الحماية الاجتماعية: أهي حصانُ طروادةَ النيوليبراليةِ الجديدُ؟
بقلم: فرنسين مستروم Francine Mestrum[1]
وَضعتِ المنظماتُ الدوليةُ الحمايةَ الاجتماعيةَ على جدولِ أعمالِ السياساتِ. ثمةَ، رغمَ تباينِ نبرةِ المقترحاتِ خطرُ ألاّ يُؤدي الميلُ سوى إلى تعزيزِ المقاربةِ النيوليبراليةِ وأولويةِ النموِ الاقتصاديِ ومحاربة الفقرِ…وتمثل فكرةُ “المشتركاتِ الاجتماعيةِ” في الآنِ ذاتهِ بديلاً وتجديداً لمفهوم ِ الحمايةِ الاجتماعيةِ.
البنكُ العالميُ، ومنظمةُ العملِ الدوليةُ، ومنظمةُ الأممِ المتحدةِ، واللجنةُ الأوربيةُ، و اللجنةُ الاقتصاديةُ لأمريكا اللاتينيةِ والكاريبي، واليونيسف… كلُ هذه المنظماتِ وضعتْ مقترحاتٍ لاعتمادِ حمايةٍ اجتماعيةٍ في البلدانِ النّاميةِ. من شأنِ هذا أنْ يُجافئَ المرْءَ، بينما الأوليةُ المولاةُ لمحاربةِ الفقرِ تتعارضُ صراحةً مع الحمايةِ الاجتماعيةِ. والأمر مفاجئُ أكثرَ بقدر ما تتعرضُ الدولُ الاجتماعيةُ، في الآنِ ذاتهِ للتفكيكِ، في أوربا الغربيةِ.
كيفَ يُمكنُ تفسيرُ هذه المفارقةِ؟ هلْ يُراد أنْ يُفعل في العالمِ الثالثِ ما لمّ يعدْ مرغوباً فعلهُ في أوربا، مهدِ الحمايةِ الاجتماعيةِ؟ أمْ أنَّ الأمرَ يتعلقُ بشيءٍ آخرَ؟ سنُقدمُ في هذه المساهمةِ بعضَ خصائصِ المقترحاتِ الجديدةِ التي تتيحُ صوغَ بعضِ عناصرِ التفسيرِ. ليسَ للحماية الاجتماعيةِ، كما تُروّجها المنظماتُ الدوليةُ، علاقةٌ بفكرةِ الدولةِ الاجتماعيةِ بصيغتها الأوربيةِ. إن نموذجاً اجتماعياً في طورِ التبلورِ، في أوربا الغربيةِ وفي بلدانِ العالمِ الثالثِ سواءً بسواءٍ. وأخيراً، سنصوغُ بعضَ سُبُلِ تحسينِ الحمايةِ الاقتصاديةِ و الاجتماعيةِ للأفرادِ وللمجتمعاتِ.
من سياسةِ الحدِّ من الفقرِ إلى الحمايةِ الاجتماعيةِ
جرى وضعُ الحمايةِ الاجتماعيةِ على جدولِ أعمالِ السياساتِ الدوليةِ من قِبلِ البنكِ العالميِ في العام 1990 [2]. إذ لمْ يسبقّ قطُّ أن كانتِ الحمايةُ الاجتماعيةُ شاغلاً في خطابِ التنميةِ كما جرى إرساؤهُ بدءاً من سنواتِ 1950-1960. طبعاً، كانت منظمةُ الأممِ المتحدةِ تُعدُّ تقاريرَ عنِ الوضعِ الاجتماعيِ في العالمِ، والحديثُ جارياً عنْ مشاكلِ الصحةِ، والتعليمِ، والسكنِ، الخ، لكن ليس عنِ الفقرِ. ومن جانبٍ آخرَ، كان الحلُّ المقترحُ لهذهِ المشاكلِ هو “التنميةُ” الاقتصاديةُ و الاجتماعيةُ، وليس “محاربةُ الفقرِ”.
ليسَ اختيارُ الكلماتِ محايداً قطٌّ. لمْ تكنِ المقاربةُ الجديدةُ المقدمةُ من البنكِ العالميِ، تعيدُ تعريفَ مفهومَ الفقرِ وحسبُ، بل حتّى مفهوم “التنمية”، وذلكَ طبقاً لإجماع واشنطن [+]. إذْ يُعتبرُ الفقرُ، في التعريفِ الجديدِ، مشكلاً فردياًّ، ناتجاً عن نقصِ التنميةِ – الـمُماثَلةِ مع النموِ الاقتصاديِ- وعنْ أشكالِ الميزِ. ومن ثمةَ، يكمنُ الحلُّ في مواصلةِ السياساتِ النيوليبراليةِ، أيْ توازنِ الميزانيةِ، والإصلاحِ الجبائيِّ، والتبادلِ الحرِّ، ومحاربةِ التضخمِ، والاصلاحِ المؤسسيِّ…- وسياساتِ تعليمٍ وصحةٍ. و ليستِ الحمايةُ الاجتماعيةُّ، بحسبِ تصورِ البنكِ العالميِّ وبرنامجِ الأممِ المتحدةِ للتنميةِ، مشروعاً جيداً للبلدانِ الناميةِ. ولا تُمثلُ زيادةٌ في النفقاتِ الاجتماعيةِ جواباً ملائماً على مشكلِ الفقرِ (Mestrum, 2002 ). ومن جديدٍ، البنكَ العالميَّ هو أولُ من غيَّـّرَ القاموسَ والسياسةَ. فمنذُ العام 2000، أي بعدَ سنةٍ فقطْ من وضعِ الوثائقِ الاستراتيجيةِ للحدِّ من الفقرِ (DSRP)، وبموازاة وضعِ منظمةِ الأممِ المتحدة أهدافَ الألفية، قامَ بنشرِ مقترحاتِه من أجل إطارٍ نظريٍّ للحمايةِ الاجتماعيةِ. ومن جهةٍ أخرى، كان تقريرهُ عنِ التنميةِ في العالمِ (Banque mondiale, 2000 ) مُكرَّساً مرّةً أخرى للفقرِ، لكن مع تعريفاتٍ متزايدةِ الطابعِ الذاتيِّ (هشاشةُ، نقصُ “تمكينٍ” و صوتٍ). بيدَ أنَّ تلكَ الأفكارَ الأولى لم يتبعها أيُّ إجراءٍ ملموسٍ. وقد وجبَ انتظارُ بضعَ سنواتٍ، وأولى معايناتِ نقصِ محاربةِ الفقرِ وفشلها، كي تشرع‘ منظمةُ الأممِ المتحدةِ، ومؤسساتٌ دوليةٌ أخرى، في الحديثِ عن التفاوتاتِ وعن الحاجةِ إلى حمايةٍ اجتماعيةٍ أوسعَ.
ومعَ بدايةِ الأزمةِ، تسارعتِ الأمورُ. اقترحَ مكتبُ تنسيقِ الأممِ المتحدةِ وضعَ “ركيزةِ حمايةٍ اجتماعيةٍ” بقصد حمايةِ الأشخاصِ في أثناءِ الأزمةِ وبعدها(Nations unies, 2009). وشكلتْ منظمةُ العملِ الدوليةُ، التي سبقَ أن نظمتْ حملةً من أجلِ توسيعِ الحمايةِ الاجتماعيةِ، وأنْ تبنتْ إعلاناً بصددِ العدالةِ الاجتماعيةِ، مجموعةَ استشارةٍ حولَ ركائزِ الحمايةِ الاجتماعيةِ، برئاسةِ ميشال باشليه Michelle Bachelet . ونشرتِ اللجنةُ الأوربيةُ تقريرها الثانيَ عن التنمية في العامِ 2010، مُخصَّصاً للحمايةِ الاجتماعيةِ. وقامتْ من جانبها مؤسساتُ أخرى تابعةُ للأممِ المتحدةِ – شعبةُ الشؤونِ الاقتصاديةِ و الاجتماعيةِ (Undesa)، و معهدُ البحثِ في التنميةِ الاجتماعيةِ (Unrisd)- بنشرِ تقاريرَ ناقدةٍ لسياساتٍ محاربةِ الفقر، وقدمتْ اقتراحاتٍ من أجل حمايةٍ اجتماعيةٍ (Undesa, 2010; Unrisd, 2010).
وسارتِ اللجنةُ الاقتصاديةُ لأمريكا اللاتينيةِ والكاريبي واليونيسف أبعدَ من ذلك. حيثُ نشرتِ الأولى تقريراً مفصلاً عن حمايةٍ اجتماعية “دامجة”، بينما تجهدُ الثانية لعرضِ صورةٍ اجماليةٍ عن الحمايةِ الاجتماعيةِ المرغوبةِ (CEPAL, 2011; Unicef, 2012) . واستغلَ البنكُ العالمي ذلك كيْ يُحيّنَ وثيقتهُ لعام 2000. وفي السنةِ ذاتها، تبنتْ منظمةُ العملِ الدوليةُ توصيتها بشأنِ الركائزِ الوطنيةِ للحمايةِ الاجتماعيةِ (OIT, 2012) ، ونشرتِ اللجنةُ الأوربيةُ بلاغاً عن الحمايةِ الاجتماعيةِ في سياساتها للتعاونِ من أجلِ التنميةِ (Commission européenne, 2012)..
لا يصحُ اعتقادُ أن مختلفَ هذه المقترحاتِ تتبعُ نفسَ المنطقِ. فالفروقُ كبيرةٌ، حتى على صعيدٍ ايديولوجيٍّ. هذا ما يُضفي أهميةً على تحليلِ مختلفِ تلك الوثائقِ، من أجلِ استنتاجِ هامشِ المناورةِ السياسيةِ ومدى الحاجةِ إلى المقاومةِ. فإن كان بديهياً أنَّ الخطابات ليستْ حاسمةَ للممارساتِ، فيمكن لهذه الأخيرة أن تتيحَ معلوماتٍ قيِّمةٍ عن إرادةٍ المنظماتِ الدوليةِ وكذا عن المساحةٍ السياسية المتاحةِ للحكوماتِ وللحركاتِ الاجتماعية.
من المواطنة إلى تدبير المخاطر
لنبدأ بالأقربِ إلى تصورنا الغربي لدولة الرفاهيةِ، أي بالحمايةَ الاجتماعيةِ الدامجةِ عند اللجنةِ الاقتصاديةِ لأمريكا اللاتينيةِ والكاريبي. تقترحُ هذه المؤسسةُ، الوفيةُ لمقاربتها البنيويةِ، مواطنةً اجتماعيةً، قائمةً على الحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، وموجهةً نحو تقليصِ التفاوتاتِ. وتدافعُ عن مقاربةٍ شموليةٍ، مع التأكيد على أن الاستهداف (Ciblage) قد يكونُ أداةً تتيحُ تحقيقاً أفضلَ لهذه الشموليةِ. وتقترحُ ميثاقاً اجتماعياً من أجل تأمينِ دخلٍ للجميعِ يتيحُ مستوى عيشٍ ملائمٍ، وخدماتٍ اجتماعيةً وسوقَ عملٍ مضبوطٍاً. وتقومُ الدولةُ بدورٍ أساسيٍّ في تطبيقِ هكذا سياساتٍ. ويمثلُ تحقيقُ الحقوقِ الكونيةِ، في منظور التنميةِ الاجتماعيةِ هذا، هدفَ الحمايةِ الاجتماعيةِ.
تُمثّلُ هذه المقاربةُ، في السياقِ النيوليبراليِّ الذي نعيشُ فيه منذُ مدةٍ، استثناءً حقيقياً لأنه يتميزُ كلياً عن هكذا فلسفةٍ. ولا ريبَ أنَّ وجود مختلفِ الحكوماتِ التقدميةِ في أمريكا اللاتينيةِ من شأنه تفسيرُ عدمِ المطابقةِ هذه مع المعاييرِ الدوليةِ. بيدَ أنهُ لابدَّ من التأكيدِ على أنَّ هذا الخطابَ بعيدٌ عن التطبيقِ في معظمِ بلدانِ أمريكا اللاتينيةِ.
تقومُ مقاربةُ منظمةِ العملِ الدوليةِ، تقريباً، على نفسِ الأفكارِ، لكن مع وجودِ فروقٍ دقيقةٍ. وتبعثُ بعضُ المضامينِ على الشكِ في قابليةِ تفعيلها. ويتضمنُ التقريرُ التمهيديُّ المصاغُ برئاسة باشليه قدرً أكبرَ من النبرةِ النيوليبرالية مما يشوبُ التوصيةَ النهائيةَ. فإن كانتِ الوثيقتانِ تبدآن بعرضِ الحمايةِ الاجتماعيةِ بما هيَ حقٌ انسانيٌّ، فإنهما تؤكدانِ على مزاياها الاقتصاديةِ. فالحمايةُ الاجتماعيةُ تتيحُ إضفاءَ استقرارٍ على الاقتصادِ، وتدفعُ بالنموِ وبالإنتاجية. ومن جانب آخرَ، تنفرد منظمةُ العملِ الدوليةُ بوضعِ قائمةٍ لمختلفِ عناصر تصورها للحمايةِ الاجتماعيةِ (النقطة الخامسة في التوصيةِ)؛ وهي قائمةُ يتبوأُ فيها الدخلُ المكانةَ الأولى. بيدَ أنَّ تطبيقَ هذه الأهدافِ يظلُّ خاضعاَ لتقييم الدولِ الأعضاءِ، وثمةَ خطرُ اقتصارِ هذه على الحدِّ الأدنى.
تمزجُ منظمةُ العملِ الدوليةُ مقاربةً أفقيةً – متمثلةً في تطبيقِ ركائزها- ومقاربةً عموديةً، قائمةً على توسيعِ تغطيةِ الضمان الاجتماعيِ، بالنحوِ الواردِ في اتفاقيتها للعام 1952. تظلُّ هذه المقاربةُ وفيةً للفلسفةِ “القديمةِ” في مجالِ الحمايةِ الاجتماعيةِ، غير أنَّ نهجَ الدولِ الأعضاءِ لهذهِ الخطوطِ التوجيهيةِ أمرُ مشكوكُ فيه.
تتحدثُ التوصيةُ عن الحقوقِ الكونيةِ، مع إشارةٍ معظمَ الأحيانِ إلى حماية اجتماعيةٍ “للمعوزين”، ما يستتبعُ عمليةَ استهدافٍ. وتقول وثيقةٌ تمهيديةٌ بهذا الصددِ إنَّ المقاربةَ الكونيةَ ملائمةٌ، لكن قد تنقصُ المواردُ. وتضيف أنَّ المقدرةَ على جعلِ الحقِ في الحمايةِ الاجتماعيةِ واقعاً يعيشهُ الجميعُ محدودةٌ (OIT 2012). ما من سببٍ يدعو إلى الشكِ في حسنِ نوايا منظمةِ العملِ الدوليةِ في مضمارِ شُموليةِ الحقوقِ والضمانِ الاجتماعيِ، لكنَّ العديد من نقاطِ التوصيةَ ملتبسةٌ، وهذا أقلُّ ما يمكنُ قوله. وبالعكسِ، يجوزُ التشكيكُ في استعدادِ الحكوماتِ لتطبيقها.
يكتسي بلاغُ اللجنةِ الأوربيةِ أهميةً بالغةً بقدرِ ما أن أفكارها أقلُ تأثراً بالفكرِ النيوليبراليِّ مما هو أمرُ وثائقَ صادرةٍ ٍعن الإدارةِ العامةِ للتشغيلِ والشؤونِ الاجتماعيةِ وكذا المقترحاتِ المتعلقةِ بالسياساتِ الاجتماعيةِ للاتحادِ الاوربيِّ (الأكثر ليونةً، بدورها، من مقترحاتِ الادارة العامةِ للشؤونِ الاقتصاديةِ والماليةِ). وبنظرِ الادارةِ العامةِ للتنميةِ، تفيدُ الحمايةُ الاجتماعيةُ في زيادةِ مقدرةِ الأفرادِ، وبوجه خاصٍ مقدرةِ الجماعاتِ الفقيرةِ والهشةِ، وفي الإفلاتِ من الفقرِ أو تفادي السقوطِ فيه، وفي تدبيرٍ أفضلَ للمخاطرِ والصدماتِ. كما يجبُ أنْ تضمن تأميناً للمداخيلِ واستفادةً من الخدماتِ الأساسيةِ.
يستندُ البلاغُ على “ركائزِ” منظمةِ العملِ الدوليةِ، وكذا على اتفاقيتِها لعام 1952. يمكنُ للحمايةِ الاجتماعيةِ، “الواقعةِ في صلبِ النموذجِ الاجتماعيِّ الأوربيِّ”، بحسبِ اللجنة، أن يُعززَ الصلةَ بين المواطنينَ والدولةِ، ويدفعَ قُدماً الإنصافَ بينَ الأجيالِ. إن الحمايةَ الاجتماعيةَ، الواجب إرساؤها على إعادةِ توزيعٍ للثرواتِ على صعيدٍ داخليٍّ، تخدمُ التحررَ، وتحقيقَ الحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ أكثر ممّا يجبُ أنْ تنظمَ تحويلاتِ مداخيلَ مستهدفةً لفئات بعينها. تقترح اللجنةُ وضعَ الحمايةِ الاجتماعيةِ في مركزِ الحوارِ حولَ الاستراتيجياتِ الوطنية للتنمية، وتريد أن تأخذَ بالحسبانِ حاجاتِ كلِّ بلدٍ وأولوياتهِ.
طبعاً، تستهدفُ أيضاَ الخطوطُ التوجيهيةُ للجنةٍ في مجالِ الحمايةِ الاجتماعيةِ الاستقرارَ الاقتصاديَّ، وتنوي خرطَ القطاعِ الخاصِّ في تطبيقها، مع تفادي نقلٍ للمواردِ الدوليةِ. بيدَ أن مفاهيمَ التحررِ وضمانِ الدخلِ و إعادةِ التوزيعِ، مثلاً، لا أثرَ لها قطٌّ في وثائقِ البنكِ العالميِّ ولا في تلكَ المتعلقةِ بالسياساتِ الاجتماعيةِ داخل الاتحاد الاوربيِّ.
قدّمَ البنكُ العالميُ، في العام 2000، إطارا نظريًّا يتناول الحمايةَ الاجتماعيةَ بما هي “تدبيرٌ للمخاطرِ”. وبنظره، يمكنُ تفادي المخاطرَ، لكن الممارسةَ تبرهنُ أنَّ الامرَ غير ممكنٍ فعلاً دون تهديدِ النموِ الاقتصاديِّ. عندئذ، يكون المقصودُ “تخفيفَ” المخاطر و”مواجهتها” عندما تحدثُ. والأمر مُمكن بكيفياتٍ ثلاثٍ: من طرفِ الأفرادِ والأسرِ، ومن طرفِ السوقِ، ومن طرفِ الدولةِ. ومن هذا المنظورِ، يمثلُ عملُ الأطفالِ أو بيعُ المرءِ أصولَهُ آلياتِ “مواجهةٍ” للمخاطرِ مقبولةً تماماً .
وبعد سنتين، عاد البنكُ العالميُّ إلى مقترحاتهِ للعام 2000، وعرضَ وثيقةً بشأنِ مقدرةِ الصمودِ والإنصافِ والملاءمةِ (Banque mondiale, 2012) . وتروم مقترحاتُ 2012 الجديدةُ “تحويلَ استراتيجياتِ الحمايةِ الاجتماعية ومن أجل الشغلِ من تدخلاتٍ معزولةٍ إلى حزمةِ برامجَ متماسكةٍ”. القصدُ انتقالٌ من”التشظي إلى أنظمةٍ”(Banque mondiale, 2012).بيدَ أنَّ اللغةَ تظلُّ نفسَها كما في وثيقة 2000. وجرى وضعُ كلِّ المخاطرٍ في نفسٍ المرتبةِ، من الصدماتِ الاقتصاديةِ الإجماليةِ إلى الأوبئةِ والكوارثِ الطبيعيةِ. ويُقصدُ بـ”مقدرةِ الصمود ” وجوب أن تصدُرَ الحمايةُ من هذه “الصدمات” عنِ الافرادِ و الأسرِ، وتتيحَ لهمْ استعادةً سريعةً لزمامِ أمرهمْ. تجدرُ الإشارةُ إلى تعذُّرِ اعتبارِ بعضِ الوقائع “صدماتٍ”، من قبيلِ الأمومةِ والشيخوخةِ. ومن ثمةَ فهي مستبعدةٌ من الحمايةِ الاجتماعيةِ. وجليٌّ، فضلاً عن ذلكَ، إمكانُ تفادي جزءٍ من هذهِ المخاطرِ، مثل حملاتِ التلقيحِ وحمايةٍ البيئةِ، وبناء حواجزَ لوقفِ الفيضاناتِ، الخ.
يبدو أنَّ هذه المقاربةَ المختزلةَ للحمايةِ الاجتماعيةِ توجِّهُ الاستراتيجيةَ نحو جُملةِ تأميناتٍ اجتماعيةٍ تُشترى في السوقٍ، لا نحوَ أمانٍ اقتصاديٍّ و اجتماعيٍّ:” لدى الفاعلين الخواصِّ دورٌ حاسمٌ”. وبكيفية ايجابيةٍ أكثرَ، تجعلُ الوثيقةُ من العملِ جزءاً لا يتجزأُ من الاستراتيجيةِ “الاجتماعيةِ”. فالعملُ يمثلُ فعلا قدرةً كامنةً هامةً على مساعدة الأفرادِ للنجاةِ من الفقرِ. إنَّما رغمَ ما احتوى التقريرُ الأخيرُ عن التنميةِ في العالمِ من أوجهِ تقدمِ بهذا الصددِ، يظلُّ التقريرُ السنويُ عن ممارسةِ الأعمالِ التجاريةِ Doing business باعثاً جداًّ على القلقِ (Banque mondiale, 2013a et 2013b) . يتمثلُ هدفُ البنكِ العالميِ في بلوغِ توازنٍ بين الحمايةِ و التنافسيةِ، لكنه يرفضُ دمجَ معاييرِ منظمةِ العملِ الدوليةِ ومبادئها في استراتيجيتهِ. ويواصلُ نظرتَهُ السلبيةَ إلى الحد الأدنى للأجور وتحديدِ مُدَّةِ العملِ والعمل الليليِّ والعطلِ مدفوعةِ الأجرِ، الخ.
لا ينظرُ البنكُ العالميُّ بتاتاً إلى الحمايةِ الاجتماعيةِ من منظورِ الحقوق الكونيةِ. إنهُ يريدُ حمايةً “متصورةً جيداً ومستهدفةً جيداً”، و”مقدرةَ على الصمودِ عندَ الأشدِّ هشاشةً، والإنصافَ للفقراءِ، والفرصَ للجميعِ”(Banque mondiale, 2012). ليس الفقرُ بنظرهِ غيرَ مشكلِ أفرادٍ و أسرٍ فقيرةٍ، لا مشكلاَ اجتماعياًّ.
ولا تُثار الحقوقُ الانسانيةُ، لكنَّ ثمةَ تأكيد على أهميةِ الحمايةِ الاجتماعيةِ للنموِ الاقتصاديِّ وللإنتاجية. يجري التشديدُ على استقرارِ الطلبِ، وعلى الحركيةِ في سوقِ العملِ وعلى أمانِ الاستثماراتِ، وعلى تنميةِ رأسِ المال البشريِّ، وأخيراً على الحدِّ من التفاوتاتِ. “ستكونُ الحمايةُ الاجتماعيةُ في صلبِ الإصلاحاتِ من أجلِ النموِ” . تبدو كل القرائنِ دالة، على غرارِ إدخال الفقرِ في 1990، على أنَّ البنكَ العالمي لا ينوي إطلاقَ حملاتٍ من أجلِ حمايةٍ اجتماعيةٍ تتجاوزُ محاربةَ الفقرِ. إنه يبدو بالأحْرى متبنياًّ هذه المقاربةَ كي يعيدَ تحديدَ استراتيجيتهُ ويتخذَ موقعا جديدا.
هذا بكل الأحوالِ ما يتجلّى من خطابِ رئيسهِ، في ربيعِ العام 2013، ومن وثيقةِ الاستراتيجيةِ المتبناةِ في الجمعية العامةِ في أكتوبر2013 (Jim Yong Kim, 2013). لم يعدِ الأمرُ متعلقاً بالحماية الاجتماعيةِ، بلْ بالهدفينِ الممثلينِ مهمةَ البنكِ العالميِّ الجديدةَ: القضاء على الفقرِ الشديدِ خلال جيلٍ، والسير إلى رخاءٍ مشتركٍ. ومنذئذٍ، تصبحُ الحمايةُ الاجتماعيةُ في المقامِ الأولِ، إنْ بقيتْ يجدولِ الأعمالِ، استراتيجيةً اقتصاديةً للإسهامِ في تحقيقِ الأهدافِ النيوليبراليةِ التي يعملُ البنكُ العالميُّ لبلوغها منذُ زهاءَ ثلاثينَ سنةٍ. و الأمر لا يتجاوزُ عملاً لصالح الفقراء. صحيحٌ أن رغبةَ الحدِّ قليلا ما من التفاوتاتِ ايجابيٌّ بوجه خاصٍ. لكن البنكَ لا يعرف غير أداةٍ وحيدةٍ: النموَ الاقتصاديَّ.
نموذج اجتماعيٌّ جديدٌ: من الحمايةِ الاجتماعيةِ إلى حمايةِ الأسواقِ
لم يكنْ أبداً للدولِ الاجتماعيةِ في أوربا الغربيةِ أساسٌ نظريٌّ متينٌ (رغم أبحاثِ كتابٍ مثل روبير كاستيل Robert Castel ، و ت.ه.مارشال T. H. Marshall ، وفرانسوا إوالد François Ewald…). تفسر الكينزيةُ و الفورديةُ دورَ الدولةِ، لكنها تقفُ عند هذا الحدِ. إن للدولِ الاجتماعيةِ الأوربيةِ، مع تباينِها البالغ من بلدٍ إلى آخرَ، خصائصُ مشتركةٌ عديدةٌ. فكلها قائمةٌ على مبدأ المواطنةِ وتساوي الحقوقِ- ومن ثمةَ طابعُ الشموليةِ الكامنِ فيها-، وعلى نزع طابع السلعةِ عن بعض المنتجاتِ (الخدماتِ العامةِ)، وعلى تضامنٍ عضويٍ؛ نحنُ متضامنونَ مع اشخاصٍ لا نعرفهمْ. وهذا التضامنُ جماعيٌّ، ممولٌ باشتراكاتٍ أو بضرائبَ.
كانتّ أوربا، مهدُ هذا التضامنِ، مصدرَ إلهامٍ لنماذجِ الحمايةِ الاجتماعية المعتمدةِ في العالمِ الثالثِ. وقد تبنتْ منظمةُ الأممِ المتحدةِ في العام 1969 إعلاناً حول “التنميةِ والتقدمِ الاجتماعيِ” مع برنامجٍ مطابقٍ للعهد الدوليِ للحقوق الاقتصاديةِ و الاجتماعيةِ والثقافيةِ المتبنى في 1966. وشرعتْ فعلاً معظمُ بلدانِ العالمِ الثالثِ في تطوير حمايتها الاجتماعيةِ برغم اقتصارها في أفقرِ البلدانِ على أنظمة تقاعدٍ وتأمين مرضٍ للعسكرِ و للموظفينَ ولعمالِ القطاعِ المنظمِ. بيد أن الايمانَ بالتقدمِ الاجتماعي كان مؤكدّاَ.
اليومَ، تتعرضُ كلُ الأنظمة للتفكيكِ أو تغييرِ منطقها. بدأت عمليةُ التقويضِ في سياق أزمة الديونِ الخارجيةِ المنفجرة في سنواتِ1980، مع برامجِ التقويمِ الهيكليِ المطبقةِ في بلدانِ الجنوبِ. وحالياَ، باتتْ بلدانُ الاتحادِ الأوربيِ ضحيتها. وقد شُرِعَ في العملِ النظريِّ منذ سنوات 1990، مع تطبيق سياساتِ الحدِّ من الفقرِ، وتم تكريسهُ بصياغةِ البنك العالميِّ إطاراً مفاهيميّاً. ففي الخطابِ حولَ الفقرِ نجد كلَّ مكوناتِ العولمةِ النيوليبراليةِ وما تتيحُ من سياساتٍ اجتماعيةٍ.
ما خلا منظمةَ العملِ الدوليةَ، لا تأخذُ المنظماتُ بالحسبانِ مجالَ تطبيقِ الحمايةِ الاجتماعيةِ. طبعاً، تتيحُ المقترحاتُ الجديدةُ التقدمَ أبعدَ من سياساتِ الحدِّ من الفقرِ، باعتمادِ سياساتٍ اجتماعيةٍ أخرى بعدَ الصحةِ و التعليمِ، لكن دون تدقيقٍ ويظلُّ الأمر أولويةً خاصةً بالفقراءِ. وفضلاَ عن ذلكَ، ما من شيءٍ يُجبرُ الدولَ على اعتمادِ حماياتٍ عريضة كالتي توصي بها منظمةُ العملِ الدوليةُ. ويمكنُ خلقُ أسواقٍ جديدةٍ في التأمين عن المرضِ وفي التعليمِ و التقاعد الخ. ويبدو أنَّ إضفاءَ الليبرالية والخصخصة على الخدماتِ العامةِ مقبولُ بكلِّ مكانٍ. بيدَ أن تغيراً هامّاً حصلَ داخلَ البنكِ العالميِ الذي بات يقبلُ التحويلاتِ الماليةِ، مع ضآلتها في الواقع، مثلَ المنحةِ العائليةِ Bolsa Família في البرازيل أو الدخلَ الأساسيَّ في ناميبيا.
أما التغطيةُ الاجتماعيةُ، فمنظمةُ العملِ الدوليةُ، دون سواها، تتحدثُ عن حقوقٍ شاملةٍ. وتدلُّ كلُّ القرائنِ على أن الحمايةَ الاجتماعيةَ الجديدةَ موجهةٌ أساساً للفقراء، وتشكلُ في الواقعِ سياسةَ حدٍّ من الفقرِ محسنةً، في خدمةِ النموِ الاقتصاديِ. وينحصرُ دورُ الدولةِ، كما تدعو الاستراتيجياتُ السابقةُ، في مساعدة أفقرِ الناسِ ولا تعني منحَ حماية لمجموعِ السكانِ.
وأخيرا، لا تتحدثُ المنظماتُ الدوليةُ عن تمويلِ الحمايةِ الاجتماعيةِ. وحدها منظمةُ العملِ الدوليةُ أكدتْ أن حتى أفقر البلدانِ بموسعها ذلكَ التمويلِ(OIT, 2008). ستكونُ الحمايةُ الاجتماعيةُ الجديدةُ، في إطارِ محاربةٍ للفقر في بلدانِ العالمِ الثالثِ حيثُ وزنُ بالغُ للقطاعِ غير المنظمِ، قائمةً أساساً على أنظمة لا تعتمدُ المساهماتِ، وممولةً بالضرائبِ. وقد يؤدي هذا في النهاية إلى تهديدِ أنظمةِ المساهمةِ.
إن الاتحادَ الاوربيَّ هو الذي يعرضُ في الواقع حاليا أوضحَ لوحةٍ لما ينتظرنا في مجالِ الحماية الاجتماعيةِ: “استثماراتٌ اجتماعيةٌ” تتيحُ تطويرَ رأسَ المالِ البشريِّ وتستبعدُ السياساتِ غير «المربحة” (تأمين عن المرض لأشخاص العمر الرابع، دراسات وتكوين تفضي مباشرةً إلى سوق العملِ)، و “ابتكاراتٌ اجتماعيةٌ”، أي المقاولاتُ الاجتماعيةُ – حتى الشركاتُ متعددةُ الجنسيةِ- والمبادراتُ الخاصةُ والجماعيةُ.
لم يعدْ للحمايةِ الاجتماعيةِ الراهنةِ، مثلَ “النموذج الاجتماعيِّ الاوربيِّ”، علاقةٌ بتصوراتِ ما بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، ما عدا عندَ اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية و الكاريبي. فقدْ جرى في أوربا، على غرارِ العالم الثالثِ، تخليٌّ كُليٌّ عن خصائصٍ الدولِ الاجتماعيةِ الناشئةِ بعدَ العام 1945. لقد تغيرَ هدفُ أنظمةِ الحمايةِ الاجتماعيةِ. لم يعدِ الأمرُ متعلقاَ بالمواطنة ولا بالشموليةِ و لا بالتضامنِ، ولا بضمان مداخيلَ في حالةِ المرضِ والحادثةِ و البطالةِ والشيخوخة. ضمن الرؤيةِ النيوليبراليةِ. كلُّ هذهِ المفاهيم وكذا نزعُ طابع السلعةِ، وضمانُ الدخلِ وإعادةُ التوزيعِ، اختفتْ من الخطاباتِ ومن الممارساتِ.
وبرغم استمرارِ إشارةِ منظماتٍ دوليةٍ عديدة إلى الحقوقِ الإنسانيةِ، بات الهدفُ الرئيسُ اقتصاديّاَ: النموُ والاستقرارُ والإنتاجيةُ. البعدُ الاجتماعيُّ مخضعٌ اليوم للاقتصادِ. والأمر جليٌّ بنحوٍ خاصٍ في خطابِ البنكِ العالميِ والاتحادِ الأوربيِ(Mestrum, 2014) ،لكن دودةَ النيوليبراليةِ موجودةٌ في كل المؤسساتِ الدوليةِ رغمَ استمرارِ حديثٍ هنا وهناكَ عن ضمانِ المداخيلِ.
لا تزالُ أنظمةُ الحمايةِ الاجتماعيةِ في أوربا وفي العالمِ الثالثِ بالغةَ التباينِ، لكنها سائرة إلى الالتقاءِ تحت تأثير فلسفةٍ ثاويةٍ مماثلةٍ، مطابقةٍ للسياساتِ النيوليبراليةِ. ولم تأتِ هذه بمبادئَ اقتصاد جديدةٍ وحسبُ، بلْ أيضا بنموذج دولةٍ جديدٍ، أقوى لحماية الأسواقِ، لكنهُ أقلُ تدخلاً على الصعيدينٍ الاقتصاديٍ والاجتماعيٍ (Fukuyama, 2005).
أفقٌ أبعدُ: الحماية الاجتماعية للبعضِ ليست الحمايةَ الاجتماعية لبعض آخر
ثمةَ منذُ الآنِ خلاصتانِ واجبتان. أولا، تُمثلُ سياساتُ الحمايةِ الاجتماعيةِ المقترحةِ اليومَ تحسيناَ قياساَ بسياساتِ الحدِّ من الفقرِ. إذ تتيحُ السيرَ أبعدَ قليلاً بتبني مقاربةٍ نقديةٍ. ثم، باستثناء اللجنةِ الاقتصاديةِ لأمريكا اللاتينيةِ والكاريبي والبنك العالميِ، طرفي المجال الأقصيين، تتركُ مقترحاتُ المنظماتِ الدوليةِ هامشَ مناورةٍ هاماً للدولِ وللحركاتِ الاجتماعيةِ. لاشكَّ أن الحديثَ عن تنافسِ المنظماتِ الدوليةِ مغالاةُ، لكنَّ يبدو حسبَ كل المعطيات أن ثمة، خارج الأوساطِ الاقتصاديةِ المحضِ، إرادةٌ ما في الحفاظِ على أفكارِ “الماضي”. ليس ثمةَ (بعدُ) تناغمٌ تامٌ بين الادارةِ العامة للتنمية بالاتحاد الأوربيِ ومنظمة العملِ الدوليةِ. ومن شأنِ مقترحاتهما، مهما كانتْ محدودةً، أن تمثلَ مرحلةً أولى لإتاحة قدرٍ أدنى من الحمايةِ الاجتماعيةِ لكافة العمالِ في القطاعينِ المنظمِ وغير المنظمِ، وكذا لأسرهم.
البنكُ العالميُّ، ومنظمةُ العملِ الدوليةُ، واللجنةُ الأوربيةُ، هي المؤسساتُ الثلاثةُ ذاتُ مواردَ ماليةٍ لتطبيقِ سياساتها. الأولى أغنى وفي الآن ذاتهِ أقدرُ على السيطرةِ على هذه “السوقِ” الجديدةِ. وإنه لأمر هامٌ بالنسبة للحركاتِ الاجتماعيةِ أن تفكرَ في نمطِ الحماية الاجتماعيةِ المطلوبِ، وأن تدعمَ قدرَ المستطاعِ جهودَ منظمةِ العملِ الدوليةِ التي تتيحُ أكبر إمكانٍ لحماية اجتماعيةٍ ملائمةٍ. كما أنه لابدَّ من إعمالٍ أعمقَ للتفكير. يجبُ أن تكونَ نقطةُ الانطلاقِ اعتبارَ كلِّ البشرِ، أيّاً يكنْ ما يعيشونَ في ظلِّه من نظامٍ اقتصاديٍ وسياسيٍ، بحاجةٍ إلى حماية اجتماعيةٍ وأمانٍ اقتصاديٍ. ونعْلمُ أيضاً أن سياسةً مناخيةً وحمايةً بيئيةً تتيح لنا البقاءَ إنما هيَ ضرورةٌ ملحةٌ. ولا يمكن فصلٌ بين هذه الأبعادِ الثلاثةِ.
ومن المفيدُ التفكيرُ في سياسات “تغييريةٍ” تستهدفُ جذورَ الفقر، والتفاوتاتِ، والبطالةِ، وظروفِ العملِ السيئةِ، وتغيرِ المناخِ. وبالقيام بذلك، يظهرُ بسرعةٍ أنه سيكونُ للسياساتِ الاجتماعيةِ أثرٌ على السياساتِ الاقتصاديةِ و البيئيةِ، والعكسُ بالعكسِ. وفضلاً عن ذلكَ، سيكونُ لسياسةٍ قائمةٍ على المشاركةِ، تستلزمُها حماياتٌ مستجيبةٌ لأولوياتٍ يحددها الأشخاصُ، تأثيرٌ حاسمٌ على الديمقراطيةِ. هذا عملٌ ليس بسيطاً، وتطبيقُ هكذا استراتيجياتٍ يتطلبُ تغييراً في ميزانِ القوى في مجتمعاتنا. وتكمنُ أكبرُ فرصِ تجسيدٍ للتغييراتِ المنظوميةِ اللازمةِ في الانطلاقِ من حاجاتِ الأشخاصِ الاجتماعيةِ الفعليةِ.
لا تزالُ خطوةٌ إضافيةٌ ممكنةً. يتعرضُ مفهومُ الحمايةِ الاجتماعيةِ اليوم لتقويض بتأثير المقترحات الدوليةِ الجديدةِ. لماذا لا تُصاغ بدائلٌ بمنطق “مشتركاتٍ اجتماعيةٍ”؟
لدينا جميعاَ نفسُ الحاجاتِ، بالشمالِ و بالجنوبِ سواء بسواءٍ. قد تكونُ إجاباتُنا عليها متباينةً، لكنَّ سياسةً تغييريةً كالموصوفةِ أعلاهُ ستتطلبُ بجميع الأحوالِ مُقاربةً جماعيةً، وشموليةً، وتضامنيةً. ومن شأن تلكَ “المشتركاتِ الاجتماعيةِ” أن تتيحَ تجديدَ الأداةِ المفهوميةِ المتمثلةِ في الحمايةِ الاجتماعيةِ وتأكيد الحاجةِ إلى حماية المجتمعاتِ أيضاً.
سيمثِّلُ ذلكَ قطعاً نهائياً مع النيوليبرالية التي لا تعرفُ غير أفرادٍ. فقد قامتْ هذه الأخيرةُ، بتأكيدها على التنافسيةِ، بتدمير العلاقاتِ الاجتماعيةِ والمجتمعاتِ و الجماعاتِ. ليس المقصودُ، في مقاربةٍ بديلةٍ، القطعُ مع الحداثةِ والحقوقِ الفرديةِ، بل دمجُ الدفاعِ عنِ الحقوق الجماعيةِ والذودِ عن الحقوقِ الفرديةِ وكذا الدفاع عن المجتمعاتِ ذاتها[3]. ويكتسي هذا البعدُ الجماعيُ أهميةً بالغةً عند علم أنَّ الفقرَ علاقةٌ اجتماعيةٌ، ومشكلٌ مجتمعيٌّ، وليس مجردَ مشكلِ فقراءٍ.
أساسُ فكرةِ “المشتركاتِ الاجتماعيةِ”- المتطلبةِ بعْدُ عملاُ نظرياًّ هامّاً- أن العلاقاتِ الاجتماعيةَ ليستْ تعاقديةً محضاً بلْ هي مكونةٌ لكل كيان فرديٍّ. فالمجتمعُ ضروريُّ لبقاء الافرادِ. وليست “المشتركاتُ الاجتماعيةُ” “ممتلكاتٍ عامةً”، بل مرجعها “الملك المشترك”، أي ما تتقاسمه البشريةُ. ويتطلبُ بزوغُها مقاربةً قائمةً على المشاركةِ لا تتجاهلُ دورَ الدولةِ الهامَّ، وتتأسسُ على الإيمان بمقدرةِ الشعوبِ على الإمساك بزمامِ حاضرها وعلى صُنعِ مستقبلها، في إطار احترامٍ متبادلٍ واحترامٍ للطبيعةِ. ]مكنُ، على هذا النحوِ، أن تصبح “المشتركاتُ الاجتماعيةُ” أداةَ التغييراتِ المنظوميةِ التي يحتاجها العالمُ. وبوسعها انْ تُسهمَ في بناء عالم مُغايرٍ، مُحترمٍ للناسٍ وللطبيعة.
وضعتِ المنظماتُ الدوليةُ الحمايةَ الاجتماعيةَ على جدولِ الأعمالِ. ولحدِّ الساعة، لا ردَّ فعلٍ من جانب الحركاتِ الاجتماعيةِ. وهي مهددةٌ بالوقوع في شراكِ تغيير في القاموسِ لا يفعلُ غير تعزيزِ المقاربة النيوليبراليةِ. ماذا تنتظرُ بعدم عرضِ بدائلها؟
كيفَ التيقنِ من عدم اقتصار السياساتِ الجديدةِ على محاربة الفقرِ ، ومن تناولها للحمايةِ الاجتماعيةِ بكيفيةٍ تضامنيةٍ، أي شاملةٍ للأمان الاجتماعيِ وللمساعدةِ ولقانون العملِ والخدماتِ العامةِ وللحقوق البيئيةِ؟
قد يكونُ الطريقُ من الخطابِ إلى الممارسةِ طويلاً ومُتعرجاً. وقد يكونُ فهمٌ جيدٌ لما يجري تحضيرهُ مفيداً لإعداد الردِّ. أملنا أن تقومَ الحركاتُ الاجتماعيةُ، التي أبانتْ عن قوتها في العقودِ الأخيرةِ في عددٍ من أشكالِ المقاومةِ، بصياغةِ بدائلَ ملموسةٍ لمنحِ السكانِ مستقبلاً اجتماعياً أفضلَ.
المصدر:
Alternatives Sud
: Volume 21-2014 / 1
:Protection sociale au Sud
Les défis d’un nouvel élan
Points de vue du Sud
ترجمة المناضل-ة
****************
المراجع
Banque mondiale (2013a), Rapport sur le développement dans le monde 2013,
Washington.
Banque mondiale (2013b), Doing Business, Washington.
Banque mondiale (2013c), World Bank Group Strategy, Washington.
CEPAL (2011), Protección social inclusiva en América latina, Santiago de Chile, ONU.
Commission européenne (2012), Communication sur la protection sociale dans la coopération
au développement de l’Union européenne, COM (2012) 446 finale.
Fukuyama, F. (2005), State Building. Gouvernance et ordre du monde au 21e siècle,
Paris, La Table Ronde.
Mestrum, F. (2002), Mondialisation et pauvreté. De l’utilité de la pauvreté dans le nouvel
ordre mondial, Paris, L’Harmattan.
Mestrum, F. (2013), The World Bank and Social Protection, www.globalsocialjustice.eu/
index.php?option=com_content&view=article&id=358:the-world-bank-and-socialprotection&
catid=10:research&Itemid=13.
Mestrum, F. (2014), Op weg naar een sociaal Europa ? Over de verwording van de verzorgingsstaten,
Vooruitgroep, à paraître.
Jim Yong Kim (2013), World Bank and Poverty Reduction, Speech at Georgetown
University 2 April 2013, www.worldbank.org/en/news/speech/2013/04/02/world-bankgroup-
president-jim-yong-kims-speech-at-ge orgetown-university.
OIT (2008), Can Low Income Countries Afford Basic Social Security ?, Social Security
Policy Briefing Paper 3, Genève.
OIT (2012a), Recommandation concernant les socles nationaux de protection sociale,
n° 202, adoptée par la Conférence internationale du travail, Genève.
OIT (2012b), Social Protection Floors for social justice and a fair globalization, Report IV,
document for ILC.
UN System Chief Executive Board for Coordination (2009), The Global Financial Crisis
and its impact on the Work of the UN System, New York, ONU.
Undesa (2010), Re-thinking poverty, Report on the World Social Situation, New York,
ONU.
Unicef (2012), Integrated Social Protection Systems. Enhancing Equity for Children, New
York, ONU.
Unrisd (2010), Combating Poverty and Inequality. Structural Change, Social Policy and
Politics, Genève, Unrisd.
[1] – فرنسين مستروم مسؤولة إدارية بمركز القارات الثلاث CETRI, ، وعضو المجلس الدولي للمنتدى الاجتماعي العالمي، ومسؤولة بمنظمة العدالة الاجتماعية العالمية Global Social Justice
(www.globalsocialjustice.eu),. من مؤلفاتها: Building Another World : Re-thinking Social Protection (2013).
[2] – كان البنك العالمي قد حاول وضع الفقر على جدول الأعمال في مطلع سنوات 1970. آنذاك لم تكن الأفكار النيوليبرالية موضةً.
[3] – انظر، لمزيد من المعلومات بهذا الصدد، www.globalsocialjustice.eu
اقرأ أيضا