حروب في السماء وموت على الأرض؛ الليبرالية العلمانية والرجعية الدينية؛ وجهان لعملة واحدة
وائل المراكشي
اشتعلت حرب شعواء بين التيارين العلماني والرجعي الديني مؤخرا، وكانت شرارة القتال تصريحاتُ داعيةٍ ديني يُنكر فوائدَ العلم والطب الحديثين. اصطفت الجيوش الالكترونية وعُبِّئ الاحتياطي واستُلت السيوف، وقامت معركة رعدية في السماء، أشبه بملاحم الآلهة في جبل أولمب، بينما ينصرف اليونانيون إلى نزاعاتهم الدنيوية غير آبيهن بما يحدث في السماء.
انخرط التيار الليبرالي العلماني، جارا وراءه طيفا واسعا من اليسار، في هذه المعركة، معتبرا تصريحات الداعية فرصة سانحة، لتسجيل أهداف على خصم سياسي، لا يتميز عنه إلا أيديولوجيا، بينما يتشاركان نفس الأرضية الطبقية: الحفاظ على المجتمع الرأسمالي على كاهل الشغيلة.
يظن الليبرالي العلماني، أن مواجهةً أيديولوجيةً (تستعمل منتجات العلم الحديث) كافية لاستئصال الرجعية الدينية، غافلا أن هذه الأخيرة تمد جذورها عميقا في بنية المجتمع الحديث وليس في بنية ذهنية موروثة عن قرون سابقة.
تمثل الرجعية الدينية تعبيرا مشوها عن الاحتجاج ضد مظالم المجتمع الرأسمالي، وقد انتشرت بسبب الهزيمة التاريخية للمشاريع التقدمية، برجوازية كانت أو عمالية. لذلك فإن الاستياء الشعبي بعد أن سُدت في وجهه القنوات التقدمية تدفق نحو القناة الوحيدة المتبقية: اللجوء إلى الله.
حين يوجه الليبرالي العلماني سهام نقده تجاه الرجعية الدينية، فهو لا يقوم إلا بانتقاد تَمَثُّلٍ مشوه للعالم القائم، ويريد فرض تَمَثُّلِهِ الخاص به لنفس العالم، وليس تدميره واستبداله بعالم آخر. وهذا هو السبب الجوهري الذي يكمن وراء ضعف انغراسه الشعبي.
يقول كارل ماركس في “نقد فلسفة الحق عند هيغل”: “إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية”. ليست موجة الأسلمة الواسعة إلا تعبيرا وفي الوقت ذاته احتجاجا عن تعاسة الناس الواقعية: كل الشرور التي تسببها الرأسمالية.
دمرت الهجمة النيوليبرالية كل أشكال التضامن الاجتماعي، تقليدية (القبيلة) وحديثة (أشكال التضامن الطبقي) وفي نفس الوقت فككت مكاسب تاريخية كانت تكفل للشغيلة ولصغار المنتجين إمكانية التعليم والاستشفاء والعمل عبر آلية إعادة التوزيع من طرف دولة الرعاية الاجتماعية في بلدان الشمال والصيغ التنموية في بلدان الجنوب. ولأن الجماهير المقصية وجدت نفسها منزوعة السلاح في وجه الدكاك الليبرالي فقد التجأت إلى النكوص نحو الجماعة (عرقية، دينية، ثقافية…) أملا في الحماية الجماعية.
لذلك، فسبب التجاء الناس إلى الفكر الديني والغيبي، ليس قصورا في استعمال العقل، كما قال أحمد عصيد، بل انعدامُ بدائلَ تقدمية. ولا يمكن لحلقات تنوير أن تنتزع تلك الأفكار من العقول، ما دام نفس وادي الدموع التي يشكل الدين هالته لم يجر تجفيفه.
يتنافس التيار الليبرالي العلماني والرجعي الديني من أجل هدف واحد: الهيمنة الأيديولوجية على عقول الشغيلة، بما يضمن استمرار نفس المجتمع الرأسمالي قائما، لذلك فهما يشكلان وجهان لنفس العملة، التي يعبر اسم حزب الملكية عنها تعبيرا ملائما: الأصالة والمعاصرة.
تصارع الرجعية الدينية من أجل زيادة أتباعها وتأمين هيمنتها الأيديولوجية على المجتمع، وترد الليبرالية العلمانية بنفس المنطق: الثورة الفكرية أولا. أي نزع الأفكار الرجعية من رأس الشعب وإعادة ملئه بأفكار الليبرالية العلمانية، لكن مع الحفاظ على نفس المجتمع الذي ينتج البؤس. سبق لكارل ماركس أن انتقد هذه الشعوذات في كتابه مع رفيقه انجلز “الأيديولوجيا الألمانية”: “إن هذا المطلب القائل بتغيير الوعي يقتصر على المطالبة بتفسير ما هو موجود بطريقة مختلفة، الأمر الذي يعني القبول به بواسطة تأويل مختلف. إن الأيديولوجيين الهيغليين الشباب، بالرغم من بياناتهم الطنانة التي يزعمون أنها “تقلب العالم”، هم أشد المحافظين صلابة. وإن أحدثهم قد وجدوا التعبير الصحيح الذي يصف نشاطهم حين أعلنوا أنهم يحاربون ضد “عبارات طنانة”. وإنهم لينسون على أي حال أنهم هم أنفسهم لا يعارضون هذه العبارات الطنانة إلا بعبارات طنانة أخرى، وأنهم لا يكافحون العالم الفعلي القائم في أي حال من الأحوال حين لا يفعلون سوى مكافحة العبارات الطنانة لهذا العالم”.
لذلك فإن أنصار ونصيرات الليبرالية العلمانية رغم عباراتهم- هن التقدمية الطنانة وتغنيهم- هن بالحرية، هم- هن أشد المحافظين- ات صلابة، ما داموا لا يضعون في برنامجهم- هن مهمة تدمير الرأسمالية المنتجة للبؤس والحرب والحاجة إلى كل أصناف الشعوذات.
إن مهاجمة الداعية دون إقران ذلك بالنضال ضد شركات الغذاء الرأسمالية وضد شركات الدواء التي تتلاعب بصحة الإنسان مقابل الربح، لن يؤدي إلا إلى تقوية خطاب الداعية بدل إضعافه. لقد أهملت الليبراليةُ الإنسانَ لتعتني بالمادة، وهذا ما يعطي للخطاب الديني قوته وفعاليته. ولا يمكن لليبرالية أن تهتم بالإنسان إلا كـ”موارد بشرية” و”رأسمال بشري” يجري اعتصاره إلى أقصى حد وأقساه، لتأمين تدفق الأرباح، بينما تدعي الرجعية الدينية أنها تهتم بروح الإنسان، دون أن تنسى حاجاته المادية التي تضمنها بشبكة العمل الخيري الإحساني. هذا هو سبب انتصار الرجعية الدينية على الليبرالية العلمانية، وليس لأن الناس لا تحسن استعمال عقولها.
يلتجئ الناس إلى الشعوذة لسبب بسيط: انعدام إمكانيات التطبيب، بعد أن خربت سياسةُ الدولة النيوليبرالية الصحةَ العمومية وفتحتها للاستثمار الخاص الذي يفرض الأداء مقابل البقاء على قيد الحياة. لذلك لن يتأتى عتق الناس من أسر الشعوذة إلا بالنضال من أجل صحة وتعليم عموميين ومجانيين، وهذا بعيد جدا عن الليبرالية التي تؤمن بحرية الأسواق إيمانا شبه صوفي يماثل الانخطاف الديني لأنصار ونصيرات التيار الرجعي الديني.
لقد قتلت الليبرالية أكثر مما قتله الرجعية الدينية. قد تكون جرائم الرجعية الدينية ماثلة في الأذهان بسبب طريقة إخراجها المشهدي (جرائم داعش) وتركيز الإعلام عليها، لكن ملايين ضحايا حرية السوق في العالم يموتون في صمت العتمة: ضحايا المجاعة والكوارث البيئية والانقلابات والحروب.
يعتقد التيار الليبرالي العلماني أن العلم أداة مفيدة في مواجهة شعوذة التيار الديني الرجعي، لكنه يتغافل أن العلم ليس قوة تقدمية في حد ذاته. فالعلم أسير في يد الرأسمال، ولا يتقدم إلا بمقدار ما يساهم في تراكم الأرباح: لا يجري تسويق أدوية وتظل في رفوف المختبرات بكل بساطة لأنها ليست مربحة بعد.
كما أن العلم قد يُستخدم لغايات رجعية، ألم يستعمل هتلر ورجال دعايته أرقى ما وصل إليه علم النفس ليقود ملايين الألمان نحو المذبحة؟ ألا تستعمل أجهزة الاستخبارات منتجات علم النفس في تعذيب واستنطاق المعتقلين- ات؟ إن العلمَ سلاحٌ، ومدى فائدته مرتبطة باليد الذي تحتكره، وما دام العلم أسير الرأسمال فستكون نتائجه التدميرية أكثر من نتائجه التقدمية.
حدثت الملحمة الهوميروسية بين التيار الليبرالي العلماني والرجعي الديني، في وقت تختطف فيه جائحة كورونا أرواح عشرات من الطبقة العاملة، التي أجبرها أرباب العمل على الاشتغال في ظروف لا توفر أدنى شروط الوقاية والسلامة.
بالنسبة للتيار الرجعي الديني ذاك قدر يجب تقبله بكل استسلام ديني، ومن لم يُصب بعد، فما عليه إلا الالتجاء إلى الطب النبوي والابتهالات الدينية. لكن التيار الليبرالي العلماني لا يقل عنه استهتارا بأرواح العمال، فما يهمه هو استمرار عجلة الإنتاج لتدفق الربح الذي يشكل الإله الحديث لكل المؤمنين بحرية الأسواق. كلا التيارين يقدم الشغيلة قرابين بشرية لإلهه الخاص.
لن يكون لهذه المعركة أي أثر على أوضاع الكادحين، باستثناء مزيد تسميم وعيهم بالخرافات الأيديولوجية لكلا التيارين. فلا فرق طبقي بين أفكار غيبية تعزي الشغيلة بقدوم يوم آخرة لتعويض الحرمان الدنيوي، وبين دجل ليبرالي يعد الناس بجنة النمو الاقتصادي المعتمد على القطاع الخاص.
العلمانية مطلب حيوي لتقدم شعوبنا، لكن هذا المطلب لم يوجد بعد في أيدٍ وفية. فالبرجوازية (بكل تياراتها بما فيها العلمانية) بحاجة دائمة إلى الدين لضمان السيطرة على الشغيلة. فقط الطبقة العاملة واليسار الثوري من يستطيع تحقيق العلمانية الناجزة، بتدمير الشروط الاجتماعية التي تدفع الناس غصبا للبحث عن حلول لاهوتية وغيبية لمآسيها.
لا يمكن لطبقة عاملة تقضي نصف عمرها في العمل، ووقتُ فراغها مستلبٌ بمنتوجات الإعلام والدعاية البرجوازية، أن تقوم بثورة فكرية تكون شرطا لتحرر اجتماعي. الأمران مرتبطان وجدليان، ولكن انتظار تحرر الجماهير من السيطرة الأيديولوجية البرجوازية كشرط للقيام بثورة اجتماعية، طوبى حمقاء.
قد يستطيع أفراد من نفس الطبقة التحرر من أسر الأيديولوجيات البرجوازية، لكن لن تستطيع الطبقة بمجملها أن تصل إلى ذلك قبل تحررها من السيطرة الطبقية البرجوازية (الاقتصادية والاجتماعية).
لا يعني التحرر من قيود تلك الأيديولوجية أن المرء قد أضحى حرا، بل أصبح أكثر وعيا بجذور العبودية الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية التي ترزح على صدر الشغيلة. ودور تلك الطلائع هو جعل الشغيلة واعية بأسباب اضطهادها، فالعمال- ات فقراء- ات لوعي فقرهم- هن، على حد تعبير الشهيد العمالي عبد الله موناصير.
لا يمكن لطبقة عاملة أن تمتلك وعيا مطابقا لمصالحها الطبقية، دون تلطيف شروط الاستغلال التي تمنعها من التمتع بكنوز المعرفة الإنسانية. وإن الشرط الأول لذلك هو النضال من أجل:
+ تعليم عمومي مجاني وجيد وعلماني لأبناء وبنات الشغيلة وعموم فقراء المدن والقرى.
+ تشغيل عمومي يضمن فرص عمل تقي من اللجوء إلى كل أشكال العمل الهش الذي يشكل التربة الخصبة لتصيد الأتباع إلى شبكات الرجعية الدينية.
+ تخفيض جذري ليوم عمل الشغيلة، مع عطل سنوية مؤدى عنها، من أجل تقليص وقت الكدح وتوفير وقت فراغ يُستغل في أنشطة التعليم والتثقيف.
+ إنهاء سيطرة الشركات الكبرى ومراكز الإشهار على الإعلام العمومي وتحويله إلى وسيلة لرفع المستوى الفكري والثقافي للجماهير.
فقط في مجتمع تنتفي فيه ضرورة العمل لتفادي الموت جوعا، مجتمع يختفي فيه استثمار الإنسان لمراكمة الأرباح، فقط في ذلك المجتمع ستتوفر إمكانية تخلص الإنسانية من الحاجة إلى جميع الأوهام علمانية كانت أم دينية.
اقرأ أيضا