السيرورة الثورية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط: حصيلة وآفاق [*]
نسخة مصففة بصيغة pdf للتحميل
انطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية التي نخلد ذكراها العاشرة من تونس لتنتشر بسرعة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ثم في بلدان خارج هذا النطاق الجغرافي، في سياقات متباينة وبمُفجرات متنوعة، في دولة إسبانيا (حركة الغاضبين)، والولايات المتحدة الأمريكية (لنحتل وول ستريت)، وإيران، وبوركينافاسو (ضد الغلاء والقمع)، وتركيا، إلخ.
كانت حركة جماهيرية واستثنائية بديناميتها وعمقها في عديد من البلدان، وبإصرارها وبأساليب عملها. وأدت إلى سقوط سريع للرئيسين بن علي (تونس) ومبارك (مصر)، وإطاحة أصعب بكل من القذافي (ليبيا) وصالح (اليمن)، كما أدت مؤخراً إلى سقوط البشير (السودان). لكن هذه الانتفاضات تعرضت لقمع وحشي، وحوصرت في كل مكان تقريبا بفعل تضافر ردود فعل مكونات الثورة المضادة التي كان عليها مواجهتها: مقاومة الأنظمة القديمة الشرسة، وهجمات القوى الأصولية الإسلامية، ومناورات مختلف الإمبرياليات والقوى الإقليمية وحتى تدخلاتها العسكرية.
لكن استمرار أسس هذه السيرورة، وحيلولتها دون استعادة الأنظمة القائمة للشرعية، يجعلانها تؤتي آثارها بعمق وتمتد إلى بلدان أخرى وتنبثق من جديد بنحو مُحتَّم. هذا ما يضفي مزيد أهمية على تحليلها من زاوية مكامن قوتها وتناقضاتها ومواطن ضعفها، للتمكن من مواكبتها حتى تحقيق انتصار تحرري لكافة الشعوب المعنية.
- الأسباب الموضوعية للانتفاضة الثورية في المنطقة
ليست هذه الانتفاضة على صعيد إقليمي غير نتيجة تضافر أزمة الرأسمالية العالمية البنيوية مع أزمة ظرفية حادة بدءا من العام 2008 بالمراكز الامبريالية. إنها أزمة مركبة ومتعددة الأبعاد (اقتصادية، ومالية، وبيئية، واجتماعية، إلخ)، واحتدت آثارها المدمرة في عدة بلدان تابعة، ولكن بوجه خاص في هذه المنطقة.
أدى الركود الاقتصادي العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وحتى في الصين، إلى تراجع أسعار المواد الأولية (البترول، الفوسفات، إلخ) في 2009، والى انكماش أسواق المراكز الغربية. فشهدت البلدان التابعة من جراء ذلك انخفاضًا حادًا في عائدات صادراتها، واحتدادا في عجزها التجاري الهيكلي، وهو ميل لم يتراجع مع انتعاش بطيء وفوضوي في النمو منذئذ.
بيد أن الانتفاضات الشعبية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليست مجرد حادث مترتب عن الأزمة الاقتصادية العالمية للعام 2008. لم يكن لهذه الأخيرة سوى دور مُسرع لعوامل بنيوية مميزة للانفجار الإقليمي ناتجة عن كيفيات خصوصية لنمط الإنتاج وإعادة الإنتاج الرأسمالي السائد في المنطقة: رأسمالية مضاربة وتجارية تتسم بسعي إلى أرباح قصيرة الأمد. فاقتصاد المنطقة مفرط التركيز على استخراج النفط والغاز الطبيعي، وعلى تخلف القطاعات الإنتاجية وتطور مفرط لقطاعات الخدمات وتغذية أشكال مختلفة من الاستثمارات المضاربية، لاسيما في قطاع العقار.
أنظمة ميراثية وهجوم نيو ليبرالي وصنوف ظلم لا تطاق
تميزت الأنظمة والحكومات القائمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ عقود، سواء منها الملكيات المطلقة والديكتاتوريات الجمهورية، وأنظمة سياسية سلطوية أو برلمانية طائفية، بفساد واسع النطاق واستبداد سياسي شديد. أعاقت هذه الأنظمة تنمية بلدانها بالاستيلاء على جهاز الدولة لنهب الثروات والاستفادة من السياسات النيوليبرالية من أجل توسيع احتكاراتها والسيطرة على جميع القطاعات المربحة بشراكة مع رؤوس الأموال الأجنبية.
غالبا ما رعت مختلف أنظمة المنطقة ودولها، المفتقرة على شرعية شعبية، شبكات زبائن قبلية وطائفية و/أو إقليمية كضمانات ضد الانتفاضات الشعبية، مشكلة هيكل السلطة مع تضخم الأجهزة العسكرية والبوليسية. ويجب ألا يُبحث عن تفسير لاستمرار هذه العوامل في نوع من ” الحالة الاستثنائية” العربية أو الإسلامية، بل يرتبط بديناميات التطور المتفاوت والمركب للنظام الرأسمالي العالمي.
تظل أهمية المسألة الاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها على انطلاق السيرورات الثورية، البعد الأكثر عرضة للطمس من قبل وسائل الإعلام الدولية والإقليمية رغم دوره الأساسي. فمنذ سنوات الثمانينات، اندرجت كل أنظمة المنطقة في ديناميات اقتصادية نيوليبرالية تحظى بتشجيع من المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. أتاحت الإجراءات النيوليبرالية تفكيك الخدمات العامة، وإلغاء الإعانات، لاسيما للمواد الأساسية، مع تسريع عمليات الخصخصة في قطاعات الصناعة والعقار والقطاع المالي.
قامت الإصلاحات النيوليبرالية، المنفذة من قبل أنظمة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بتشجيع متباين الوتائر لسياسات قائمة على جلب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتطوير الصادرات والخدمات مثل السياحة والعقار. وأتاحت الحكومات للشركات متعددة الجنسيات نسب ضريبة هزيلة أو حتى منعدمة، مع ضمان يد عاملة رخيصة للغاية. وجعلت الأجهزة القمعية “حراس أمن” لهذه الشركات تحميها من أي اضطرابات أو مطالب اجتماعية. وقامت هذه الدول بدور الوسطاء لصالح رؤوس الأموال الأجنبية مع ضمان إثراء طبقة برجوازية مرتبطة بالنظام.
يجد تباين مسارات السيرورات الثورية تفسيره إلى حد بعيد في طبيعة دول المنطقة: دول ميراثية (ملكيات مطلقة أو بعض ما يسمى جمهوريات مثل سوريا عائلة الأسد أو ليبيا عائلة القذافي سابقًا)، ونيوميراثية (ديكتاتوريات جمهورية)، وأنظمة طائفية ذات ميليشيات قوية مدافعة عن الوضع القائم. هذا فضلا على بنية المجتمعات (المتجانسة إلى هذا الحد أو ذاك)، ومكانة هذه الدول في النظام الإمبريالي الدولي والإقليمي. بيد أن تطور الرأسمالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العقود الأخيرة أفضى إجمالا إلى تقاطب متنام للمجتمع:
– من جهة، قسم ضئيل جدًا من السكان، البرجوازية الكبيرة، وثيق الارتباط بالمستثمرين الدوليين، استفاد من السيطرة على السلطة السياسية وعلى القطاعات الاقتصادية الرئيسية.
– من جهة أخرى، كتلة متنامية من السكان، الطبقة العاملة والفئات الشعبية، العرضة للإفقار والسلب، سواء في المناطق الحضرية أو القروية، من جراء السياسات النيوليبرالية المفضية إلى خصخصة متنامية.
إن الآفات الناتجة عن هذه السياسات النيوليبرالية عديدة، منها تدهور كبير في نظامي الصحة والتعليم، وارتفاع نسبة البطالة لا سيما في صفوف الخريجين الشباب الذين لا فرص عمل متاحة لهم في اقتصاد بات يتركز على الوظائف ضعيفة القيمة المضافة وحيث العمل المؤهل نادر، ونقص التوظيف ونمو قوي للقطاع غير المهيكل بالغ الهشاشة، كنتائج مباشرة لهذه التدابير، وهجرة مئات آلاف الأشخاص نحو مناطق حضرية أو عبر الحدود. وهكذا تفاقمت صنوف التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والإقليمي وتزايدت حدتها.
أدى غياب الديمقراطية، أو تقليصها الحاد، وتنامي الإفقار، في مناخ فساد وتفاوتات اجتماعية متعاظمة، إلى تمهيد الطريق للانتفاضة الشعبية التي لم تكن بهذا النحو تنتظر سوى شرارة لاندلاعها في هذه المجتمعات. لذا تمثل هذه الانتفاضات الشعبية تمردا جماهيريا على سياسات نيوليبرالية فرضتها أنظمة مستبدة بمساعدة المؤسسات المالية الدولية.
2. تطور الانتفاضة: الثورة والثورة المضادة في سيرورة ثورية طويلة الأمد
كان للانتفاضة الشعبية، التي بدأت في متم العام 2010 ومستهل العام 2011، أولاً في شمال إفريقيا ثم في الشرق الأوسط بعد فترة وجيزة، قوة غير مألوفة. أطاحت برؤوس الأنظمة في تونس ومصر واليمن وليبيا، وفتحت طورا جديدا في نضالات شعوب المنطقة. وأطلقت الطاقات النضالية لجميع الشرائح الاجتماعية التي اجتاحت الشوارع والميادين، وخاصة طاقات الشباب والنساء. حطمت سيكولوجية الخوف المكرسة بعقود من الطغيان. وانتشرت منذئذ شعارات مثل “الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية” و”الشعب يريد سقوط النظام” في جميع البلدان تقريباً التي وسمتها اللغة والحضارة العربيتين. وجرى تطوير أشكال نضال ذاتية التنظيم وتبادلها مع استخدام مكثف للأبعاد الثقافية وأدوات الاتصال الحديثة.
لكن، سرعان ما شنت الأنظمة في المنطقة هجوما مضادا لاستعادة قوتها المهزوزة باسم “مكافحة الإرهاب” التي استعارتها من القوى الإمبريالية. وتمكن بعضها من احتواء الاحتجاجات الأولى قبل أن تتخذ طابع انتفاضة كما كان في المغرب أو الأردن. فيما لجأ بعض آخر إلى القمع لخنق الانتفاضة باستعجال كما جرى في البحرين، أو بتدرج كما في مصر. وتولت الأنظمة في ليبيا وسوريا واليمن خوض حرب حقيقية على شعوبها التي باتت تعيش الآن ظروفًا مروعة. في ليبيا، تم إسقاط القذافي ولم يكن لنظامه أي دعم خارجي بعد أن اختارت القوى الإمبريالية دعم التمرد. إنها الحالة الوحيدة لزوال النظام القديم فعلا، لكن ذلك أفسح المجال لفوضى ما فتئت تجهز على الأمل الذي انبثق. وفي حالة تونس، اتحدت قوى النظام القديم الأقل تورطا معه في حزب نداء تونس، وتحالفت مع حركة النهضة التي تستلهم نهج جماعة الإخوان المسلمين، لتحكم البلد بين العامين 2014 و2018.
وفي اليمن، كان على المملكة العربية السعودية “إزاحة” الديكتاتور علي صالح من أجل إخماد الانتفاضة بنجاح، واستعاضت عنه بحرب أهلية وإقليمية مازالت جارية، بدعم من القوى الإمبريالية والقوى الإقليمية في “التحالف العربي” ضد حلفاء إيران ألد خصومها. وتروم دولة الإمارات العربية المتحدة من جانبها السيطرة على المفاصل اللوجستية للنقل البحري في جنوب الخليج، وترسيخ مكانتها كعملاق عالمي في قطاع الموانئ. وفي سوريا، كان على الأسد أن يخوض منذ زهاء 10 سنوات حربا شاملة على شعبه، بمساعدة حازمة من روسيا بوتين والملالي الإيرانيين، كي يأمل إخماد التمرد بكلفة تدمير فظيع لبلده ومجتمعه. وأخيرًا نشهد دور تركيا المتنامي تحت حكم الديكتاتور المتدرب أردوغان، الذي يتدخل بشدة متعاظمة لإخماد تطلعات الشعب الكردي، في تركيا ذاتها، وفي العراق أحيانًا، وبوجه خاص في سوريا في المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. وتقوم تركيا أيضا، توسيعا لتطلعاتها الإقليمية، بتدخل في ليبيا مساند لحكومة قريبة من جماعة الإخوان المسلمين المدعومة سياسيا من حليفتها قطر.
في الواقع، استفادت الأنظمة الطاغية، في سعي لإنجاح هجماتها المضادة، من دعم هذه القوة أو تلك. لكن الشعوب المنتفضة اضطرت في الآن ذاته إلى مواجهة البدائل الزائفة لمختلف قوى الأصولية الإسلامية المسلحة معظم الأحيان.
نشهد، والحالة هذه، صعودًا إقليميًا لمختلف وجوه الثورة المضادة الساعية إلى سحق الثورة ومكاسبها. لكن أيا من الأسباب الجذرية لهذه الانتفاضات لم تتم تسويته، وما كان القمع يوما كافيا لإضفاء استقرار على التشكيلات الاجتماعية. شهدنا ذلك في سوريا، حيث ازدهرت في مناطق استعادها النظام مظاهرات جديدة، وفي مصر حيث يتصاعد الغضب من حين لآخر على الدكتاتور الجديد السيسي. وبوجه خاص، في العام 2019، حيث ظهرت موجة ثورات جديدة في البلدان التي أفلتت في البداية من الانتفاضة، إذ كانت لا تزال مطبوعة جدا بأبعاد حروب أهلية حديثة: العراق ولبنان والسودان والجزائر.
3. طبيعة الهجمات المضادة للأنظمة والإمبريالية والتيارات الدينية الرجعية
تمثل السيرورة الثورية بالمنطقة مختبرا لآمال كبيرة وللبطولة الثورية المنبثقة من أعماق الشعوب، لكنها أصبحت في الوقت ذاته مسرحا لتدخل قوى إمبريالية وأنظمة رجعية على الصعيدين المحلي والإقليمي، ما يغذي الهمجية والحروب الأهلية التي تسببت في عدد لا يحصى من الضحايا واللاجئين/ات والمرحلين/ات.
تظل الأنظمة القديمة، بتبايناتها، الفاعلين الرئيسيين والأشد خطورة بفعل سيطرتها على الدولة والمؤسسات. وهي تمثل، بارتكازها على أجهزتها الأمنية المعززة بمبرر “مكافحة الإرهاب”، فاعل الثورات المضادة التقليدي. كما يجد استمرار الأنظمة تفسيرا في دعم من مختلف القوى الإمبريالية الدولية والإقليمية ضد الحركات الشعبية. فالثورة المضادة تطبق سياسة نيوليبرالية تخدم مصالح البرجوازية المحلية والشركات متعددة الجنسيات والإمبريالية العالمية. وعلى نفس المنوال، اكتسبت مسألة الديون أهمية خاصة. إذ استخدمت الديون ولا تزال في هذه البلدان أداة للإخضاع السياسي وآلية لتحويل عوائد العمل إلى الرأسمال المحلي وبوجه خاص إلى الرأسمال العالمي. ويجدر، في هذا السياق، التأكيد على الدور المضر للقوى السياسية التي تزعم أنها ديمقراطية وهي مستعدة للتوافق مع الاستبداد والإمبريالية باسم البحث عن “أهون الشرور”.
أما القوة الرئيسة الأخرى التي برزت ككيان مضاد للثورة على الساحة السياسية في المنطقة فهي الحركات الأصولية الإسلامية بمختلف مكوناتها.
هاتان القوتان يوحدهما عداء شرس لهدف تحرر شعوب المنطقة الديمقراطي والاجتماعي، وتتميزان ببدائلهما السياسية الرجعية وتعميق السياسات النيوليبرالية.
منظمات برجوازية دينية رجعية معادية لأي تحرر عمالي وشعبي
مع صعود الانتفاضة الجماهيرية، اعتبرت حركات أصولية دينية، ذات انغراس شعبي عريض وخبرة وقوة كبيرتين، نفسها بديلا لسلطة الأنظمة القديمة. لكن أيا منها لم يأت ببديل طبقي واجتماعي وديمقراطي للأنظمة القائمة. إنها مناهضة للحريات الفردية ولتحرر النساء. وهي مع برنامج سياسي نيوليبرالي محافظ، وطائفي وقائم على التمييز الجنسي ومعادٍ للمثليين ومعادٍ للطبقة العاملة وللفلاحين الفقراء.
مهما تباينت أسماء هذه المنظمات الأصولية الدينية، ومذاهبها ومساراتها الخاصة، يوحدها دفاعها عن نظام الملكية الخاصة، وعداؤها للقيم التقدمية العالمية مثل النسوية أو الاشتراكية معتبرة إياها عيوبًا غربية.
استخدمت القوى الإمبريالية والإقليمية الأصوليين الإسلاميين أداة سياسية لإنماء قوتها الإقليمية، ولإضعاف معارضيها، ولحرف مسار الحركات الاجتماعية الديمقراطية من أسفل أو قمعها. فقد دعمت المملكة العربية السعودية جماعة الإخوان المسلمين حتى العام 1991، ثم ساندت بعد القطع معهم حركات سلفية متنوعة. وحلت محلها قطر ثم تركيا بقيادة أردوغان وصيا على هذه الحركات (بما فيها حركة النهضة في تونس) مع تمويل منظمات سلفية أخرى. ودعمت إيران حزب الله في لبنان ومنظمات أصولية إسلامية شيعية مثل حزب الدعوة في العراق.
يتعلق الأمر بأحزاب برجوازية دينية رجعية، رغم اختلافها فيما يخص التكتيك إزاء الانتفاضة الجماهيرية (انحياز جزئي أو عداء صريح)، أو ما يخص وصولها إلى الحكومات (الإخوان المسلمون في مصر، حركة النهضة في تونس أو حزب العدالة والتنمية في المغرب)، أو ما يخص موقفها من أشد الحركات الجهادية تطرفاً ومغامرة مثل تنظمي القاعدة وداعش.
تكمن قوة هاتين المنظمتين الأخيرين في ظهورهما في شكل تمرد مسلح ضد النظام الاجتماعي والسياسي، متحديًة سلطة الأنظمة الديكتاتورية والإسلام الرسمي والقوى العظمى، وموسعة شبكتها ابعد من قاعدة انطلاقها. وبوسع هذه المنظمات أن تستقطب السخط الشعبي في ظل غياب بدائل يسارية تقدمية. لكن ما قامت به من إخراج للعنف في منتهى الشراسة، وسياستها الإرهابية إزاء السكان المدنيين، بخاصة النساء، والأقليات، والثقافة، يضعها ضمن أسوأ الحركات الرجعية المعاصرة. كانت للمغامرة الإجرامية لتنظيم داعش في العراق وسوريا، ولصدامها مع كل القوى العسكرية القائمة بالشرق الأوسط، وقع كارثي على كل السكان المناضلين من أجل جريتهم بالمنطقة.
إنه لخطأ فادح اعتبار الأصولية الإسلامية الراهنة تعبيرا منحرفا أو مُلتفا عن مناهضة الإمبريالية. يحكم الأصوليين تصورُ ديني للعالم، لاسيما هدف العودة إلى “عصر ذهبي” للإسلام مُضفى عليه طابع أسطوري كوسيلة لشرح العالم المعاصر وحل مشاكله. هذه الرؤية رجعية تماما، ومناقضة كليا للحركات المناهضة للإمبريالية في الماضي. إنهم يعتبرون الإمبريالية صراعا بين “الشيطان” والمؤمنين المظلومين، وليس كما درج القوميون والاشتراكيون على اعتبارها صراعا بين البلدان المضطهدة والقوى العظمى ونظامها الرأسمالي.
أثبتت وقائع السنوات الأخيرة، وكذا تجارب الصراع الطبقي، أن أحزاب المعارضة البرجوازية الرجعية الإسلامية هي فصائل معادية للثورة. ومهما كانت تعقيدات الوضع الملموس التي قد تقود إلى تقاربات عملية دفاعية، لا يمكن لهذه أن تكون سوى تكتيكات محدودة للغاية زمنيا، وفي استقلال كامل ومع حذر شديد. لا يمكن توصيف هذه القوى بأنها أحزاب إصلاحية أو ديمقراطية، ولا يمكن تبرير أي تحالف أو جبهة موحدة سياسية معها.
بطبيعة الحال، تخترق الحركات الأصولية الإسلامية تناقضات اجتماعية داخلية بين قيادتها البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وقاعدتها الشعبية. لكن هذا أمر يصح أيضا بصدد جميع الأحزاب السياسية التي تقودها النخبة، بدءا بالأحزاب الرأسمالية الكبرى إلى الأحزاب اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة في جميع أنحاء العالم. فليس وجود تناقضات طبقية داخل الأحزاب مقتصرا على الأحزاب الإصلاحية.
في الواقع، تشكّل مختلف القوى الإسلامية الأصولية ثاني جناحي الثورة المضادة، وأولها تمثله الأنظمة القائمة. فأيديولوجيتها، وبرنامجها السياسي، وممارستها، رجعية، في تعارض تام مع أهداف التحرر الثوري، أي مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. وسياساتها خطيرة ومميتة بالنسبة للمجموعات الأكثر وعيًا من العمال/ات والشباب والمجموعات المضطهدة مثل الأقليات الدينية والنساء والمثليين المثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وغيرهم. ويستعصي في الآن ذاته تصور انفصال كامل بين الحركات الأصولية الإسلامية وقاعدتها الشعبية في غياب بناء بديل سياسي اجتماعي ذي مصداقية وشامل وغير طائفي مدافع عن مصالح جميع المواطنين/ت.
تصادم القوى الإمبريالية والقوى الإقليمية
تظل الإمبريالية الأمريكية القوة الرئيسية بفعل قوتها العسكرية والاقتصادية بادية العواقب حتى اليوم. ويجب أيضا ألا ننسى دور الاتحاد الأوروبي الضار في المنطقة، وكذا بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وإنجلترا، ولا سيما من خلال تدخلاتها العسكرية ومن خلال فرض ما يسمى باتفاقيات التبادل الحر أو بصدد مسألة الديون السيادية. لكن تأثير روسيا المؤكد بنحو متنام، لا سيما بتدخلها العسكري وتقاربها مع دول مستبدة عديدة في المنطقة، بخاصة السيسي في مصر والأسد في سوريا، يمثل أيضًا قاعدة متنامية للثورة المضادة التي تعاني منها الشعوب المعنية.
أدى كل من الفشل الاستراتيجي الأمريكي في العراق، الذي لا يزال شعبه يعاني من عواقب غزوه حتى اليوم، والأزمة الاقتصادية والمالية العالمية لعامي 2007 و2008 التي وجهت ضربة قاسية للنموذج النيوليبرالي الأمريكي على المستوى العالمي، إلى إضعاف نسبي لقوتها الشمولية. الأمر الذي لم يفسح مساحة أوسع لسائر القوى الإمبريالية العالمية، مثل الصين وروسيا، وحسب؛ بل أيضا للقوى الإقليمية ذات المصالح الخاصة بها والقادرة على الدفاع عنها. وهذا جلي بوجه خاص في الشرق الأوسط، حيث قامت دول مثل إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر بدور متزايد، وتدخلت في السيرورات الثورية من خلال تنافسها بدعم مختلف الجهات الفاعلة ضد مطالبة الشعوب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.
حشدت ممالك النفط في الخليج (وبمقدمتها المملكة العربية السعودية) أموالاً ضخمة بمليارات الدولارات من التبرعات لتمكين مملكتي المغرب والأردن من منح تنازلات لاحتواء التحركات الشعبية، ودعمت بسخاء الجيش في مصر والسودان لمواجهة الثورة. وتدخلت عسكرياً في اليمن وليبيا والبحرين. إنها، إلى جانب كيان إسرائيل، رأس حربة الثورة المضادة الإقليمية. إنها تعمل من أجل تأبيد الوضع في خدمة أهداف الإمبريالية (بخاصة الأمريكية)، وتعميق إعادة الهيكلة النيوليبرالية لاقتصادات المنطقة واندماجها في السوق العالمية. وقد استعملت هذه الممالك آلة إعلامها الضخمة للتأثير على الانتفاضات والحد من زخمها الديمقراطي. لذا سيصعب الحديث عن انتصار السيرورة الثورية في المنطقة دون استهداف رأس ممالك الخليج الرجعية. يجب على هذه السيرورة أن تتجاوز الرؤية القطرية وتدمج البعد الإقليمي في منظوراتها.
كما بات دور دولة إسرائيل، التي تخدم بشكل أساسي الإمبريالية الغربية والثورة المضادة، مستقلا أكثر فأكثر. تقوم إسرائيل منذ عقود بدور كلب حراسة لمصالح الإمبريالية الغربية في المنطقة. بيد أن الفارق الرئيسي بين إسرائيل والقوى الإقليمية الأخرى متمثل في طبيعتها الاستعمارية. إنها مشروع استعماري لطرد السكان الفلسطينيين يتخذ طابعًا خاصًا جدًا في دوره المضاد للثورة قياسا بالقوى الإقليمية.
مهما يكن من أمر، تشترك هذه القوى الإمبريالية والإقليمية مصلحة إنزال الهزيمة بالثورات الشعبية في المنطقة، سواء في سوريا أو في سواها. وليس تنافسها مستعصيا على التجاوز بالنظر إلى ذلك القدر من المصالح المشتركة وتلك الشدة المميزة لعلاقات ترابطها. كل هذه الأنظمة سلطات برجوازية معادية للثورات الشعبية، منشغلة حصرا بسياق سياسي مستقر يتيح مراكمة رأسمالها السياسي والاقتصادي وتطويره دون مراعاة للطبقات الشعبية.
ومن جانب آخر، غالبًا ما تنتهز الدول الرأسمالية والمؤسسات المالية الدولية أزمات الأنظمة فرصا لإعادة الهيكلة وتعزيز تغييرات اقتصادية كانت في السابق صعبة للغاية أو شبه مستحيلة، وذلك بتوسيع نطاق اقتصاد السوق والديناميات النيوليبرالية بنحو كبير في مختلف القطاعات الاقتصادية التي ظلت حتئذ تحت هيمنة القطاعات العمومية إلى حد بعيد. يجب، من هذا المنظور، ألا يُعتبر توجه السياسة الاقتصادية لدول المنطقة إجراءات تكنوقراطية ومحايدة تروم التغلب على ويلات الحرب ودمارها. فهذه السياسة هي على العكس وسيلة لتحويل الشروط العامة لتراكم رأس المال وتعزيزها وتقوية شبكات المحاباة لرجال الأعمال القريبين من الأنظمة القائمة في المنطقة، إضافة إلى أن هذه الأنظمة هي أكبر مستوردي السلاح في العالم!
بيد أن الوضع العالمي المتسم بعدم استقرار عميق وأزمة اقتصادية كامنة ينيخ بثقله بشكل خاص على دول المنطقة وعلى شرعية حكامها، كما نرى ذلك من تركيا إلى إيران وفي مصر.
4. موجة ثانية من الانتفاضة
على الرغم من الهجمات الرجعية المتعددة في البلدان التي شهدت انتفاضات في العام 2011، بزغت موجة احتجاجات اجتماعية وشعبية جماهيرية جديدة في بلدان أخرى عديدة بالمنطقة. وصادف ذلك تحركات شعبية عديدة في العديد من دول العالم ضد عواقب نفس السياسات النيوليبرالية التي تمليها المؤسسات المالية الدولية وتنفذها الطبقات المهيمنة التي تعمم القمع.
بدأت هذه الموجة الثانية مبكرا قليلا في المغرب في نهاية العام 2016 مع حراك الريف الذي رفع بشكل أساسي مطالب اجتماعية وحتى مطالب سياسية. وعززت الانتفاضات في السودان والجزائر والعراق ولبنان في العام 2019 دينامية جديدة وآمالًا في التحرر من الاستبداد والاستغلال في المنطقة برمتها.
نجح إصرار حركات الاحتجاج الضخمة في الجزائر والسودان في تحقيق إزاحة الرئيسين بوتفليقة والبشير. وفي كلا البلدين، لم تكن هذه الإطاحة وحدها كافية لإرضاء المتظاهرين/ات. وتكاثرت صنوف المعارضة لهذين النظامين ذوي الطبيعة العسكرية من أجل الحصول على تغييرات سياسية واجتماعية اقتصادية حقيقية لصالح الطبقات الشعبية.
راقبت القوى الإمبريالية الإقليمية والدولية بخوف هذه الانتفاضات الشعبية، معتبرة إياها تهديدًا لمصالحها ولسلطتها. وأعربت، ردا على ذلك، عن دعمها لقادة الجيش السوداني والجزائري أو لانتقال متحكم فيه من أعلى دون تغيير جذري. كما عرضت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مبلغ 3 مليار دولار كمساعدات لنظام الخرطوم، وهو ما رفضه المتظاهرون/ات. ودعمت فرنسا، في الآن ذاته، القيادة العسكرية العليا في الجزائر والانتقال الذي تمسك هذه الأخيرة بزمامه.
طالبت قطاعات في المعارضة الشعبية السودانية بإنهاء مشاركة السودان العسكرية في حرب المملكة السعودية في اليمن، ورفضت أي تدخل من قبل نظام السيسي المستبد في شؤون البلد الداخلية. كما شجب المتظاهرون/ات في الجزائر دور فرنسا الإمبريالي ومساندتها للنظام الجزائري. وتعلن الأنظمة، بغية تهدئة خيبات أمل الشعوب، إقدامها على “إصلاحات” من أجل “تحسين” النظام و”تطهيره” من الداخل، أو حملات “مكافحة فساد” مزعومة تستهدف رجال أعمال سابقين مرتبطين بالطغاة المطاح بهم.
استطاع الجيش في السودان احتواء المطالب الرئيسية الحركة باتفاق سياسي مع “تحالف الحرية والتغيير”، رأس حربة الاحتجاج، وفق صيغة “تقاسم السلطة مع المدنيين” التي أتاحت له الاحتفاظ بموقع السلطة في الدولة. وإن تمكن التحالف من تشكيل قوة سياسية جماهيرية دفعت بالجيش إلى قبول تقاسم السلطة، ثمة حدود داخله كما هو الحال أيضا داخل الحزب الشيوعي السوداني. يتمثل أحد أهمها في توجه قادتهما السياسي. فغالبًا ما يسعى هؤلاء إلى شكل تعاون وتفاهم مع النخب الحاكمة بدلاً من إرساء قوتهم على التعبئة الشعبية الكثيفة من أسفل.
أما في الجزائر، فقد تمكن الحراك الشعبي من إفشال مفاوضات قمة الدولة بما في ذلك منع إعادة انتخاب بوتفليقة. وزاد الحراك حدة التناقضات داخل النظام دون أن ينجح مع ذلك في هدم صرحه. ولم تنجح حتى الآن المبادرات على الصعيد النقابي للتخلص من البيروقراطية النقابية الموالية للجيش، لكنها مع ذلك تنطوي على إمكانات قد يكون لها تأثير في المستقبل.
في لبنان، وفي العراق نسبيا، تطعن حركات الاحتجاج الشعبية جذريًا في النظام الطائفي المندد به صراحة ( دون استثناء أي حزب) بصفته مسؤولاً عن تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. إن النظام الطائفي والنيوليبرالي في هذين البلدين هو في الواقع أحد الأدوات الرئيسية بيد الأحزاب المهيمنة في السلطة لتعزيز سيطرتها على الطبقات الشعبية. وهكذا، وجب النظر إلى الطائفية كأداة للنخب السياسية اللبنانية والعراقية للتدخل أيديولوجيًا في الصراع الطبقي وتعزيز تحكمها في الطبقات الشعبية وإبقائها في موقع خضوع لقادتها الطائفيين.
وقد أفلحت النخب الحاكمة سابقا من كبح حركات الاحتجاج أو سحقها ليس بالقمع وحده، بل أيضًا باستغلال الانقسامات الطائفية. فبينما كان معظم السكان يغوص في فقر، استخدمت الأحزاب الطائفية المهيمنة ومختلف مجموعات النخبة الاقتصادية عمليات الخصخصة والسياسات النيوليبرالية والسيطرة على القطاعات العمومية لتطوير شبكات قوية من المحسوبية والفساد. وفي هذا الصدد، وجب النظر إلى الطائفية كعنصر تأسيسي وفاعل في أشكال سلطة الدولة الطبقية الراهنة في لبنان وفي العراق. وتدعونا هذه المقاربة إلى النظر إلى الطائفية كنتاج العصر الحديث لا كتراث ثقافي مزعوم.
وبهذا المعنى، لا يمكن فصل مطالب الحركة الاحتجاجية المؤيدة للعدالة الاجتماعية وإعادة التوزيع الاقتصادي عن معارضتها للنظام السياسي الطائفي الذي يضمن امتيازات الطبقات السائدة. فبعد أن أدى حجم الاحتجاجات إلى استقالة حكومتي هذين البلدين، أصبح استمرار الحركة من أجل تلبية المطالب والتغيير الجذري للسلطة رهانا أساسيا بجلاء.
بيد أن الحركات الاحتجاجية في الجزائر ولبنان والعراق تواجه تحديات كثيرة، في مقدمتها نقص التنظيم وأشكال التمثيل السياسي البديلة الكفيلة للتصدي لهيمنة الأحزاب الطائفية والمجموعات الاقتصادية في السلطة في العراق ولبنان والنظام في الجزائر. بيد أن محاولات الهيكلة تبقى محدودة، لا سيما على صعيد النقابات والبدائل السياسية والاجتماعية الجديدة.
سياق أزمة فيروس كورونا
فاقمت أزمة فيروس كورونا العوامل الهيكلية الخصوصية التي أطلقت السيرورة الثورية في العام 2011 في المنطقة. ولم تجد أنظمة المنطقة غير الديون وشروطها التقشفية وسيلة لحل الأزمة المالية والاقتصادية. ستؤثر مفاعيل أزمة كوفيد-19 بنحو أشد على سكان البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض، ولا سيما الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس والسودان وموريتانيا، دون الحديث عن بلدان في حالة حرب مثل سوريا والعراق وفلسطين المحتلة واليمن وليبيا. أما الإجراءات التي اتخذتها الأنظمة فكانت لصالح المنشآت الكبرى. في حين انخفضت بشكل حاد مداخيل الأجراء/ات وفئات السكان الفقيرة، وتفاقمت البطالة في صفوف الشباب والنساء. وتعاني خدمات الصحة العمومية من اهتراء شديد ولن تقدر على احتواء تفشي الفيروس، حيث لا ترقى نسبة الأطباء في المنطقة إلى الحد الأدنى الموصى به من منظمة الصحة العالمية والذي يبلغ 4.45 طبيب وممرض وقابلة لكل 1000 نسمة. إذ يبلغ 0.72 في المغرب و0.79 في مصر، مثلا.
استفادت الأنظمة من سياق الطوارئ الصحية الذي فرضته جائحة كوفيد-19 لوقف الموجة الثانية من السيرورة الثورية. ولجأت إلى إجراءات قمعية منهجية لفرض الحجر وحظر التجول وتطوير أساليب المراقبة، كما تعمل على تطوير أدوات القمع لمواجهة موجة جديدة من التعبئة الشعبية.
جرت في تونس مظاهرات شباب منذ منتصف يناير 2021 في عدة مدن، رافعة نفس لواء الانتفاضة قبل 10 سنوات: “العيش والحرية والكرامة الاجتماعية”، وحتى للمطالبة بالإفراج عن مئات المحتجين المعتقلين. وفي أوائل فبراير/ شباط، اندلعت حركة احتجاج صغار المزارعين الفقراء في بلدة ساحلية وسط شرق البلد ضد استيراد اللحوم وارتفاع أسعار الأعلاف. وفي الجزائر، خرج آلاف الأشخاص إلى الشوارع لإحياء ذكرى الحراك الثانية. وفي أواخر يناير، امتدت حركة الاحتجاج من مدينة طرابلس، إحدى أفقر مدن لبنان، إلى أجزاء أخرى من البلد. وتظاهر آلاف المواطنين، مطلع فبراير بالمغرب، في بلدة شمال البلد تنديدا بتدهور الأوضاع المعيشية ومطالبة بـ “الكرامة والشغل” بعد إغلاق الحدود مع مدينة سبتة التي تحلتها اسبانيا.
انها أمارات تنذر بانتفاضة جديدة قد تجتاح المنطقة بأسرها.
تمثل حركات الاحتجاج هذه تجارب نضالية في الميدان، وقد راكمت مكاسب قد تفيد في مرحلة ما بعد كوفيد-19 وتتيح إحراز تقدم نحو تحقيق المطالب والتجذر السياسي. ويتمثل أكبر منجزات السيرورة الثورية في المنطقة منذ العام 2011 في اقتحام الساحة السياسية من قبل الجماهير التي تحررت من أوهام التغييرات الآتية من فوق (سواء من زعيم أو جهاز دولة أو أحزاب). نزل ملايين الأشخاص إلى الشوارع وجرت تحولات كبيرة في وعيهم وأساليبهم في النضال والتنظيم. لقد غيرت الانتفاضات الوعي السياسي لجيل بأكمله بشكل لا رجعة فيه. وعين الخطأ الحكم على نتائج هذه السيرورة بالاقتصار على صعيد التغييرات السياسية الحاصلة في جهاز الدولة. ولا يزال هذا الإنجاز الثوري مستهدفًا من قبل مختلف أقطاب الثورة المضادة.
كان النساء دور مركزي في طوري السيرورة الثورية كليهما. وكُن بوجه خاص هدف الثورة المضادة التي أرادت استبعادهن من المجال العمومي وبصفتهن مشاركات نشيطات في خطوط المقاومة الأمامية. تعرضت النساء لاضطهاد عنيف طوال هذه الفترة، حيث تفشت أشكال التحرش الجنسي والاغتصاب وحتى أن داعش كانت تبيع النساء في أسواق مفتوحة. تهاجم الثورة المضادة النساء لأن إحراز تقدم في حقوق النساء وظروفهن يشكل تهديدا لمختلف أطراف الثورة المضادة ويتصدى لقمع آمال شعوب المنطقة في التحرر. وكلما تقدمت الثورة المضادة فتح الباب أمام أطروحاتها الرجعية وأمام قمع آمال شعوب المنطقة في التحرر. وبالتالي، يمثل وضع النساء معيار كبيرا لتقدم السيرورة الثورية والحركات التي تناضل من أجل الدفاع عن حقوق النساء.
تكمن إحدى الدروس الواجب استلهامها في الحاجة إلى المشاركة في تطوير البنيات السياسية الجماهيرية التقدمية والديمقراطية البديلة. إذ أبرزت تجارب تونس والسودان أن وجود منظمات جماهيرية على صعيد النقابات العمالية، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل وتجمع المهنيين السودانيين، وكذا اللجان الشعبية والمنظمات النسائية، أتاح لهذه الانتفاضات تحقيق مزيد من المكاسب على صعيد الحقوق الديمقراطية ولو أنها تبقى هشة وغير مضمونة.
تهدد تدخلات القوى الإمبريالية والإقليمية، وكذا تنافسها، بإلحاق الضرر بهذه الانتفاضات الشعبية وغيرها في المنطقة. إنها تزيد من خطر انحراف الانتفاضة الشعبية عن مسارها في العراق. ولا يكمن الخطر في تركيز حركة الاحتجاج العراقية على معارضة الولايات المتحدة، حيث أنها عارضت صراحة حتى الآن جميع التأثيرات الخارجية ورفعت الاحتجاجات الأخيرة في بغداد ومدن أخرى في جميع أنحاء البلد شعار “لا للولايات المتحدة، ولا لإيران!”. بل يكمن الخطر في تحريفها من قبل حركة أخرى تسيطر عليها وتنظمها الميليشيات الموالية لإيران التي قد تدرج رحيل الأمريكيين مطلبا وحيدا دون اعتراض على النظام النيوليبرالي والطائفي الراهن. وهذا هو هدف الميليشيات التابعة لإيران وللزعيم مقتدى الصدر الذي يحاول الآن بلوغه بالمناورات والقوة لقمع التظاهرات وفرض إلحاق الحراك برئيس الوزراء الجديد.
إزاء هذه التطورات، لن تصير معارضة تدخل الإمبريالية الأمريكية المستمر والتهديدات بالحرب ضد إيران والعراق فعالة إلا بانغراسها في التضامن مع القوى التقدمية والثورية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دون أي تنازلات للأنظمة المستبدة والقوى الإقليمية.
القضايا القومية وتقرير مصير الشعوب
تشكل القضايا القومية، الفلسطينية والكردية في الشرق الأوسط بوجه خاص، وكذا قضية الصحراء الغربية في شمال إفريقيا، ونضال الأمازيغ دفاعا عن هويتهم الثقافية في الجزائر والمغرب، رهانات أساسية. وتظل القضية الفلسطينية ذات أهمية قصوى في الديناميات السياسية الإقليمية، وحتى العالمية. إن ما يسمى بخطة السلام في الشرق الأوسط، التي عرضها في مستهل العام 2020 الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في غياب ملحوظ للجانب الفلسطيني، هي برنامج حقيقي لسعي جديد إلى تصفية القضية الفلسطينية وهو يخالف جميع القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة والقانون الدولي.
ولا بد، في هذا الإطار، من تذكير بدعمنا لنضال الشعب الفلسطيني من أجل انعتاقه وتحرره ضد إسرائيل دولة الاستعمار والفصل العنصري، وبأهمية حملات التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين وعودة اللاجئين. ونحن نركز على حملة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (BDS) والتي لا تزال تحظى بنجاح عالمي وتعتبرها إسرائيل وحلفاؤها تهديدًا كبيرًا ومتزايدًا. تتيح هذه الحملة فضحا وتنديدا بتعاون الحكومات الغربية مع دولة تنتهك القانون الدولي بشكل يومي لأكثر من 60 عامًا ومع الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل الاحتلال لجني الأرباح.
سعت جميع الأنظمة المستبدة في المنطقة، فضلا عن ذلك، إلى القضاء على حركة التحرر الوطني الفلسطيني والهيمنة عليها أو التحكم فيها. لذا يستوجب الدفاع عن النضال الفلسطيني دعم الثورات الشعبية في المنطقة في كفاحها لإطاحة جميع الأنظمة المستبدة المتواطئة في معاناة الشعب الفلسطيني بتعاونها المباشر أو المداور مع دولة إسرائيل.
ومن هذا المنظور ذاته، تستمر التطلعات القومية الكردية ومن أجل الحكم الذاتي في تخويف الدول الإقليمية والدولية. إن الفشل المرير للاستفتاء في كردستان العراق في أيلول / سبتمبر 2017 وتجاهله من قبل القوى العظمى، وإخماده من قبل الدولة العراقية المركزية بمساعدة إيران وتركيا، أبرز من جديد هشاشة الأمل الكردي ودور هذه الدول الوظيفي قبل كل شيء على النطاق السياسي الإقليمي. قد أدانت تركيا وسوريا وإيران، وهي ثلاث دول متجاورة ذات أقليات كردية، الاستفتاء ودعت إلى الحفاظ على وحدة العراق. كما عارضت غالبية الدول الإمبريالية الدولية، منها الولايات المتحدة وروسيا، استقلال كردستان.
وبعد بضعة أشهر، عانى السكان الأكراد، هذه المرة في سوريا، من خيبة أمل أخرى. فقد احتل الجيش التركي، بدعم من القوات السورية الرجعية، في آذار / مارس 2018، مدينة عفرين بسوريا التي كانت تحت سيطرة القوات الكردية التابعة لـ “وحدات حماية الشعب”، الفرع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني. جرى الاستيلاء على المدينة واحتلالها بتواطؤ القوى الدولية. واجتاحت القوات المسلحة التركية مع معاونيها المحليين مرة أخرى، في تشرين الأول / أكتوبر 2019، مناطق سيطرة “القوات السورية الديمقراطية”، وهي تحالف عسكري من مقاتلين أكراد وعرب وآشوريين تهيمن عليه وحدات حماية الشعب. ولهذا نؤكد دعمنا لحق الشعب الكردي في المنطقة في تقرير مصيره، وندين الضغوط الخارجية الإقليمية والدولية الساعية إلى منع السكان الأكراد من حقهم في تقرير المصير.
5. مكانة الطبقة العاملة ومهام الماركسيين الثوريين
جرى صعود النضالات المعمم الراهن في المنطقة في سياق ضعف الطبقة العاملة المنظمة، وضمنها اليسار الاشتراكي الثوري. وجرى تعويض مؤقت لغياب بديل عمالي، في مواجهة تآكل سلطة الأنظمة البرجوازية تحت ضربات التقدم الشعبي، بقوة الجماهير في الشوارع والميادين قبل أن تستعيد الثورة المضادة تماسكها.
كشفت الانتفاضة الجماهيرية ضعف الطبقة العاملة البالغ، سواء منظماتها المهنية (نقابات وجمعيات) أو أحزابها السياسية (هامشية الأحزاب العمالية). وتمثل تونس من خلال الاتحاد العام التونسي للشغل، وكذا السودان مؤخرًا مع تجمع المهنيين السودانيين، استثناءات في هذا السياق، هذا طبعا مع محدودية تجذر هذه الهيئات. كما كانت ثمة تجارب نقابات عمالية مستقلة قامت بأدوار مهمة في بداية الانتفاضة الشعبية في مصر، على سبيل المثال، قبل أن تتعرض لقمع شديد.
لم تتدخل الحركة العمالية كقوة مركزية كامنة بمشروع طبقي مستقل من شأنه أن يقود الشعوب نحو تحررها الاقتصادي والسياسي الحقيقي. كان تدخل الطبقة العاملة مذررا للغاية، وتدخل العمال/ات كمواطنين/ات دون انتماء طبقي. كانت بدأت في تونس، دينامية في قاعدة النقابة العمالية الرئيسة (الاتحاد العام التونسي للشغل) في معظم القطاعات والمناطق (الإضرابات العامة المتتالية). لكن دور قادتها اقتصر، بالعكس، على التوافق والتفاوض باسم الحوار الوطني لإنقاذ البلد.
نجحت أنظمة عديدة، بتواطؤ مع البيروقراطيات النقابية، إبان الفترة السابقة، في تحييد الطبقة العاملة وإبعادها عن النضالات المتصاعدة من أجل زيادة في الأجور وتلبية بعض مطالبها (المغرب والجزائر على سبيل المثال). وتضم البيروقراطية النقابية – مثلا في حالة المغرب- قسما من قوى سياسية تدعي الديمقراطية، وهي قوى سياسية برجوازية بتنويعات ليبرالية ورجعية دينية.
تعاني التيارات التقدمية الجذرية من ضعف في البرنامج وفي الانغراس الاجتماعي. باغتتها الانتفاضات، وكانت منهكة وتائهة وغير مدركة للتحولات الملازمة لانهيار الاتحاد السوفياتي وما بعده. وتبلبل معظمها بالصعود الفائق للأحزاب الدينية الرجعية، فراح يرسم خطط واهمة بعقد تحالفات مع إحدى مكونات الثورة المضادة (قوى امبريالية وقوي إقليمية رجعية، أو قوى سياسية ليبرالية). وتبنت أغلب التنظيمات القومية أو المتحدرة من التيار الستاليني والماو- ستاليني موقف خيانة لثورة الشعب السوري.
وهذا ما يتطلب من التيارات الماركسية الثورية الراهنة قدرا كبيرا من الجهود لتقوية نفسها، ولتحوز انغراسا عماليا وشعبيا عميقا، وتسهم في بناء الأداة السياسية المستقلة للطبقة العاملة استعدادا للموجة الثورية القادمة. يجب على اليسار التركيز على بناء جبهة مستقلة، ديمقراطية وتقدمية، تساعد على تنظيم العمال/ات والمضطهدين/ات الذاتي. هذه هي السيرورة الكفيلة بجعل معسكرنا يبدو كطبقة لها مصالح مشتركة مع العمال/ات الآخرين ومتعارضة مع الرأسماليين.
ويجب أن يقوم اليسار كذلك بدور مركزي في بناء بنيات سياسية بديلة عريضة وتطويرها. وبنحو مواز لذلك، يجب على اليسار أيضًا تطوير إستراتيجية سياسية لا تسعى فقط إلى ثورة سياسية كأفق، بل إلى ثورة اجتماعية تغير جذريا هياكل المجتمع وأنماط الإنتاج.
ومن جهة أخرى، تتأكد المطالب البيئية في الساحة السياسية بشكل متزايد، وبوجه خاص على صعيد المسألة الزراعية والحصول على المياه. تتأثر دول المنطقة بالاضطرابات المناخية الحالية، ومن المتوقع أن تكون الأشد تضررا من ارتفاع درجات الحرارة. وترتبط المسألة البيئية والمسألة الاجتماعية ارتباطًا وثيقًا، لأن السكان الذين يقاتلون من أجل المياه وضد النفايات هم نفس الذين يتأثرون و/ أو يناضلون ضد البطالة. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما ترتبط النضالات البيئية بقضايا الجماعات القومية أو الثقافية المضطهدة (الريف وزاكورة وجرادة بالمغرب، القبايل في الجزائر، النوبيون الذين طردوا من أراضيهم في مصر والسودان).
بيد أن المعارك البيئية لا تزال مجزأة ومحلية رغم قيامها على نفس الأسباب. وهناك حاجة لجعلها تتلاقى مع الأسباب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى.
يدافع الماركسيون الثوريون عن برنامج يرتبط ارتباطًا حيا بالنضالات الجماهيرية القائمة، دون سعي وراء تحالفات انتهازية مع قوى رأسمالية. ويفترض الوضع تنسيقًا وثيقًا بين قوى اليسار الثوري بالمنطقة يجد مبرره القوي في عقود من القومية المتطرفة التي تبناها يسار قومي وستاليني في النصف الثاني من القرن العشرين كان خاضعًا للأنظمة المستبدة لمجرد ادعائها مناهضة الإمبريالية والصهيونية.
تقف الجماهير، في مواجهة جبروت آلة إعلام الأنظمة المستبدة والإمبريالية، محرومة من أدوات إعلام يسارية ثورية تشرح حقيقة الانتفاضة وآفاق النضال. وهذا يستدعي تعزيز الصحافة الماركسية الثورية وتنسيقها، واقتراح أنشطة مشتركة لتوسيع النقاشات المكتوبة.
أدى تدهور الأوضاع في الدول التي تشهد حربا أهلية – سوريا بوجه خاص – إلى نزوح معظم الشباب الثوري الذين شكلوا العمود الفقري لتنسيقيات الثورة. لا يزال هذا الشباب موجودًا في الوقت الحالي حتى لو ضاع في العواصم الأوروبية، أو حاصره الليبراليون والرجعيون الذين يتفاوضون نيابة عن الشعب السوري في اجتماعات تنظمها الإمبريالية وحلفاؤها. يلزم التدخل لجمعهم وفتح نقاش حول آفاق الثورة في حال حدوث تغيير مفاجئ في ميزان القوى في المنطقة.
ندرك مدى صعوبة الوضع، لكن الواقع يتغير بسرعة. وتنبجس نضالات كبيرة على الرغم من شدة الثورة المضادة وهمجيتها. ويعتبر البعد الأممي نقطة أساسية في هذا الصدد، إذ يتعذر إيجاد حل داخل حدود دولة واحدة.
أخيرًا، لن تكون نضالات الأجراء/ات وحدها كافية لتوحيد طبقات الأجراء/ات. يجب على الاشتراكيين الدفاع في هذه النضالات عن تحرير كل المضطهدين/ات. ما يقتضي أن تُرفع عاليا وبقوة مطالب النساء والأقليات الدينية والمثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية والجماعات العرقية والإثنية المضطهدة، بارتباط مع المطالب البيئية. إن أي مساومة بشأن الالتزام الصريح بهذه المطالب سيمنع اليسار الراديكالي من توحيد الطبقة العاملة من أجل تغيير جذري للمجتمع.
[*] وثيقة كانت موضوع نقاش في اللجنة العالمية للأممية الرابعة، المجتمعة في فبراير/ شباط 2021، وصادقت عليها ب 49 صوتا وامتناع 1 و 6 عدم مشاركة في التصويت. واعتمدت صيغتها النهائية في 22 مارس بناء على النقاش.
اقرأ أيضا