تجارب لجان المقاومة والحراك الثوري السوداني
بقلم: مزن النيل
التغطية الإعلامية للثورة السودانية هذه الأيام في القنوات الأخبار الإقليمية وكبريات الصحف تكثر فيها عبارات على شاكلة “انسداد الأفق”، و”استحالة الحلول”، و”الأزمة السياسية”، وفي ذلك تعبيرٌ عن رؤية الأحداث في السودان من وجهة نظر الأنظمة الحاكمة والنخب. فالطبقة الحاكمة السودانية متمثلةً في قيادة الجيش من جهة والأحزاب البرجوازية الإصلاحية -على أفضل تقدير- والمتواطئة مع أجهزة القمع وحلفائهم الداخليين والخارجيين، جميعهم في حيرة من أمرهم ويواجهون وضعًا جديدًا لا يفسح المجال لأدواتهم ومناوراتهم المعتادة.
بعد ما يفوق الأربعة أشهر من انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، لم تتمكن قيادة الانقلاب من تشكيل حكومة أو إيقاف التظاهرات المستمرة في الشوارع السودانية، وفشل الاتفاق الذي وقعته مع رئيس الوزراء المُنقَلَب عليه -والمنضم لاحقا للانقلاب- في أن يكون له أي أثر على حراك الشارع، فيما عدا ظهور هتاف “استقال ولا ما استقال، الجدول شغال”، إشارةً إلى جدول التظاهرات الصادر عن تنسيقيات لجان المقاومة بالأحياء.
وبينما تقرأ الأنظمة الشمولية هذا الوضع على أنه أزمة، إلا أن قراءة الشعوب الباحثة عن التحرر تختلف. من منظور الشعوب يشهد السودان انفراجةً غير مسبوقة في الأفق الثوري ودرجةً عالية من التنظيم تدعم استمرار التظاهر، بل وتطور أشكال المقاومة والتنظيم، ومناحيهم وأهدافهم. ويأتي كل ذلك كنتيجة طبيعية للأحداث التي صقلت الحراك الثوري منذ العام 2018 لتنتج لنا مهرجانًا ثوريًا بطله شعبٌ يتنظم دفاعًا عن حقه في الحياة.
لجان المقاومة.. النشأة والتكوين
تنتظم التظاهرات في مدن السودان وقراه تبعًا لجداول وتواريخ ومسارات معلنة من قبل لجان المقاومة بالأحياء. تشكلت لجان المقاومة في موجة ديسمبر 2018 الثورية في السودان بهدف تنظيم التظاهرات بشكل غير مركزي، ولجنة المقاومة عبارة عن تنظيم من سكان الحي الواحد الملتزمين بالعمل على إسقاط نظام البشير حينها.
كانت الفكرة قد ظهرت في احتجاجات 2013 بشكل محدود لا يمكن مقارنته بانتشارها في بدايات 2019، حيث كانت الحوجة لتنظيم التظاهرات المتزامنة بشكل غير مركزي عاجلة وملحة لتشتيت قمع النظام وقواته. فتكونت اللجان بعدد كبير من الأحياء عبر ولايات السودان بعضوية في معظمها من صغار السن تحت العشرين، وقاموا بتنظيم المواكب داخل الأحياء، وتوزيع مهام مراقبة قوات الحكومة، وتجهيز العيادات الميدانية، وتحديد مسارات المواكب والدفاع عنه، وتنظيم اعتصامات الأحياء والندوات السياسية، وغيره مما ابتُكِرَت من أساليب المقاومة.
ظهرت وتكاثرت الصفحات الرسمية للجان على فيسبوك، فكان الناس يتابعونها لمعرفة المسارات وقراءة أخبار المواكب والإصابات وغير ذلك من أخبار المقاومة منذ ديسمبر وما تلاه من أشهر التظاهر. اكتسبت شعبيةً وشرعيةً من اتصالها المباشر بالأحياء ومن دعمها المبذول للثورة. واستمرت لجان المقاومة في الأحياء في تنظيم المقاومة بمناطقها الجغرافية حتى أبريل 2019 وقيام “اعتصامات القيادة” حول مقار القوات المسلحة في 14 مدينة سودانية، كان أكبرها اعتصام القيادة العامة بالخرطوم، حيث أضافت اللجان لمهامها مهام حماية ودعم الاعتصام وتسيير المواكب اليه.
جاء التغيير الثاني في مهام اللجان بعد مجزرة 3 يونيو 2019، حين هاجمت القوات الحكومية الاعتصامات بشكل متزامن وقتلت واغتصبت، بل وأغرقت، المئات في يوم واحد. تبع المجزرة ما يفوق الشهر من انتشار عنف القوات الحكومية في الشوارع والقطع الكامل لخدمات الإنترنت في عموم البلاد. ورغم أن حكومة المجلس العسكري كانت تهدف من كل هذا العنف إلى وأد المقاومة وتركيعها، دفع ذلك باللجان نحو تعميق نشاطها على الأرض والتشبيك فيما بينها لمواصلة المقاومة وتنظيم العصيان المدني وحماية الأهالي وتوفير احتياجاتهم. أعلنت لجان المقاومة عن مليونية 30 يونيو ضد الحكم العسكري، بعد أقل من شهر من مجزرة فض اعتصامات القيادة، وتجاوزت انقطاع الإنترنت بالكتابة في الجدران، وتوزيع المنشورات، وإقامة المخاطبات في الأسواق، والرسائل النصية، وغير ذلك من الطرق المبتكرة، فكان 30 يونيو تتويجًا لذلك، حيث خرج ملايين المتظاهرين في مختلف مدن السودان يهتفون “مدنية” رفضًا للحكم العسكري.
على عكس صمود المقاومة، كان تخاذل القيادة السياسية، فتبعوا مليونية 30 يونيو 2019 بالموافقة على التفاوض مع اللجنة العسكرية لينتجوا وثيقةً معيبةً تنص على شراكةٍ في الحكم بين القيادة السياسية للمعارضة في 2018 والمجلس العسكري. بذلت القيادة السياسية، كما بذل مناصروها، المبررات والجهد والزمن لإقناع السودانيين والمنخرطين في التظاهر بشكلٍ خاص بإمكانية تحقيق الحرية والسلام والعدالة -شعارات الثورة السودانية- من خلال هذه الشراكة تحت مبررات “هذه هي السياسة” وأنه لابد من المساومة مع العسكر، وصوروا ذلك باعتباره انتصارًا، بينما لم تنتصر الثورة السودانية حينها بل ارتدت.
تحولاتٌ سياسية
في ظل هذا التغيير الكبير في الوضع السياسي، مرت اللجان باختباراتٍ وتجارب عملت من خلالها على استكشاف الواقع السياسي الجديد والتفكير في وضعها فيه. كان الوضع الغالب في بداية الفترة الانتقالية هو تصوير اللجان كدرع حماية للحكومة النصف مدنية، وهي الرواية التي قدمتها القيادة السياسية بأن الحفاظ على الشراكة من احتمالات انقلاب العسكر هو مهمة لجان المقاومة.
وضع ذلك لجان المقاومة في موقفٍ دقيق بين الدفع بأهداف الثورة وموازنة العلاقة مع الحكومة النصف مدنية خوفًا من استخدام أي معارضة لها كذريعة لانقلاب عسكري. تخلل هذه العلاقة الدقيقة عدة صدامات، منها المواكب التي سيرتها لجان مقاومة تلودي (في ولاية جنوب كردفان) بعد أقل من شهرين من تعيين الحكومة الانتقالية رفضًا لاستمرار التعدين الضار في أراضيها بواسطة شركات مملوكة للمليشيات الرسمية والأجهزة الأمنية للدولة، حيث رفعت هذه اللجان لافتات تخاطب رئيس الوزراء المدني مباشرة مؤكدةً “حياتنا أغلى من الذهب يا حمدوك”، وواجهت رصاص قوات الدولة التي تحمي هذه الشركات. ردت الحكومة على هذه التظاهرة ببيانٍ في مساء ذات اليوم يندد بالاعتداء على مقار الشركة وممتلكاتها.
وتكررت الأحداث المشابهة التي اختارت فيها لجان المقاومة الدفاع عن تحقيق أهداف الثورة فيما يتعلق بمطالب سكان مناطقها، وتكررت معها انحيازات الحكومة ضد هذه الأهداف وإلى صالح المستثمرين أو الجيش ومليشياته أو الحلفاء الإقليميين والدوليين لما سبق.
كانت الفترة الانتقالية فترة تجاذب عظيم إذًا في تحديد الموقف السياسي للجان بين دعم أهداف الثورة -كما ذكرنا سابقًا- وحماية النصف المدني من الحكومة الذي ما فتئ يتمادى في ابتعاده عن هذه الأهداف. لم يكن الموقف السياسي لجميع اللجان واحدًا في كل القضايا بطبيعة الأمر، فهذه الأجسام ذات التكوين الجغرافي عبَّرت إلى حدٍّ كبير عن مصالح وطموحات ومواقف ساكني مناطقها باختلافاتهم الطبقية والتاريخية واختلاف مصادر دخولهم وأولوياتهم ومشاكلهم الاجتماعية، إلخ. ورغم ذلك، كان من الواضح توحيد الأغلبية العظمى خلف مطالب العدالة لشهداء الثورة السودانية، وهو المطلب الذي توحدت خلفه معظم المواكب المركزية الجامعة للجان ولحق به فيما بعد مطلب تشكيل البرلمان -الذي لم يتشكل حتى انقلاب 25 أكتوبر– فيما رأته اللجان وسيلة لتحقيق مطالب الشعب عبر برلمانهم.
كان مطلب العدالة للشهداء، وخاصة في قضية مجزرة 30 يونيو، يضع عقدة المساومة تحت منشار الثورة. فالحكومة التي يشارك فيها عضوية المجلس العسكري الذي نُفِّذَت جرائم المذبحة تحت حكمه وعبر قواته، لم تكن هذه الحكومة قادرةً على تقديم نفسها للعدالة التي تطالب بها الثورة. وتكاثرت أيضًا المطالب المتعلقة بتحسين الوضع الاقتصادي في بدايات العام 2020، مما صنع عقدةً أخرى نتيجة لارتهان الحكومة لمصالح جهات دولية وإقليمية وما يشمل ذلك من استمرار السياسات الاقتصادية التقشفية التي اشعلت الثورة ضد نظام البشير.
حاولت الحكومة الانتقالية تحويل لجان المقاومة إلى أذرعٍ للدولة تحت مسمى لجان خدمات وتغيير تعمل تحت أو بالتنسيق مع المحليات في مهام توفير احتياجات الأحياء. واختارت لجان المقاومة بالأحياء عدم التنازل عن وضع المقاومة، بل وتولي مهام تسيير الحياة في الأحياء بالإضافة إليه أو بالتوزاي معه. فكونت بعض اللجان مكاتب للتغيير والخدمات داخلها أو بجانبها وراقبت توزيع حصص الدقيق على المخابز وغاز الطهي على المحطات، بل ونظمت صيانة المدارس والمرافق بجهدها الخاص، إضافةً إلى استمرارها في تسيير المواكب والدفع بالمطالب الثورية. كان آخر المواكب المركزية المعلنة للجان المقاومة قبل الانقلاب بتاريخ 21 أكتوبر، أي قبل 4 أيام من الانقلاب العسكري الأخير، مطالبًا بالعدالة للشهداء والبرلمان، بل ورفعت الكثير من اللجان شعار “تسقط شراكة الدم” رفضًا للشراكة مع العساكر.
اللجان تتصدَّر المشهد
قادت اللجان المشهد بشكل كامل بعد انقلاب 25 أكتوبر، فصاغت شعار اللاءات الثلاث في وجه المجلس العسكري المنقلب: “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”، وأصدرت الجداول الشهرية والأسبوعية للتظاهر والمقاومة، فأسقطت محاولات شرعنة الانقلاب وتركته حتى الآن بلا حكومة أو رئيس وزراء.
زاد تنظيم السودانيات والسودانيين في لجان المقاومة ردًا على الانقلاب، واستخدموا ما راكموه من خبرات خلال أعوام الانتقالية في تنظيم أنفسهم، والتجهيز للمواكب وترتيب النقاشات الجماهيرية بين سكان الحي، والتنسيق بين اللجان المختلفة على مستوى المناطق والمدن. ظهرت في هذه الفترة “تنسيقيات لجان المقاومة” في أدوار مختلفة نتيجة للحوجة للتنظيم على مستوى أوسع من الحي الواحد وكذلك نتيجة لانقطاع العلاقة مع القيادة السياسية المساوِمة السابقة والحوجة إلى قيادة جديدة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الفترة بعد الانقلاب شهدت أيضًا استمرار النخب الحاكمة وأبواقها داخليًا وخارجيًا في تجاهل وجود هذه التنظيمات الشعبية وترديد روايات ملفقة عن الواقع السوداني، فالقنوات الإخبارية مثلًا كانت تردد طيلة شهري نوفمبر وديسمبر أن التظاهرات المستمرة كانت منظمة من قبل تجمع المهنيين السودانيين أو قوى الحرية والتغيير -الشريك المدني في الفترة الانتقالية- وهي كيانات لم يكن لها أي ثقل في الشارع حينها بينما كانت إعلانات التظاهرات تصدر من قبل اللجان.
كان للزخم الثوري بعد الانقلاب آثاره في تشكيل الوضع السياسي وفي تشكيل اللجان كذلك. ازدادت قوة التنسيقيات المناطقية نتيجة للحوجة لها، ونظمت لجان عديدة هياكلها الداخلية لمجابهة الوضع الجديد وما ترتب عليه من مهام وأُعيد إحياء لجان كانت عضويتها قد ترهلت، وأُنشِئت لجان جديدة في مناطق أراد سكانها أن يكون لهم دور فعال في مواجهة الانقلاب. كانت عضوية اللجان في هذه الفترة لا تزال تتشكل في معظمها من صغار السن وأغلبيتهم من الأولاد والرجال، ومع الوجود المبهر للفتيات في المقاومة في الشارع وبتذكُّرهن درس 2019 -حيث لم ينعكس وجودهن في الشارع على الحكومة الانتقالية ودعمها لمصالح النساء- ظهرت حملة #خشي_اللجنة التي دعت الفتيات والنساء للانضمام للجان لضمان تحقق مطالبهن ومصالحهن، وواجهن ورفضن التصرفات والهياكل التي تضع العقبات في طريق انضمامهن للجان حتى في أبسطها، مثل الاجتماعات الليلية التي يصعب على الفتيات التواجد فيها نتيجة للعقبات الاجتماعية. وعملت قطاعات مجتمعية مختلفة في هذه الفترة على تمثيل نفسها عبر لجان المقاومة وهي تذكر دروس إقصاء المطالب الجماهيرية فيما سبق من عامين.
اتضح فيما تلى من شهور إمكانيات استخدام الأدوات التنظيمية والأفكار الأساسية للجان المقاومة في تنظيمات جماهيرية أخرى دعت إليها الحوجة وتكاثر جبهات الصراع مع الانقلاب العسكري مع تكاثر ما أُنزِلَ من مظالم على قطاعات الشعب المختلفة. استدعت جماهير المزارعين بالولاية الشمالية أدوات اللجان التي طالما استخدمتها في تسيير مواكبها وتنظيم نفسها سابقًا حالما أعلنت حكومة الانقلاب زيادة أسعار الكهرباء. كانت الزيادة قاتلة للمزارعين المعتمدين على المضخات الكهربائية في زراعتهم، فأعلنوا رفضهم ومقاومتهم لها من خلال ترس الشمال الذي أغلقوا به الطريق المار عبر مدنهم وقراهم والواصل بين السودان ومصر فيما يفوق الـ25 ونقطة، وكونوا لجان المتاريس في كل نقطة لحمايتها وتفصيل مطالبها وإدارة النقاشات بين المزارعين حول موقفهم السياسي ومطالبهم الاقتصادية، وشبكت لجان المتاريس بين بعضها لتوحيد المطالب والتي تجاوزت تسعيرة الكهرباء لتضم مشاكل متجذرة مثل آثار التعدين على مناطقهم ومطالبهم بنصيبهم من الذهب المستخلص من أراضيهم والمطالب بالمرافق الصحية وصيانة الطريقة نفسه لتقليل الحوادث التي تقتل سكان الولاية بشكل مستمر. واستمر ترس الشمال رغم قرار الحكومة الانقلابية بتجميد الزيادة مطالبًا بإلغائها تمامًا، وأعلنت بعض اللجان أنها لا تعترف بأي زيادة أو إلغاء يأتي من الحكومة الانقلابية، وأن الحكم المدني أساس مطالبها.
كان تركيب لجان ترس الشمال مختلفًا بشكلٍ واضح عن لجان مقاومة الأحياء -حتى في الولاية الشمالية نفسها- فكانت لجان المتاريس أغلبها من الرجال فوق الثلاثين، وهي الفئة التي تضم معظم العاملين بالزراعة. هذا الاختلاف يوضح أن تركيب أجسام المقاومة يأتي كنتيجة مباشرة لتكوين الفئات الأكثر تضررًا من السياسات التي يتم مقاومتها. لم تكن الثورة السودانية إذًا ثورة شباب، بل كانت ثورة ضد سياسات تضرر منها الشباب والنساء بشكل أكبر، وعليه كانت غلبة النساء وتقدم الصغار بين صفوف المقاومة. في الشمالية كان الرجال فوق الثلاثين أكبر المتضررين من زيادة تكلفة مدخلات الزراعة فتقدموا صفوف لجان المتاريس ليقوموا من خلالها بإيقاف امتصاص الثروة المستخرجة من أرضهم وعبر طريق يمر بأراضيهم، لتعود مردوداتها إلى حكومة تفقرهم بسياساتها الاقتصادية المنحازة ضدهم.
رأينا أيضًا استخدام الطالبات للشكل التنظيمي للجنة في اعتصام طالبات داخلية -أي سكن طالبات- حجار، وهي الداخلية التي ارتكبت فيها جريمة اغتصاب تسترت عليها الإدارة فأُعلِنَ الاعتصام من قبل الطالبات، وشكلن لجنة اعتصام داخلية حجار منذ 25 يناير 2022 مطالبين بالتحقيق العادل الشفاف، وبحقوقهن في الخدمات، وفي بناء منظومة جديدة لسكن وخدمة الطلبات والطلاب عبر السودان لحماية الحق الأصيل في التحصل على التعليم. يتضح إذًا تفشي التنظيم الحميد بين فئات الشعب السوداني واستخداماتهم المبتكرة له حسب حوجاتهم ومطالبهم.
مناوراتٌ سياسيات.. ومواثيق جديدة
صاحَبَ التطور التنظيمي كذلك تطوراتٌ على مستوى الموقف السياسي، فلجان المقاومة واجهت منذ الانقلاب تجاذبًا عاليًا بين موقفها الرافض للشراكة أو التفاوض مع الانقلاب وبين موقف النخب الداخلية والخارجية الساعية إلى تفصيل مساومة جديدة مع العسكر. شملت مناورات النخب الحاكمة اتفاقًا بين المجلس العسكري ورئيس الوزراء الحكومة المنقلب عليها، ولم يتمكن هذا الاتفاق من إيقاف التظاهرات ضد الحكم العسكري والمطالبة بالمدنية الكاملة، رغم الدعم الدولي له، وانهار باستقالة رئيس الوزراء بعد أقل من شهرين دون تشكيل حكومة.
جاءت كذلك مناوراتٌ عديدة من الأطراف الإقليمية والدولية المضادة للثورة، وضمنها بعثة الأمم المتحدة في السودان، التي عملت على دفع اللجان نحو عملية حوار مع العسكر. تخللت العملية دعواتٌ متعددة من قِبَلِ بعثة الأمم المتحدة للجان لاجتماعات ومشاورات قوبلت معظمها إما بالرفض وإما التشكيك وإما المطالبة بالبث الحي للاجتماعات، وهو ما رفضته البعثة ببجاحةٍ شديدة موضحة رفضها للشفافية ودعمها لمناورات الغرف المغلقة بعيدًا عن الجماهير. أدت كل هذه الضغوطات لتكاثر الحديث في المجال العام حول ميثاق سياسي وخارطة طريق جديدين يؤطران مطالب المقاومة ووسائلها وشرعت اللجان في صياغة المواثيق السياسية.
صدرت في الشهور الماضية عدة مقترحات لمواثيق سياسية من لجان المقاومة في مختلف ولايات السودان، فأصدرت لجان مقاومة مدينة مايرنو في ولاية سنار في جنوب شرق السودان مقترح خارطة طريق في ديسمبر 2021، الذي طرح البدء في تكوين مجالس محلية من لجان المقاومة والنقابات للتصعيد للمجالس الولائية والمجلس القومي الذي يختار رئيسًا للوزراء، وتبعه في الشهر نفسه مقترح لجنة حي صالحة بالعاصمة، والذي قدم طرحًا لميثاقٍ سياسي طرحته جماهيريًا للمناقشة والتطوير. وفي يناير 2022 أصدرت لجان مقاومة مدني بولاية الجزيرة في وسط السودان مقترحًا أكثر تفصيلًا للميثاق السياسي والذي قدم تحليلًا للإشكال الاقتصادي والتاريخي في السودان والناتج عن البنى الاستعمارية وهياكل الاقتصاد الريعي، مشددةً على ضرورة البرنامج الثوري التنموي لتحقيق العدالة الاقتصادية وتنفيذ سلطة الشعب وحقه في الثروة على أرض الواقع. وجد مقترح لجان مقاومة مدني قبولًا وإشادةً بتحليله الذي يعكس الواقع والأولويات الاقتصادية للجماهير، ولقى أيضًا شجبًا لاستخدامه مصطلحات “تشبه كلام الشيوعيين”، وتبيَّن هنا أثر عقودٍ من التنفير من التحليل الاقتصادي كما تبيَّنت بدايات تداعي هذه الحجج أمام التحليل الرصين والمقترح الثوري المبدئي.
توالت الاتهامات للجان مقاومة مدني في الفضاء العام بأن مقترحهم من صياغة الحزب الشيوعي السوداني، وهو ما ردت عليه لجان مقاومة مدني رافضةً للتقليل من قدراتها و”اتهامها بأنها عضلات مقاومة دون فكر”. هذا الاتهام للجان مقاومة مدني في الحقيقة مردود عليه من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني نفسه وحاضره، فهو في الحقيقة أقل جذرية من أن يطرح مقترحًا كمقترح مدني. فالتاريخ القريب والبعيد للحزب الشيوعي السوداني يتبع نمط التحالفات مع البرجوازية الحاكمة أو ما يسميها بالرأسمالية الوطنية بدلًا على العمل على تأسيس سلطة الجماهير البديلة. وهذه وجهةٌ لم يتجاوزها الحزب الشيوعي السوداني حتى بعد خلافاته مع الحكومة الانتقالية والتحالف الحاكم الذي خرج منه في العام الأول للانتقالية، وحتى بعد الانقلاب. فنرى الآن أن الموقف الجديد للحزب الشيوعي من النخب البرجوازية هو رفضه للتعامل معها كتحالف وكتل وقبوله للتفاوض معها منفردة، فيما يدل على أن الحزب الشيوعي ريما تعلَّم من الفترة الانتقالية تكتيكاتٍ تفاوضية جديدة، إلا أنه لا يزال بعيدًا عن مراجعة موقفه المبدئي في تأخير مطالب الجماهير وإعادة تشكيل الدولة لصالحها في سبيل المحافظة على قيادة “الرأسمالية الوطنية”. في اتهام مقترح لجان مدني الثوري بأنه مكتوب من قبل الحزب الشيوعي إذًا مدحٌ وثناءٌ على الحزب الشيوعي لا ولم يستحقه.
وجد مقترح لجان مدني قبولًا من عدة لجان مقاومة في ولايات عديدة، فأعلنوا في بدايات فبراير مقترحًا تحت اسم الميثاق الثوري لسلطة الشعب يضم مقترح لجان مدني وخارطة طريق مايرنو وميثاق شرف مقترح من لجان ولاية كردفان، ووقعت على الميثاق المعدل تنسيقيات لجان مقاومة في 7 ولايات.
أعلنت لجان مقاومة العاصمة الخرطوم أيضًا مقترحها للإعلان السياسي في نهاية فبراير 2022 تحت اسم ميثاق تأسيس سلطة الشعب. يصف العديد من أعضاء لجان المقاومة بالعاصمة تجربة إعداد هذا المقترح بالأهمية والمركزية في التدريب على المناقشة والتنسيق بين اللجان، والتي يفوق عددها في العاصمة على 800 لجنة، فالعاصمة الخرطوم يسكن بها ما يزيد عن ربع تعداد البلاد. وقد انعكست طبيعة العاصمة، في كثافتها العالية وقربها من الحكومة المركزية وتباين المصالح الاقتصادية بين مجموعات ساكنيها، في أوجه القصور التي شابت الإعلان فجعلته أقل تماسكًا في حلوله المقترحة وأقل جذريةً في وجه القضايا الإشكالية ويفتقر إلى التحليل المتكامل للمشكلة السودانية مقارنةً بمقترح الميثاق الثوري، خاصة في تحليله الاقتصادي وتعيينه للحكومة من اعلى إلى اسفل ابتداء برئيس الوزراء.
تتبيَّن هنا مرة أخرى إشكالية الطبيعة الجغرافية للجان، والتي تحدُّ من قدرتها على تبني المواقف الثورية المبدئية بحدود تفاصيل جغرافيتها وسكانها وما يحيطهم من ظروف. رغم ذلك لا تزال لجان الخرطوم تعمل على مجابهة أوجه القصور هذه من خلال فتح مقترحها للنقاش والتعديل -كما سبقه من مقترحات- والدعوة للنقاشات الجماهيرية وللآراء المتخصصة للمشاركة في نقده وصياغته. يتضح ضمن هذه النقاشات أيضًا الأثر المهم لتعدد المقترحات في توسيع الأفق الثوري للجماهير وتعميق القدرة على رؤية أثر الصيغ الحوكمية على حياتهم والتفكير في صيغ بديلة أقرب لتحقيق مبدأ “كل السلطة والثروة للشعب”.
نضالٌ متواصل
لا تزال النقاشات حول مقترحات المواثيق السياسية مستمرة بالتوازي مع النقاشات حول كيفية المحافظة على جذوة التظاهر التي لا تزال مستمرةً بشكل يومي وتصل إلى القصر الجمهوري وأمانات الولايات بشكل أسبوعي عبر اشتباكات مع قوات الحكومة القمعية تفقد فيها الثورة شهداءً ومصابين ومعتقلين ولا تتوقف. وتتواصل بالتوازي معها إضرابات العاملين وجموع الجماهير السودانية ووقفاتهم الاحتجاجية رفضا للحكم العسكري القمعي وللرواتب الضعيفة وللسياسات الاقتصادية المفقرة، ومنها احتجاجات عمال التفتيش العام للري المصري المطالبين بزيادة أجورهم، وإضراب المعلمين بولاية كسلا، ورفض موظفي مستشفى إبراهيم مالك بالعاصمة تنفيذ زيادات أسعار العلاج التي أعلنتها حكومة الانقلاب، ورفض لجنة مقاومة حي الطائف بالعاصمة لإزالة سوق الحي من قبل المحلية ودفاعهم عن العمالة غير المنظمة وحقهم في العمل والعيش الكريم، وغير ذلك من جبهات المقاومة المنظمة المتكاثرة بتكاثر السياسات القمعية الظالمة للانقلاب.
نرى أن الدرس الأساسي والمفصلي الذي تعمل الثورة السودانية على تعميقه الآن هو درسٌ يرد على السؤالين: ما هو ميثاقنا -أي طريقنا- السياسي الثوري؟ وكيف تستمر المقاومة السلمية في وجه الانقلاب المسلح؟
يكمن الرد على السؤالين في تعميق تنظيمات أماكن السكن والعمل في كل أنحاء وقطاعات الدولة السودانية. فهناك حدود لما يمكن إنجازه من خلال نقاش مقترحات المواثيق مجردة من التجربة، وعلينا لاختبارها حقيقة البدء في تنفيذ مبادئها وتعديلها وتطويرها من خلال التجربة. كذلك تفسح تنظيمات أماكن السكن والعمل مساحة لأشكال مختلفة من المقاومة من خلال ممارسة سلطة الشعب على واقعه والتطور من مجرد استخدام المقاومة كوسيلة ضغطٍ على السلطة إلى وسيلة انتزاع السلطة لصالح الشعب.
هذا هو المسار الذي لو سارت فيه الثورة السودانية -ونرى بشائر لسيرها عليه ونحوه- لتمكنت ليس فقط من هزيمة الانقلاب، بل من هزيمة نظام ريعي نخبوي قائم منذ الاستعمار البريطاني-المصري للسودان وعبر الحكومات المتعددة. ولتمكنت من إقامة شكل جديد لتنظيم الحياة لصالح الجماهير، وهو مضمار لا تنجح أسلحة العساكر فيه ولا تنتصر فيه سوى السلمية الشعبية الثورية.
يتطلب ذلك بلا شك تكوين المنظمة الثورية القائمة على منهج تحليل ثوري للواقع، وهي الضلع الثاني الذي لا غنى عنه للمقاومة بجانب تنظيمات أماكن السكن والعمل، لتقدم الموقف الثوري المتكامل وتستفيد من تطور التنظيمات الجماهيرية، وتفيدها بالحلول غير المحدودة بمعوقات التنظيم الجغرافي أو الفئوي. هذه العلاقة التكافلية التي تفتقد أحد أضلاعها حاليًا هي علاقةٌ جوهرية لتطور الثورة السودانية التي نرى من مسار تطور التنظيم والرؤى السياسية عبرها أن المنظمة الثورية قادمة لا محالة.
المصدر : بوابة الاشتراكي
https://revsoc.me/arab-and-international/44759/
اقرأ أيضا