المعارضة العراقية والكفاح المسلح: “الكفاح المسلح” في سياسة الحزب الشيوعي العراقي
تقديم موقع جريدة المناضل-ة
يقع العراق في قلب مأساة الثورة “العربية”. فبقدر الأمال التي استثارتها القوة الجماهيرية الصاعدة من أعماق المجتمع، والمتطلعة للتحرر السياسي والانعتاق من الإمبريالية والتخلص من التخلف الاقتصادي، بقدر خيانة تلك الآمال العظيمة بسياسات جبانة ممن يفترض أن يكون قيادة هذه الجماهير الطليعية.
أفسدت المذهبية المتحجرة الحركة االشيوعية العربية (وضمنها أكبرها: الحزب الشيوعي العراقي)، رافضة عن وعي قيادة الجماهير الثائرة للاستيلاء على السلطة، بمبرر الطابع البرجوازي الوطني الديمقراطي للثورة [نظرية المراحلية]… على الرغم من هيمنة الحزب الشيوعي آنذاك، على القوات المسلحة وميليشيات “المقاومة الشعبية” وكل المنظمات الجماهيرية وحيازته لتأييد شعبي قل أن حظي حزب آخر به على مدى تاريخ العراق الحديث.
ومن هذه المذهبية نبع تكتيك انهزامي تجاه القوى البرجوازية التي أصر الحزب الشيوعي العراقي على الدخول معها في تحالفات جَبْهوية. كانت النتيجة النهائية لهذا التكتيك صرف الطاقة الجماهيرية الصاعدة في قنوات برجوازية، تُوِّجَتْ باجتثاث الحركة الشيوعية من طرف إحدى “القوى التقدمية” التي تحالف معها الحزب الشيوعي: حزب البعث بمساعدة حلفاء آخرين للحزب الشيوعي (الحركة القومية الكردية: البارزاني والطالباني).
يقدم هذا النص الذي نشره الشيوعيون الثوريون العراقيون في الخارج- أنصار الأممية الرابعة، في مجلة “إلى الأمام” بتاريخ 7 أبريل 1989، نبذة سياسية عن أحد أوجه العمل السياسي للحركة الشيوعية العراقية: “الكفاح المسلح”، وكيف جرى استعمال هذا الشعار كمزايدات بين الانشقاقات المتوالية داخل الحزب الشيوعي(باستثناء “فريق الكادر”)، في حين كان الحزب الأصلي يواصل سياسته الذيلية تجاه حزب البعث (صدام حسين).
ينتهي المقال بخاتمة لا زالت تحتفظ براهنية كبيرة، خصوصا مع الموجة الثورية الجديدة بالعراق: “لقد آن الأوان للشيوعيين الثوريين العراقيين أن ينهضوا بواجبهم في بناء حزب البروليتاريا العراقية الشيوعي”.
هذا الحزب هو الوحيد القادر على قيادة الجماهير المنتفضة في شوارع وميادين العراق، بقتالية غير مشهودة في وجه نظام لا يتوانى عن استعمال الرصاص الحي مدعوما من طرف رجعية أقليمية لا تقل استبدادا (إيران).
حزب البروليتاريا العراقية الشيوعي هو الوحيد القادر على قيادة الثورة حتى نهايتها القصوى، دون السقوط في حبائل المساومات السياسية القذرة الطائفية وغير الطائفية. لذلك فإن بناءه هي المهمة الأولى التي تقع على عاتق الثوريين العراقيين، وسيبنونه في خضم المعارك إلى جانب الجماهير الثائرة.
هذا الحزب هو القادر على قيادة الجماهير للقيام بالمهمة التي رفضتها الحركة الشيوعية السابقة: الاستيلاء على السلطة وتدمير جهاز الدولة البرجوازي وبناء جهاز دولة طبقية بديل يستجيب لتطلعات الجماهير الثائرة ويفتح الآفاق أمام تطور اقتصادي واجتماعي يشمل المنطقة العربية والمغاربية كلها، وليس العراق فقط.
اختصارات موجودة في النص:
ح. ش. ع: الحزب الشيوعي العراقي.
ح.ش. ع- ق. م: الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية
ح. ش. ع- ل. م: الحزب الشيويع العراقي- اللجنة المركزية
===========
“إلى الأمام”، تصدر عن الشيوعيين الثوريين العراقيين في الخارج- أعضاء الأممية الرابعة، العدد 7- أبريل 1989
المعارضة العراقية والكفاح المسلح: “الكفاح المسلح” في سياسة الحزب الشيوعي العراقي
توطئة:
كان هذا الموضوع قد أُعِدَّ كجزءً من مادة تتناول المعارضة العراقية (بفصائلها الثلاثة: الشيوعية، القومية الكردية، والحركة السلفية الشيعية) وموضوعة الكفاح المسلح. ذلك لأن هذه القوى، إن اختلفت مشاربها ومنطلقاتها السياسية والفكرية، قد أجمعت على رفع هذا الشعار في مواجهة الطغمة الديكتاتورية الفاشية الحاكمة في العراق. بل إن أطرافا هامة منها اعتبرته الأسلوب الأمثل والوحيد لبلوغ أهدافها! وبالنظر لفشل عموم تلك القوى في استخدام هذا الشعار كأسلوب ثوري فعلي في إسقاط النظام، سنحاول مناقشة مدى مصداقية تلك القوى في رفعها لهذا الشعار، مبتدئين بتناول مفهوم الكفاح المسلح والحزب الشيوعي العراقي بجناحيه (“ل.م” و”ق.م) على أمال أن تتاح الفرصة لمناقشته لدى الأطراف السياسية الأخرى.
مفهوم “الكفاح المسلح”
الكفاح المسلح أو حرب الغوار أو حرب العصابات هي تسميات لفعل واحد هو العمل المسلح من أجل حل التناقض القائم في المجتمع بين البروليتاريا والطبقات الرجعية (وفي أحوال أخرى بين شعب مستعمَر أو مضطهَد ومستعمِريه ومضطهِديه) بعد استنفاد الحل السياسي.
إن كلمة” حرب العصابات” Guerrilla ذات أصل إسباني وتعني الحرب الصغيرة. استُخدِمت لأول مرة في وصف حركة المقاومة الشعبية ضد جيش نابليون الغازية لإسبانيا عام 1808.
خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت حرب العصابات هو الأسلوب الذي طبع نضالات الحركات الثورية في فلسطين، اليمن الجنوبي، الجزائر، الصحراء الغربية وفي اليونان، يوغوسلافيا، في الملايو، سيلان، الفليبين، وخلف الخطوط العسكرية في كوريا، في الصين، فيتنام، لاوس، بورما، في المستعمرات البرتغالية في إفريقيا، وبعد عام 1959 في كل بلدان أمريكا اللاتينية تقريبا. إن هذه ليست لوحة متكاملة لكل حروب العصابات التي دارت في العالم ولكنها تعطينا فهما أفضل لأهمية الدور الذي تلعبه حرب العصابات في الحركات الثورية.
للكفاح المسلح، كما لأشكال الصراع الأخرى، قوانينه الخاصة والتي تنبثق من عوامل الزمان والمكان وموازين القوى الداخلية والخارجية ويشتمل على تكتيكات معينة ترتبط باستراتيجية شاملة تهدف إلى إسقاط سلطة الطبقات الرجعية وتدمير دولتها القمعية وإقامة سلطة البروليتاريا على أنقاضها.
والكفاح المسلح كما يُعرفه جيفارا هو “نوع من الحرب الشعبية، نوع من النضال الجماهيري، ولا تعني محاولة المضي في هذا الشكل دون تأييد السكان المحليين سوى الهزيمة المؤكدة، المغاورون هم طلائع الشعب المسلحة، المقاتلة، العاملة في منطقة معينة من بلد معين. إنهم يستهدفون شن سلسلة من الأعمال القتالية، في سبيل- الهدف الاستراتيجي الوحيد الممكن- الاستيلاء على سلطة الدولة. إنهم يحظون بتأييد جماهير العمال والفلاحين في المنطقة التي يعملون فيها، أو حتى في البلد قاطبة ولا يمكن شن أية حرب غوار بدون توفر الشروط السابقة” [تشي جيفارا،”- المؤلفات الكاملة- ص 699]. من هذا التعريف يتبين لنا: أن الكفاح المسلح هو حرب سياسية في الأساس تستلزم تعبئة للجماهير وزجها في مختلف أشكال النضال وتوفير أشكال العمل السياسي القادرة على التعبير عن عدالة القضية الثورية. وعلى الحركات الثورية تنظيم كل قوى الجماهير، وقد كرست تجارب الحرب الثورية الحديثة ثلاث أشكال تنظيمية أساسية هي: الحزب الطليعي الثوري والجبهة (اتحاد المعسكر الديمقراطي بقيادة الحزب الطليعي الثوري للطبقة العاملة) والمنظمات الجماهيرية (التي تمثل أوسع قطاعات الجماهير من عمال وفلاحين وطلبة ونساء،.. إلخ، والتي تجند جماهيرها من أجل إسناد الحزب والجبهة وحربهما الثورية).
لقد بينا أن الحرب الثورية هي حرب سياسية بالدرجة الأولى ولكنها حرب مسلحة. إن اقتران العمل العسكري بالعمل السياسي يحقق تفوق حرب الشعب على الحرب التقليدية المعادية للشعب. إن قيادة الحركة الثورية هي ذروة الإبداع الثوري على الصعيدين العسكري والسياسي، فهي تجمع القدرة على التحليل العلمي والقدرة على اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب، كما تعني الفطنة والحنكة والشجاعة الفائقة والمؤهلة لوضع الخطط وقيادة المعارك ببراعة وبسالة، كما تخلق الكادر المبدع والمقاتل النموذجي.
عسكريا، تمر حرب العصابات بثلاثة مراحل؛ الأولى هي مرحلة الفصائل المسلحة الصغيرة التي تختار أماكن مؤاتية لنشاطها تستطيع التقدم منها للهجوم والانسحاب إليها ملاذا، وتكون هذه الفصائل وهي في بداية عملها دائمة التجوال وذات يقظة واحتراز شديدين لتجنب ضربات قاصمة من العدو. ويتجنب الثوار حربا موضِعية أو بناء خطوط قتالية ثابتة، إنما هجمات خاطفة وكمائن.
المرحلة الثانية هي اتساع الحرب الثورية وتشكيل الوحدات الكبيرة (التي تكون نواة الجيش الشعبي الثوري القادم) وتمزيق جيش العدو داخليا وعزله خارجيا، وخلق المناطق المحررة وإقامة أجهزة الحكم الثوري المقبل يها.
المرحلة الثالثة هي مرحلة مهاجمة العدو على أوسع نطاق واحتلال المدن ودحر الجيش الرجعي نهائيا.
يشكل العراق تربة خصبة للكفاح المسلح بفعل العداء التاريخي بين الجماهير العراقية- العشائر والأقليات القومية خاصة- والسلطات المركزية الرجعية التي تعاقبت على حكم العراق باستثناء الفترة الأولى من حكم عبد الكريم قاسم.
فقد اتسم تاريخ العراق السياسي الحديث مذ مطلع القرن الحالي بعدم الاستقرار والاضطرابات المسلحة. وظهرت أولى بوادر الانتفاضات الشعبية المسلحة متمثلة في اندلاع حركة الجهاد عام 1914 عندما كانت البصرة مُهددة بخطر الغزو الانكليزي، وكانت الانتفاضة الكردية المسلحة بقيادة الشيخ محمود الحفيد عام 1919، وشنت العشائر العراقية أثناء ثورة العشرين حرب عصابات أَقَضَّتْ مضاجع المحتلين البريطانيين وكادت تؤدي إلى هزيمتهم لولا تفوق التقنية العسكرية البريطانية على سلاح الثوار المتخلف.
وبعد قيام الكيان السياسي العراقي عام 1921 استمرت التمردات المسلحة من قبل الجماهير الفلاحية المعدمة والأقليات القومية والدينية… كالانتفاضات المسلحة التي قام بها الآثورين عام 1933، فلاحو سوق الشيوخ عام 1935، البَارَزَانِيِّين عام 1945، فلاحو آل أزبرج عام 1952، وفلاحي دزة ئي عام 1953 وشهدت الفترة الثانية من حكم عبد الكريم قاسم أكبر انتفاضة كردية مسلحة حتى ذلك التاريخ عام 1961، وكانت آخر انتفاضة مسلحة من هذه السلسلة هي انتفاضة عشائر الغموكة عام 1966. ولا يمكن اعتبار الانتفاضات المسلحة بأنها “كفاح مسلح” أو “حرب عصابات”، وذلك لأن قوانين الكفاح المسلح التي تطرقنا لها سابقا لا تنطبق عليها. ناهيك أنها تتسم بعفويتها وانعدام تنظيمها والطبيعة الطبقية البرجوازية لقيادتها وبالتالي غياب النظرية الثورية.
الحزب الشيوعي والكفاح المسلح:
إن مراجعة سريعة لسياسة الحزب الشيوعي العراقي في شتى مراحلها وبشتى اتجاهاتها اليمينية (بل وحتى اليسارية)، ستُظهِر بجلاء أنها قد خضعت للأوامر والتعليمات الصادرة عن القيادة البيروقراطية الحاكمة في الاتحاد السوفياتي. وبذلك فإن الأزمة ليست أزمة قيادة فحسب، وإنما في النهج الستاليني الذي وسم سياسة الحزب منذ نشأته.
فطوال الحقبة المَلكية من تاريخ العراق لم يلجأ الحزب للعنف المسلح لا للاستيلاء على السلطة، ولا حتى للرد على العنف المسلح الرجعي من قبل السلطة المليكة، ولا يوجد في وثائق الحزب طوال تلك الحقبة ما يشير إلى عزم الحزب للجوء إلى العمل المسلح لتحقيق أهدافه، بل على العكس من ذلك تماما نجد في تلك الوثائق ما يؤكد تمسكه بأسوب النضال السلمي.. فقد ورد في تقرير الكونفرنس الثاني للحزب عام 1956: “إننا نحن الشيوعيون العراقيون لا رغبة لنا بالعنف أو سلوك سبيل القوة، وإنما نسعى إلى تحقيق أهداف حركتنا التحررية بأيسر السبل وأقل التضحيات”!!
وسيظل العمل السلمي هو ديدن الحزب وعنوان سياسته تماشيا مع الطروحات الستالينية حول “الطبيعة السلمية لعصرنا الراهن” هذا العصر المثقل بحروب ومجازر الإمبريالية والصهيونية والفاشية في العالم أجمع.. هذا هو عصر السلام الذي يسعى الـ ح. ش. ع فيه إلى الوصول للاشتراكية عن طريق “التطور اللا رأسمالي”!!
ومنذ قيام ثورة 14 تموز/ يونيو وحتى الانقلاب الفاشي عام 1963، لعب الحزب دور الكابح للمد الثوري، الذي اجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه، باتجاه إزاحة البرجوازية عن السلطة والسير بالثورة العراقية صوب الاشتراكية، ورفض الحزب المبادرات العديدة التي تقدم بها الكثير من العناصر المتجذرة ثوريا فيه لإسقاط قاسم والاستيلاء على السلطة، على الرغم من هيمنة (الحزب) على القوات المسلحة وميليشيات “المقاومة الشعبية” وكل المنظمات الجماهيرية وحيازته لتأييد شعبي قل أن حظي حزب آخر به على مدى تاريخ العراق الحديث.
وقَمع الحزب بشدة كل الأصوات المنادية بتسليح الجماهير للرد على اعتداءات إرهابيي “البعث” و”القوميين العرب”… وظل الحزب على موقفه “الحازم” هذا حتى في أوج تفاقم الإرهاب الرجعي من قبل تلك العصابات ضد جماهير الحزب في الأيام الأخيرة لحكم قاسم.
وخضوعا لأوامر البيروقراطية السوفياتية، استمر الحزب على دعمه لحكم قاسم البرجوازي، واخترعت ماكنة الحزب الدعائية أيامها فكرة “القيادة المشتركة” للثورة بين البرجوازية والطبقة العاملة!! وظلت تطبل لها لغاية سقوط قاسم على أيدي الفاشست البعثيين وحلفائهم.
هنا يتجلى لنا صواب ما استنتجناه سابقا في هذا المقال، من أن سياسة الحزب الإصلاحية والانبطاحية أمام ابرجوازية لا يمكن أن تثمر سوى الهزائم والنكبات. لقد اندفع الحزب بكل قواه للمراهنة على قاسم (وعلى إمكانية تطوره باتجاه… إلى آخر المعزوفة.. والتي ستتكرر كثيرا في ظروف مشابهة بحكام آخرين) وكان الأمر البيروقراطي السوفياتي للحزب واضحا بهذا الخصوص… على الحزب دعمَ قاسم كونه “شبه بلشفي” (حسب تعبير بيروقراطيي الكرملين). وحين اكتشف الحزب خطأ مراهنته على “بلشفية” قاسم كان الوقت قد فات وكان الثمن باهظا… ما يقارب العشرة آلاف شهيد شيوعي مُزقوا برصاص “الحرس القومي” الفاشي. ولم يكن مفاجئا (سوى لتلك الرؤوس الإصلاحية الفاسدة) أن يستسلم عبد الكريم قاسم للفاشست مفضلا الموت على أيديهم على توزيع السلاح للجماهير لمقاومة الانقلابيين.
واندفعت الجماهيربسلاحها الفردي وبقبضاتها العارية من أي سلاح في أغلب الأحيان، اندفعت ببطولة للدفاع عن نفسها ضد القطعان الفاشية في معركة غير متكافئة لكنها مشرفة.
بعد هذه الفورة عاد الحزب إلى سيرته الإصلاحية الاستسلامية السابقة وكأن شيئا لم يكن ولم يتعلم من درس 8 شباط/ فبراير الدموي… بل وتمادى في استسلامه للبرجوازية إلى درجة القبول بحل نفسه والاندماج في اتجاه عارف الاشتراكي الكارتوني. ومرة أخرى كان الخضوع الذليل والمُشين للحزب أمام البيروقراطية السوفياتية هو الذي دفعه إلى طريق الخيانة الطبقية السافرة… حيث كان تحسن العلاقات بين الحكم العارفي المغرق بدماء الشيوعيين والحكم السوفياتي البيروقراطي (الذي وصف اتحاد عارف المسخ بأنه “مركز جذب لكل القوى التقدمية في العراق”) هو السبب وراء ذلك الانبطاح الجديد أمام البرجوازية، وهكذا على الدوام كان الحزب يربط تطور العملية الثورية رباطا لا ينفصم في تقييمه للنظام لا اعتبارا لطبيعته الطبقية بل من زاوية تقاربه أو بُعده عن البيروقراطية السوفياتية، فكان الحزب لا يزال يعتبر هذه القضية (لا الصراع الطبقي ونضالات الجماهير الثورية) كمحرك للعملية الثورية في العراق. أدت سياسة الحزب الخيانية تلك إلى تذمر وتململ القواعد الحزبية وسيتسع هذا التذمر إلى حده الأقصى مؤديا إلى انشقاق عام 1967 وانقسام الحزب إلى حزبين يحمل كلاهما اسم الحزب الشيوعي العراقي.
ولسنا هنا يمعرض الحديث عن تفصيل خلفيات وأسباب ذلك الانشقاق، ولكننا نود إعادة عرض مختصر لحقيقة ما حدث وهو: أنه باستثناء التوجه الحقيقي لـ”فريق الكادر” فقد كان الانشقاق عبارة عن صراع على كراسي القيادة بين مجموعة “منطقة بغداد” بزعامة عزيز الحاج وجماعة “اللجنة المركزية” بزعامة عزيز محمد وزكي خيري، وفي محاولة لإخفاء حقيقة الصراع فقد صورته المجموعتان على أنه خلاف حول طريقة أسلوب توجه الحزب لاستلام السلطة!! هل هو عن طريق “الانتفاضة المسلحة” شعار المجموعة الأولى، أم عن طريق “العمل الحاسم” (أي الانقلاب العسكري) شعار المجموعة الثانية، وتمشيا مع الأفكار الثورية في العراق وانتشار مفهوم الكفاح المسلح لدى قواعد الحزب في عام 1967، كرس الحزب الشيوعي كونفرنسه الثالث في العام نفسه لهذا الشعار وخرج بدراسة موسعة حول تبني شعار الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي للنضال، إلا أن هذه الدراسة بقيت مجرد وثيقة تطل بها قيادة الحزب على قواعده بين حين وآخر كلما دعت لذلك ضرورة! وليس أدل على نفاق وتدجيل المجموعتين في رفع الشعارين أعلاه (بغض النظر عن أن تاريخهما السابق واللاحق لم يحمل يوما ما بذور مثل هذين الشعارين) من أن كل مجموعة كانت تدافع عن شعارها وتهاجم شعار الأخرى عن طريق الصحافة الحزبية!! والتي كانت تصل لأيدي الجميع من عضو الحزب إلى رجل الشارع العادي إلى شرطي الأمن.. إلخ، فتَأَمَّلْ بأي جدية كان الحزب يعمل على استلام السلطة!!
وإلى جانب حزب ل. م وحزب ق. م كان هناك “فريق الكادر”. ولتداخل عمل وتاريخ المجموعتين الأخيرتين فسنتناولهما سوية.
فريق الكادر القيادة المركزية:
في خضم الصراع الذي تفجر في صفوف الحزب عقب محاولة حله عام 1964، حصل تجذر ملحوظ عند بعض كوادر الحزب في انسلاخ شبه كامل من الستالينية وتكتلت على مدى السنوات الثلاث التالية في تشكيل تنظيمي عُرف بـ”فريق من كوادر الحزب” واختصارا “فريق الكادر” وبرز الشهيد خالد أحمد زكي “ظافر” كقائد ثوري ومنظم بارع للكفاح المسلح باستلهام الأفكار الثورية التي طورها جيفارا حول الحرب الثورية.
رفع “فريق الكادر” شعار “الكفاح المسلح لإسقاط الحكم الرجعي القائم وإقامة الحكم الديمقراطي الشعبي بقيادة الطبقة العاملة”، وشن نضالا فكريا واسعا فاضحا المفاهيم الإصلاحية الاستسلامية في سياسة الحزب و”تخليه” عن هدف استلام السلطة السياسية (أساسا لم يرد في برنامج ح. ش. ع هدف استلام السلطة السياسية لذا فالتخلي عن الهدف هنا لا يعدو توزيقا لفظيا، لأن هذا الهدف غير موجود أصلا).
ولم تكتف مجموعة الكادر (كحال المجموعتين الستالينيتين ل.م وق.م) برفع شعاراتها بل بادرت إلى تهيئة المستلزمات المادية للبدء بالكفاح المسلح، فنظمت الفصائلَ المسلحة في الأهوار والفرات الأوسط والأحياء العمالية الشعبية كمدينتي الثورة والشعلة وانطلقت الشرارة الأولى لكفاح المسلح من الأهوار في حزيران/ يوليو 1968 بقيادة الشهيد خالد أحمد زكي.
أما عن ق. م. ففي غمرة صراعها (بعد الانشقاق) مع الـ ل. م. وفي محاولة منها لإضعاف نفوذ الأخيرة، تقربت لفريق الكادر وعرضت عليه توحيد التنظيمين بحجة وحدة القوى الثورية في الحزب ضد الزمرة اليمينية التصفوية ولعزل الأخيرة. وبدلا من أن يستمر “فريق الكادر” كفصيل شيوعي ثوري مستقل وكبديل ثوري للزمرتين الستالينيتين المتصارعتين، بادر وبكل سذاجة وبحرص مبالغ فيه على “وحدة الحركة الشيوعية” (بما فيها من ثوريين وانتهازيين) بادر إلى الانضمام لتنظيم الـ ق. م مؤملا النفس بإزاحة العناصر الستالينية من خلال الصراع الفكري الديمقراطي داخل الحزب الجديد!!
وكان موقف فريق الكادر هو عدم إعلان نفسه بديلا للحزب الإصلاحي قبل وبعد الانشقاق وكان يعتبر سبب الأزمة في “القيادة اليمينية التصفوية للحزب” ويتمثل الحل في نظرهم في إزاحة تلك القيادة ليعود الحزب ثوريا (وكأنه كان كذلك يوما ما!!).
تم توحيد التنظيمين في نهاية كانون الثاني/ يناير عام 1968، هذه الخطوة ستكون انتحارا تنظيميا وسياسيا لفريق الكادر ونهاية دموية للحزب الجديد ككل في شباط/ فبراير 1969.
في الأول من حزيران/ يونيو 1968 أصدر الحزب الجديد (الحزب الشيوعي العراقي- ق.م) بيانا يعلن فيه عن قيام “جبهة الكفاح الشعبي المسلح” وبدء الكفاح المسلح، من الوسط والجنوب (ق. م) ومن كردستان (ح. د. ك). فكان إعلان بدء الكفاح المسلح أن أثار ذعر القوى الرجعية في البلاد فسارعت للاستنجاد بالدوائر الإمبريالية (البريطانية خاصة) فتم الإيعاز للبعث الفاشي باستلام السلطة في “انقلاب أبيض” بعد بضعة أسابيع من بدء الحرب الثورية.
حددت السلطة الفاشية الجديدة مركز الخطر في البؤرة الثورية المسلحة في الأهوار.. فحشدت كل قواها القمعية من جيش وشرطة ومرتزقة في هجوم شرس تم لها فيه القضاء على الثورة وإبادة الثوار. ولم يكن لكل هذا أن يحصل لولا أن تظافرت عوامل أخرى مع الهجوم الفاشي المضاد. والعامل الأول والأساسي في سقوط التجربة الثورية المسلحة هو في عدم جدية القيادة المركزية في خوض الكفاح المسلح فبالنسبة لها كان الأمر كله عبارة عن مزايدة في الشعارات مع ل. م. ولم يكن لديها أي توجه حقيقي بهذا الصدد. ويتبين لنا دجل القياد المركزية بوضوح من رفض قادة الـ ق.م.- بشتى الحجج والذرائع- من الانخراط في العمل المسلح أو الانسحاب للريف على الأقل توقيا من ضربات متوقعة من السلطة الفاشية فظلوا في بغداد متمتعين بكل مباهج المدينة في الوقت الذي كان فيه رفاقهم في الأهوار يعانون الأمرين هناك من قسوة الطبيعة وشظف العيش والأدهى من ذلك أن سادة الـ ق. م. قاموا بتظاهرة استعراض عضلات فارغة أمام السلطة بمشاركتهم في الانتخابات العمالية التي جرت آنذاك، حيث قاموا- وبكل استخفاف واستهانة بقواعد الاحتراس والصيانة في حزب يفترض أنه يخوض كفاحا مسلحا ضد السلطة- بافتتاح مقرات علنية لقائمتهم الانتخابية “كفاح العمال” أمام أنظار رجال الأمن ودعوا أعضاءهم للتحشد فيها (في محاولة لإظهر تفوق أنصارهم وقوتهم على منافسيهم من الـ ل.م.) وبامتنان كبير لهذه البادرة الغبية شنت السلطة وبنجاح كبير حملة اعتقالات واسعة سقط فيها الرأس القيادي الأول عزيز الحاج الذي قاد رجال الأمن بدون أدنى عناء إلى اجتماع كامل لأعضاء القيادة فتم اعتقال الجميع.
ثم إن قيادة الثورة الكردية البرجوازية- الإقطاعية كانت تلكأت في فتح جبهة الشمال (كما كان متفق عليه مع الـ ق. م) ولم تزد من وتيرة عملها المسلح والذي ظل كما كان قبل بدء الكفاح المسلح، ولم تلجأ الـ ق. م. إلى تشكيل فصائل شيوعية مسلحة في كردستان لتكون في حِلٍّ من وصاية القيادة البرجوازية- الإقطاعية للثورة الكردية وفي مأمن من تقلباتها، بل وثقت بكلمة البارازاني وكأنما الأمر يتعلق بقضية شخصية لا بقضية الثورة المسلحة ومصير الشعب المعلق على نتيجتها.
ويبقى سبب أخير لفشل التجربة المسلحة في الأهوار هو أن الثور لم يسعوا إلى تهيئة سياسية لجماهير الأهوار والفلاحين في ريف الجنوب ولم يحاولوا استمالة العشائر في المنطقة إلى جانب الثورة. هذه الأمور مجتمعة حرمت الثورة المسلحة من الدعم الجماهيري في منطقة عملياتها العسكرية وأدت إلى تسهيل مهمة السلطة في القضاء عليها.
في شباط 1969 قضت السطة أو كادت على حزب الـ ق. م. أما من فلت من أعضائها من قبضة السلطة فقد لجأوا إلى كردستان وتحالفوا هناك مع البارازاني الذي سرعان ما لفظهم حين أقدم على تسوية 11 آذار/ مارس 1970 مع السلطة الفاشية، فتقلص تأثير حزب الـ ق. م. في الخارطة السياسية في العراق إلى أبعد الحدود.
الحزب الشيوعي العراقي (ل. م):
كان حزب الـ ل. م. خاويا تنظيميا بعد حدوث انشقاق الـ 1967 ولكنه استعاد قوته بعد الضربة القاصمة التي وجهتها السلطة لمنافسه حزب الـ ق. م، فعاد إلى صفوفه الكثير ممن هجروه عند حدوث الانشقاق لصالح ق. م. متشفيا وصامتا صمتا مريبا حول مجزرة السلطة ضد ق. م… انتهج حزب ل. م مذ البدء سياسة تقارب وتعاون مع البعث الفاشي تُوجت بقيام “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية” عام 1973، بعد أن ابتلع شعار “العمل الحاسم” لإسقاط السلطة دون أن يغص بذكرى الآلاف من شهدائه الذين ذبحوا على أيدي حليفه الفاشي لا غيره، فقد وصف حليفَه الجديد على أنه من “قوى الخير” (1)، بعد أن كان قد وصف الحكمَ الجديد بأنه “سلطة دكتاتورية مناوئة للديمقراطية” (2) عاد ليتبارى منظروه بخلع أكثر الأوصاف رنينا ثوريا على العصابة الحاكمة ورأسها المدبر صدام، بل بدأ الأخير بـ”إضاءة” جريدة الحزب (3)، وبتنوير قيادة الحزب بواجباتها الجبهوية (4).
سنترك الآن موضوع تلك الجبهة الخيانية فهي ليست موضوعنا حاليا، ونكتفي بالقول بأن سيرورة انحطاط الـ ح. ش. ع. قد تكاملت في ذلك الوقت بالذات، ونعود إلى موقف الحزب من قضية الكفاح المسلح.
لقد مارس الحزب- والحق يقال- الكفاحَ المسلح ولكن بصورة مقلوبة، فقد مارسه سوية مع البعث الفاشي في ضرب الحركة القومية الكردية. وكان قد مهد لكفاحه المسلح هذا بحل خطه العسكري وبالامتناع عن العمل داخل القوات المسلحة.
ومهما يكن من أمر، فإن البعث الفاشي وبعد أن استنفذ أغراضه من “الجبهة” ركل الحزب الستاليني خارجا وأقدم على تنفيذ أكبر المجازر بحق أعضاء الحزب (قواعد الحزب أما القيادة فلم تُمس شعرة من روؤس أعضائها) والتي فاقت بدمويتها مجازر 1963. ويسقط رهان الستالينيين على البرجوازية مرة أخرى وبثمن أبهظ من السابق، ومرة أخرى تتسبب الخيانة الأممية للبيروقراطية السوفياتية بنكبة جديدة لشعبنا بمعاهدة صداقتها مع صدام (والتي لا تزال قائمة لليوم) وبدعمها السياسي والعسكري لحكم القتلة الإرهابيين الفاشست.
وبعد رفض النظام الفاشي لوساطات البيروقراطية السوفياتية وللنداءات العديدة التي وجهتها قيادة الحزب الستاليني للعودة إلى حظيرة التحالف (5)، بعد هذا الرفض رفعت قيادة الحزب فجأة شعار “إنهاء الديكتاتورية” في نهاية عام 1979، وغير فاقدة لأمل العودة ثانية لأحضان النظام مشترطة لذلك “إنهاء الأوضاع الاستثنائية”.
أما لماذا “إنهاء الديكتاتورية” وليس إسقاطها فلأنه “لا من مشكلة مع البعث إن هو أنهى بنفسه الأساليب الديكتاتورية في الحكم” حسب تعبير الـ ل. م. ولم ترفع قيادة الحزب شعار الكفاح المسلح إلا بعد أن أصبح حقيقة واقعة بفعل اندفاع الشيوعيين في كردستان إلى حمل السلاح بوجه السلطة دفاعا عن أنفسهم (بعد تردد القيادة وجبنها من اتخاذ موقف حاسم من المجزرة الدائرة) مما كان يهدد وجودها ذاته في قيادة الحزب.
وبإمكاننا الاكتفاء بما تقدم للتدليل على مقدار النفاق في “صحوة الضمير الثورية” المتأخرة في رفع القيادة لشعار “الكفاح المسلح”، وأنها لا تعدو إسكاتا لأصوات القواعد الحزبية الثائرة والمُطالِبة بتقييم ما حدث وتحديد مسؤولية الكارثة الرهيبة التي أصابت الحزب، فجرى رمي تلك القنبلة الدخانية- الشعار لتعمي أبصار الجماهير التي أسلمت قيادها للحزب طوال نصف قرن الزمان ليقودها أخيرا إلى المأساة الكبرى بعد أن مر بها من خلال العديد من المآسي الأصغر حجما.
ثم إن أي توجه حقيقي للكفاح المسلح يستلزم بالضرورة حزبا ثوريا، فأين هذا الحزب من الحزب الستاليني العراقي بتحجره العقائدي وتاريخه الاستسلامي؟
مع كل ما تقدم سنسوق بعض الحقائق حول هشاشة وزيف كفاح الـ ل. م. “المسلح”:
– تم الانتقال من اعتبار سلطة البعث كسلطة “دكتاتورية” إلى “ديمقراطية ثورية” إلى “فاشية” بدون فواصل زمنية أو سياسية، وكذلك الأمر بالنسبة لسلوك ل. م. تجاه السلطة، فمن التوجس منها إلى التحالف معها إلى إعلان “الكفاح المسلح” ضدها!!!!
– لم يتخذ أي قرار لا من ل. م. ولا من م. س حول تبني الكفاح المسلح (حسب اعتراف بهاء الدين نوري في وثقية “التقييم” التي أصدرها أوائل آب/ غشت 1948) وإنما لُطِشَ هذا الشعار بعد أن مارسه فعليا الشيوعيون الذين نجوا من طاحونة الموت الصَدَّامية.
– هروب القيادة بكاملها نحو الخارج (لأوروبا خاصة) وفقط في العام 1982 وصل سكرتير الحزب وبضعة أفراد من ل. م. وم. س إلى كردستان، حيث تم عقد اجتماع لـ ل. م. هناك وبعد مكوث دام حوالي الثلاثة أشهر غادر السكرتير الأول وأغلبية الشلة للخارج ثانية، عائدين إلى مكاتبهم البيروقراطية المريحة. ولا نعرف كيف يكون بإمكان حزب شيوعي ممارسة الكفاح المسلح وجل قيادته إن لم نقل كلها هاربة خارج الوطن!!
– وكيف يكون بالإمكان شن كفاح مسلح حقيقي والتنظيم الحزبي في جميع أنحاء العراق قد سُحِقَ من قبل ماكنة القمع الفاشية، ولم يُعَد بناؤه لحد الآن؟
– وكيف يكون بإمكان الحزب شن كفاح مسلح بدون سند جماهيري منظم أي منظمات الحزب الجماهيري (اتحاد الطلبة العام، اتحاد الشبيبة، رابطة المرأة، والتنظيمات العمالية والفلاحية إلخ) وقد أصبح وجود تلك المنظمات العريقة في خبر كان بعد أن أقدم ستالينيو الحزب على حلها إذعانا لأوامر حليفهم البعث الفاشي وهي (المنظمات الجماهيرية) لسخرية القدر وصفاقة الستالينيين أقدم عمرا من البعث نفسه، ولعبت دورا مشهودا بجهاديته في تاريخ العراق الحديث.
– وكيف يأمل الحزب خوض كفاح مسلح فعال وتأمين النصر لهذا الكفاح في الوقت الذي يقوم شقيقه الأممي الأكبر (الاتحاد السوفياتي) بتزويد الطغمة الفاشية بكل أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية وأكثرها تطورا وأشدها تدميرا؟ ناهيك عن الدعم السياسي والاقتصادي!! ولا ندري من الأكثر نفاقا من الآخر ستالينيو العراق أم أشقاؤهم السوفييت؟
– وأخيرا… ماذا عن القوى العسكرية التي يخوض بها “كفاحه المسلح”، إن الوجود المسلح للحزب في كردستان قد دُمِّرَ بشكل شبه كامل إثر الهجوم الغادر لعصابات الطالباني (“ثمنا لصفقة سياسية بين الأخير ورأس العصابة الفاشية في بغداد) على تجمع أنصار الحزب في منطقة بشت آشان في أيار/ ماي 1983، ولم تتورع جيوش الطالباني عن ارتكاب المجازر الوحشية بحق الشيوعيين… حيث قتلت 165 شيوعيا بينهم نساء، وكانت الخسارة فادحة… فبالإضافة إلى عدد الشهداء الكبير- ويشكل معظم القوة العسكرية للحزب- كان هناك عشرات الأسرى وفقدان الإذاعة وأجهزة المخابرة وأجهزة الإعلام والطباعة ومقادير كبيرة من المال والسلاح وسائر الممتلكات. أما القلة الباقية من الأنصار والتي نجت من المجزرة فقد انسحبت إلى ما وراء الحدود.
والأنكى من ذلك أن الحزب عاد إلى التعاون مجددا مع اتحاد الطالباني “الوطني” متغاضيا بكل سفالة عن دماء شهدائه الذين ذبحوا غدرا على أيدي مرتزقة الاتحاد المذكور، وهي على أية حال ليست المرة الأولى التي تتصرف بها القيادة الستالينية بمثل هذا المسلك التفريطي الخياني ولن تكون الأخيرة ما دام الحزب مستمرا على نهج المساومات والاستسلام المشين.
بعد مجزرة بشت أشان لم يعد لحزب الـ ل. م. من وجود مسلح يُعتد به، ولا تعدو البيانات العسكرية التي تصدرها قيادة الحزب والتي تتحدث عن نشاطات عسكرية وانتصارات وهمية لقوات” الحزب، لا تعدو عن كونها جعجعة فارغة، الهدفُ منها هو خداع القلة الباقية من أعضائه في الخارج بأن الحزب لا يزال حيا ويعمل بنشاط داخل الوطن!!
وأخيرا فإن غياب طليعة ماركسية ثورية فسح المجال واسعا للستالينيين أن يفسدوا الجماهير بتضليلها وإغراقها بالأوهام الإصلاحية طوال نصف قرن، فتربت أجيال من الشيوعيين على تقديس العمل السلمي، على التحجر العقائدي والعبادة الوثنية للبيروقراطية السوفياتية. إن تاريخ الحزب الشيوعي الإصلاحي ليبرهن بوضوح على أن رفع شعار “الكفاح المسلح” حاليا هو للتضليل وليس للتطبيق.
إن ستالينيي العراق هم صناع هزائم لا انتصارات للبروليتاريا العراقية وإن حزبهم لن يكون بإمكانه أبدا- وإن عادت إليه الحياة بقدرة قادر وعاد إليه أعضاؤه- قيادة البروليتاريا على طريق الانتصار على الفاشية والتحرر من نير رأس المال. فما وُجِدَ حزب ستاليني على وجه الأرض بقادر على تحرير بروليتاريا بلده… والحزب الستاليني العراقي ليس باستثناء. إن أكثر من 50 عاما من عمل الحزب في سبيل “وطن حر وشعب سعيد” والوطن يلفه خراب مريع والشعب يتشح سوادا وتعاسة ومليون من أبنائه بين شهيد ومقتول ومعوق ومعتقل ومشرد ولاجئ ووو… وليس في الأمر أي مفارقة تاريخية بل نتيجة لمحتومة تبعيتها التاريخية للستالينية وتخليها عن النهج الثوري للطبقة العامة والجماهير الكادحة العراقية.
لقد آن الأوان للشيوعيين الثوريين العراقيين أن ينهضوا بواجبهم في بناء حزب البروليتاريا العراقية الشيوعي على ركام الحركة “الشيوعية” الإصلاحية الفاسدة، من أجل هزيمة الفاشية وإنهاء الحرب الشوفينية المدمرة وفي سبيل الثورة الاشتراكية وإقامة سلطة الطبقة العاملة المُستندة إلى الفلاحين الفقراء… سلطة ثورية تنجر المهام الديمقراطية وتنتقل لبناء الاشتراكية عبر ثورة دائمة.
بقلم، باسل الربيعي
اقرأ أيضا