العنف ضد النساء: طغيان ذكوري جذوره ضاربة في مجتمع الاستغلال الرأسمالي
بقلم: قدس
يسعى النظام السياسي في البلد في مجال التشريعات المتعلقة بالمساواة ومحاربة الميز ضد النساء وراء تنفيذ أجندته الدولية تجاه قوى امبريالية داعمة له، ويعمل في الآن ذاته على تلميع حكمه الاستبدادي بتقديم نفسه ضامنا للحقوق الديمقراطية للنساء بالكيفية التي تخدم مصالحه، وهكذا تم التنصيص على المساواة بين الرجل والمرأة وحضْر التمييز وتكافؤ الفرص[1]، وضمان السلامة الجسدية والمعنوية للفرد في دستور 2011[2]، وجرت تلك التعديلات في سياق تصاعدت فيه نضالات حركة 20 فبراير، ولم يكن ذلك في أية حال نتيجة لميزان قوى فرضته الحركة النسائية المُمأسسة بقسميها الليبرالي والاسلامي، فكلاهما اختارا الاصطفاف إلى جانب السلطة السياسة. وعملت الدولة استجابة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية ولبرامجها النيوليبرالية تجاه النساء على وضع خطط وبرامج تعنى بالمساواة بين الجنسين، ومُوِّلَ بعض منها بشراكات مع مؤسسات الاتحاد الأوربي، وتم تبني قانون محاربة العنف ضد النساء فبراير 2018.
العنف الذكوري حرب ساحتها حياةُ النساء
يمثل العنف ضد النساء أشد أنواع القهر والسيطرة إنه شبه حرب تدور رحاها في أجساد وكيان النساء. ويشكلن أيضا أكثر الأقسام اضطهادا في مجتمعات يتراكب فيها العنف الطبقي والجنسي والسياسي. ويهدد العنف حياة ملايين النساء عبر العالم رغم مصادقة الدول على العديد من الاتفاقيات، وتكييف هذه الأخيرة تشريعاتها المحلية مع مقتضيات اتفاقية القضاء على كافة أشكال الميز ضد النساء، وسن العديد منها قوانين محاربة العنف ضد النساء.
ترتفع أعداد النساء اللائي يتعرضن سنويا للعنف في المغرب إلى 7.6 مليون امرأة من بين المتراوحة أعمارهن ما بين 15 و74 سنة[3]. وحسب آخر بحث وطني أجرته المندوبية السامية للتخطيط صدر في سنة 2019 عانت ثمانية نساء من أصل عشرة من العنف خلال حياتهن أي ما يعادل %82.6. وتميط هذه الأرقام اللثام عن حجم جرائم العنف المقترفة في حق ملايين النساء في المغرب بغض النظر عن شكل العنف المرتكب ومرتكبيه ومكان ارتكابه.
تتعدد أشكال العنف المسلطة على النساء، ويعد العنف النفسي أكثرها شيوعا ويعرض حياة 6.4 مليون امرأة للاحتقار والإهانات والسب والقذف، ناهيك عن تحكم تعسفي في سلوك النساء وسلب حريتهن. تتحمل النساء بشكل لحظي كل هذا القهر والإذلال الذي يمارس ضدهن في الأماكن الخاصة والعامة، ولا تقف أفعال العنف النفسي عند هذا المستوى بل تصل حد الترهيب والتهديد بمادة حارقة أو أداة حادة. وتسحق جرائم العنف الجنسي حياة وكرامة 1.8 مليون امرأة سنويا. وتستهدف أفعال التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب أو الاغتصاب والابتزاز الجنسي النساء في الفضاءات العامة وأماكن العمل والدراسة. ورغم فرض وجودهن في أوساط كانت قبلا حكرا على الذكور فإن ذلك لا يجنبهن التعرض للعنف الجنسي. ويفرض على النساء في إطار العلاقات الحميمية إقامة علاقات جنسية قسرية مع الشريك، ولا يجرم القانون الحالي الاغتصاب المرتكب في الفضاء الزوجي ويشرعن بذلك أحد أشكال العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء، كما تزايدت على نحو مهم نسبة انتشار هذا النوع من العنف في الفترة ما بين 2009 و2019[4].
تكشف حدة الاعتداءات الجنسية المقترفة في حق النساء أن حياتهن الجنسية والعاطفية وأجسادهن ملك مجتمع ذكوري يستبيحها متى وكيفما وأين شاء. وترسخ قوانين رجعية ذكورية تتكأ على سلطة سياسية مستبدة انتهاك حرية تصرف النساء في أجسادهن، وتمنعهن من حقهن في حياة عاطفية وجنسية متحررة من علاقات السيطرة البطريركية.
يفتك العنف الجسدي بصحة النساء الجسدية والنفسية وتذهب ضحيته مليون وسبعة مئة الف امرأة، وتزيد نسبة التعرض لهذا الصنف من العنف لدى النساء بالقرى. ويجسد العنف الجسدي أبشع صور استعباد النساء، إذ تتحول أجسادهن إلى وعاء تنفيس صنوف قهر يولدها مجتمع طبقي قائم أساسا على عنف أقلية مالكة ضد أقسام عريضة من المسحوقين والمسحوقات.
تشمل أفعال العنف الاقتصادي الذي تعاني منها مليون وتسع مئة ألف امرأة الطرد أو التهديد بالطرد من العمل بسبب الحمل أو الوضع، والحرمان من التعويضات والميز في الأجور والترقية المهنية[5]، وبالنظر لمعظم هذه الأفعال فإن ضحاياها في المقام الأول هن نساء عاملات، خاصة اللائي يتركزن بقطاعات تصديرية معروفة بفرط الاستغلال وانعدام احترام أبسط شروط قانون الشغل. وتعود مسؤولية ارتكاب هذا الشكل من العنف في حق العاملات لأرباب العمل. وتتحمل الدولة قسطا وافرا فيما يلحق بهن من عنف وأضرار ناجمة عنه بحرصها على حماية أرباح مالكي الرساميل بالدوس على حقوق من يعملن بتلك القطاعات. ويندرج ضمن العنف الاقتصادي الحرمان من النفقة في حالة الطلاق ومن ولوج الموارد المالية والمنع من العمل. وتكبل هذه الانتهاكات التي يرتكب معظمها في دائرة العلاقات الزوجية والأسرية قدرة النساء على تلبية حاجيتهن الأساسية، كما تحد من إمكانيتهن المالية لولوج خدمات الصحة والتعليم التي تمت خصخصتها والبحث عن فرص الشغل الضئيلة أصلا.
يجد العنف الاقتصادي ضد النساء جدوره العميقة في بنية مجتمع رأسمالي وذكوري، ويحكم كلاهما على حياة السواد الأعظم من النساء بالشقاء والبؤس.
العنف قهر يشتد ضد النساء في الوسطين العائلي والزوجي
تختلف حدة العنف وشكله حسب أماكن وقوعه ووسط الإقامة والوضع الاقتصادي والاجتماعي لضحاياه. ويبقى الفضاء الزوجي أخطر الأماكن على حياة النساء من حيث درجة العنف المرتكب، وتزيد نسبة المتزوجات اللائي تعرضن للعنف بجميع أشكاله عن النصف، وترتفع نسب التعرض للعنف الاقتصادي لدى المتزوجات بالوسط الحضري، ويمكن تفسير ذلك بكون النساء في المدن يشغلن مهنا مؤدى عنها، بحيث 81.2% من النشيطات المشتغلات هن مستأجرات[6]، وهو ما قد يعرضهن أكثر من مثيلاتهن بالقرى للتعنيف الاقتصادي، ويمكن أن ينجم هذا الأخير عن رفض النساء سطو الأزواج على مواردهن المالية كالتحكم في الأجر والحساب البنكي أو الاستفراد بالتدبير المالي على مستوى الأسر. ويستهدف العنف الجسدي والجنسي النساء بالقرى، ويقوم أغلبهن بمهام العمل المنزلي و العمل في أنشطة فلاحية صغيرة بدون مقابل، ويبقى الزوج هو المتحكم في النفقات المالية للأسرة، وتعرضهن للاعتداءات الجنسية والجسدية عائد لرسوخ سلطة ذكورية وطغيانها تجعل نساء القرى أكثر خضوعا لهذا العنف، وتمنعهن من الحديث عنه خوفا من العار والفضيحة. ويشتد جرم العنف الجنسي والجسدي لانعدام بنيات تأوي ضحاياه في قرى ضلت لعقود حبيسة قهر اجتماعي واقتصادي وسياسي.
تكشف نسب العنف المرتكب في حق النساء أن المتراوحة أعمارهن ما بين 15 و24 سنة هن الأكثر عرضة للعنف من قبل الشريك الحميم الحالي أو السابق أو أحد أفراد العائلة الذكور، ويعني هذا أن الأجيال الشابة من النساء يتجهن بسبب تطور التعليم وميلهن أكثر لكسب استقلاليتهن إلى رفض السلوك المهيمن لشركائهن على حياتهن. ويتحدين السلطة الذكورية التي تريد تقويم سلوكهن لكي لا يحيد عن التقسيم الجنساني للأدوار، ويؤجج هذا الصراعات على مستوى العلاقات الحميمية أو الأسرية، ما يعرض النساء أكثر للعنف في هذه الفترة العمرية. ويؤثر العنف الزوجي بشكل متفاوت على النساء حسب وضعهن المهني إذ تبقى العاطلات عن العمل أكبر ضحاياه بالمقارنة مع النشيطات المشتغلات، وهكذا يتفاقم العنف الذكوري ضد النساء كلما تدهورت شروطهن الاقتصادية والاجتماعية، وكلما أبدين مقاومة تحكم الذكور في تفاصيل حياتهن خاصة بالوسط العائلي أو الزوجي.
أماكن الدارسة: طفو عنف ذكوري راسخ
يشكل الوسط التعليمي أكثر الأمكنة التي يرتكب فيها العنف بعد الفضاء الزوجي. وبالرجوع لآخر بحث وطني انجزته المندوبية السامية حول انتشار العنف ضد النساء فإن %22 من التلميذات والطالبات كن عرضة للعنف، وتطغى أفعال العنف النفسي والجنسي على شكل العنف المقترف في حق التلميذات والطالبات، وتجمع ما بين التحرش الجنسي والاغتصاب والمعاملة الحاطة بالكرامة والتهديد والترهيب. وتعاني التلميذات بالقرى على نحو اكثر من العنف الجنسي، ويؤثر العنف بشكل خاص في أوساط الدراسة على البالغات من العمر ما بين 15 و19 سنة.
يبين العنف الذي يلحق التلميذات والطالبات في المؤسسات التربوية حجم الفاتورة التي يدفعنها لمجرد تواجدهن في أمكنة لازالت تحث سيطرة سلطة ذكورية. ورغم تزايد نسب الإناث في التعليم والتنصيص القانوني على المساواة بين الجنسين في كافة المجالات، تعاقب النساء لجرأتهن على انتزاع امتيازات تتساوى مع تلك التي يمنحها المجتمع للذكور.
يسبب العنف الذكوري في الوسط التعليمي انقطاع المتمدرسات أو الطالبات عن استكمال مسارهن التعليمي، خاصة وأن المجتمع يحمل الضحية المسؤولية أكثر مما يجرم الجاني، وحتى القانون 13- 103 يفتح الباب أمام إفلات الجناة من العقاب بتكريسه نهج التسوية والمصالحة، كما تسقط المتابعة بمجرد تنازل الضحية.
إن كون المدارس والجامعات وسطا للبحث العلمي والمعرفة لا يقي الطالبات والتلميذات شر الوقوع ضحية للعنف، وليست تلك الفضاءات منفصلة الجذور عن تربة اجتماعية واقتصادية وثقافية ذكورية، وتبقى كل هذه الأماكن مجالا يعاد فيها انتاج نفس علاقات الاضطهاد والانسحاق السائدة في مجتمع مقسم إلى طبقات.
عواقب العنف على حياة النساء: من يتحمل التكلفة؟
تتكبد النساء أضرار صحية ونفسية بليغة جراء العنف الجسدي والنفسي المرتكب في حقهن في إطار العلاقة مع الشريك، وتجمع ما بين الشعور بالتوتر والاحباط والقلق والإرهاق الدائم واضطرابات النوم. ويعانين إصابات وخيمة عقب التعرض للعنف الجسدي، ومنها على سبيل المثال لا للحصر إصابات في طبلة الأذن أو العيون، كسر أو تشقق العظام، كسر الأسنان. ويخلف العنف الجنسي إصابات وتمزقات في الأعضاء التناسلية، ونزيف وأمراض متنقلة جنسيا وحالات الحمل غير المرغوب فيه. وللعنف الجسدي المرتكب من قبل الشريك تداعيات خطيرة على الحياة المهنية للنساء المشتغلات، إذ يتسبب في تغيب الضحية عن العمل لمدة تبلغ في المتوسط أسبوعين في السنة. ولا تقتصر عواقب العنف على الأفعال المقترفة في بيت الزوجية، إذ يتسبب العنف الممارس ضد النساء في الأماكن العامة بدوره في أضرار جسيمة.
تتحمل النساء عواقب العنف الصحية والاجتماعية والاقتصادية، ويكلف العنف الجسدي والجنسي النساء الضحايا وأسرهن 2.85 مليار درهم. وتبلغ تكلفته في المتوسط 957 درهم لكل ضحية. تضطر النساء لتغطية تكاليف الولوج إلى الخدمات الصحية، والقانونية، وخدمات الدعم الاجتماعي والإيواء في حالة الطرد من بيت الزوجية، ويشمل العنف كذلك تكاليف أخرى غير مباشرة تتثقل كاهل النساء كفقدان الدخل بسبب التغيب عن العمل المؤدى عنه. ويكشف حجم النفقات التي تؤديها النساء غطرسة مجتمع ذكوري يشكل تهديدا مستمرا لحياتهن بكل أبعادها، ويتعرى نفاق مقاربة النوع الاجتماعي الذي تغنت الدولة كثيرا بإدماجه في ميزانيتها مند 2005.
لا تجد نساءٌ أهدر العنفُ الذكوري صحتَهن النفسية والجسدية خدمات الرعاية الطبية في مستشفيات عمومية خربتها السيات النيوليبرالية، ولن تخصص دولة تضع على رأس اولويتها أداء الديون موارد مالية تتوجه لخلق ملاجئ عمومية تأوي النساء ضحايا العنف وأطفالهن.
لا غنى عن نضال نسوي عمالي لاستئصال عنف الرأسمالية والذكورية
لن تنجو النساء من ويلات جرائم العنف بشكل فردي، ولن يقضى على العنف بمجرد سن التشريعات مادامت البنيات التي تولده قائمة، ولازالت القوانين التي توالى صدورها منذ 2004 تحافظ على أوجه الميز الذكوري. ويعد النضال من أجل فرض تشريعات متحررة من أيديولوجية رجعية قروسطية أحد أولويات نضال النساء لأجل انتزاع حقوقهن الديمقراطية، ولازال النضال من أجل انتزاع قانون محاربة العنف شامل يقطع بشكل جذري مع الموروث الذكوري البائد، ومراجعة قانون مدونة الأسرة الرجعي يشكل مطالبا ملحة.
لن تزول أوجه الميز القانوني ضد النساء بمجرد مأسسة المساواة، بل يشترط ذلك في مجتمعات بالغة الرجعية احتلال النساء لمساحات النضال الجماهيري، وفرض وجودهن النسوي بإعلاء راية المطالب النسوية، ويأتي على قائمة تلك المطالب إسقاط كل التشريعات التي تتصالح مع أيديولوجية رجعية تصادر سيادة النساء على حياتهن بكل مناحيها.
تفرض مواجهة العنف المنتشر ضد النساء جعله على رأس أولويات النضال من أجل تحررهن، ويتطلب ذلك تنظيم تعبئات وحملات وورشات تثقيف واسعة تدين العنف ضد النساء في منظمات النضال الجماهيري، كالنقابات العمالية، وتنظيمات المعطلين والطلبة. ويجب على تلك المنظمات خلق فضاءات في مقراتها تشجع النساء على نقاش وفضح أشكال العنف التي يتعرضن لها.
لا يجب أن يقتصر النضال ضد العنف على البوح والإدانة بل يجب أن يكون هدف التثقيف النسوي استنهاض قوة نضال النساء الجماعية تتجه نحو كنس كل أشكال الميز ضدهن.
يؤتي نضال النساء الجماهيري والمنظم أكله حتما وينتزع انتصارات ملموسة من أنظمة حكم غير ديمقراطية ورجعية، وهكذا استطاعت النساء بفضل نضالاتهن نيل حق الاعتراف القانوني بالإجهاض في الأرجنتين والمكسيك، وتحارب نساء بولونيا بشراسة ضد قانون تجريم الاجهاض و تواجهن ببسالة غطرسة الكنيسة الكاثوليكية.
لابد من تنظيم قوة النساء الجماعية لمواجهة طغيان المجتمع الذكوري والرأسمالي ، وتلك القوة هي العاملات اللواتي يكدحن في المعامل والضيعات الفلاحية ومحطات التلفيف، ونساء القرى الكادحات، وآلاف النساء العاطلات عن العمل وأجيرات القطاع العام الذي يتفكك تحت ضربات السياسات النوليبرالية. تمثل هؤلاء النساء قسما هاما من الطبقة العاملة الذي يعاني اضطهادا واستغلالا مركبا في مجتمع قائم على مراكمة الأرباح ، ويشكلن ركيزة حركة نسوية عمالية شعبية تستطيع تحسين أوضاع النساء في ظل مجتمع القهر والسيطرة، والسير بالنضال صوب استئصال مجتمع الاستغلال والاضطهاد من جذوره.
[1] – المادة 19 من الدستور
[2] – المادة 22 من الدستور
[3] – المندوبية السامية للتخطيط، مذكرة حول العنف ضد الفتيات والنساء، البحث الوطني حول العنف ضد النساء والرجال 2019
[4] – نفس المصدر
[5] – البحث الوطني الثاني حول ظاهرة انتشار العنف ضد النساء لوزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية تاريخ النشر : 14 ماي 2019
[6] – مذكرة اخبارية للمندوبية السامية للتخطيط (بمناسبة السوم العالمي للمرأة 8 مارس 2020)
اقرأ أيضا