهداف الإنمائية للألفية OMD إلى عمل الوكالات الدولية والوطنية وغير الحكومية الرئيسية، بإجماع كاسح، على وضع الحماية الاجتماعية في صميم استراتيجياتها القائمة على التعاون الإنمائي. تأكد، بإجماع واسع، في إطار الأعمال التحضيرية لمؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، على أن توسيعَ أرضية الحماية الاجتماعية في أفقر البلدان عنصرٌ رئيسيٌ في أجندة ما بعد عام 2015. انتقلت الحماية الاجتماعية، داخل تيار الفكر السائد، في خمسة وعشرين عامًا، من حالة الكبح إلى كونها حجر ناصية التنمية.
حماية بسرعتين واستشراء التسليع
يمثل الشغف الدولي الجديد بالحماية الاجتماعية نتيجة منعطفين داخل مجتمع التنمية: منعطف «اجتماعي»، بدأ في أوائل سنوات التسعينيات، يرفع الرفاهية الاجتماعية إلى مرتبة معيار رئيسي-إلى جانب الفعالية الاقتصادية والاستدامة البيئية والعمل الديمقراطي- لتقييم استراتيجيات التنمية؛ وتحول «عام» يلقي من جديد على الدولة مسؤولية هامة في التكفل بالمخاطر الاجتماعية- جنبًا إلى جنب مع السوق والمجتمع (مجلة بدائل الجنوب، 2009-2). إذا حظيت إعادة التوجيه المزدوجة هذه بترحيب، فإن الإجماع الجديد تشوبه أوجه التباس عديدة.
بادئ ذي بدء، على غرار «برامج عمل دولية» أخرى (ميريين، 2013)، يعتمد زخم الحماية الاجتماعية على الاحتفاء ببعض التجارب الوطنية «المُجَدِّدة» – برامج التحويلات النقدية الجديدة والمعاشات الاجتماعية- التي يتم تضخيم أهميتها الاجتماعية. والحال أن الاسهامات التي يحتويها هذا العدد من مجلة «بدائل الجنوب» تبين أن أكثر برامج التحويل غير القائمة على المساهمة التي حظيت بالثناء، غير مرادفة لإضفاء طابع الشمولية على الحقوق الاجتماعية ولا حاسمة بالضرورة للحد من أوجه انعدام المساواة، إن تمكنت من الوصول إلى شرائح السكان المقصيين سابقًا من الأنظمة القائمة على المساهمة.
بعد ما يناهز عشرين عامًا من تنفيذ برامج التحويلات النقدية في أمريكا اللاتينية، أشارت كلوديا روبلس، إلى «استمرار الانقسامات التراتبية في أكثر مناطق العالم تفاوتاً»، على الرغم من انخفاض مستويات الفقر في جميع البلدان. تمثل البرازيل البلد الوحيد بالمنطقة الذي شهد انخفاض مستوى انعدام المساواة صراحة. لكن، إذا نجمت عن برنامج المنحة العائلية Bols Família، تأثيرات إيجابية عديدة على حياة المستفيدين، إلا أن مساهمته في تقليص تركز الثروة أقل بكثير مقارنة مع تحولات سوق العمل في ظل الرئيسين لولا وروسيف – تقليص حجم البطالة وزيادة درجة إضفاء الطابع المنظم على الشغل (انتقل من 45٪ إلى 60٪) وعمليات زيادة الحد الأدنى للأجور.
والأمر الأكثر إرباكاً أن إحداث البرامج غير القائمة على المساهمة له تأثير محتمل على اقرار نموذج حماية اجتماعية ذي طابع ثنائي، حيث يستفيد المواطنون من ناحية من تغطية اجتماعية جيدة بسبب وضعهم كعاملين في قطاع منظم مشارك في نظام قائم على المساهمة/أو دخلهم المنتظم الذي يتيح المساهمة في أنظمة تقاعد أو أنظمة تأمين صحي خاصة، ومن ناحية أخرى يتعين على عمال القطاع غير المنظم الاكتفاء بنظام رعاية صحية عام رديء الجودة وإعانات ضئيلة لا تتيح لهم بلوغ مستوى معيشي لائق. ويزداد هذا المنظور إثارة للقلق مع استمرار ارتفاع نسبة التشغيل غير المنظم في أمريكا اللاتينية، على الرغم من تزايد الدخل الفردي (كولومبيه، 2013).
وثمة انحراف آخر محتمل، حيث يعتقد جياتي جوش أن من شأن برامج التحويل النقدي – «أحدث نمط في صناعة التنمية» – أن تؤدي إلى نتائج عكسية في بلد مثل الهند، حيث الاتجاه إلى اعتبارها بديل جملة سلع وخدمات تقدمها السلطات العامة وليس مكملا لها، نظرا إلى محدودية الموارد المالية لهذه الأخيرة. وبالتالي، يلزم تفادي الخطاب «الدائر في بلدان كُثر»، حول «تشجيع الحكومات على تحويل الأموال إلى الفقراء كي يستفيدوا من السلع والخدمات التي يعرضها السوق بدل النضال من أجل تنفيذ سياسات عامة».
ثمة سيناريو، شبيه لما هو عليه الحال بأي مكان أخر، تجسد في جنوب إفريقيا، كما يشير باتريك بوند، حيث يسير وجود برامج اجتماعية من هذا النوع اجمالا (معاش الشيخوخة Old Age Pension، منحة الإعاقة Disability Grant، دعم الطفل الكبيرChild Support Grand) جنبًا إلى جنب مع تقديم القطاع الخاص خدمات أساسية (الماء والكهرباء)، يزداد سعرها بصورة كبيرة عندما يتجاوز استهلاكها عتبة معينة. يرى بوند وآخرون، أن اعتبار «فقراء جنوب إفريقيا المعتمدين على الحماية الاجتماعية سوقا أسيرة للمقاولات الساعية للربح» أحدُ مظاهرِ الفلسفة النيوليبرالية التي تقوم عليها الحماية الاجتماعية في جنوب إفريقيا. وينص هذا الأخير في صيغته الرسمية لعام 1997، على منح المواطن في المقام الأول «فرصة الاضطلاع بدور فعال في النهوض برفاهه».
الحماية الاجتماعية بين النيوليبرالية والتغيير الاجتماعي
إن اتخاذ الخبراء الدوليين منهجيا برامج جنوب إفريقيا مرجعاً رغم أبعادها التجارية وعجزها على منع تفاقم نسبة البطالة وأوجه انعدام المساواة، التي تصل في البلد إلى أرقام قياسية عالمية، ليس أمراً عاديا. تقوم الحماية الاجتماعية على مجموعة تدابير مصاحبة لإصلاحات السوق اللازمة للتنمية، بالنسبة لقطب هام من مجتمع التنمية بقيادة البنك العالمي. من ناحية أخرى، تعتبر الحماية الاجتماعية بما هي وسيلة لزيادة الرأسمال البشري للفقراء – حتى يتمكنوا من كسب دخل من التنمية والاسهام فيها عبر إنتاجيتهم وقدرتهم على الوفاء بالالتزامات المالية [الملاءة] [5]-، ومن ناحية أخرى، كمجموعة خيارات تهدف إلى تحسين قدرة الأسر على مقاومة كل أنواع المخاطر. من بين هذه الخيارات، لا تضطلع التدخلات العامة، بما في ذلك برامج التحويلات النقدية، سوى بدور ثانوي مقارنة بالاستراتيجيات الأسرية أو المعتمدة على السوق (التأمينات الخاصة) ومن اللازم دوماً استهداف أشد الناس فقراً لمساعدتهم على التعافي بسرعة من الصدمات، حتى يتمكنوا مرة أخرى من الاستثمار مستقبلاً.
وباختصار، تتميز الحماية الاجتماعية كما يتصورها البنك العالمي أو منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، وأيضاً إلى حد كبير وكالات المساعدة الوطنية الكبرى (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، وزارة التنمية الدولية DFID، الوكالة الفرنسية للتنمية AFD، الوكالة الألمانية للتعاون التقني GTZ، إلخ) بطابع وظيفي مقارنة بالإصلاحات النيوليبرالية (التي ترى ضرورة استمرارها)، من حيث مساعدتها على التخفيف من حدة الصدمات الاجتماعية الحتمية في الاقتصادات المندمجة في الأسواق العالمية المتقلبة، وتهيئ الفقراء لاغتنام الفرص التي تتيحها لبرلة الاستثمارات واضفاء طابع المرونة على سوق الشغل، والاحلال مكان أشكال التدخلات العامة (دعم المواد الغذائية، دعم السكن) المعتبرة مكلفة وغير فعالة، وخلق أسواق جديدة للمقاولات الخاصة!
إذا كانت الأطراف المعنية بالنقاش الدائر حول «الحماية الاجتماعية والتنمية» -منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية، والمديرية العامة للتنمية التابعة للمفوضية الأوروبية- غير منسجمة مع البنك العالمي، خاصة من حيث تفكيرها في أنظمة حماية ذي طابع أكثر شموليةً وذات تغطية أوسع ومنحها مساحة أكبر لأفكار التماسك الاجتماعي وحقوق الإنسان، تعتقد فرانسين ميستروم أن الدودة النيوليبرالية توجد في ثمرة جميع المؤسسات الدولية، باستثناء اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي CEPAL. «لم تعد المواطنة والشمولية والتضامن […] أموراً مطروحة. إنها تختفي، في الرؤية النيوليبرالية، من النقاشات والممارسات كل هذه المفاهيم وكذلك وقف التشغيل وتأمين الدخل وإعادة التوزيع. وتعوضها مفاهيم أخرى في كل مكان: الفعالية والتكلفة والنمو والهشاشة.
على عكس هذا التصور الأدواتي والاقتصادوي للحماية الاجتماعية، تروج مجموعة نقابات ومنظمات اجتماعية وشبكات مراكز البحث فكرة حماية اجتماعية «ذات طابع مُحوِّل»، أي لا تتيح للأفراد الانتشال من براثن الفقر وحسب، ولكنها تحول أيضًا البنية القائمة على انعدام المساواة للمجتمعات عبر إعادة توزيع الدخل والسلطة. وكما تشير كلوديا روبلز في تفكيرها حول النقاش الجاري بأمريكا اللاتينية، «يلزم تجاوز حدود الحق في الاستفادة من سياسات الحماية التي تغطي المخاطر والحاجات الأساسية، لتحديد نفس محتوى هذه السياسات والضمانات في إطار منظور مشروع المساواة».
تقوم الحماية الاجتماعية ذات الطابع المحوِّل على تصور مفهوم دينامي للمواطنة الاجتماعية، من ناحية بصفتها مشروع تحقيق إضفاء طابع شمولي على الحقوق الاجتماعية- ضمان وصول استفادة الجميع من مصادر دخل بديلة لائقة وخدمات اجتماعية جيدة تتيح تحقيق حياة كريمة بالفعل-، ومن ناحية بصفتها عامل حد من التفاوتات الاجتماعية الشاملة. حماية اجتماعية تقتضي حصر أنظمة التأمين الفردي ثم تقليصها وتنظيم آليات التضامن بين الأنظمة القائمة على المساهمة وغير القائمة عليها [6]، بحيث تتوافق الخدمات التي تمنحها هذه الأخيرة من حيث الجودة والكمية مع ما تقدمه الأولى. كما تتطلب أيضاً زيادة مستويات التحويلات الاجتماعية من أجل القيام على نحو كامل بدورها القائم على إعادة التوزيع. في آخر المطاف، يجب أن تكون مرتبطًة -وليس كبديل- بسياسات ذات طابع إرادوي لخلق فرص الشغل، وتعزيز قانون الشغل، والإصلاح الزراعي، وضرائب تصاعدية، وإتاحة خدمات عامة، وجميع السياسات التي تعالج، في نهاية المطاف، أسباب الفقر البنيوية.
تصدير الحماية الاجتماعية؟
بغض النظر عن الاختلافات المبدئية، يتقاسم، والحالة هذه، مجموعة هامة من الفاعلين الدوليين هدف توسيع الحماية الاجتماعية في البلدان ضعيفة التغطية أو حيث هي معدومة. بوجه حجم المهام، يميل الفاعلون السائدون في هذه الحملة الدولية الجديدة (البنك العالمي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، والمفوضية الأوروبية) بشدة إلى تسليط الضوء على المشاكل التي يعتقدون أنهم متحكمون بها، أي مسائل الموارد المالية والقدرات التقنية المعنية بالتنفيذ. على هذا النحو، تعتبر لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين أن «بوسع الجهات المانحة الاضطلاع بدور حاسم في دعم المبادرات الوطنية في مجال الحماية الاجتماعية، وخاصة من خلال تعزيز قدرات واسهامات مالية ممكنة التوقع» (منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، 2009 ب).
مع ذلك، إذا كانت مسائل التمويل والهندسة المؤسسية تكتسي أهمية في إنشاء آليات فعالة للحماية اجتماعية، فإنها ثانوية بالنسبة لأهمية وجود إرادة سياسية قوية، بدعم تحالف فاعلين سياسيين واجتماعيين (باريونتوس، 2013). في البرازيل أو الشيلي أو كولومبيا أو جنوب إفريقيا، تحقق البرامج الجديدة (إلى حد ما) تسويات اجتماعية كبرى منصوص عليها في الدساتير الجديدة لما بعد الديكتاتوريات (أو ما بعد التناحر) والناتجة عن نقاشات وطنية طويلة الأمد. تمثل في الأرجنتين وفنزويلا والإكوادور بُعدًا رئيساً لأنظمة بنت شرعيتها على أساس قطيعة مع النيوليبرالية. وعلى العكس من ذلك، تعاني أغلبية تجارب التحويلات النقدية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء من عجز في المأسسة: حدثت هذه التجارب بحفز المانحين ونطاقها محدود (ميريين، 2013).
لكن التعاون الدولي واع منذ مطلع الألفية، على أن «الالتزام السياسي» لصناع القرار في البلدان المستفيدة مفتاح استدامة الإصلاحات والبرامج التي يمولها. مع ذلك، فإن مقاربة مشكلة «امتلاك» برامج الحماية الاجتماعية يعيد إنتاج انحرافات الماضي: تسعى الجهات المانحة جاهدة إلى اثارة إرادة سياسية من الخارج منفصلة إلى حد كبير عن الحقائق الاجتماعية الداخلية، لصالح حلول يأملون أن تحدث تأثيرا كبيرا (ويتفيلد، 2009). علاوة على ذلك، لم تتغير طريقة العمل: لا تكمن المسألة في البدء مما هو قائم، من تحليل مكثف لحدود السياسات المطبقة سابقاً في كل سياق، بقدر ما في استلهام ممارسات أسفرت عن نتائج جيدة في أماكن أخرى عبر تقاسم الخبرة sharing واستخلاص الدروس lesson drawing. مع ذلك، تمثل التجارب «النموذجية» اليوم، مثل المنحة العائلية Bolsa Família، وهي بالذات نتيجة سيرورة تجريبية معقدة، من خلال انجاز بحوث وارتكاب أخطاء، على مدى سنوات عديدة (دي سوزا، 2010).
من السذاجة اجتماعيًا الاعتقاد بإمكانية تسريع سيرورات النضج الاجتماعي والسياسي والتعلم المؤسسي بواسطة النزعة الارادية للجهات المانحة التي تبنت مؤخرًا فكرة الحماية الاجتماعية. قد يبدو حتى أن هذه الدينامية الفاضلة ظاهرياً، تحقق نتائج عكسية، من حيث حرص الجهات المانحة على اقتراح نموذجـ«ها» الذي يميل إلى تهميش أصوات المنظمات الشعبية المحلية (أو الاستعانة بها كوسيط لتنفيذ أجندتها الخاصة)، وتجاوز النقاشات السياسية الوطنية وتعجيل سيرورات التعلم التي تستغرق وقتًا طويلاً حتماً. يؤدي هذا حتماً إلى سياسات بدون قاعدة اجتماعية محلية وخاضعة لجميع أنواع الاستغلال المغرض. إذا كان خلق مناخ أيديولوجي دولي (طبعا ملتبس) ملائم لتوسيع الحماية الاجتماعية معطى هاماً، فلا يمكن أن يحل حتما مكان بناء الإجماع الوطني، بشكل بطيء وغير قابل للبرمجة، قصد إعادة توزيع الحقوق الاجتماعية وتوسيع نطاقها.
ترجمة المناضل-ة
*************
إحالات
[1] عالم اجتماع، مكلف بالبحث في مركز القارات الثالث CETRI (لوفان لانوف) [2] سنستخدم مفاهيم الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي على قدم المساواة، على الرغم من أن التعبير الأول قد ينضوي على معنى أوسع من الثاني، من حيث أنه يمكن أن يشمل آليات حماية غير منظمة أو مجتمعية. تماشياً مع منظمة العمل الدولية، سنأخذ في الاعتبار في هذه الافتتاحية أن الضمان الاجتماعي يشير إلى الآليات العامة التي تضمن «تأمين دخل» و «الاستفادة من رعاية صحية». وبالتالي لا يشمل السياسات الاجتماعية الأخرى (التعليم والسكن) أو قانون الشغل. يعطي بعض مؤلفي هذا العمل معنى أوسع لمفهوم الحماية الاجتماعية. [3] تصنف اتفاقيةُ منظمةِ العمل الدوليةِ تأمين الضمان الاجتماعي عن الأخطار إلى تسعة فروعٍ رئيسيةِ: علاجات طبية، وتعويضات المرض، وتعويضات البطالة، ومعاشات الشيخوخة، وتعويضات حوادث الشغل، وتعويضات عائلية، وتعويضات الأمومة، وتعويضات العجز، وتعويضات ذوي حقوق المستفيد والمساعدة الاجتماعية. [4] تميز الأدبيات حول دول الرفاه الأوربية بشكل كلاسيكي بين أنظمة بسماركية، حيث يسود مبدأ التأمين المرتبط بالعمل والممول بالمساهمات، وأنظمة بيفريدجيّة، القائمة على فكرة التضامن الوطني والممولة من الضرائب. تجمع كل دولة أوربية بين عناصر نظامين اثنين ولكن غالبا ما تستوحي أحدهما. [5] يتساءل المرء بانتظام، عند قراءة وثائق البنك العالمي أو لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، هل الهدف النهائي هو الحد من الفقر أو النمو؟: «زيادة متوسط العمر المتوقع بنسبة 10٪ يضيف 0.3 إلى 0.4 نقطة مئوية إلى معدلات النمو السنوية من نصيب الفرد من الدخل “(منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، 2009 ب). [6] لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، راجع تجارب الأنظمة المختلطة في أمريكا اللاتينية التي تمت مناقشتها في هذا العدد من مجلة بدائل الجنوب بقلم فلافيا ماركو نافارو.مراجع
Bibliographie
Alternatives Sud (2009), «Retour de l’État. Pour quelles politiques sociales?», vol. XVI,
2009/2, CETRI/Syllepse, Louvain-la-Neuve/Paris.
BAD (2013), The Social Protection Index : Assessing Results for Asia and The Pacific,
Mandaluyong City, Philippines, Banque asiatique de développement.
Banque mondiale (1990), World Development Report 1990: Poverty, Washington DC,
Banque mondiale.
Barrientos A. et al. (2013), «“Growing” social protection in developing countries : lessons
from Brazil and South Africa», Development Southern Africa, 30 (1).
Collombet C. (2013), «La protection sociale en Amérique latine: Analyser les enjeux et
identifier les axes de coopération pour la France», Document de travail n° 2013-03,
Commissariat général à la stratégie et à la prospective.
De Souza A. (2010), Idées, institutions et intérêts dans le changement de la protection
sociale: les politiques de transfert de revenu au Brésil, thèse de doctorat, Université
de Montréal.
Gosh J. (2002), «Social policies in Indian development», rapport préparé dans le cadre
du programme «Social Policy and Development» de l’Unrisd, novembre.
Lautier B. (2006), «Le difficile cheminement vers l’universalisation de la protection sociale
en Amérique latine», communication au colloque «État et régulation sociale», CES/
Matisse, 11-13 septembre 2006.
Merrien F.-X. (2013), «La protection sociale comme politique de développement: un nouveau programme d’action international», Revue internationale de politique de développement, 5.1.
Mesa-Lago C. (1978), Social Security in Latin America: Pressure Groups, Stratification
and Inequality, Pittsburgh, University of Pittsburgh Press.
OCDE (2011), Divided We Stand: Why Inequality Keeps Rising, publication de l’OCDE.
OCDE (2009a), «L’emploi informel dans les pays en développement, une normalité indépassable?», Synthèses, OCDE, mars.
OCDE (2009b), Note d’orientation: La protection sociale, Paris, OCDE.
OIT (2011), «World Social Security Report 2010/2011/ Providing Coverage in times of
Crisis and Beyond», Genève, Organisation internationale du travail,.
OIT (2010), «Extending social security to all: A guide through challenges and options»,
Genève, Organisation internationale du travail.
Stampini M. et Tornarolli (2012), The Growth of Conditionnal Cash Transfers in Latin
America and the Carribean: Did they go too far?, Policy Brief, Inter-American
Development Bank, novembre.
Union européenne (2013), « L’Union européenne28 a consacré 29,1% du PIB à la protection sociale en 2011 », communiqué de presse, eurostat.
Whitfield L. (2009), The Politics of Aid: African Strategies for Dealing with Donors, Oxford
University Press.
اقرأ أيضا