مصر: بوادر استئناف السيرورة الثورية
كشف محمد علي، مقاول شاب كان يعمل تحت إشراف هيئة الهندسة التابعة للجيش المصري، حقائق مدعومة بأدلة ملموسة، حجمَ الفساد الهائل الذي يخترق مؤسسة الجيش والرئيس السيسي وأسرته ومقربين منه من كبار الضباط، وحياة التبذير البالغ الذي يستنزف المال العام. انضاف هذا الفساد والنهب المعممين إلى ما خلفه نظام أنور السادات وخليفته مبارك باسم سياسة الانفتاح الليبرالي من تبذير للثروة القومية ومنحها لرأسمالية المحاسيب والقطاع الخاص الأجنبي.
على نفس المنوال كشف أحد المصريين من سكان سيناء حقيقة ما يدعيه نظام السيسي من محاربة الإرهاب في سيناء مفندا كذبه وتوظيفه لفزاعة الإرهاب لقهر السكان وإجبارهم على التهجير تنفيذا لخطة إدارة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية (صفقة القرن). كما كشف عن شكوك حول علاقة عناصر مخابرات النظام منهم مقربون من السيسي ودورها في التحكم في شريان التهريب بين مصر وغزة وإسرائيل.
يعتبر حجم الثروة القومية التي استأثر بها السيسي ومؤسسة الجيش ضريبة تقدمها الطبقة السائدة والطبقات الوسطى (كرها أو اختيارا) مقابل الخدمات التي يقدمها الجيش: ترويض المارد الشعبي الذي انطلق منذ 25 يناير والرافض العودة إلى حظيرة الطاعة قبل تحقيق أهداف هذه الثورة؛ عيش، حرية، عدالة اجتماعية. أدى السيسي، بنجاح، المهمة التي لم يستطع الإخوان المسلمين تحت رئاسة مرسي القيام بها.
كانت الكلفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا القمع المعمم مرتفعة جدا، لكن البرجوازية المصرية والطبقة الوسطى الحالمة دوما بالاستقرار السياسي ظلت راضية، رغم آهات الاستياء العاجزة التي تنطلق بين الفينة والأخرى.
لكن الشعب المقموع والمفروض عليه ستار حديدي لمنع أي بادرة احتجاج، ظل يتحين الفرص كلما سنحت له للتعبير عن غضبه: احتجاجات عمالية ظلت مستمرة يقوم النظام بإطفائها بإجراءات تجمع بين القمع واستجابة لبعض مطالبها الاقتصادية (رفع أجور، تقاسم الأرباح).
إن الثورة ذلك الخلد العظيم كما شبهها كارل ماركس، ظلت تحفر تحت الأرض لتنبعث في اللحظة التي يعتقد الحاكمون والبرجوازية أنهم قد واروها التراب مرة وإلى الأبد.
على إثر فضائح السيسي التي روجها المقاول الذي كان شريكا للمؤسسة العسكرية في النهب من موقع صغير جدا، انطلقت دعوات للتظاهر من أجل إسقاط عبد الفتاح السيسي، الذي ارتجف وأخذ الأمر على محمل الجد واستدعى على عجل مؤتمرا للشباب دأب على تنظيمه كل سنة للدعاية وتلميع صورته. تكلف السيسي ذاته بالرد مباشرة على اتهامات محمد علي لكنه فشل في تفنيدها بل أكدها.
كما أن الأجهزة العسكرية والأمنية في حالة استنفار قصوى وعبر قائد الجيش الحالي محمد زكي على موقف يأخذ مسافة من السيسي: “الجيش على قلب رجل واحد في حماية المصالح العليا لمصر”. وفي نفس الوقت أصدر سامي عنان- الموجود تحت إقامة جبرية- بيانين يتهم فيهما السيسي مباشرة بخيانة العهد وتلطيخ سمعة الجيش والوطن وداعيا الشعب المصري لإنقاذ هذه السمعة. هل هو تطمين للناس للتحرك كمبرر لانقلاب جديد لاستباق انفجار الوضع؟ وهل سيستجيب الشعب لدعوة الاحتجاج والتعبير عن رفضهم لنظام السيسي؟
لا يمكن تقدير حجم الاستجابة الشعبية لانعدام أي مؤشرات سابقة مند إنهاء احتجاجات الميادين، بالرصاص الحي وتطبيق صارم لقانون الطوارئ. لكن حجم الضغط (السياسي والاجتماعي) المتراكم منذ 2013، الناتج عن شمولية قمع نظام السيسي وإعادة إنتاج نفس النظام الاقتصادي الذي رعاه مبارك لعقود، يؤكدان أن الانفجار سيكون ضخما وقد يعصف بالمؤسسة العسكرية كلها.
الأكيد بشكل تام أن صفحة من سيطرة الثورة المضادة ووحدة صفها وانسحاق تام للشعب طويت وأننا دخلنا طورا جديدا بدأت فيه فصائل الثورة المضادة بالمشاحنات بسبب السياسة الواجب سلكها لتجنب تفجر الثورة من جديد. ليس السؤال هل سيسقط السيسي، بل هل ستتمكن الثورة الشعبية من إسقاطه، أم ستتم تنحيته بحركة فوقية من المؤسسة العسكرية مثيلة بسابقيتها (تنحية مباركة وخلع مرسي)؟ هذا ما يجب أن يعمل من أجله الثوريون في كل المنطقة وليس فقط في مصر.
جذور التحرك النوعي الراهن
اندلعت ثورة 25 يناير 2011 بمصر لتضفي على الدينامية الثورية التي بدأت في تونس بعدا إقليميا، بالنظر لمكانة مصر كحلقة وصل بين شمال إفريقيا والشرق الأوسط ولكونها أكبر بلدان المنطقة سكانا ومحور تقاطع محاور الصراع الإقليمي والعالمي بالنظر لقربها للأراضي الفلسطينية ومكانتها في محور الملاحة الدولية وقربها من أكبر منتجي النفط عالميا.
كان على الشعب المصري الثائر مواجهة أعداء ثورته الذين ينظرون إلى مصر كحلقة أساسية في سيرورة الثورة الجارية وواعون أن هزمها سينزل بثقله على كامل مفاصل السلسلة فجندوا قوتهم لدحرها.
استعملت الثورة المضادة المتمثلة في المؤسسة العسكرية إحباط الاخوان المسلمين وخيانتهم لمطامح الشعب الثائر، فركبت موجة الغضب وتقمصت دور المستجيب لإرادة الجماهير الثائرة بالتخلص من حكم محمد مرسي بانقلاب عسكري على ثورة 30 يونيو 2013.
قام الجيش تحت قيادة الفريق السيسي بسحق اجرامي لقاعدة الإخوان (جريمة رابعة العدوية وميدان النهضة بالجيزة وفض الميادين) وكل ما لحقه من تصفيات خارج القانون باسم محاربة الارهاب لشباب اخواني واعتقالات جماعية لكادره التنظيمي بدءً بمجلس الارشاد وانتهاء بالبنيات المحلية ما أدى إلى تفكيك عميق لأقدم تنظيم سياسي (1928) وملهم الحركات الرجعية الدينية عالميا.
واصلت ديكتاتورية العسكر بدعم مالي كبير من دول الخليج (السعودية والامارات والكويت بشكل أقل) ودعم سياسي من كل الإمبرياليات، موجة قمعها الشرس ضد كل فصائل ثورة 25 يناير من ديمقراطيين ليبراليين (حتى المساندين لانقلاب السيسي) ولأنشط الحركات الشبابية الثورية التي تستلهم أهداف 25 يناير وللمناضلين اليساريين وخنقت حرية الاعلام والتنظيم والتظاهر باسم مواجهة مؤامرة الارهاب الساعي لزعزعة أركان الدولة.
بعد تثبيت سيطرة الثورة المضادة فرض النظام إصلاحات اقتصادية واجتماعية نيوليبرالية شديدة التقشف (تخفيض العملة، رفع الدعم عن المواد الغذائية، زيادة الأسعار، إلخ…) وارتفع الدين الخارجي بشكل كبير مع ما يرافقه من خضوع خطير لتوجيهات الدائنين ما ألحق دمارا هائلا بشروط عيش فقراء مصر بالغة السوء أصلا. برر نظام عبد الفتاح السيسي عدوانه على القوت اليومي للشعب تحت شعار “الصبر ومزيد من الصبر لبناء اقتصاد الوطن”.
لكن نظام السيسي المطمئن إلى انتصاره الدموي على ثورة 25 يناير انجرف بعيدا في إعادة إنتاج نفس سياسات نظام مبارك سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية.
إن السحق الذي تعرض له الشعب المصري والتدهور المريع لأوضاعه المعيشية وخنق أنفاسه من جديد بعد تذوق طعم الحرية لسنتين بما أطلقته من آمال عظيمة، أجبر بقوة الحديد والنار على الأمل أن تضحياته اليوم ستفضي إلى بناء يأتي ثماره غدا وأن مصادرة حرياته تفرضها تهديدات “الإرهاب المسلح” لكنه استفاق على حقيقة أن حكامه لصوص يمتصون دمائه وأن الإرهاب المزعوم هم من يتغاضون عنه لأنه يخدم مصالحهم لإخضاع الشعب وارتكاب كل الجرائم باسم مواجهة الإرهاب.
عودة التحديات القديمة
أكيد جدا أن للمؤسسة العسكرية حساباتها للتحكم وضبط الانفجار الشعبي في حدود تغيير شكلي لهرم السلطة كما عهدت. لكن الثورة الشعبية إذا انطلقت تحطم آمال من يريد لجمها وفرض سقف سياسي أو اجتماعي لها.
رغم القمع الشامل الذي أرساه نظام السيسي، إلا أن الطبقة العاملة المصرية حافظت على ديناميتها التي تجلت طيلة الست سنوات الماضية في إضرابات اقتصادية من أجل رفع الأجور. سيكون للطبقة العاملة في هذه المرحلة من السيرورة الثورية التي تطل برأسها في مصر دور كبير مقارنة بسابقتها في ثورة 2011.
إن ما جرى ويجري بالجزائر والسودان، من إسقاط رأس النظام واستمرار الثورة ضد ورثته، يلقي بضلاله على الوضع السياسي والاجتماعي بمصر. والمؤسسة العسكرية الحاكمة والبرجوازية المصرية والرجعية العربية والإمبرياليات تدرك كلها أن الحريق المعمم سيستأنف الاشتعال مرة أخرى، في سياق أقل مواتاة للتدخل من أجل إطفائه (تعمق الأزمة الاقتصادية العالمية، الصراع مع إيران، توحل الحلف العربي في اليمن، تعقيدات السياسة الأمريكية… إلخ).
تعد عودة الثورة لهز عروش الديكتاتورية تأكيدا للأسباب الموضوعية المفجرة للسيرورة الثورية 2011، إذ أن أنظمة الرأسمالية التبعية عاجزة عن حل معضلة التخلف الاقتصادي، وما يترتب عنها من بؤس اجتماعي متعدد الأوجه وخيانتها لمطامح التحرر الوطني والديمقراطي وكلبيتها إزاء السيطرة الاستعمارية ومهب ثروات شعوبنا.
أثبتت كل التعبيرات السياسية (من ليبراليين وإخوان ومتحدرين من يسار قديم وجديد) التي استولت على قيادة الثورة المصرية عدم جدارتها السياسية، وأكدت أنها تعبير عن مطامح طبقية مغايرة لمطامح الجماهير. ما أن سقط مبارك حتى سعت لعقد تسويات مع الحاكم الحقيقي للبلد (المؤسسة العسكرية) تنال بموجبها أكبر قسط ممكن من السلطة وتحرم الجماهير من الحصول على أقل قدر من هذه السلطة، وهو ما تكرر بشكل مأساوي في ثورة يونيو 2013 ضد محمد مرسي.
لا يترك هذا الواقع خيارا للشعوب الكادحة الا تكرار محاولاتها لتقرير مصيرها السياسي والاقتصادي مهما كانت الهزائم الدامية التي تحققها الثورة في كل جولة من جولات الصراع، لكن التكرار لن يكون محض استنساخ بل تطورا مستحضرا لدروس هزائم المرحلة السابقة.
إن بناء قيادة طبقية تسعى لتحقيق جذري لطموحات الشعب السياسية والديمقراطية وتحظى بسند تحوزه في الميدان يمثل المهمة الأساسية التي من شأنها أن تقلص من حجم التضحيات وتعطي لنضالات الشعوب الكادحة آفاق ثورية تلمس نتائجها عمليا.
هناك حاجة ملحة لسلك طريق ثوري، من قبل يسار طبقي اشتراكي ثوري، مستقل عن كل التعبيرات الطبقية الرأسمالية، نيوليبرالية ورجعية، مستند للتعبئة العمالية والشعبية ومنظماتها الطبقية المستقلة.
تقف المؤسسة العسكرية عائقا كبيرا أمام تحرر الشعب المصري، والموقف من هذه المؤسسة سيحدد ثورية أي قيادة تتقدم لقيادة المرحلة الحالية من الثورة المصرية. إن درس الثورة السودانية- الذي لا زال حاميا- قائم أمام الأعين، وهو درس ثورة 25 يناير: إما السعي لتدمير سلطة لنقل الصراع الي داخل المؤسسة العسكرية بفصل صغار الضباط والجنود عن سلطة كبار الضباط والجنرالات وضمان وحدة هذه الأقسام من الجيش مع الشعب، أو تمهيد الأرضية من جديد لديكتاتور سيكون السيسي وحميدتي أقزام أمامه.
كل النصر لثورة الشعب المصري
أحمد أنور
اقرأ أيضا