دروس كومونة باريس، 1871: الذكرى 150 لكومونة باريس!
بقلم دنيس هورمان 11/03/2021
أحيى مناضلو الطبقة العاملة ومناضلاتها عبر العالم ذكرى كومونة باريس الـ150 شهر مارس/آذار الفائت.
تذكيرا بمسار أول سلطة عمالية، وبدروسها، يترجم موقع المناضل-ة هذا النص للرفيق دنيس هورمان الرابط بين دروس اول سلطة عمالية منهزمة بدروس أول ثورة عمالية ظافرة أقامت دولة عمالية نخرتها الثورة الستالينية المضادة.
في 18 آذار/مارس عام 1871، ستة أشهر بعد سقوط الإمبراطورية الثانية للإمبراطور لويس نابليون بونابرت (نابليون الثالث) وقيام الجمهورية الثالثة، حاصر الجيش البروسي باريس وجوعها.
دروس كومونة باريس، 1871
«أجل لكن!
الوضع ليس على ما يرام
ستنتهي الأيام السيئة
وحذار من الانتقام
عندما سينهض كل الفقراء
عندما سينهض كل الفقراء»
أغنية، الأسبوع الدامي، كتبها، في حزيران/يونيو عام 1871، جان باتيست كليمان، صحفي ومناضل كومونة باريس
تتحكم الطبقات المالكة -كبار الملاكين وقادة الصناعة الرأسماليين- بالحكومة الجمهورية برئاسة أدولف تيير الذي فشل في فرض سيطرته على سكان باريس الثائرين. يفتقر أدولف تيير إلى قوات موثوقة. وفشلت محاولته لاستعادة البنادق وخاصة المدافع من الحرس الوطني. اضطر لتسليم العاصمة إلى السكان المسلحين. وهرب مع حكومته إلى فرساي.
في باريس، يضمن 170000 فرد من الحرس الوطني، مجهزين بالمدافع والبنادق، أساسا ماديا للسلطة الجديدة المتمثلة في اللجنة المركزية للحرس الوطني. تمثل هذه السلطة بالتأكيد سلطة العمال والحرفيين وصغار التجار الذين يشكلون سواد الحرس الوطني الأعظم. لكن هذه السلطة الجديدة، المترددة وغير الواعية إلى حد ما بقوتها، سعت فورا، ليس إلى انتصار عسكري، بل إلى شرعية جمهورية.
في 28 آذار/مارس، تم إعلان قيام كومونة باريس. انسحبت اللجنة المركزية للحرس الوطني لصالح كومونة باريس لكنها احتفظت بسلطاتها العسكرية. كومونة باريس! يجسد هذا الاسم الحركة الثورية بحكومتها العمالية الخاصة.
نلاحظ والحالة هذه سلطتين متوازيتين: من جهة، السلطة البرجوازية، سلطة حكومة الجمهورية الثالثة، برئاسة أدولف تيير؛ ومن جهة أخرى، سلطة كومونة باريس، أول جمهورية اجتماعية، وأول محاولة عظيمة لارساء سلطة بروليتارية في التاريخ الحديث.
اتخذت الكومونة قصر بلدية باريس مقرا لها. وسقوم بتطوير برنامجها ووضع الأسس الاقتصادية لسلطتها. لكنها لن تدوم سوى شهرين، من 28 آذار/مارس إلى 28 أيار/مايو. إن البرجوازية وحكومة أدولف تيير، المستقرتين في فرساي واللتين كان لهما متسع وقت لإعادة التسلح، ستحققان ضد الكومونة انتصارًا ليس انتخابيًا، بل انتصارًا عسكريًا ساحقًا.
بإقبار الكومونة تحت آلاف الجثث وإطلاق النار على الكومونيين وتعذيبهم وترحيلهم، لم تكن البرجوازية الفرنسية مخطئة بارتكاب ذلك. لقد عاينت بوضوح للغاية أن هذه الجمهورية البروليتارية الأولى كانت خطرًا قاتلاً على العالم القديم المبني على الاستعباد والاستغلال. لم يكن بد من سحقها.
قبل 150 عاما وحسب تشكلت أول جمهورية بروليتارية
واليوم، ضمن من يحتفون بالذكرى السنوية الـ 150 لتأسيسها، ثمة من سيؤكدون بحق على بطولة الكومونيين وجنود الحرس الوطني المتمردين الذين يتكون معظمهم من العمال والحرفيين؛ لكنهم/ن سيسعون/ن إلى تثبيت معالم الكومونة نهائياً على صورة الهزيمة والسحق.
ولن يتردد غيرهم من برجوازيين وإصلاحيين، في تجاهل إمكانية ثورات ظافرة، مفضلين بكثير الثوار الموتى على الثوريين الأحياء.
وهناك آخرون، ونحن منهم، سيحتفون بهذه الذكرى، دون نسيان دروس انتفاضة باريس، مستعينين بكارل ماركس وفريدريك إنجلز، اللذين كانا في صف الكومونيين.
بعد قرن ونصف، لا تزال الكومونة تجسد أمل حدوث تغييرات ثورية عظيمة. حمل هذا الأمل شعب باريس وبعض الشخصيات العظيمة مثل لويز ميشيل أو أوجين فارلان أو جول فاليس الذي أهدى كتاب ه “الثائر”«إلى قتلى عام 1871، وإلى جميع ضحايا الظلم الاجتماعي،
الذين حملوا السلاح ضد عالم سيء الصنع، وشكلوا،
تحت راية الكومونة، فيدرالية الآلام الكبيرة».
أعظم حدث ثوري في القرن التاسع عشر
إبان الثورات الفرنسية في أعوام 1789 و1793 و1830 و1848 ، كان شعب باريس صنع الجمهورية للآخرين، للبرجوازيين وصغار البرجوازيين. وفي آذار/مارس عام 1871 نظم الثورة لنفسه. من أجل جمهورية اجتماعية تدافع عن مصالحه الخاصة ومصالح المستغَلين/ات برمتهم/ن.
دعونا أولا نلقي الضوء على الأحداث الرئيسية التي أدت إلى انتفاضة كومونة باريس.
الثورة الفرنسية (1789-1794)
كيف لا نستحضر بادئ ذي بدء أول حركة ثورية في فرنسا، الثورة الفرنسية (1789-1794)، التي هزت ملايين الرجال والنساء في المدن والقرى.
في 14 تموز/يوليو عام 1789، قام شعب باريس، بوجه ملكية حق إلهي، مع لويس السادس عشر، الذي لم يكن ينوي التخلي عن أي شيء من حكمه المطلق، بالاستيلاء على الباستيل، الترسانة الملكية. كان هذا الحدث سبب بداية انهيار السلطة الملكية وبداية الثورة الفرنسية.
كانت الثورة الفرنسية خصوصا ثورة برجوازية-رأسمالية (1). كان معظم قادة هذه الثورة الراديكاليون من صغار البرجوازيين، وبعضهم أرستقراطيين منفصلين طبقيا.
اضطلع اليعاقبة، النادي السياسي للفصيل الأكثر ثورية في البرجوازية (روبسبير، سان جوست، إلخ)، بدور رائد، معتمدين على الجماهير الشعبية والفلاحين الفقراء والحرفيين وعمال المدن، و«اللامسترولين» ذوي سروايل طويلة في تعارض مع الأرستقراطيين والبرجوازيين قصيري السراويل.
في 10 آب/أغسطس عام 1792، ستشهد باريس كومونتها الانتفاضية الأولى، بمساعدة اليعاقبة و«اللامتسرولين». كان ذلك بداية الجمهورية الأولى، باعتقال الملك لويس السادس عشر وإعدامه بالمقصلة في كانون الأول/يناير عام 1793.
إن طابع الكومونة الشعبي، وما حملت من أفكار راديكالية، يجعلانها مؤسسة «لللامسترولين». إنها تعبر، بشكل غير واضح أحيانا، عن مطالب ترسم مسبقاً معالم اشتراكية القرن التاسع عشر الثورية.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن (26 آب/أغسطس عام 1789)، وتقاسم الثروات، والحق في العمل، والسيادة الشعبية، والديمقراطية المباشرة والتفويضات القابلة للإلغاء، إلخ، كانت هذه المطالب واشتغال هذه الكومونة الانتفاضية الأولى في العام 1792 مصادر إلهام لماركس بشأن مفهومه عن «دكتاتورية البروليتاريا».
كما نعاين في مقالاته حول الثورة الفرنسية: يرى ماركس ضرورة أن تكون دكتاتورية البروليتاريا تعبيراً عن القوة السياسية للبروليتاريا، المنظمة في مجالس ديمقراطية، بعيدًا عن كونها مجسدة في حزب طليعي.
في أيلول/سبتمبر عام 1793، نهج اليعاقبة سياسة تحمل اسم الإرهاب، استهدفت بداية الملكيين والمضاربين، لكنها ستضرب في الأخير الكومونيين الذين لم يعد روبسبير متحكماً بهم. انتهى به الأمر إلى قمع الكومونة وتحجيمها. و جاء دوره، في تموز/وليو 1794، اعتقله المؤتمر الوطني الفرنسي، الجمعية الحاكمة، وأُعدم بالمقصلة.
كان ذلك نهاية الثورة الفرنسية.
1830: الثورة الثانية، «الأيام الثلاثة المجيدة»، الأيام الانتفاضية الثلاث، أيام 27 و28 و29 تموز/يوليو
إبان ثورة تموز/يوليو عام 1830، نصب منتفضو باريس المتاريس بمساعدة الجمهوريين والحرس الوطني المسلح وقسم من البرجوازية. إنها انتفاضة ضد سياسات الملك شارل العاشر الرجعية.
عول كثيرون على استعادة الجمهورية. وأخيرا أطيح الملك. لكن غالبية نواب حكومته نصبوا ملكًا جديدًا على العرش: لويس فيليب.
1848: الثورة الفرنسية الثالثة
في شباط/فبراير العام 1848، بضعة أيام قبل بدء فرنسا ثورتها الثالثة، نشر كارل ماركس وفريدريك إنجلز بيان الحزب الشيوعي، مع ندائه المُوحِد: «يا عمال جميع البلدان، اتحدوا.» يبدأ البيان بهذه العبارة التنبؤية: «شبح يرعب أوروبا: شبح الشيوعية.»
أطاحت انتفاضة باريس، التي كانت عصيانا عماليا وبرجوازيا، النظام الملكي مرة أخرى ومعه ملكه لويس فيليب. وتم في 22 شباط/فبراير إعلان قيام الجمهورية الثانية. أصبح لويس بونابرت أول رئيس لها. لكن الطبقات العاملة تريد جمهورية «اجتماعية».
من 22 إلى 26 حزيران/يونيو، شهدت باريس انتفاضة ثورية مرة أخرى، مع عودة ظهور المتاريس، لكنها كانت هذه المرة ضد البرجوازية وليس ضد الأرستقراطية وحسب. أمرت الأغلبية المحافظة في الحكومة بإغلاق الأوراش الوطنية، التي تشكل مكسبا اجتماعيا لثورة شباط/فبراير عام 1848 (2). كان ذلك سبب اشتعال هذا الانتفاضة. ستُسحق هذه الأيام الثورية في الدم مخلفة آلاف الضحايا في صفوف المنتفضين:
«لأول مرة كانت البرجوازية تبرز مدى القسوة الشنيعة التي قد تنتقم بها، بمجرد تجرؤ البروليتاريا على مواجهتها، كطبقة متميزة، لها مصالحها ومطالبها الخاصة. ومع ذلك، كان عام 1848 لعب صبية مقارنة بسعار البرجوازية عام 1871.»
فريدريك إنجلز، مقدمة كتاب كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا، 1871. طبعات اجتماعية باريس، 1963، ص 16.
انتفاضة عمال نسج الحرير في مدينة ليون
يتعلق الأمر بإحدى أعظم الانتفاضات الاجتماعية في بداية عصر الثورة الصناعة. عمال نسج الحرير في ليون، هم نساجون حرفيون، عمال منازل لتجار الحرير الذين يزودونهم بالمواد الخام. إنهم/ن يعملون تحت الطلب، ويحصلون على أجورهم/ن بالقطعة، ويشتغلون/ن 14 ساعة يومياً و18 ساعة أحيانا.
في عام 1831، نضم النساجون اضراباً مطالبين بحد أدنى من تعريفة لائقة وتحسين ظروف عملهم. قرروا الاتحاد في جمعيات، وكنسوا قانون شابلييه (1791) الذي كان حل منظمات العمال والحرفيين المهنية وحد من حق العمال في التعبير. إنه إضراب مسلح، مع نصب المتاريس والاستيلاء على مدينة ليون بدعم قسم من الحرس الوطني.
بعد ثلاثة أيام من الانتفاضة، أرسل الملك لويس فيليب 20 ألف جندي لإنهاء حركة الإضراب تلك. وفي العام 1834، نظم عمال الحرير النساجون مرة أخرى اضراباً ضد عمليات خفض الأجور، لكن الإضراب قمع في الدم. أمر وزير داخلية لويس فيليب، ويدعى أدولف تيير، القوات بالتدخل. ستخلف العملية ما يفوق 600 قتيل و10000 معتقل، أثناء «الأسبوع الدامي» من 9 إلى 15 نيسان/أبريل عام 1834. سيكون ذلك تمهيداً «للأسبوع الدامي» الذي سينهي كومونة باريس في عام 1871، بأمر من أدولف تيير ذاته.
حدثت في العام 1848 هبة أخرى أخيرة لعمال نسج الحرير في مدينة ليون: حملوا السلاح أثناء «الأيام الثورية» في شباط/فبراير عام 1848، عندما فرضت بروليتاريا باريس الجمهورية الثانية. لم يتم التوقيع على بعض التحسينات في الأجور بين التجار وعمال نسج الحرير إلا بعد ذلك بفترة مديدة. كان لانتفاضة عمال نسج الحرير صدى وطني وعالمي.
«نحن عمال نسج الحرير ، كلنا عراة
لكن سيحل عهدنا
عندما ينتهي عهدكم
سننسج كفن العالم القديم
لأن صوت الانتفاضة المزمجر بات مسموعا»
عمال نسج الحرير، أغنية كتبها أريستيد بروانت (1894).
مقدمات كومونة باريس عام 1871
أدت جملة عوامل إلى انتفاضة باريس. كانت حرب لويس نابليون على بروسيا والهزيمة الفرنسية في سيدان في أيلول/سبتمبر عام 1870 سبب استسلام فرنسا ونهاية إمبراطورية لويس نابليون الثانية وإعلان الجمهورية الثالثة.
سرعان ما انفجر التعارض والتوترات بين الحكومة، برئاسة أدولف تيير والمؤلفة بالكامل تقريبًا من البرجوازية من جهة، والبروليتاريا المسلحة في العاصمة من جهة أخرى. ولضمان الدفاع عن باريس، انضم جميع الباريسيين القادرين على حمل السلاح إلى الحرس الوطني، فبات العمال يشكلون السواد الاعظم.
احتلال الجيش البروسي لجزء من العاصمة، وتفاقم الجوع والبطالة في صفوف الطبقة العاملة، وافلاس البرجوازية الصغيرة، وسخط الجماهير ضد الطبقات العليا، والتشكيلة الرجعية للحكومة الجمهورية والجمعية الوطنية … أدت هكذا جملة عوامل، ضمن أمور أخرى، إلى ثورة 18 آذار/مارس عام 1871.
منذ الدفاع عن باريس ضد الغازي البروسي، بلغ عدد أفراد الحرس الوطني 180 ألف مسلح. أعاد شعب باريس السلطة إلى هذا الحرس الوطني ولجنته المركزية.
حاول أدولف تيير عبثًا نزع سلاح الحرس الوطني واستعادة بنادقه ومدافعه. هرب إلى فرساي، مع حكومته وإدارته وقواته وشرطته والجمعية الوطنية.
في 26 آذار/مارس، نظمت اللجنة المركزية للحرس الوطني انتخابات في باريس، وقدمت حجة مهيبة: «قانون المدينة غير قابل للتقادم مثل قانون الأمة؛ يجب أن يكون للمدينة، مثل الأمة، مجلس يسمى دون تمييز مجلس بلدي أو جماعي أو كومونة»(3).
في 28 آذار/مارس، تم إعلان قيام الكومونة أمام حشد من مائة ألف شخص، كما يقال. انسحبت اللجنة المركزية للحرس الوطني لصالح الكومونة، لكنها احتفظت بسلطاتها العسكرية.
لن تعيش الكومونة سوى 72 يومًا، من 28 آذار/مارس إلى 28 أيار/مايو عام 1871.
أول تجربة سلطة العمال
في عام 1871، تولى جيل ثوريي حزيران/يونيو عام 1848 زمام الأمور حيث كان توقف قبل ثلاثة وعشرين عامًا، وعاش هذه المرة أول تجربة سلطة عمالية. في 30 أيار/مايو 1871، بعد يومين وحسب من سحق الكومونيين، كتب ماركس نصًا طويلًا بعنوان «الحرب الأهلية في فرنسا، عام 1871».
إنه خطاب موجه إلى جمعية الشغيلة الأممية (AIT)، وهي أول منظمة أممية نشأت في لندن عام 1864.
كتاب «الحرب الأهلية في فرنسا، عام 1871» (4) مثال من طراز فريد لتحليل ماركسي مطبق على أعظم حدث ثوري في القرن التاسع عشر.
كان ماركس على وعي بانعدام الاستعداد لهذه الانتفاضة. كما أشار لينين:
«كان ماركس حذر العمال الفرنسيين صراحة في أيلول/سبتمبر 1870،أي قبل الكومونة بستة أشهر؛ فقد صرح في رسالته الشهيرة التي وجهها باسم الأممية قائلا: إن الانتفاضة ستكون ضربا من جنونً. وقد فضح ماركس مسبقًا الأوهام القومية الضيقة حول إمكانية قيام حركة تشبه حركة 1792 … لكن حين ثارت الجماهير، شاء ماركس أن يسير معها، وأن يتعلم معها، في غمرة النضال، لا أن يلقي مواعظ بيروقراطية (…). يقدر ماركس أسمى التقدير كون الطبقة العاملة تصنع تاريخ العالم ببطولة، وتفان، وبروح المبادرة (…). عرف ماركس أن يرى أنه لا بد من نضال ضار تخوضه الجماهير في بعض فترات التاريخ، حتى في سبيل قضية يائسة. وذلك لأجل تثقيف هذه الجماهير نفسها فيما بعد، لأجل تحضيرها للنضال التالي.»
لينين، مقدمة الترجمة الروسية لـ “رسائل إلى كوغلمان” لماركس، المختارات بالعربية ، الجزء 3-صفحات 78 الى 82 – دار التقدم موسكو 1976
ديمقراطية مباشرة وتمثيلية
في غضون شهرين، من 18 آذار/مارس إلى 28 أيار/مايو، مارس شعب باريس نوعًا غير مسبوق من الديمقراطية، توفق بين رقابة مباشرة في أسفل واقتراع عام. كانت مجلس الكومونة مكونا من مندوبين بلديين من مختلف مقاطعات باريس، تم انتخابهم باقتراع «عام» من قبل جميع المواطنين. كان المندوبون مسؤولين وقابلين للعزل في أية لحظة، وخاضعين لرقابة دائمة. تنطبق أيضا إمكانية العزل هذه على موظفي جميع فروع الإدارة الأخرى، بما في ذلك قادة الحرس الوطني. كان المندوبون إلى الجمعية يحظون بتفويض إلزامي (5). كانت تشكيلة المجلس أساساً شعبية. وكانت تضم غالبية العمال والحرفيين والمستخدمين والصحفيين والمدرسين والفنانين وبعض المحامين والأطباء وصغار أرباب العمل.
كانت الكومونة تجمع في معركة واحدة، اشتراكيين «ماركسيين» -لكن هذا التوصيف لم يكن موجودا بعد- أعضاء الأممية الأولى، ويعاقبة وجمهوريون اجتماعيين وبلانكيين (6) وبرودونيين يساريين (7). كانت السلطة الثورية تضمن التعددية الحزبية. كما اعتمد مجلس جمهورية باريس ذو الحكم الذاتي نظاماً جماعيا لتسيير الخدمات، إنها عمليا «وزارات».
كانت عشر لجان تشتغل: الجيش والشؤون الخارجية والأمن العام والعدالة والمالية والتعليم والإعاشة والخدمات العامة والعمل واللجنة التنفيذية. كان علم الكومونة علم «الجمهورية العالمية». وكان الأجانب المنتخبون في مجلس الكومونة يشغلون مناصب هامة. وهكذا، كان ليو فرانكل، المناضل العمالي المجري المقيم في فرنسا، وعضو الأممية الأولى، وصديق ماركس، منشط لجنة العمل.
كان «الاقتراع العام» لانتخاب المندوبين في مجلس الكومونة مقتصرا على المواطنين، حيث جرى استبعاد النساء. لم يُمنحن حق التصويت حتى عام 1944! مع ذلك، لم يحل الأمر، أثناء الانتفاضات السابقة، وبالأحرى عند الدفاع عن كومونة باريس، دون أن يتنظمن في «الاتحاد النسائي لأجل الدفاع عن باريس ورعاية الجرحى/ات». و توجهن إلى اللجنة التنفيذية للكومونة من أجل حمل مطالبهن الرئيسية بفخر وبصوت عالٍ وواضح: المساواة بين الجنسين و إلغاء التناحر بين المستغِلين/ات والمستغَلين/ات. ولم يقتصر حضورهن على الإسعاف و التمريض والإطعام؛ بل كن أيضا في المتاريس أثناء «الأسبوع الدامي».
«كانت النساء قد مررن، رافعات العلم الأحمر في المقدمة؛ كان متراسهم في ساحة بلانش. كانت هناك إليزابيث دميتريف ومدام ليميل ومالفينا بولين وبلانش لوفيفر وإكسوفونز. وكانت أندري ليو في المتاريس الموجودة في باتينيول. كانت أكثر من عشرة آلاف امرأة في أيام أيار/مايو، يقاتلن جماعياً أو مشتتات، من أجل الحرية».
لويز ميشال ، من شخصيات الكومونة الكبرى.
أول «حكومة عمالية» على الكوكب
في خطابه الموجه إلى جمعية الشغيلة الأممية، أشار ماركس إلى سر الكومونة الحقيقي:
«كانت، من حيث الجوهر،حكومة الطبقة العاملة، نتيجة نضال طبقة المنتجين ضد طبقة المالكين، الشكل السياسي الذي اكتشف أخيرًا والذي كان يسمح بتحقيق التحرر الاقتصادي للعمل (…). كان على الكومونة والحالة هذه أن تعمل كرافعة لإطاحة الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها وجود الطبقات، وبالتالي الهيمنة الطبقية (…). كانت الكومونة تعتزم إلغاء هذه الملكية الطبقية، التي تجعل عمل الكثرة ثروة القلة. كانت تهدف إلى مصادرة ملكية المغتصبين (…). كان الاجراء الاجتماعي الأعظم للكومونة هو وجودها بالذات ونشاطها. ما كانت بوسع إجراءاتها الخاصة أن تكون إلا مجرد دلالة على اتجاه حكومة الشعب من قبل الشعب.»
الحرب الأهلية في فرنسا عام 1871،
دعونا نشير إلى الاجراءات الرئيسية لبرنامج الكومونة، البرنامج الذي صوتت عليه، وسعت إلى تطبيقه في وقت وجيز وبما تحت تصرفها من إمكانات قليلة. كان مرسوم الكومونة الأهم ينص على إنشاء منظمة للصناعة الكبيرة وحتى المانيفاكتورة، والذي لم يكن قائماً على تشارك العمال في كل مصنع وحسب، بل أيضًا على تجميع كل هذه الجمعيات التعاونية في فيدرالية كبيرة.
كان إجراء آخر من هذا القبيل متمثلاً في منح الجمعيات جميع الأوراش والمصانع التي كانت مغلقة وتخلت عنها البرجوازية الهاربة، بشرط دفع تعويض. كان هذا أيضًا هو حال حظر بعض الأعمال الليلية، بما في ذلك عمل الخبازين، وتجميد سعر الخبز، وإلغاء محلات الرهن [مصرف للتسليف مقابل رهن-المترجم] التي كانت تستغل قروض الباريسيين، وخفض الإيجارات.
أصدرت الكومونة مرسوماً ينص على فصل الكنيسة عن الدولة وإلغاء الميزانية الدينية، فضلاً عن تحويل جميع ممتلكات الكنسية إلى ملكية وطنية. وأنشأت التعليم الابتدائي والمهني. كتب فريدريك إنجلز، في مقدمته لكتاب ماركس ماركس الحرب الأهلية في فرنسا عام 1871:
«استبد مؤخرًا رعب خطير بالاشتراكيين الديموقراطيين التافهين عند سماعهم كلمة دكتاتورية البروليتاريا. حسنًا، أيها السادة، هل تريدون أن تعرفوا كيف تبدو هذه الديكتاتورية؟ انظروا إلى كومونة باريس. لقد كانت دكتاتورية البروليتاريا.»
فريدريك. إنجلز، نفس المرجع. ص 25.
ليست «دكتاتورية البروليتاريا» أمرا آخر غير الديمقراطية العمالية.
بحكم اشتغالها ومخططها البرنامجي، وضعت كومونة باريس أسس مؤسسات دولة من طراز مغاير لذلك الخاصة بالدولة البرجوازية: مؤسسات ذات تنامي نوعي للديمقراطية المباشرة، عكس الديمقراطية التمثيلية غير المباشرة. وكذلك المؤسسات القائمة على مجالس عمالية وذات سيادة ومنتخبة ديمقراطياً وممركزة والتي وضعت الكومونة أسسها. وهكذا شهدت انتخاب جميع المندوبين الذين يمثلون العمال في مؤسسات الدولة، وانتخاب جميع الموظفين والقضاة وقادة الميليشيات العمالية. أقرت الكومونة قابلية عزل المنتخبين بناء على رغبة الناخبين، وزيادة درجة نقل الوظائف الإدارية إلى الهيئات التي شكلها العمال مباشرة، وحصر دخل جميع المندوبين في مؤسسات الدولة … في حدود دخل العامل المؤهل.
مواقف مترددة وأخطاء فادحة
«الطبقة العاملة الباريسية، التي كان يعوزها حزب خاص بها يوجهها ويحقق ديكتاتوريتها، ارتكبت أخطاء عديدة.
لم تلاحق العدو دون سماح له بالتقاط الأنفاس، لكنها سمحت له بالتراجع وتنظيم صفوفه في فرساي؛ كما لم تستول على بنك فرنسا. لم تكن تعرف كيف تربط العلاقة التي تطمح إلى إقامتها مع الفلاحين؛ كانت كريمة مع العدو الطبقي الذي يجب محوه عندما لا يستسلم»
كارل ماركس
يوضح تاريخ الكومونة أنه في الفترة الثورية، بينما تنشأ «سلطة العمال» بشكل غير محسوس، لا تزول السلطة البرجوازية مع ذلك. في باريس، لم تعد آلة الدولة البرجوازية قائمة، وكذلك في المدن الإقليمية بدرجة أقل. بيد أن السلطة الممركزة للدولة البرجوازية كانت لا تزال موجودة غير بعيد في فرساي، بحكومتها، وجمعيتها الوطنية، وجيشها الدائم، وبوليسها، وبيروقراطيتها.
كان بوسع الكومونة المسلحة إبطال مفعول هذا الجهاز برمته منذ البداية، في باريس نفسها، وعلى الأرجح دون إراقة دماء. كان ممكناً سجن جميع الوزراء، وعلى رأسهم أدولف تيير وبدون إراقة دماء. لن يرفع أحد يده دفاعاً عنهم. كان بإمكانها، مع الكومونيين المسلحين، تحطيم جهاز الدولة البرجوازية تماماً في بداية تنصيبها في فرساي. كانت هناك مواقف مترددة مكلفة للغاية.
في غضون ذلك، تمكنت حكومة أدولف تيير المشؤومة من إعادة تنظيم جيشها، بما في ذلك مفاوضة بسمارك، عدوها سابقاً، للإفراج عن 100 ألف جندي فرنسي أسير. ارتكبت الكومونة أخطاء أخرى: فهي لم تستول على بنك فرنسا، ما من شأنه حرماتن تيير من أي قدرة مالية.
«كان البنك يحتوي على ما يلي: 77 مليون نقدا؛ أوراقا نقدية تبلغ 166 مليون؛ ومحفظة 899 مليون؛ قيم ضمان مسبق تبلغ 120 مليونا؛ وسبائكا بقيمة 11 مليونا؛ ومجوهرات مودعة تبلغ 7 ملايين؛ وأوراقا مالية مودعة تبلغ 900 مليون: أي 2 مليار و180 مليون (…) كانت اللجنة المركزية ارتكبت خطأً فادحًا عندما تركت جيش فرساي يفلت من قبضتها؛ وكانت الكومونة ارتكبت خطا أفدح بمائة مرة. بدأت جميع الانتفاضات الجدية بالاستيلاء على عصب العدو، الصندوق. كانت الكومونة هي الوحيدة التي رفضت ذلك. ألغت المؤسسات الدينية التي كانت في فرساي وظلت في حالة ذهول أمام صندوق البرجوازية العليا التي كان في متناولها.»
بروسبر-أوليفييه ليساغاراي، كوموني، بعد بضعة سنوات من عام 1871، تاريخ الكومونة عام 1871. دار النشر لاديكوفيرت/سيروس، باريس 2000، ص 525.
ولم تعرف الكومونة أيضًا كيفية تنسيق «كومونات» المدن الإقليمية، ليون ومرسيليا وسانت إتيان وناربون وتولوز وليموج وديجون ولو كروزيه، … حيث حاول العمال أيضًا الاستيلاء على السلطة، وإعلان قيام الكومونة والاقدام على تخليص باريس؛ ولم تدع الفلاحين إلى اشعال الثورة. وضاعت في نزاعات بين مختلف مكوناتها…
مذبحة ما شهدت باريس نظيرا لها!
لم يكن واردا لدى أعداء الكومونة في فرساي أن يمنحوها وقت وإمكان إرساء وتوطيد أسس الجمهورية البروليتارية الأولى. ولم يكن لدى الكومونة وقت كاف للمواجهة عندما هاجمت حكومة تيير باريس بدعم البرجوازية بأكملها.
اندلعت في البداية مناوشات، ولم يتردد جيش فرساي في إطلاق نار الإعدام على الكومونيين الأسرى، بينما كانت الكومونة حتى ذلك الحين متساهلة للغاية مع خصومها. ثم بعد ذلك، بعد إخضاع «كومونات» المدن الإقليمية (ليون ومرسيليا …)، هاج الفرساويون على سكان باريس، أثناء «الأسبوع الدامي» من 21 إلى 28 أيار/مايو. لقي ما يناهز 30 ألف باريسى حتفهم على يد الجنود، واعتقل ما يناهز 45 ألفًا، وجرى لاحقا إعدام كثيرين منهم. تعرض الآلاف للسجن أو المنفى. اجمالاً، فقدت باريس زهاء 100000 محارب، من أفضل العمال من جميع المهن (8).
الكومونة لم تمت!
«كل هذا لا يمنع،يا نيكولا
أن الكومونة لم تمت
تباً، سيشعرون قريبًا،
أن الكومونة لم تمت»
من أغنية كتبها في مايو 1886 يوجين بوتييه ، مؤلف نشيد الأممية، الذي شارك في معارك «الأسبوع الدامي»
كتب ماركس، في اليوم التالي لـ «الأسبوع الدموي»: «باريس عمال عام 1871، باريس الكومونة، سيظل يُحتفى بها إلى الأبد بمها هي انجاز مشرف مبشر بمجتمع جديد». بعد 40 سنة، كتب لينين، القائد الرئيسي للثورة الروسية: «إن قضية الكومونة هي قضية الثورة الاجتماعية، أي قضية التحرر العمالي التام سياسياً واقتصادياً ، أي قضية بروليتاريا العالم. وبهذا المعنى، فهي خالدة.»(9).
بالكاد بعد ست سنوات من سحق الكومونة، عندما كان محاربون عديدون لا يزالون قابعين في السجن أو في المنفى، كانت الحركة العمالية تنبعث بالفعل من جديد في فرنسا. إن الجيل الاشتراكي الجديد، الذي أغنته خبرة أسلافه، ولم تثبط هزيمتهم همته قط، ارتمى على العلم الساقط من أيدي محاربي الكومونة ورفعه إلى أمام بثقة وجرأة بصرخات «تحيا الثورة الاجتماعية». وبعد أقل من خمسين سنة بعد الكومونة، قامت ثورة اجتماعية جديدة في روسيا، ظافرة هذه المرة.
في غضون ذلك، استخلص لينين، محرك هذه الثورة الرئيسي، دروس سحق الكومونيين. وبوجه وحشية أعداء الكومونة، استنتج ماركس وإنجلز الدرسين الرئيسيين للثورات القادمة.
في أعقاب هزيمة الكومونة، أشار ماركس إلى مهمة أساسية أثناء الثورة: «لا يمكن للبروليتاريا الاستيلاء على آلة دولة «جاهزة» وحسب، ولكن عليها أيضاً تحطيم الآلة العسكرية والبيروقراطية للدولة وتأسيس ديكتاتورية البروليتاريا». تتطلب هذه «الدكتاتورية» من جهة، تدمير جهاز الدولة البرجوازي، وجهازه القمعي، ومن جهة أخرى، تتأسس وتمارس على قاعدة الديمقراطية العمالية، كما رأينا في اشتغال كومونة باريس.
الدرس الثاني: لا تكفي «العفوية الثورية» للبروليتاريا لتحقيق الانتصار على البرجوازية الممركزة والصارمة والمستقوية بالسلطة الاقتصادية. إن نجاح البلاشفة عام 1917 في ما أخفق فيه الكومونيون يبرز بجلاء الدور الأساسي للحزب الثوري. لم يكن تشرين الأول/أكتوبر عام 1917 نتيجة مؤامرة، أو «انقلاب» من قبل حفنة محرضين محترفين.
«لم تسقط انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر من السماء مثل صاعقة حمراء فاجأت الجميع. بل كان نتيجة تطور سياسي طويل تواجهت خلاله الأحزاب، وخاصة القوى الاجتماعية. لقد جذرت الطبقات الشعبية والطبقات الحاكمة، كل في معسكره، مواقفها بناء على تجارب تواجههما للاستيلاء على السلطة.»
أوليفييه بزانسونو، ما العمل بـ 1917؟ تاريخ مضاد للثورة الروسية. دار النشر أوترومون Autrement، باريس عام 2017، ص 77.
كانت هذه الثورة الظافرة نتيجة تركيب استراتيجي بين الحزب البلشفي وانتفاضة شعبية قادتها السوفييتات (مجالس العمال) أساساً، هذه التجمعات الشعبية التي ضمت العمال والفلاحين والجنود. لم يكن ممكناً نجاح هذه الثورة لولا هذا التضافر بين تنظيم البروليتاريا الروسية الذاتي من جهة، والحزب البلشفي بحيويته الديمقراطية الداخلية (10) من جهة أخرى، وانغراسه النضالي في قطاعات المجتمع، وخاصة في السوفييتات، واصراره ال\ي لا يلين ، رغم كل صنوف العوائق، على وجهة الاستيلاء على السلطة.
بالكاد بعد بضعة أشهر من الثورة، وبقصد تحطيم هذه الثورة، اندلعت حرب أهلية، أثارتها ونظمتها القوى الرأسمالية العظمى بدعم القوات الملكية الروسية. حرب استمرت زهاء خمس سنوات ودمرت البلد وتركته مستنزفاً. حرب قضت على مناضلي التسيير الذاتي في تشرين الأول/أكتوبر عام 1917 وفتحت الباب أمام إجراءات خنق الحريات، في إطار اشتغال الحزب البلشفي وفي المجال السياسي: منع الاتجاهات والتكتلات (مؤتمر عام 1921)، والغاء التعددية السياسية، واللبس المكتنف باستمرار، منذ الاستيلاء على السلطة، للعلاقة بين الدولة والحزب والطبقة العاملة…
كما تكاثر ما اتخذت السلطة البلشفية من تدابير خانقة للحريات على صعيد المجتمع: إخضاع السوفييتات تأكيدا لغلبة الحزب قياسا بالتسيير الذاتي.و القمع الدموي لسوفييت كرونشتاد في آذار/مارس عام 1921 وهي انتفاضة مسلحة كانت في المقام الأول تعبيرا عن انتفاضة اجتماعية وسياسية تهدر في المعسكر السوفيتي- كانت السلطة البلشفية قد دمرت للتو الحياة الديمقراطية للسوفييتات.
في نهاية الحرب الأهلية تهيأت آلية الاستبدال، حيث حل الحزب مكان الشعب، والبيروقراطية مكان الحزب، ورجل «العناية الإلهية» مكان الجميع. كان القادة البلاشفة في عام 1917 استهانوا بـ«العدو الثانوي»،أي البيروقراطية، التي كانت تقوضهم من الداخل والتهمتهم في النهاية. اقترح لينين في وصيته ، قُبيل وفاته في كانون الثاني/يناير عام 1924، عزل ستالين من منصب أمين عام الحزب البلشفي. كان ستالين بالفعل بدأ بناء سلطة شخصية مطلقة.
كان مطلع سنوات 1930 فترة توطد هذه السلطة البيروقراطية الجديدة، الحريصة، بكل الوسائل، على الحفاظ على مصالحها الخاصة، وامتيازاتها المادية، باحتكار جهاز الدولة، وتجميد أي ميل للتسيير الذاتي، والقطع نهائيا مع ثورة تشرين/أكتوبر. قطيعة أكدتها ملايين الأموات جوعاً والمنفيين وضحايا محاكمات وعمليات تطهير. قام الإرهاب البيروقراطي بتصفية ما تبقى من إرث ثورة تشرين الأول/أكتوبر.
تم نفي أو إعدام معظم كوادر وقادة المرحلة الثورية. يتعلق الأمر بثورة مضادة بقيادة ستالين (11). تحيل الستالينية، في ظروف تاريخية ملموسة، إلى اتجاه أعم نحو التبقرط، قائم في جميع المجتمعات الحديثة. نجد الظاهرة البيروقراطية، بشكل بارز إلى هذا الحد أو ذاك في الأحزاب، ومنظمات الحركة العمالية، والحركات الاجتماعية… وتفاقم هذا الاتجاه بتخصص المهام المركزية، والتقسيم الاجتماعي للعمل بين الانشطة اليدوية والفكرية. إن إمكان التحرر من الاستغلال المستلب للعمل، بوظائف أكثر مكافأة في المنظمات العمالية، قد يولد ردود فعل وإجراءات تسعى إلى الحفاظ على مثل هذه الوضع الاعتباري وتعزيزه، أو حتى حفز الأجهزة النقابية للتحكم بالتعبات الاجتماعية النقابية واحتوائها حتى لا تتعرض آليات التفاوض الاجتماعي للخطر. كما ترسخت الظاهرة البيروقراطية في إضفاء الطابع المهني على السياسة.
يحدثنا مثال كومونة باريس عام 1871 عبر الزمن، ويوضح لنا بعض وسائل إلغاء احتراف السلطة والسياسة. إن الحد من تراكم التفويضات المنتخبة وتجديدها، فضلاً عن تحديد راتب الممثل المنتخب على مستوى العامل/ة المؤهل/ة أو مستخدم/ة الخدمات العامة قد يسهم إلى حد كبير في تقييد اضفاء الطابع الشخصي والمهني على السلطة. يجب أن يكون الانتخاب وإمكانية عزل الممثلين المفوضين، الذين يمارسون مهام سياسية أو إدارية أو قضائية، قابلا للتفعيل.
إن الإرادة الجماعية للقدرة على التعبير عبر عملية انتخابية حرة، مهما كانت أشكالها المؤسسية، والجمع بين ديمقراطية المشاركة المباشرة والديمقراطية التمثيلية، لا يمكن تأجيلها إلى أجل غير مسمى. يجب أن يكون تنظيم النضالات وتسييرها الذاتي، المستوجبان بناء عمل نقابي كفاحي وديمقراطي، من مسؤولية الأجراء/ات، حتى لو لم يكن ذلك بديهياً.
إن هذا الاجراء، الذي تجسد في سنوات 1970 في تجربةعمال غلافيربيل-جيلي Glaverbel-Gilly، لا يزال مثالًا فريدًا تقريبًا في تاريخ بلجيكا الاجتماعي (12). لا يمكن لهذه الديمقراطية المتكاملة، المرتبطة بتجارب التسيير الذاتي وبامساك العمال/ات بزمام مصيرهم، أن تزدهر من خلال تجاهل نظام رأسمالي حيث تقوم أقلية صغيرة من أصحاب الدخل الذين يملكون وسائل إنتاج وتبادل كبيرة باحتكار عمل الجميع، وحيث تكن الحكومات وأجهزة الدولة لهم الولاء من خلال كبح حرياتنا الديمقراطية، والكشف عن صورتها الاستبدادية والقمعية.
تنبع من ذلك كله حاجة وضرورة الملحة لبناء منظمات سياسية معادية للرأسمالية، قادرة على استعادة كل تجارب حركات التحرر في القرنين التاسع عشر والعشرين. منظمات منغرسة، قادرة على استيعاب المعنى الممكن للأحداث، وتعميق وتوجيه ديناميات التنظيم الذاتي والتسييس في اتجاه ثوري.
منظمات قادرة على اتخاذ قرارات تكتيكية جريئة وصياغة مشروع استراتيجي يربط بين التطلعات المباشرة للتغيير والتحولات الجذرية التي يفترضها قيام مجتمع خالٍ من علاقات الاستغلال والاضطهاد (13).
****
إحالات
- جان فيليب ديفيس، الثورة الفرنسية (1789-1794)، ثورة برجوازية هائلة و«أفانت كوريير»، في موقع أوروبا متضامنة بلا حدود ، 1/03/2014.
- الأوراش الوطنية، تعاونيات إنتاجية، بدون رؤساء، تضمن نشاطًا لعاطلي باريس. تسجل فيها أكثر من 100000 شخص. أثار إغلاقها انتفاضة عمالية.
- جاك رونجيري، باريس الثائرة، كومونة عام 1871. دار النشر غاليمار، 1995 ، ص 32.
- كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا عام 1871، نفس المرجع.
5.«بقدر ما تكون قابلية العزل نتيجة لمسؤولية المسؤول المنتخب تجاه ناخبيه، فإن التفويض الإلزامي يؤدي إلى شل التشاور الديمقراطي. إذا لم يكن المفوض سوى المتحدث الرسمي لمصلحة ناخبيه الخاصة، دون إمكانية تعديل وجهة نظره وفقًا للنقاش، فلن تظهر أي إرادة عامة، وتصبح إضافة مصالح معينة باطلة، وينتهي الأمر بعقم السلطة المكونة إلى اعداد أسس بيروقراطية تعلو فوق هذه الإرادة المحطمة من خلال الادعاء بأنها تجسد المصلحة العامة» دانييل بنسعيد، الكومونة، الدولة والثورة، في لاغوش صحيفة العصبة الشيوعية الثورية- – اسم صحيفة اليسار المناهض للرأسمالية سابقاً، 1/7/2007.
- لويس أوغوست بلانكي (1805-1881)، مؤيد ثورة تأخذ شكل «انقلاب مسلح» بقيادة مجموعات صغيرة عاقدة العزم.
- بيار جوزيف برودون (1809-1865)، رائد الاشتراكية التحررية. كان يوجين فارلين، المنشق عن برودون، أحد محرضي الكومونة الرئيسيين.
- لينين، في ذكرى الكومونة، نيسان/أبريل 1911، الأعمال الكاملة، المجلد 17.
- لينين، نفس المرجع.
- الكسندر رابينوفيتش، استيلاء البلاشفة على السلطة، ثورة عام 1917، بتروغراد. دار النشر لافابريك عام 2016.
- دانييل بن سعيد، الشيوعية ضد الستالينية، ردا على الكتاب الأسود للشيوعية، عام 1997. انظر موقع: danielbensaïd.org
- أندريه هنري، ملحمة عمال الزجاج في بلد الفحم الحجري، دار النشر لوك بيبر وتكوين ليون لوسوال عام 2013.
- دانيال بنسعيد، أوغو باليتا، جوليان سالانع، الاستراتيجية والحزب. دار النشر Prairies ordinaires عام 2016.
الرابط
اقرأ أيضا