اتفاق 18 يناير 2022 بقطاع التعليم: دلالات وعواقب، وما العمل؟
بتوقيع اتفاق 18 يناير 2022 مع وزارة التربية الوطنية، تكون قيادات نقابات شغيلة التعليم قد انساقت مع منطق الدولة، أي معالجة الحالات الفئوية الخاصة، وبمقاييسها هي، أي حسب اعتبارات ميزانيتها المحددة في قانون المالية. يتجلى هذا الحرص في الآجال المعينة لتنفيذ وعود تسوية أوضاع الفئات التي شملها الاتفاق، والتي اعتبرها بلاغ رئاسة الحكومة ذات أولوية. لم يتجاوز ما تمت تسويته، كليا أو جزئيا، 4 من 26 حسب قول ع. الراقي من نقابة تعليم- ك.د.ش.
ولا يخفى أن صعوبة إخفاء هزالة ما تحقق هي الدافع إلى وصف “الاتفاق” بالأولي تارة، وبالمرحلي طورا [وهل من اتفاق نقابي غير مرحلي؟]. وحتى ما “تحقق” لم يحظ برضا كل المعنيين، فقد عبر أطر التوجيه والتخطيط التربوي عن رفض “الاتفاق” باحتجاج أمام الوزارة يوم 19 فبراير. ومن جانبها عبرت تنسيقية الأساتذة حاملي الشهادات العليا عن عدم رضاها على ما يعنيها في “الاتفاق”… وجلي أن لا اعتراض على منطق الدولة الإجمالي، إذ تتناول كل تنسيقية وفئة على حدة، بالاعتراض والنقد، ما يعنيها في الاتفاق فقط.
وذات الموقف المتبرم عبر عنه بنحو أشمل أحد الموقعين بقول: “لسنا راضين على كل الأمور التي جاء بها الاتفاق، لأن الاتفاق ينبغي أن يتضمن جميع الملفات…. لكن نريد أن نكون إيجابيين “. وأضاف قائلا: “كان يمكن ضرب الطاولة ورفض التوقيع…. لكن لدينا مسؤولية ولدينا ملفات عديدة مهمة للمنظومة التعليمية وتحتاج لحل”.[عبد الرزاق الادريسي- موقع لكم]
لماذا، والحالة هذه، توقيع هكذا “اتفاق”؟
ثمة أمران خلف التوقيع. أولهما استبطان حالة الضعف التي توجد عليها الحركة النقابية بقطاع التعليم، حيث يستوجب رفض “الاتفاق” تحركا نضاليا لانتزاع مكاسب حقيقية، بينما نال الضعف من القوة النضالية القادرة على تحرك نضالي من ذلك القبيل. فقد فكك النزوع الفئوي المستشري أوصال الحركة النقابية في التعليم، وباتت كل فئة تناوش دون مقدرة فعلية على تحقيق نتائج جدية. كما أن سنوات مديدة من التخبط دون خطة نضالية اجمالية، والاستعاضة عنها بتحركات متحكم بها من فوق، منها التلاعب بشعار الاضراب العام، كرست مشاعر الاحباط ونقص الثقة في الذات لدى القواعد النقابية وعامة الشغيلة، وليس في قطاع التعليم فقط. لو غلب منطق تعبئة القوى على ملف مطلبي موحد في جبهة موحدة مع فئة المفروض عليهم التعاقد، وضمن تحرك إجمالي لكافة الأجراء بالقطاعين العام والخاص، لجاء بنتائج نوعية مغايرة.
وثانيهما منطق القيادات التعاوني، أي سياسة الشراكة مع الدولة في تنفيذ خططها مع تلطيف طفيف لبعض جوانب العدوان بتنازلات جزئية تكاد تكون مجهرية. وهو المنطق الذي تعمق بعد الردة الرجعية الشرسة التي تلت فترة الربيع العربي، بمبرر صون الاستقرار.
لم تتصرف نقابات التعليم كعضو في مركزيات، أي بمنطق تجنب التفاوض الانفرادي مع الدولة، والعمل، بدلا عن ذلك، مع باقي المكونات القطاعية، وسائر المركزيات، من أجل ملف مطلبي يطرح القضايا الكبرى [القدرة الشرائية، ظروف العمل، الحماية الاجتماعية، بما فيه التعويض عن البطالة، وسياسة تشغيل للشباب، الحريات [مشروعي قانوني الاضراب والنقابات]، وحشد مجمل القوى النقابية بنحو موحد لاكتساب قوة فرضه.
حققت الدولة بذلك مبتغاها، أي عزل القطاع الأقدر على النضال في الظروف الراهنة- التعليم- عن باقي قطاعات الطبقة العاملة، التي أصيب بعضها، لاسيما بالقطاع الخاص، بضعف بالغ نتيجة التسريحات و الإغلاق المبرر بالجائحة، وانصراف الدولة إلى العناية برأس المال، وترك الإجراء إلى مصيرهم الكارثي.
القيادات الموقعة يوم 18 يناير 2022 تكرس منطق شراكة اجتماعية مع الدولة، أي التعاون على تنفيذ خطط الدولة في قطاع التعليم [التخريب النيوليبرالي للمدرسة العمومية وحفز تجارة التعليم..]، والالتزام بالسير نحو ما يسمى “ميثاقا اجتماعيا” في القطاع يؤمن ما يسمى كذبا السلم الاجتماعي، وما هو إلا تصعيد للحرب الاجتماعية على الطبقة العاملة مع إبطال مقدرتها على الدفاع عن النفس.
ولا شك أن إشارة اتفاق 18 يناير إلى وجوب التزام الحوار والتفاوض كـ”قناة رئيسية لمعالجة كل القضايا الخلافية ” تلميح إلى التزام النقابات بعدم اللجوء الى الاضراب، وهذا مندرج في منطق السلم الاجتماعي. ولم يستجد هذا بتوقيع الاتفاق الأخير، بل يرجع إلى زمن بعيد منذ أول اتفاق وقعته قيادات النقابات في فاتح غشت سنة 1996 مع منظمة أرباب العمل والدولة، ملتزمة مذاك بالسلم الاجتماعي، والركون إلى ما تطلق عليه تلك القيادات “طاولة الحوار” معتبرة الإضراب أبغض الحلال على حد تعبير عبد الغني الراقي مثلا.
لا يمكن لاتفاقات بين القيادات ورب العمل مضرة بالشغيلة إلا أن تستتبع ضربا للديمقراطية داخل المنظمات النقابية، حيث تلجأ القيادات المنفلتة إلى إجراءات لاديمقراطية لفرض اتفاقاتها، ومجمل سياسة تعاونها مع الخصم، لقطع طريق رد كفاحي. تلك حالة اتفاق 18 يناير 2022 في التعليم. فقد ورد ضمن المقتضيات المختلفة[القسم الثالث من الاتفاق] ما يلي : “التزام الطرفين بالتحفظ تجاه مداولات اللجان الموضوعاتية، إلى حين التوصل إلى اتفاق نهائي”. هذا لا يعني سوى التزام قيادات النقابات بعدم اخبار القواعد بمجريات التفاوض. أما الوزارة فلن يمنعها مانع من إطلاع خبرائها وكل من تحتاج لتقوية موقعها أثناء التداول في اللجان. وهذا كذلك لم يستجد مع الاتفاق، فمنذ إصدار وثيقة “التدابير ذات الأولوية” صنة 2015 والقيادات النقابية تشتغل مع الوزارة في اللجان الموضوعاتية من أجل إعداد “النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين”، وكانت تلك القيادات تنفي علمها بوجود أي مشروع لهذا النظام، بينما وثائق الوزارة تؤكد العكس.
هذا شأن خطير يفاقم حالة انعدام ديمقراطية حقيقية في النقابات، وانزلاق إضافي في انفصال القيادات عن القواعد، وخطوة أخرى في تدمير ما تبقى من عمل نقابي لما سيخلفه، إلى جانب مفعول هزالة اتفاق 18 يناير، من مشاعر إحباط وانعدام ثقة وما يفضيان إليه من هجر النقابة.
وقد بلغ إبطال القيادات لمنطق التضامن العمالي مستوى التخلي الفعلي عن رفاق ورفيقات الكفاح في التنسيقية الوطنية للأساتذة المفروض عليهم- هن التعاقد. فتوقيع الاتفاق يوم 18 يناير 2022، أي في عز أسبوع إضراب المفروض عليهم- هن التعاقد له دلالته. القيادات النقابية تضع يدها في يد الدولة لعزل تلك الفئة المظلومة. وهل يعني الاستعداد لإبرام “سلم اجتماعي” [=الكف عن حرب النضال] ومشكل المتعاقدين لم يجد حلا، والوزارة ترفض الحل الوحيد العادل، غير خذلان القيادات لشغيلة التعاقد القسري؟ إنه تعميق للشرخ الذي حفرته القيادات منذ البداية بين قواعدها وحركة النضال ضد التعاقد بسلوكها المتخاذل، من تعبير كلامي عن التضامن واستنكاف عملي عن النضال المشترك ما كانت خطواته العملية غير دفع للحرج ليس إلا.
اتفاق 18 يناير 2022 نجاح للدولة في تدبير الشأن التعليمي ومشاكل الأجراء بالكيفية التي تريد، أي بأقل ما يمكن من تنازلات هزيلة، و في ما تشاء من آجال، ومماطلة التفاوض، وتوريط القيادات في التعاون مع الدولة لتنفيذ الطور الجديد من الهجوم على المدرسة العمومية وعلى شغيلتها. ولا شك أن أحد أكبر أوجه هذا التوريط التفاهم المحتمل على حول مشروع النظام الأساسي لمهن التربية والتكوين، هذا الذي لن يكون غير تجميع وتعميق لتدابير تطويع الشغيلة وفرط استغلالهم طبق منطق تدبير “الموارد البشرية” المستورد من جحيم الاستغلال بالقطاع الخاص والموصى بتطبيقه من أعلى سلطة بالبلد. أما الفتات الحاصل وحتى المحتمل، فستعصف به سياسة الدولة المسارعة في الهجوم بالغلاء والضرائب وتحويل الخدمات العامة إلى تجارة لدر الارباح على الأقلية البرجوازية.
الحالة النقابية العامة المحددة لما حصل
اتفاق 18 يناير 2022 بقطاع التعليم تعبير عن الحالة النقابية العامة المتردية: سرطان الفئوية والقطاعية [منطق التفاوض في القطاع وحده وليس كمركزية نقابية]، وسلبية القاعدة واتكاليتها، وفشل قوى اليسار [عدم رغبتها بالأحرى] في الذود عن نقابة طبقية، وإمعان من ليس يسارا- جهاز الاتحاد المغربي للشغل- في تبعية للدولة طالت زهاء 60 سنة.
مع تفكك اليسار الإصلاحي، غير العمالي، بانخراطه في قضاء أغراض الملكية (انتقال الحكم بعد وفاة الملك السابق، مواصلة سياسة البنك العالمي/صندوق النقد والاتحاد الاوربي الاستعمارية…)، بتوليه حكومة الواجهة أيام اليوسفي، تفكك الجزء المرتبط به من الجسم النقابي. أوغل بعضه في مسايرة أرباب العمل ودولتهم، وانضم بعض هذا البعض إلى حزب مستشار الملك. وتاه القسم الأعظم المحتفظ باسم الكونفدرالية دون أن يقل تعاونا مع الدولة.
ومع، من جهة أخرى، نجاح خلفاء بن الصديق في فتح صفحة جديدة من سياسة الموالاة للدولة، التي وضع أسسَها الزعيمُ التاريخي، دون مشاكل بفضل مساومة مغشوشة مع يساريين. استقر وضع الحركة النقابية على حالة من انعدام حد أدنى من الروح الطبقية وانسياق إلى معاونة الدولة في تدبير المسألة الاجتماعية المتفاقمة، مع ما يلازم ذلك من استشراء الانطواء الفئوي، ورفع الأسوار بين القطاعات وبين المركزيات النقابية، وإيغال في اندماج الجهاز النقابي في الدولة، أي انتفاء أدنى قدر من الحس الطبقي والدفاع عن مصالح الشغيلة الجوهرية.
القادم من ضربات: اجهاز على مكاسب التقاعد، قانون منع الإضراب، قانون النقابات…
الآن وقد نجحت الدولة في تحييد قطاع شغيلة التعليم المرسمين، الممثل قوة ضاربة بمجمل الساحة النقابية، ستتفرغ لحركة المفروض عليهم/هن التعاقد سعيا لفرض الحلول القائمة على رفض أي تنازل في الجوهر، والمراهنة على إنهاك الحركة في أمد ما، بعد سنوات من التضحيات، وجعلها تقبل المعروض عليها. كما ستباشر الدولة ما تسميه “الحوار مع المركزيات”، وستعمل بنفس منهجية “معالجة الملفات” قطاعيا، تجنبا لمنظور نقابي شامل من شأنه تأليف قوة الشغيلة. وستواصل الدولة استغلال ظروف الجائحة لمواصلة، وحتى تصعيد، قمع صبوات الاحتجاج وكل ّأشكال المقاومة العمالية والشعبية. وضمن هجوم الدولة هذا، ستسارع لتمرير مشروع قانون المنع العملي للإضراب، وستستأنف الهجوم على تقاعد الموظفين وتبدأ ضرب مكاسب تقاعد الضمان الاجتماعي، كما لن تتأخر في وضع مشروع قانون النقابات على طاولة “الحوار” كي تكرس قانونيا التضييق على انشاء النقابات وتدجينها.
ما المطلوب من الأوفياء للقضية العمالية؟
ليس الدرك الذي هوت إليه الحركة النقابية، المنتج لاتفاق 18 يناير 2022 في التعليم ولأشباهه المرتقبة في سائر القطاعات، غير نتيجة عادية لعقود من التردي النقابي المتواصل بفعل سيطرة خط التعاون الطبقي مع البرجوازية ودولتها، وما جر من تشتيت وهزائم وحتى استسلامات بلا معارك ليس أقلها ما جرى لتقاعد الموظفين.
وليس تدبير الدولة الجاري للعلاقة مع القيادات النقابية غير تمهيد طريق القادم من هجمات وإتاحة أفضل شروط نجاحها. فما يسمى “النموذج التنموي الجديد” طور إضافي في تنفيذ سياسات استعمارية يستفيد منها قسم من البرجوازية المحلية، على حساب قاعدة المجتمع العريضة وبمقدمته الطبقة العاملة محركة آلة الانتاج و المواصلات و الإدارة.
رغم ما حصل، وما تراكم من خسائر، يظل تنظيم قوى الشغيلة، وتعزيز إرادة النضال، وإنماء الروح الطبقية الوحدوية، السبيل الوحيد لاستنهاض المقاومة العمالية.
الحركة النقابية المغربية بحاجة إلى إعادة بناء على أسس نضالية، وهذا مطلوب داخل النقابات الحالية لأنها تضم قوى مناضلة رافضة لخط القيادات، مع أنها غير موحدة الرؤية، وأيضا لأنها تستقطب قوى عمالية جديدة باستمرار رغم سياسة القيادات الكارثية، نتيجة شدة الاستغلال والتنكيل الرأسماليين. كما هو مطلوب خارجها، حيث تظهر تنظيمات موازية بفعل الطابع المنفر الذي بات للنقابات، وأبرز مثال تنسيقية ضحايا التعاقد. ليست الوحدة النقابية وحدة الهياكل التي تتربع عليها بيروقراطيات، فهذه متنافسة في اسداء الخدمات مقابل منافع، بل وحدة الفعل النضالي في معمعان مواجهة تعديات البرجوازية ودولتها.
- إن السير على طريق إعادة بناء الحركة النقابية على أساس علة وجودها، أي تحسين شروط العمل والحياة وإنماء إرادة النضال ضد الاستغلال، يتطلب، أول ما يتطلب، تقييم حصيلة الخط السائد نقابيا، ومجمل تجربة النضال، أخذا بالحسبان التحولات الحاصلة في بنية طبقة الأجراء، لاسيما تعميم هشاشة التشغيل بالقطاعين الخاص والعام.
- ثانيا، الاستجابة لحاجات القطاعات المناضلة على صعيد الإلمام بقضايا النضال النقابي وصياغة المطالب الجوهرية (مجمل جوانب حياة الأجير- ة وأسرته- ها، لا الاقتصار على الدخل…)، وذات القدرة على توحيد قوى النضال، مع ما يجب من اهتمام بحالة النساء بما هن الفئة الأشد عرضة للاستغلال و القهر.
- إشاعة ثقافة الديمقراطية العمالية، في التسيير الذاتي للنضال وأدواته، ضد أساليب التحكم الفوقي ومنع التعبير عن الاختلاف وتدبيره، وضد تحويل النقابة إلى جهاز وسيط مساعد للدولة.
- تكوين الاطر النقابية بالفكر العمالي الأصيل، واغنائها بدروس انتصارات طبقتنا وهزائمها، في مواجهة التدجين واختزال المعرفة النقابية في “تقنيات” إدارة وتفاوض.
- خلق إعلام عمالي حقيقي، يستعمل التشهير بفرط الاستغلال، وبدور الدولة كجهاز سيطرة برجوازية، رافعة لاستنهاض قوى الاجراء وتنظيمها.
- تطوير التعاون المتجاوز للأسوار بين النقابات، وحفز كل أشكال التضامن، عماليا وشعبيا.
ختاما… الدولة، المعبر الجماعي عن مصالح الرأسماليين المحليين، وراعي مصالح القوى الاستعمارية الجديدة، سائرة بعزم، بعد تجديد الية التنفيذ، لترفع وتيرة تطبيق السياسة النيوليبرالية، مُمْعنة في استغلال جائحة كوفيد-19 لتعميم القمع اللازم لسير دكاكها. والغضب العمالي والشعبي الكامن يتعاظم، معبرا مؤخرا عن نفسه في موجه احتجاجات الشباب العارمة بعد سد باب العمل بشرط العمر. رد الكادحين والكادحات قادم، لا يخصه غير التنظيم ووضوح الرؤية كي لا يتبدد في مناوشات باتت للدولة البرجوازية مهارة فائقة في هزمها.
هنا دورنا جميعا، أنصار التغيير الشامل والعميق من منظور بروليتاري.
بقلم: م.ب
اقرأ أيضا