النضال ضد تفكيك التوظيف العمومي القار في قطاع التعليم على المحك
استمر نضال شغيلة التعليم المفروض عليها التعاقد منذ سنة 2018، بدون انقطاع. إضرابات ومسيرات ووقفات احتجاجٍ واعتصامات في المدارس وأمام الأكاديميات والمديريات، سواء في أيام العمل أو العطل. إنها صفحة مشرقة لا يمكن لأحد أن ينكر أهميتها، سوى الإعلام المتذرع نفاقا بمصلحة التلميذ والمتباكي رياءً على هدر زمن مدرسي، هو مهدورٌ بسبب سياسة تقشف وملاءمة للمناهج والبرامج مع متطلبات هذا التقشف ومصالح ما يُطلق عليه محيطا اقتصاديا، وهو ليس إلا أربابَ العمل.
إنها أربع سنوات كفاحٍ في وجه ست سنوات استغلال منذ أول فرض للتوظيف بموجب عقود مع الأكاديميات الجهوية سنة 2016. رفعت آلاف الشبيبة شعارا مركزيا هو “إسقاط مخطط التعاقد والإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية”. وفي وجه مناورات الدولة لإطفاء جذوة المعركة تمسكت شغيلة التعاقد المفروض بذينك المطلبين رافضة ادعاء الوزارة إسقاط التعاقد في مارس 2019 وكل الخيارات التي طرحتها الدولة وعلى رأسها التوظيف الجهوي.
أدى تقدم الدولة في تنفيذ مخططها لتفكيك الوظيفة العمومية الذي بدأته منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفينات، إلى تقادم المطلب المركزي للتنسيقية ذاته. يقوم مخطط الدولة بالدرجة الأولى على ما أسماه البنك الدولي إحلال “الوظيفة المحلية” مكان “الوظيفة العمومية المركزية”. وينسجم هذا مع ما جرى ترسيمه في دستور 2011 المسمى “جهوية متقدمة”، على أساسها تتخلص الدولة من الوظائف التدبيرية وتفويضها للهيئات الدنيا من جهازها (الجهات، المديريات والاكاديميات الجهوية…).
تقع هذه الجهوية في صلب الهجمة النيوليبرالية المنطلقة منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ولا زالت مستمرة تحت شعار “مراجعة دور الدولة”، بما يتيح لها التخلص من وظائفها الاجتماعية التي فرضها سياق النضال ضد الاستعمار وبناء دولة ما بعد الاستقلال الشكلي (تشغيل عمومي واسع، تقديم الدولة للخدمات العمومية مثل الصحة والتعليم…). تنطلق الهجمة النيوليبرالية من اعتبار تلك الخدمات سلعا على القطاع الخاص/ رأس المال أن يسهم في تقديمها، بينما تكتفي الدولة بدور المنظِّم والمخطط الاستراتيجي إلى جانب ضمان حدود دنيا بائسة من تلك الخدمات لمن لا يستطيع أداء مقابل لها.
كان هذا في خلفية مراجعة الأساس التشريعي لنمط التوظيف الذي يجب أن يكون مطابقا لتغير نمط تقديم تلك الخدمات. وفي سنة 2013 انطلقت مناظرة بمدينة الصخيرات تحت شعار “الإصلاح الشامل للوظيفة العمومية”، وركز على فكرة أساسية: الانتقال من دور الدولة الموظِّفة/ المشغِّلة إلى دور الدولة المخطِّطة. أصبح دور الدولة إذن هو توفير الإطار القانوني الذي ينظم علاقات الشغل بين أطراف مشغِّلة متعددة (جهات، جماعات محلية، أكاديميات جهوية، مديريات جهوية وإقليمية…) من جهة والأجراء/ الموظفين- ات من جهة أخرى.
طبعا ليس تفكيك الوظيفة العمومية وليد تلك المناظرة، فقد سبقه هجوم عبر عشرات المراسيم الحكومية والمذكرات الوزارية التي حولت الأساس التشريعي القديم للوظيفة العمومية (النظام الأساسي لسنة 1958) إلى ما يشبه خرقة بالية. عبَّر عن ذلك محمد بن عبد القادر وزير إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية سابقا: “لا يتعلق الأمر بإجراءات تقنية وتدابير معزولة، بل بإصلاح شامل “لروح قانون الوظيفة العمومية لسنة 1958″. وهو ذاتُ ما صرح به مثل الوزارة بنزرهوني في اللقاء الأخير مع لجنة حوار التنسيقة الوطنية: “هدم مرسوم موظفي وزارة التربية الوطنية لسنة 2003”.
تعمل الدولة، إذن، على مراجعة شاملة لكل القوانين الناظمة لعلاقات الشغل سواء في القطاع الخاص (مطالب أرباب العمل بمراجعة مدونة الشغل بمبرر صلابتها ولا مرونتها) أو في الوظيفة العمومية. تريد الدولة وأرباب العمل استبدال تلك القوانين والأنظمة الأساسية بأخرى عامة جدا، بينما تُترك تفاصيلها إما للمفاوضة الجماعية داخل المقاولة والمؤسسة العمومية، وإما لمعايير فردية يُطلق عليها “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية”.
في قطاع التعليم بوشِر بإعداد هذا الإصلاح الشامل لروح الوظيفة العمومية في ديسمبر 2016 مع إصدار وثيقة التدابير ذات الأولوية، التي نصت على إصدار نظام أساسي جديد هو “النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”، وقد أًشرِكت القيادات النقابية منذ ذلك الوقت في اللجان الموضوعاتية المختصة بإعداد هذا النظام الجديد.
وفي إطار أشمل من قطاع التعليم، قامت الدولة بالمصادقة على القوانين التنظيمية للجهوية المتقدمة وعلى رأسها “القانون التنظيمي للمالية” سنة 2015 و”مرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري” سنة 2018. نصت هذه القوانين على مالية جهوية ومناصب مالية جهوية و”تدبير جهوي للمسار المهني للموارد البشرية”… إلخ.
لم يتمكن المطلب المركزي الذي ناضلت التنسيقية من أجله منذ تأسيسها من الصمود أمام هذه التطورات. فالإدماج في إطار الوظيفة العمومية تحول إلى إدماج في إطار المصالح اللامركزية لجهاز الدولة (الأكاديميات الجهوية في التعليم، أو المديريات الجهوية في الصحة…)، وإسقاط مخطط التعاقد أصبح متجاوَزا منذ أن أعدت الدولة صيغة لعقود جماعية بدل عقود فردية: الأنظمة الأساسية للأكاديميات الجهوية التي سيُضفى عليها الطابع التشريعي مع تعديل المرسوم المحدث للأكاديميات، والمناصب المالية الممركزة ستُدرج في إطار الميزانيات الجهوية التي يتصرف فيها خازن/ آمر بالصرف جهوي.
هذه التطورات هي التي جاء وزير التعليم الجديد شكيب بنموسى ليضع خاتمه عليها. أصبح الأمر سهلا لأن كل القيادات النقابية استجابت لأمر رئيس الحكومة القائل: “ليس هذا وقت الإضراب، هذا وقت العمل”. وأصبح الحوار بديلا عن أبغض الحلال الذي يشكله الإضراب. وقد وقعت تلك القيادات النقابية اتفاقا يوم 18 يناير 2022، يتضمن فتاتا سهلُ التراجع مقابل البصم على تراجعات ضخمة من قبيل الالتزام بالسلم الاجتماعي داخل القطاع، السكوت عن مداولات اللجنة التقنية لإعداد مشروع النظام الأساسي الجديد، أي المشاركة في شحذ ذلك السكين الذي ستَذبح به الدولةُ شغيلةَ التعليم، من مرسمين ومفروض عليهم التعاقد، من الوريد حتى الوريد.
في هذا الإطار جاءت لقاءات الوزارة مع ممثلي القيادات النقابية ولجنة حوار التنسيقية الوطنية للمفروض عليهم التعاقد. وقد عبر ممثل الوزارة عن نيته بشكل صريح: “تدمير النظام الأساسي القديم” وتعويضه بنظام أساسي جديد مضمونه آليات جديدة لتدبير المسار المهني من التكوين مرورا بالتوظيف والترقية والأجور انتهاء بالتقاعد.
هذه الآليات الجديدة ليست مجهولة كما يدعي ممثلو القيادات النقابية حين حديثهم عن عدم وجود أي مشروع لذلك النظام الأساسي الجديد، وبالتالي لا داعي للحديث عنه. فهي ما تُطلق عليه كل وثائق الدولة (فضلا عن الدراسات والتقارير الدولية) “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية”. وروحُها هو التخلص من المعايير الجماعية التي تتيح للشغيلة إمكانية تفاوض جماعي حول الأجور والترقيات وكل الحقوق الاجتماعية وشروط العمل، وتعويضها بمعايير فردية تجعل كل الحقوق رهينة باستحقاق الأجير الفرد ومردوديته وأدائه، مع منح صلاحيات ضخمة للرؤساء المباشرين لتقييم هذا الأداء والمردود وتقرير استحقاق ليس فقط الحوافز والترقيات، بل حتى احتفاظ الأجير بوظيفته.
لذلك فإن الكف عن التحريض ضد ما تُعده الوزارة بمبرر أننا لا يمكن انتقاد شيء لم يُعلن عنه بعد، هو إما عمى سياسي أو تضليل مقصود. وكلا الأمرين ستكون نتيجتهما وخيمة: نزع سلاح الشغيلة وتثبيط هممها وتدمير استعدادها النضالي حين ستتمكن الدولة من إتمام هجومها. ويساهم خطاب الوزارة ذاته في هذا التضليل إذ صرح بنموسى قائلا: “رغبتنا هي بناء هذا النظام الأساسي الجديد بشراكة مع المعنيين بالأمر، لم نأتِ بمشروع مهيأ سلفا، ونطلب فقط إخذه كما هو أو فقط تنقحيه”.
طبعا ليس كل ما يتمناه المرء يدركه دائما. فشتان بين ما نريد وما نستطيع انتزاعه. ولكن شتان أيضا بين الإقرار بالعجز عن انتزاع كل ما نريد والإصرار على النضال من أجله من جهة، وبين المشاركة في تمرير الهجوم بمبرر “ميزان القوى غير الملائم” من جهة أخرى، وهذا هو التبرير الذي تقدمت به قيادات النقابات لتوقيع اتفاق 18 يناير.
إن المحدد الأساس لميزان القوى الحالي، فضلا عن حدة هجوم الدولة، هو الوضع النقابي المتردي والإنهاك الذي أصيبت به شغيلة التعاقد المفروض بعد أربع سنوات من الكفاح المتواصل. الأجير رهين قوته اليومي، ولا يمكن أن يناضل بشكل دائم، فضرورات الحياة تفرض على النضال منحى متقطعا. وقد تمكنت الاقتطاعات من الأجور وطول أمد المعركة من تثبيط همم أقسام واسعة من شغيلة التعليم وخاصة المفروض عليهم- هن التعاقد. في ظل هذا السياق يكون التقاط الأنفاس شرطا ضروريا لاستئناف النضال مستقبلا، بدل المغامرة بمعارك شروط نجاحها منعدمة.
يُعدُّ استعمال ما تقوم به الوزارة حاليا، بما فيه لقاءات “الحوار”، للتعبئة ضد ما تُعِدُّه الدولة من هجمات قاتلة، مدخلا لاستئناف تلك المعركة. ولكن هذا يقتضي إخضاع تلك اللقاءات لرقابة دائمة من طرف قواعد التنسيقية ونقابات القطاع، أي رفضا للشرط الذي وافقت عليه قيادات نقابات التعليم في محضر اتفاق 18 يناير 2022.
لذلك فرفض منطق “الشراكة” في إعداد “مشروع النظام الأساسي الجديد” هو شرط لا غنى عنه للقدرة على استئناف النضال. وفكرة أن المشاركة في ذلك الإعداد أفضل من الكرسي الفارغ إذ سنضمن على الأقل بتواجدنا في اللجنة التقنية تضمين ذلك النظام الجديد حقوقنا، فكرةٌ خداعة وهدامة للنضال والمكاسب. وسابقةُ مشاركة القيادات النقابية في إعداد “مدونة الشغل” القائمة على نفس الفكرة دالة: تضمين فتات قابل لاسترداده مقابل تمرير هجمات ثقيلة، أي السم مغطى ببعض العسل.
سيُعتَبر إصدار النظام الأساسي الجديد (“النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”) هزيمة أخرى ستلحق بشغيلة قطاع التعليم، إذ كان المفروض عليهم- هن التعاقد يناضلون من أجل مطابقة أوضاعهم- هن مع أوضاع المرسمين- ات، بينما العكس هو الحاصل مع مشروع النظام الأساسي الجديد. لذلك فالإسهام في إصداره تحت أي مبرر كان، هو أيضا مشاركة في تلك الهزيمة. وسيكون أفضل من أجل استمرار النضال أو استئنافه في حالة توقفه، تفادي هذه المشاركة. ولا علاقة لهذا بالحضور في جلسات التفاوض من عدمه، فهذا أمر رهين بميزان القوى، لكن المشاركة في إعداد الهجوم لا يفرضه إلا قبولٌ به لا رفضا له ونضالا ضده.
لقد مضى زمن طويل وتنظيمات شغيلة التعليم (ومجمل الوظيفة العمومية) تكافح بشكل معزول عن بعضها البعض، وبمنطق استعارة حجج الدولة لمواجهتها بها (الترافع القانوني). ولن تتمكن شغيلة التعليم والوظيفة العمومية من مقاومة نتائج الهجوم واستنهاض الهمم لإسقاطه دون تصويب بوصلة النضال: إعداد القوة الجماعية لمجمل الشغيلة التي تُدمَّرُ شروط عملها القار من أجل مقاومة جماعية. دون هذا كل الأوهام ستؤدي إلى تكسر الآمال على صخرة واقع أصلب من كل الأماني.
بقلم: وائل المراكشي
اقرأ أيضا