في أسباب حادثة سوق الأحد أولاد جلول- القنيطرة ضد الغلاء
بقلم: أ.أ
لي سابقُ معرفة بالمنطقة، إذ كنت لسبع سنوات من زُوار مركز “أولاد جلول”، الشيئ الذي سمح لي بفهم أفضل لأسباب حادثة الغضب التي اجتاحت قلوب المتسوقين ضد ارتفاع الأسعار بالسوق الأسبوعي.
للتذكير فمركز أولاد جلول كان قرية عُمالية لسكن عمال معمل “شركة كوسيمار للسكر” المتواجد بالمنطقة قبل خوصصتها، ويضم مركزا صحيا ومؤسسة إعدادية وسُوقا أسبوعيا، ومركزا للجماعة القروية. يوجد المركز على مشارف مجرى “واد سبو” ويبعد قليلا على “سد مكرن” في اتجاه مدينة القنيطرة.
تنتمي المنطقة إلى سهل الغرب الفلاحي، قسم منه مسقي بمياه السد وقسم آخر رملي يعتمد على السقي بالآبار. الاستثمارات الفلاحية المُنتشرة بالمنطقة بعضها شركات موجهة للتعبئة أو للتصدير (التوت- الطماطم- الشمندر). أما أغلب السكان فهم فلاحون صغار وعمال زراعيون مياومون، ينتجون للسوق المحلي لتغطية حاجاتهم اليومية من نفس السوق الأسبوعي (الملبس- المأكل- الدواء- أدوات فلاحية..) وهو نوع من تبادل بسيط لمنتوجاتهم الفلاحية بحاجياتهم البسيطة.
النقد هو الوسيط الذي ينظم هذه العملية التي يجدون أنفسهم فيها في الكفة الأضعف. يُستعَان بتربية الأبقار والدواجن كنشاط ضروري لمن استطاع إليه سبيلا لتغطية الخسارة الدورية التي يتعرض لها الإنتاج الفلاحي البسيط بسبب تقلبات السوق، ما يخلق ضغطا على الأرض والمناطق الرعوية القليلة أصلا خصوصا في المنطقة الرملية (اتجاه المحيط الأطلسي).
العمال- ات الزراعيون- ات يجوبون المنطقة متنقلين في مجال واسع بين “سيدي سليمان” و”العرائش” و”القنيطرة”. تعمل هاته الجيوش من اليد العاملة بالقطعة، وهم مُياومون بلا أدنى حماية قانونية ولا عقود عمل ولا تأمين، يتنقلون في ظروف تنعدم فيها شروط الصحة والسلامة، وتتعرض العاملات الزراعيات للتحرش الجنسي والاستغلال وحتى للاغتصاب.
يكمُن مفتاح فهم الغضب والمرارة التي عكستها بعض تسجيلات الفيديوهات بكونها ليست فقط مرارة المستهلِك الذي صعقته فاتورة أسعار قفة عيشه. بل إن مردَّ الغضب أيضا هو إحساس الفلاح الصغير بالغبن واللاعدل المضاعَف: حين ينتج الطماطم مثلا يضطر للبيع بأسعار لا تتعدي درهم ونصف وأحيانا يبيع بأقل من الكلفة، ولا يتبقى له إلا ديون تلتف حول عنقه مثل أنشوطة الإعدام، وحين يذهب إلى السوق كمستهلِك يجد أن أسعار طماطمه تحلق عاليا فوق العشرة دراهم. أمام غموض آليات السوق التي تنهب صغار الفلاحين والعصية عن فهمهم، يصبح التاجر الصغير الماثل أمامهم سببا في ما حل بهم من خراب ويرى فيه أصل كل الشرور ومصاصا خبيثا لدمهم، كما كان اليهودي المرابى عرضة للاتهام بكل الشرور التي تصيب الفلاحين في القرون الوسطى.
ما جرى، إذن، في سوق أحد أولاد جلول نتيجة لتلاقي عدة عوامل فانفجرت في السوق: إفلاس الفلاح الصغير تحت ثقل منافسة الإنتاج الفلاحي الكبير، وغلاء الأسعار الشامل الذي يعني نهب صغار المنتجين والعمال بصفتهم مستهلكين بدخلهم المحدود.
الفلاح الصغير مصيره تاريخيا هو نزع ملكيته الصغيرة. تتوسع الفلاحة الرأسمالية الكبيرة على عظام أسرته ولا قدرة له على الصمود في وجهها، مخلفة وراءها بلترة متسارعة لصغار الفلاحين، هذا منحى بات ملحوظا خلال السنين الأخيرة.
أما موجة غلاء الأسعار الحالية فإنها ستستمر بسبب عوامل خارجية منها، ارتفاع المحروقات، والتأمين البحري، الذي رفع كلفة النقل الدولي أضعافا، وكذا ارتفاع الطلب العالمي بعد تخفيف قيود الاغلاق بسبب كوفيد- 19.
لكن هناك عامل داخلي رئيسي من أسباب هذا الغلاء المتصاعد مصدره قرار تحرير سوق المحروقات، الذي يصب في مصلحة كبار تجار المحروقات، ثم التقليص المطرد للمواد التي يغطيها صندوق المقاصة ما جعل أثار الأسعار العالمية ينعكس محليا بشكل مباشر خصوصا أثناء الإرتفاع، كما أن القدرة الشرائية تضررت بسبب تقليص المواد المدعمة.
لسنا ممن ينبري لإدانة الكادحين حين ينتهكون الملكية الفردية، حتى ولو تقنعت بمشاعر التعاطف الخادع مع تجار صغار. لكن هذه المشاعر المرائية تعبر في الحقيقة عن مخاوف مما قد يحدث في حال صعود نضال طبقي عارم أي وضع نظام الملكية الخاصة الكبيرة موضع مصادرة، لتلبية الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية للكادحين. هذا هو جذر حملة الاستهجان المتعالي ضد “جلافة” صغار الفلاحين الذين تجرؤوا على المس بأقدس مقدسات الطيف البرجوازي، خصوصا الليبرالي المتمسك في عليائه بتلابيب الأساليب المهذبة والترافع في المنابر الوثيرة والمتوجس من خشونة الشعب الغاضب ردا على ما يتعرض له من سرقات واحتقار من الأفندية وكبار الملاكين.
المطلوب من أنصار التحرر الشامل والعميق، مساعدة العامل-ة وصغار المنتجين-ات على توجيه غضبهم-هن ضد اللصوص الحقيقيين، ضد كبار ملاكي الثروة، الذين ينهبون الشعب ذهابا وايابا، وبلورة لائحة مطالب دفاعا عن القدرة الشرائية وضمان الدخل للجميع بما يكفل العيش الكريم (عاملا أو عاطلا كان) يجرى تمويله من الضريبة على الثروة. إضافة إلى محاربة الفساد المتعدد الأشكال للثروات الوطنية وللمال العمومي والتهرب الضريبي..
عوض إدانة غضب صغار الفلاحين والعمال الزراعيين بسوق أحد أولاد جلول علينا تنظيم الطبقة العاملة وصغار الفلاحين في اتجاه وضع نظام الملكية الخاصة برمته موضع مصادرة جماعية. وعوض إدانة من يمد يده للحصول على مواد غذائية للاستهلاك، يجب إدانة نظام يسرق شعب بألف حيلة وحيلة.
اقرأ أيضا