النضال ضد التعاقد لا زال مستمرا… لتتضافر جهودُ كل ضحاياه
بقلم: بشرى لكفول
بعد أقل من شهر من معركة شغيلة البريد التي تضمنت إضرابا مفتوحا وأشكال احتجاج ميداني، تصاعد نضال شغيلة التعاقد المفروض في قطاع التعليم. شهد البرنامج النضالي الأخير نجاحا كبيرا وتنويع أشكاله، كان أهمها معركة المؤسسات التي فتحت قنوات النقاش المباشر مع كل شغيلة القطاع: مرسمة منها أو مفروض عليها التعاقد.
انتشرت احتجاجات الأساتذة- ات عبر كل ربوع البلد، وتدفقت الآلاف في “مسيرات الأقدام” على طول كيلومترات واعتصامات أمام الأكاديميات الجهوية، حاولت أجهزة القمع كبحها، لكن قوة الصبيب البشري أبطل مفعولها.
دروس الحاضر
لا يضاهي غِبطةَ النضال إلا بهجةُ الانتصار. خلقَ نجاحُ البرنامج النضالي الأخير إحساسا عظيما بجدوى الاحتجاج، وأظهر أن الاستعداد النضالي كامن، ويتفجر كلما وجد فرصة لذلك. لا يمكن فهم هذا النجاح إلا باستحضار سياقه الموضوعي، إلى جانب مقومات الصمود الذاتي:
* انقضى جزئيا المفعول السلبي لتعليق الإضراب المديد (مارس- أبريل 2018) وامتصت القاعدة شبه الهزيمة تلك، خصوصا أن الدولة لم تبدي لحدود الآن إلا إصرارا وتعنتا في مواصلة الهجوم وتفعيل مقتضيات القانون- الإطار.
* إيقاف جلسات “الحوار” التي تزرع الأوهام في صفوف قاعدة تريد تحقيق جزءِ من مطالبها بأقل كلفة، يسهم بدوره في تحول الانتظارية إلى نضال فعلي قائم، وقد تلجأ الدولة مرة أخرى إلى جزرة “الحوار” حين يظهر لها أن حرارة النضال ارتفعت مرة أخرى إلى درجة لا تكفي عصا القمع وحدها لإخمادها. يُضاف إلى هذا تواتُر ما يُطلق عليه تعسفات “الإدارة” [مؤسسة أو مديرية إقليمية او أكاديمية جهوية] في حق الأساتذة- ات، تؤكد هشاشة الوضع وغموض المستقبل، فضلا عن مشكل “التقاعد” خصوصا مع حالات عديدة للإحالة على التقاعد دون معاش.
* ضغوط حالة الطوارئ الصحية ومنهجية “تدبير” الموسم الدراسي بدوره عامل مساهم في تنامي الاستياء في صفوف الأساتذة- ات؛ فلا شيء واضح [وهو أمر مقصود من طرف الوزارة، وليس حالة خاصة بالمغرب، بل يشمل كل دول العالم]، وتستغل الدولة هذه الظرفية لتمرير أقصى قدر من هجماتها المُعَدَّة منذ زمن. يتنامى إحساس لدى شغيلة التعليم بأن الدولة تُحمِّلها ما لا طاقة لها به، وفي نفس الوقت عبثية العملية كلها: حِرصُ الوزارة على الشكليات الإدارية لتمرير الموسم الدراسي من استكمال المقرر وإجراء المراقبة المستمرة والاستعداد لإجراء الامتحانات الإشهادية بأي طريقة كانت، دون اهتمام بتوفير شروط تحصيل دراسي جيد.
* شغيلة التعليم جزء لا يتجزأ من المجتمع، تُحس بالاحتقان المتنامي داخله، وتختنق من استمرار حالةٍ لا تفعل الدولة شيئا لمعالجتها بل تستغلها أيما استغلال لتمرير هجماتها وتحميل الجماهير ما لا طاقة لها به. هذا الاحتقان ينضاف إلى الاستياء القائم داخل القطاع.
* يلعب حس المقارنة دورا كبيرا في حفز نفسية الجماهير ودفعها إلى أمام. فالأخبار، حول إدماج المتعاقدين- ات في الجزائر وبلدان أخرى، تصب الزيت على نار الاستياء وتحفز النضال.
كل هذه العوامل متظافرة، وليس كل عامل بمعزل عن الآخر، هو الذي جعل القاعدة الأستاذية تلتقط البرنامج النضالي الأخير (خاصة معركة المؤسسات ومسيرات الأقدام)، الناتج بدوره عن البرامج السابقة وتنفخ فيه حماسة فاجأت الجميع، رامية التهجمات المتواصلة على من يُطلق عليهم- هن “معدات” في سلة المهملات.
دروس الماضي
خلق نجاح البرنامج النضالي الأخير حماسة شبيهة بتلك التي كانت سائدة قبيل وإبان اندفاعة الإضراب المديد لشهري مارس وأبريل 2019: التنسيقية على الطريق الصحيح والإدماج على مرمى حجر. وقد اصطدم تصعيد تلك السنة مع جدار العزلة الفائقة لشغيلة التعاقد المفروض مع الاستعداد غير الكامل بعدُ لباقي فئات شغيلة التعليم (والوظيفة العمومية) وتخوف الأسر من ضياع موسم دراسي، بدل الانخراط في نضال سيضمن مستقبلا كريما.
سيكون إعادةً لنفس السيناريو اعتبارُ نجاح البرنامج النضالي الأخير نقطةَ بداية تصعيد لحسم المعركة في هذا الموسم، بناء على نضال التنسيقية لوحدها. فالتنسيقية في هذا الوضع أشبه بلاعب في حالة نقاهة استطاع صدفةً أن يسجل هدفا في مباراةِ تَرَبُّص، وسيكون من الخطر إقحامه في مباراة حسم نهائي.
إن الحماس شرطٌ لازم، ولكنه ليس كافياً للانتصار. فالحماس حالة نفسية إن لم تعضدها شروط أخرى، سرعان ما تتحول إلى نقيضها وتخبو. ليس فقط تجربة إضراب مارس- أبريل 2019 هي ما يؤكد هذا؟ فالانطلاقة البهيجة والانتصارات السريعة السيرورة الثورية التي شملت المنطقة منذ 2011، والأمل بالقطع النهائي مع الاستبداد لم يدوما إلا عامين (2011- 2012)، وسرعان ما أعقبتها موجة ردة عمت فيها الثورة المضادة المنطقة لمدة أطول (2013 حتى نهاية 2018)… والموجة الجديدة لهذه السيرورة التي انطلقت سنة 2019 سرعان ما أوقفها (مؤقتا) انتشار جائحة كوفيد- 19 وفرض حالة طوارئ صحية، لم تستطع معها الحركة العمالية غير المهيأة لأوضاع مثل هذه أن تفرض حجرا من زاوية مصالح الشغيلة ومجمل الكادحين- ات.
إن حالة شبه الجمود الذي تعرفه الساحة النقابية وتناثر بؤر النضال الشعبي ومقارنته مع استمرار جمرة التنسيقية في الاشتعال، مضافا إليها نجاح البرنامج النضالي الأخير، سيجعل العديد (انطلاقا من انطباعية متسرعة) يُلوِّح بفكرة: لقد استسلم الجميع ولسنا في حاجة لأحد، يكفينا الضغط والدفع بخطوات أكثر تصعيدا حتى نحقق المطلب… إن هذا الاستنتاج ليس جديدا، وهو نفسه الذي كان في خلفية تصعيد النصف الأول من سنة 2019. وكانت نتيجته الاندفاع في إضراب مديد، اصطدمت فيه التنسيقية بجدار رفض الدولة الانصياع معتمدة على عزلة إضراب التنسيقية لوحدها. واعتمدت الدولة آنذاك على جمعيات الآباء وقيادات النقابات والأحزاب لوضع التنسيقية أمام الأمر الواقع: تحملي مسؤولية ضياع موسم دراسي ممزوجا مع إجراءات عقابية. فعُلِّق ذاك الإضراب بمبرر: لنُظهر حسن النية.
إن دروس التاريخ مفيدة. لا تتخوف الدولة من الدخول في امتحان قوة مع حركات نضال شعبي، إذا تأكدت من غياب عوامل صمودها. وتكون نتيجة الهزيمة أقسى؛ إذ تتيح للدولة تطبيق مخططها بجذرية أكثر مما لو لم تقع تلك المعركة (وهذا لا يعني عدم النضال بل تنظيمه وإتقانه): فبعد قمع انتفاضة 1981 تجرأت الدولة أكثر في تطبيق إجراءات تقشف مملاة من صندوق النقد الدولي، وبعد قمع انتفاضة 1984 طبقت وبشكل رسمي برنامج التقويم الهيكلي، وبعد هزيمة حراك الريف بدأت تنفيذ تفكيك أنظمة الوظيفة العمومية و”إصلاح” الإدارة العمومية… وبعد تعليق إضراب مارس- أبريل 2019 صادقت على القانون الإطار في غشت 2019 وعممت التعاقد ليشمل فئات أخرى (الإدارة التربوية، أطر الدعم التربوي والملحقين…). وأخيرا وليس أخيرا، أدى تعليق الإضراب المفتوح لشغيلة البريد، بسبب عزلته هو أيضا، إلى المصادقة على النظام الأساسي الذي يقنن التشغيل بموجب عقود، مقابل تنازلات مالية يسهل استردادها مستقبلا بتكثيف الاستغلال.
لِنَبْنِ مقومات الانتصار
إننا لا ندخل النضال كي نقدم شهداء- ات ومعتقلين- ات بل لننتصر، ولا نقوم بانتفاضات كي نؤكد الطبيعة القمعية للدولة. فهذا مؤكد من الناحية النظرية وأثبته التجربة التاريخية للشعوب. إننا نناضل كي نهزم الاستبداد ونسقط مخططاته.
علينا أن نجعل من نجاح البرنامج النضالي الأخير متكئا لحفز غير الملتحقين- ات بعد بالنضال، سواء تعلق الأمر بمفروض عليهن- هم التعاقد أو شغيلة مرسمة. علينا بناءً على معنويات نجاح المعركة الأخيرة، أن نُعِدَّ لأخرى تشمل كل ضحايا التعاقد، وهذا أمر ممكن فقد أثبتت شغيلة البريد استعدادها للدخول في هكذا نضال.
كل تسرع لإعلان أن التنسيقية قوية جدا وأنها في حالة تستطيع معها الانطلاق في تصعيد مفتوح أوهام ستتكسر مرة أخرى، وستكون نتائج التراجع هذه المرة أخطر من السابقة. والدولة واعية بذلك، وقد تدفع حتى بإجراءات لاستدراج التنسيقية إلى نوع ما من التصعيد، تتمكن من تنفيسه بالمناورات أو قمعه.
دافعنا طيلة موسم 2018 و2019 على فكرة مفادها أن شغيلة التعاقد المفروض هي الفصيلة الأمامية لكل شغيلة الوظيفة العمومية المستهدَفة بدكاك “التشغيل بموجب عقود فردية”. وأن واجب التنسيقية هو الصمود في انتظار التحاق بقية فصائل جيش الشغيلة العظيم، بل حفز ذلك الالتحاق وليس فقط انتظاره. وإن أي استباق لمعركة الحسم ستؤدي إلى تراجع مؤلم يصعب تنظيمه. وقد تأكد الأمران، مع الإضراب المفتوح لشغيلة البريد ونضالات شغيلة الصحة وتململ موظفي- ات الجماعات المحلية. ولا زالت هذه المهمة قائمة لحدود الساعة: فقط وحدة فصائل كل الشغيلة ضد هذه الهجمات هي الضامنة لانتصارنا ضد هجوم موحد وممركز.
التشغيل بموجب عقود معول خطير في يد أرباب العمل ودولتهم لتفكيك علاقات الشغل القارة والضامنة لحقوق جماعية. ولا يقتصر هذا المعول على قطاع التعليم ولا على الوظيفة العمومية، بل يشمل القطاع الخاص وبأشكال أكثر همجية (بحكم قِدَم الهجمة) مما في القطاع العمومي. ففسخ العقود دون تعويض وطرد النقابيين- ات أصبح أمرا شائعا في القطاع الخاص وقضايا الطرد التعسفي تملء ردهات المحاكم.
يقوم الشرط اللازم والكافي لانتصارنا ضد مخطط التعاقد على إعداد القوة العمالية والشعبية لمواجهته… فلنعد العدة لإضراب عام عمالي وشعبي وحدوي.
بشرى لكفول
مناضلة في “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين المفروض عليهم التعاقد”
اقرأ أيضا