الإضراب المفتوح لشغيلة البريد السياق والمجريات والدروس – الجزء الثاني: المجريات والدروس
بقلم: عبد الكريم عامل
ملاحظات نقدية حول سير المعركة وملفها المطلبي
يحظى قطاع البريد / البريد بنك بنسبة تنقيب عالية، لكنه قطاع أنهكته الاجراءات الليبرالية منذ سنوات، حيث معاناة الشغيلة لا حدود لها بحكم وتائر العمل الجهنمية وإعادة التنظيم المستمرة، وضعف الأجور، هكذا شكلت نقاط مشروع النظام الأساسي لسنة 2017، والزيادة في الأجور وتوظيف عمال وعاملات جدد أهم ركائز الملف المطلبي.
انبنت المعركة وفق سيرورة متدرجة بدءً من المحليات، حيث تبلور ضغط القواعد إبان المعارك الجهوية التي كانت مشاركة في تقريرها وتسييرها خاصة (مراكش والدار البيضاء وفاس)، تلك المعارك المحلية كانت في أصل بناء التنسيق الثنائي بين كش وامش، وفيها تبلورت رؤية ضرورة خوض معركة وطنية، ومحاولة جر نقابات أخرى للتنسيق، حيث تحول منطق مهاجمة الفدش إلى محاولة اقناع قواعدها للالتحاق بالمعركة، وهو ما انعكس في مشاركة العديد من قواعد الفدش في اضراب 26/27 نونبر 2020 الذي لم تشارك فيه نقابتهم رسميا. فيما لعب وجود التنسيق دورا في الرفع من وتائر التعبئة النقابية وارتفاع نبرتها التي وصلت إلى إعلان العزم على الدخول في اضراب مفتوح، عجل قرار الإدارة بحرمان المستخدمين من منحة المردودية من سرعة تنفيذه. لقد كان القرار النقابي سريعا جدا، ويمثل سابقة ودرسا فريدا من الشغيلة البريدية لعموم الحركة النقابية، حيث لم يفصل عن قرار الإدارة في شأن منحة المردودية وقرار الاضراب الوطني المفتوح والبدء في تنفيذه إلا ساعات.
كانت المعركة النقابية بالقطاع تاريخية، وصفعة في وجه كل المتخاذلين ومروجي عهد نهاية النقابة والاضراب. لم تواكب المشاركة الواسعة في الاضراب بمشاركة واسعة في التقرير والتسيير، فقد تكونت لجنة التنسيق النقابية من ثلاثة عن كل تنظيم، مع حضور اختياري للكتاب العامين. ونظمت اجتماعات عن بعد، مرتين كل أسبوع، وكل يوم خلال الاضراب المفتوح. وكذا تم عقد اجتماعات موسعة مشتركة للمكاتب الوطنية لنقابات التنسيق.
كان من المفترض أن تفرز بنية قيادية وطنية ومحلية للإضراب خاضعة لسلطة الجموع العامة صاحبة السيادة على مستوى محلي، في الأقاليم، وخاصة في المدن الكبرى حيث تتواجد المقرات (مبررات الجائحة تافهة في هذه الحالة لأن أرباب العمل لم يتوقفوا عن العمل واعتصار فائض القيمة حتى نتوقف عن النضال، ولأن أماكن العمل أقل شروط سلامة من المقرات النقابية)، كان من شأن جموع عامة موحدة في القاعدة أن يرفع الحماس أكثر وأن يخرج الشغيلة الأفراد من الغيتو الذي تضعهم فيه طوال أوقات العمل، وكان من شأن ذلك أن يسرع انتقال الخبرات بين الأجيال والاطلاع على التجارب النقابية الخارجية وعلى تاريخ النقابة بالبريد، وغيرها من مكاسب العمل الجماعي.
الجموع العامة تمكِّن من تحيين وتدقيق المعركة حسب ميزان القوى، وتنظر في تصعيدها وتوسيعها أو الحد منها ووقفها، وقراراتها عندما تتخذ بشكل جماعي بعد نقاش مستفيض، تسهم في تحقيق المطالب وانتصار المعركة، وفي حالة العكس تعتبرها الشغيلة أنها أخطأت التقدير ويمكنها الاستفادة من دروس المعركة النقابية في جولات النضال المستقبلية.
لكن ضيق الأفق وحسابات صغيرة مرتبطة بتضخيم أهمية التمثيلية المرتبطة باللجان الثنائية، ورغبة الخط النقابي السائد على مستوى بعض القيادات في الحفاظ بزمام القيادة على هواه، فوت فرصة انتزاع مكاسب فورية فيما يتعلق بالأجور والتوظيف ومراجعة النظام الأساسي في نقطه الضارة بالشغيلة وما أكثرها.
انعكس تسيير المعركة على طريقة وقفها، فقد عقدت اجتماعات تعليق المعركة من خلال مجالس موسعة تضم أعضاء من المكتب الوطني وكتاب الاتحادات المحلية والإقليمية والجهوية (النقابة الوطنية للبريد- كدش والجامعة الوطنية للبريد واللوجستيك- امش) واجتماع للمكتب الوطني للنقابة الوطنية لمجموعة بريد المغرب- فدش)، وجلي أن التعليق لم تشرك فيه القواعد من خلال جموعها العامة. ولم تَبُثَّ في مصير المعركة بناء على موقف الإدارة من الملف المطلبي.
كان قرار وقف المعركة عقب الحوار مع الإدارة مخيبا للآمال، أولا من حيث مبرراته. إن أهم مكسبين الذين ناضلا من أجلها الشغيلة هما الزيادة في الأجور وتعديل النظام الأساسي، في نقطه المضرة بالشغيلة، وإخراجه بمرسوم، لكن الزيادة في الأجور كانت هزيلة وغير فورية ودون أثر رجعي أي منذ أن رفعت الحكومة من الأجور في يوليوز سنة 2019، والأدهى والأَمَرّ أن الزيادة اُرجِئت إلى السنة القادمة وموزعة على ثلاث سنوات، والتزام الحكومة بإصدار النظام الأساسي بمرسوم، لا يعني انه تم اقبار تصور الدولة لتهشيش أوضاع الشغل بالقطاع.
فمشروع النظام الأساسي الحالي (2017) ينص في مادته الأولى من بابه الأول “يتألف مستخدمو بريد المغرب من مستخدمين ومرسمين ومتدربين ومتعاقدين” أما في المادة الثانية فينص هذا النظام على “يطبق هذا النظام الخاص على المستخدمين المرسمين والمستخدمين المتدربين”، هذا استهتار فاضح فكيف تقحم فئة المتعاقدين في المادة الأولى من النظام الأساسي كمكون من مكونات شغيلة بريد المغرب، وتستثنى من تطبيقه في المادة الثانية. إنه الضحك على ذقون الشغيلة تساهم فيه القيادات النقابية. إن هذا الامريمثل مدخلا لدفع القطاع الى الهشاشة الكاملة.
أما مطلب توظيف شغيلة جديدة بأعداد مناسبة لتخفيف الاستغلال والضغط النفسي والبدني على الشغيلة، فلا ذكر مدقق له، بما فيه كيفية النظر في مساطر التوظيف وعدد المستخدمين لتخفيف وتائر العمل الجهنمية .
في غياب مبرر قوي لوقف المعركة روجت كل قيادة وطنية من قيادات التنسيق النقابي بين قواعدها عزم الحلفاء على إيقاف المعركة، الهدف هو إلقاء المسؤولية على الآخر في التخاذل، وهو وسيلة فعالة للضغط على الأجهزة التي انعقدت لتقرر في مصير المعركة لاجل القول بأنه لا يمكننا الاستمرار في المعركة لوحدنا.
ويمثل عدم الكشف عن الاتفاق الإطار الذي تم توقيعه من قبل الإدارة والقيادات النقابية عقب الحوار أمرا مقلقا جدا للشغيلة البريدية، إن عدم كشفه لحد الان وعدم طرحه أمام القواعد للنقاش والتقرير فيه يشي بأن ما يوجد فيه قد لا يكون في صالح مستقبل نضالات الشغيلة البريدية. ولنا في الميثاق الذي تم توقيعه عقب معركة شغيلة الأتوروت وجرى إخفاؤه عن القاعدة العمالية خير مثال حيث أنه بعد 31 شهرا من توقيع “الميثاق الاجتماعي”، تأكد أن الإدارة ناورت وربحت وقتا ثمينا، وأوقفت نضال الأجراء بوعود لم تنفذ، رغم أن المسؤول النقابي الأول بالقطاع قد صرح آنذاك أن “الميثاق أنهى جميع مشاكل القطاع بعد أربع سنوات من التفاوض”.
التضامن العمالي الغائب الأكبر
تنتمي نقابات التنسيق البريدي الثلاث للمركزيات النقابية الوطنية، الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، لم تحرك المركزيات ساكنا ولم تدع لإضراب تضامني مع شغيلة البريد ولا لمسيرة عمالية على الأقل بكبرى قلاع الطبقة العاملة المغربية، مدينة الدار البيضاء، حيث تتمركز القيادات الوطنية والمقرات المركزية للنقابات الثلاث.
فما دور المركزيات النقابية، إن لم يكن جمع قوى الطبقة العاملة في قوة ضاربة وموحدة، لمواجهة نفس السياسة الموحدة التي تنتهجها الطبقة البورجوازية ودولتها، هذه السياسة قوامها خفض الأجور الفعلية المباشرة وغير المباشرة، ورفع وتيرة الاستغلال وضرب استقرار العمل. إن هذا الهجوم لا يستثني أية شريحة من الطبقة العاملة، سواء شغيلة الدولة أو القطاع الخاص.
الميثاق النقابي خطر محدق وجب التصدي له
بعد أن استكملت الإدارة إفساد وعي جزء غير يسير من القيادة النقابية من خلال سياسة الشركة الاجتماعية، تسعى الدولة من خلال إدارة بريد المغرب إلى تمرير قانون التحكم في النقابات بالتقسيط، وفي خطوة تجريبية، داخل مجموعة بريد المغرب، من خلال ما تسميه هذه الأخيرة، الميثاق النقابي، والهدف هو أن تضع إدارة بريد المغرب شروط القيام بإضراب ومن يدعو له، بمعنى جعل الاضراب صعبا.
ستسعى مجموعة بريد المغرب، بعد النجاح الباهر للإضراب المفتوح والمشاركة الواسعة للأجيال الشابة، وما عبرت عنه من حماسة ورغبة في انتزاع مكاسب حقيقية، إلى مهاجمة أداة النضال العمالي الأساسية ألا وهي النقابة، فأسد بدون أنياب لن يخاف منه أحد والاضراب هو أنياب النقابة التي تهابها البورجوازية.
لا ثقة في إدارة المقاولة، فبعد المعركة مباشرة بانت نُذُرُ توجهها، بتخييب أمال منتظري تنفيذ الاتفاق حول إرجاع منحة المردودية، حيث نفذت الإدارة مجزرة في حق عدد هائل من المستخدمين الذين حرموا من جزء هام من منحة المردودية، بينما مكنت آخرين منها في سعي لئيم لبث بذور الفرقة بين شغيلة ذاقت حلاوة الوحدة النضالية.
درس دائم للمستقبل
لتلبية كل مطلب للشغيلة بشكل عام، لا بد من رصد اعتماد مالي، أي أنه في التحليل الأخير يجب الرفع من حصة فائض القيمة الذي تحصل عليه الطبقة العاملة على حساب الطبقة البورجوازية، هذه الحصة ستُقسم إلى أجر مالي مباشر في آخر الشهر (مهما تنوعت تسمية مكوناته) وأجر غير مباشر من خلال التغطية الصحية والضمان الاجتماعي، بينما جزء من الغلاف المالي يتوجه لتوفير ظروف شغل سليمة في أماكن العمل، ومزايا الخدمة العامة التي يتم الحصول عليها خارج منطق السوق الرأسمالي. بهذه المعاني تمثل المعركة الأخيرة لشغيلة البريد درسا هاما للمستقبل، مفاده أن لا مجال لأوهام الشراكة الاجتماعية مع مصاصي دماء الشغيلة، فقط الوعي والتنظيم والتضامن والذود عن مصلحة الشغيلة إلى آخر مدى هو المطلوب. ليس على الشغيلة أن يكونوا حطب معركة المنافسة بين الحيتان الرأسمالية. على هذا الأساس ينبغي بناء الحركة النقابية المستقبلية، فلا منقذ غير النضال على أساس مصلحة الشغيلة وفقط، أي على أساس طبقي.
من أجل وعي الطبقة العاملة بذاتها ولذاتها… من أجل حزب عمالي اشتراكي مناهض للرأسمالية
تناضل الطبقة العاملة من أجل مطالبها المباشرة والفورية، بشكل عفوي أولا، وتتبلور في تنظيمات نقابية متنوعة تشمل الوحدات الانتاجية والخدماتية كل على حدة، بشكل دائم أو مؤقت، حسب درجة وقوة العمال والعاملات في كل وحدة إنتاجية. كما تشمل النضالات النقابية قطاعات أكثر من أخرى، بينما تظل فئات من الشغيلة خارج أي تنظيم نقابي وإمكانات نضال حقيقية.
وإذا كانت مطالب الشغيلة واحدة في جوهرها، ونظام الاستغلال واحد في اشتغاله، فإن البورجوازية تطبق، من خلال أجهزة دولتها قاعدة فرق تسد. فهي تتساهل جزئيا مع التنظيم النقابي في بعض القطاعات، وتحاربه في أخرى، وتسعى لكيلا يتوسع لا كما ولا كيفا. تعمل هذه السياسة بالأساس على عرقلة تبلور وعي الطبقة العاملة بذاتها ولذاتها أي وعي أهمية دورها التاريخي في تحرير المجتمع من الاستغلال الطبقي وبأهمية تنظيمها النقابي والسياسي المستقل عن تأثير أحزاب البورجوازية المتنوعة.
للعمال والعاملات مصلحة موحدة موضوعيا في منازعة البورجوازية على حصة أكبر دوما من فائض القيمة الذي تنهبه الطبقة السائدة، وكذا منازعتها السلطة الاقتصادية والسياسية. هذه المنازعة، لكي تكون ناجحة يجب بلورة قوة الطبقة العاملة في تنظيم نقابي موحد وحزب عمالي جامع إن أمكن ذلك أولا، أو بلورة جبهة عمالية بين النقابات والأحزاب العمالية إن فرضت الشروط التاريخية تعددا نقابيا وسياسيا في صفوف الطبقة العاملة.
تكمن أهمية الحزب العمالي المناهض للرأسمالية، في كونه يسعى لقيادة الأجراء على درب مصالحهم الفعلية الآنية والمستقبلية في بناء مجتمع ينتفي فيه استغلال الإنسان لأخيه الانسان، مجتمع تكون فيه تلبية الاحتياجات الأساسية للبشر هي محور النشاط الاقتصادي، في احترام للحدود التي تفرضها الظروف البيئية ومحدودية موارد كوكب الأرض.
في سياق تنعدم فيه مركزية نقابية طبقية وحزب عمالي يمركزان قوة الطبقة العاملة في المواجهة الطبقية، يتجلى بوضوح أضرار هذا الغياب. فمعارك الشغيلة المنتمية لنفس المركزية النقابية تتوالى ولا تجد من يوحدها ويرفع مطلبها المباشر: رفع حصة الشغيلة من فائض القيمة المنتجة. تتقدم شغيلة الوظيفة العمومية النضالات وهي مجزأة أشلاء رغم أن المشغل واحد، بينما لا تتوفر شغيلة الصناعة والزراعة على منظمة كفاحية تجمع شتاتها وتوحد نضالاتها، أما شغيلة شركات المناولة فتعيش وضعا أقرب إلى العبودية قوامه تعديات دائمة من طرف أرباب العمل.
إن غياب حزب عمالي مناهض للرأسمالية، يجعل الطبقة العاملة وخاصة طلائعها عرضة لإفساد الوعي الذي تمارسه أحزاب البورجوازية وأدوات دعايتها الإعلامية، ومن نتائج ذلك الآنية سير معارك عمالية كبرى نحو الهزيمة.
اقرأ أيضا