الإضراب المفتوح لشغيلة البريد: السياق والمجريات والدروس – الجزء الأول: السياق
بقلم: عبد الكريم عامل
سياق عام
جاءت معركة شغيلة البريد بعد أكثر من عقدين من إعادة هيكلة قطاع البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، فقد تم فصل قطاعي البريد والاتصالات سنة 1998، وإحداث ثلاث مؤسسات: الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات واتصالات المغرب وبريد المغرب، وقد تمت خوصصة قطاع الاتصالات، فيما أسند قطاع البريد إلى بريد المغرب.
كما جاءت بعد زهاء ربع قرن على توقيع اتفاق فاتح غشت بين النقابات والدولة والذي كانت أهم نتائجه الزج بالحركة النقابية في سياسة الشراكة الاجتماعية والتعاون الطبقي مع أرباب على حساب الشغيلة. هكذا تفاقمت سياسة الخوصصة المنطلقة منذ 1993 وتعرضت مكاسب الشغيلة لهجوم إعلامي وعملي فكَّكَ مكاسب الوظيفة العمومية والقطاعات العمومية الإنتاجية والخدماتية، وأُدخِلت هشاشة الشغل على أوسع نطاق. وتحت شعار تفهم إكراهات الاقتصاد الوطني والتناوب الديمقراطي والعهد الجديد تم دمج أغلب القيادات النقابية على كافة المستويات في تدبير هذا الهجوم فيما حوربت القطاعات النقابية المعارضة لهذا التوجه وفُككت وقُمعت…
لم تكن الحركة النقابية في أوج عطائها وقوتها مع منتصف التسعينات، لكن كان لها حد أدنى من الوعي الطبقي ومتواجدة في قلاع عمالية منجمية وصناعية وفلاحية لا يستهان بها ويحظى جزء من قيادتها باعتبار لدى القواعد. لكن أمراض التدبير البيروقراطي للمعارك النقابية العمالية كان دوما يسمم النضالات ويحد من طاقة النضال العمالي ويمنع تكون جبهة عمالية عريضة حول مطالب حيوية للشغيلة في مجملها.
كان مطلع القرن الجديد مناسبة لدولة البورجوازية على غرار أقرانها عبر العالم، للعمل على توجيه ضربة ساحقة للوعي العمالي من خلال سياسة دمج النقابيين في دواليب الإدارة من خلال ترقيتهم في سلم المسؤوليات وتمكينهم من امتيازات، وبالتالي تغيير نظرتهم للعمل النقابي من منظور مصلحتهم الشخصية. وكذا تم فرض سياسة المغادرة الطوعية لإحداث قطيعة بين الأجيال من جهة ورفع وتيرة الاستغلال من جهة أخرى (نفس حجم العمل بعدد أقل من الأجراء والأجيرات وبحقوق مهضومة).
سياق خاص: شغيلة البريد أحد ضحايا الخوصصة وفتح القطاع للرأسمال الخاص المحلي والأجنبي
إلى غاية يوليوز2015، بالإضافة إلى البريد- كاش الشركة التابعة للبريد- بنك، يتوفر بريد المغرب على أربع شركات تابعة مباشرة، منها ثلاث شركات يمتلك رأسمالها بـ %100، وهي: البريد بنك والشركة المغربية لنقل وتوزيع البضائع والإرساليات SDTM وبريد ميديا. كما يمتلك نسبة %66 من شركة كرونوبوست EMS Chronopost، وكذا مساهمات في شركة صوفاك كريدي SOFAC CREDIT بنسبة %39، وفي صندوق جايدة Fonds Jaida بنسبة %9 (كما جاء في التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2015).
وصل عدد مستخدمي مجموعة بريد المغرب سنة 2019 إلى 9125، حسب ما جاء في “تقرير حول المؤسسات العمومية والمقاولات العمومية” المرفق بمشروع قانون مالية 2021. تعاني هذه الشغيلة من ضعف الأجور وارتفاع وتائر العمل بالإضافة للهشاشة التي ميزت التشغيل في المؤسسات التابعة للمجموعة الأم، ما يعني حوادث شغل وأمراض مهنية مرتبطة بتفاقم الضغط المستمر من أجل مردودية أكبر باستمرار، أي أرباح أكبر للمجموعة ومن ورائها الرأسمال المحلي والأجنبي، مقابل تدني في الأجور الفعلية وفي شروط العمل منظورا لها من منظور مصلحة المجتمع والشغيلة.
فقد ورد في التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2015: “من خلال افتحاص محدود لتدبير الموارد البشرية، لوحظ أن بعض توظيفات المتعاقدين بالبريد – بنك غير مدعمة بالوثائق المبررة لاختيار بعض المرشحين المقبولين مثل الإعلان عن الترشيح ومحاضر لجان الانتقاء. كما أنه لوحظ وجود فوارق مهمة تتجاوز%50، في أجور المتعاقدين مع شركة بريد المغرب وأجور المرسمين”. بينما أجور وامتيازات المدراء وكبار الموظفين ما فتئت ترتفع و”بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض المديرين ومديري الأقطاب يجمعون بين سيارة المصلحة والتعويض عن السيارة. ويصل المبلغ الإجمالي الذي أنفقه بريد المغرب منذ 2009 لكراء هذه السيارات إلى أزيد من 7 ملايين درهم”. ويضيف تقرير المجلس الأعلى “وقد مكن تدقيق وضعية الممتلكات العقارية التي تدبرها شركة بريد المغرب من ملاحظة أن أربع مساكن فقط من بين 75 هي التي يشغلها أشخاص في وضعية نشاط من بريد المغرب، أما الباقي، فيحتله أشخاص متقاعدون أو أغيار، مما يشكل خسارة للشركة”. ولا يشكل هذا إلا نزرا قليلا من جبل النهب.
أجيال جديدة من الشغيلة البريدية
إن دخول أجيال جديدة من الأجراء والأجيرات لعالم الشغل في سياق انحدار في الوعي الطبقي العمالي وفي سياق هجوم ليبرالي معمم هدفه رفع ربحية المقاولات ووسيلته الأساسية خفض الأجور المباشرة وغير المباشرة الفعلية، بالإضافة لتدهور في الشروط التي يُنجز فيها العمل (ضغوط نفسية وجسمانية متصاعدة باستمرار)، يفتح أفاق نضال جديدة وواعدة، خاصة إذا تم حفز وعي عمالي جماعي وجمْع قوى الشغيلة في جبهة موحدة للنضال من أجل إعادة توزيع لفائض القيمة لصالح الشغيلة، على درب إزالة نظام الاستغلال البورجوازي. غير أن هذا الأمر لن يتحقق إلا بانخراط أقسام واسعة من الشغيلة وخاصة النساء في بنية نقابية نشيطة ورشيقة، أي فروع نقابية متخلصة من كثرة الأجهزة والجمع بين المسؤوليات، مما يؤدي لسيادة نوع من النقابة جهازها التنظيمي لا يتناسب مع قاعدتها وقواعد غريبة عن قيادتها وسلبية.
ما كان جليا لكل ذي بصيرة نقابية طبقية أصبح الآن واضحا لكل أعمى
أصبحت سيرورة إرساء الهشاشة وضرب المكاسب ناجزة منذ سنوات، وكرستها إدارة مجموعة بريد المغرب من خلال تنزيل متدرج لتصورها للنظام الأساسي للمجموعة، قبل تبنيه رسميا، يخضع الشغيلة لاستغلال بشع. هذا الوضع دفع بالنقابيين والنقابيات وأوسع الشغيلة للانخراط في إضراب بطولي استطاع أن يفرض مشاركة قسم من الأطر التي عادة ما تستميلها الإدارة ضد باقي الشغيلة.
كانت إدارة مجموعة بريد المغرب منتشية بانتصاراتها، وخالت أن تجديد قاعدة شغيلة البريد وارتفاع نسبة النساء بينها، سيجعلها صيدا سهلا للاستغلال والتضليل وأن الوعي النقابي لن تقوم له قائمة بالقطاع، وككل مستغل بشع نسيت إدارة مجموعة بريد المغرب أن العمل النقابي تاريخيا هو نتاج بشاعة الشروط التي ينجز فيها العمل وتدني الأجور وجهنمية وتائر العمل، وليس وليد تحريض فئة ضالة ما جاحدة لنِعَمِ الرأسمال.
كشفت المعركة الأخيرة، أن الأجراء والأجيرات يوجدون في نفس مركب القهر والاستغلال، رغم محاولة الادارة استعمال فئة الأطر كسوط ضد باقي الشغيلة، مقابل فتات مادي وأزمة ضمير لا حدود لها.
يعرف قطاع البريد والارساليات عالميا تغيرات هائلة في ظل منطق ليبرالي لإدارة الخدمة العامة، يجعل المنافسة بين كبريات الشركات العالمية محتدما ووسيلته الأساسية هي خفض كلفة العمل، وإعادة التنظيم ودمج تكنولوجيات جديدة باستمرار. وبدل أن تجعل هاته التكنولوجيات العمل أكثر سهولة وراحة بالنسبة لليد العاملة، حولت حياتها المهنية والشخصية إلى جحيم لا يطاق.
إن الدرس الأكثر أهمية الذي ينبغي استيعابه هو أنه بدون تنظيم عمالي قوي بحياة داخلية نشطة قوامها المشاركة في التكوين والتسيير والتقرير لأوسع قاعدة ممكنة نساء ورجالا، تنظيم يناقش سياسة المجموعة وتأثيرها على الشغيلة والخدمة العامة، ويرد على تهافتها ويُعرف بالأمراض المهنية ويصوغ ملفا مطلبيا متكاملا ومحيَّنا باستمرار ومجيبا على مصالح الشغيلة الآنية والمستقبلية، ويقوي الصلة النقابية بين مختلف مكونات المركزية النقابية، ستقوم الإدارة بدمج المكاتب النقابية من القمة إلى القاعدة في سيرورة تنفيذ سياستها المعادية للشغيلة.
اقرأ أيضا