انتفاضة شعب السودان الكادح من أجل الحرية والعدالة والكرامة: نظرة عامة

تفجرت انتفاضة الشعب السوداني بسبب مباشر هو الغلاء الفاحش لأسعار الخبز. كان سكان مدينة الدمازين أقصى جنوب شرق البلادولاية النيل الأزرق، وهي إحدى مناطق الحرب الأهلية أول من خرج للاحتجاج، وانتقلت الاحتجاجات إلى مدينة عطبرة بشمال البلاد، حيث يقع مركز لوجستي كبير يربط ميناء بورتسودان بالعاصمة القومية،  والقضارف في شرقها حيث تتركز البروليتاريا الزراعية العاملة في إنتاج الحبوب للتصدير ومدينة ربك بجنوب البلاد حيث مراكز صناعة السكّر. أدّت المواجهات العنيفة إلى إحراق دور حزب المؤتمر الوطنيوهو شبكة محسوبية زبائنية تعمل على حشد الدعم الاجتماعي للنظاموديوان الزكاة، ومكاتب مليشيات جهاز الأمن، أي وجهت الجماهير عنفها ضد مؤسسات النظام وواجهاته السياسية. انتقلت الأحداث إلى العاصمة الخرطوم بعد يومين من المواجهات العنيفة في تخوم البلاد.

لقد أدت السياسات التقشفية حسب روشتة البنك الدولي إلى تفاقم التضخّم، وأدى تمويل العجز التجاري واستمرار سياسة الطغمة المالية بتغطية العجز المالي للخزينة العمومية عبر الإستدانة من النظام المصرفي إلى دفع البلاد لحافة الإفلاس، دخل الاقتصاد السوداني حالة من الركود التضخمي، مما محق القدرة الشرائية للعملة ودفع بالملايين إلى ما دون خط الفقر، ووصلت المجاعة في مناطق الحرب الأهلية إلى معدلات مخيفة حذرت منها المنظمات الدولية. تبلغ ديون البلاد 167% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مهولة للغاية، جعلت البلاد تحت سيطرة الدائنين الدوليين لفترة طويلة.
تشكّلت الثورة الحالية على هذه الخلفية : اقتصاد تابع ومشوّه، طبقة عاملة في طور النشوء، برجوازية صغيرة عاصمية متأثرة بالسياسات التقشفية للنظام، واحتكار متزايد للمركب الإسلاميالعسكري للسوق ومساحات العمل العام، حرب أهلية على كامل حدود البلاد الجنوبية والغربية.

تجمّع المهنيين السودانيين، وهو مظلة فضفاضة للجان مختلفة تنشط وسط القطاعات المهنية المختلفة من أجل النضال لمطالبها الاقتصادية، كان قد دعا قبل بداية الاحتجاجات إلى وقفة إحتجاجية أمام مباني البرلمان في أمدرمان من أجل رفع الحد الأدنى للأجور، قام التجمّع برفع سقف مطالبه من رفع الأجور إلى إسقاط النظام، وأعاد توجيه الوقفة الإحتجاجية إلى مظاهرة حدد وجهتها نحو القصر الجمهوري في الخرطوم في الخامس والعشرين من ديسمبر 2018، ومن تلك التظاهرة، بدأت أربعة شهور من التحركات الجماهيرية لم تنته حتى الآن.
اجتمع تجمّع المهنيين مع تحالفي المعارضة الرئيسيين، قوى الإجماع الوطني التي تضم الحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث العربي الاشتراكي وتحالف (نداء السودان) الذي يضم حزبي الأمة والمؤتمر السوداني وعدداً من الحركات المسلّحة في إقليمي دارفور وجنوب النيل الأزرق. بعد موكب 25 ديسمبر، تم توافق الجميع على توقيع ميثاق (الحرية والتغيير)، وهو ميثاق حد أدنى بين القوى الثلاثة، أطلقوا عليه مسمى (قوى الحرّية والتغيير). البارز في الأمر هو غياب أكبر فصيلين عسكريين من فصائل المعارضة هما الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو الفاعل في إقليم جبال النوبة، وفصيل حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور الذي ترتكز قاعدة عملياته في جبل مرّة وسط دارفور، ويحظى بتأييد واسع بين نازحي الإقليم، رغم تأييدهما الإعلامي الكامل للثورة.
خريطة التحالفات
دون الدخول في تعقيدات تاريخية، يكمن الاختلاف بين تحالفي (الإجماع الوطني) و (نداء السودان) في الموقف من النظام. فبعد انتفاضة سبتمبر 2013 التي كبتها النظام بالعنف الدموي موقعاً أكثر من 200 شهيد خلال أيام، تدخلت الإدارة الأمريكية عبر مبعوثها برينستون ليمان من أجل فرض تسوية بين الفرقاء السياسيين في السودان تتيح إعادة إنتاج النظام بعد الهزّة التي سببتها الانتفاضة. فبينما رفضت قوى الإجماع التفاوض مع النظام إلا بعد تحقيق مجموعة من الشروط المسبقة مثل إلغاء القوانين المتعارضة مع دستور 2005، ظل رفضها سلبياً ودون خطة واضحة لتعبئة الطبقة العاملة ضد مشروع التسوية بل بقي حبيس المكاتب، بينما وافقت قوى نداء السودان على الدخول في التفاوض وطموحها هو (تفكيك النظام من الداخل) حسب مقولة الصادق المهدي رئيس أكبر الأحزاب المكونة للنداء، أي إصلاح النظام دون هدمه.
يمكننا موضوعياً أن نصنّف كلا الموقفين في خانة الإصلاحيّة، لأن كلا التحالفين لم يرفض التفاوض قطعياً ويعمل على التعبئة ضدها، رغم أن توازن القوى كانت قد بدأت في التحوّل لصالح قوى الثورة رغم تمكن النظام من كبت الثورة في سبتمبر 2013. ويلعب التركيب الداخلي للأحزاب الذي تغيب عنه الطبقة العاملة بصورة شبه كاملة، وغلبة عناصر البرجوازية الصغيرة وسيطرة وعيها الطبقي داخل الأحزاب في تقوية الاتجاه نحو التفاوض، مع اختلاف سقوفه، والمطامح من ورائه. الإصلاحية لها ألف وجه، بينما الثورة واحدة، ولم يقربها أي من التحالفين.
ومع تصاعد الثورة، نحّت قوى (الحرّية والتغيير) خلافاتها عن وسائل الإعلام، وبقي صوت الشارع الثوري هو الأعلى.
الوسائل
تعتمد العديد من القوى في تخوم البلاد الكفاح المسلّح كأداة نضالية، أبرزها هو الجيش الشعبي لتحرير السودان في منطقتي جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة والذي ترجع جذوره للعصيان المسلّح سنة 1983 بجنوب السودان، واستمر بعد استقلال الجنوب كمنظمة قتالية تحظى بقاعدة دعم وسط الشعوب المحلّية بالمنطقتين. أدّت خلافات سياسية إلى انقسام الجيش الشعبي بسبب الموقف من حق تقرير المصير لإقليم جبال النوبة، التي تضم معظم القوات القتالية المدرّبة للجيش الشعبي، إلى جناحين، جناح عبد العزيز الحلو في جبال النوبة، وجناح مالك عقار في إقليم جنوب النيل الأزرق. بقي مالك عقار على حلفه مع قوى نداء السودان بينما نأى الحلو عنه. وعلى نفس النسق، تقاتل 3 فصائل مسلّحة ضد النظام في إقليم دارفور هي حركة تحرير السودانعبد الواحد ونظيرتها حركة تحرير السودانجناح مني مناوي، الذين انقسما عن بعضهما في 2006 بسبب اختلاف الكتل الاجتماعية التي تعبران عنهما، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، إضافة لقوى أخرى مثل حركة جيش تحرير السودانالمجلس الإنتقالي، وغيرها.
إن الكفاح المسلّح في تخوم البلاد لعب دوراً كبيراً في إضعاف كل النظم الدكتاتورية التي حكمت البلاد، بدءاً بحركة أنيانيا واحد ضد الحكم العسكري لكبار الجنرالات 1958 الذي أطاحت به ثورة أكتوبر 1964، وتمرّد بور الذي تمخض عن تكوين الجيش الشعبي لتحرير السودان 1983 الذي أضعف سلطة نميري حتى أطاحت به انتفاضة مارسأبريل 1985، وصولاً إلى هذه اللحظة، ولكن ظل العمل الثوري المستند على مؤسسات العاملين، وسلميّة الأدوات، هو ما يحسم المعركة في العاصمة بعد أن تكون قد بدأت بقعقعة الرصاص في أطراف البلاد.
أعلنت كافة القوى المسلّحة وقفاً لإطلاق النار فور بدء الثورة، ووجهت كل كوادرها للعمل الجماهيري السلمي داخل المدن. إن المزاوجة بين العمل المسلح والسلمي ظل قانوناً ثابتاً للثورة السودانية، ولكن السلمية لم تكن مجرّد خيار أخلاقي، بل وجهة تكتيكية ضرورية من أجل تفتيت قوى النظام وجذب تعاطف الأقسام الدنيا من الجماهير، وتطمين الطبقات الوسطى التي تتأثر بدعاية النظام. السلميّة إذن كانت ضرورية في سبيل خلق التحالفات الطبقية في المرحلة الأولى.
انتفاضة القوى الأوليّة
بدأت الثورة في دورات من التعبئة الجماهيرية وتنوعت وسائلها من الإضرابات الجزئية إلى الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات في الأحياء السكنية والأسواق في كل مدن البلاد. ظلّت الطبقة العاملة مشاركة من على البعد دون أن تضع بصمتها الخاصة حتى انتفاضة عمّال الشحن والتفريغ في ميناء بورتسودان ضد بيعه لصالح شركة أجنبية، والتي أجبرت الحكومة على التراجع المؤقت وتجميد عقد البيع. إن ضعف تنظيم ووعي وتماسك الطبقة العاملة نتيجة العوامل الموضوعية قد حرمها من لعب دورها المحوريمؤقتاً. ولكن الضغط الرهيب الذي تعاني منه على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية سيعجّل من نضوجها ومستوى تنظيمها. لقد تطوّرت أهداف الانتفاضة من الاحتجاج على رفع أسعار الخبز إلى حركة جماهيرية واسعة ترمي لإقرار السلم والسيادة الوطنية والعدالة الإجتماعية، ولكن لم ترتق قوى الثورة لمستوى هذه التحديات حتى الآن، ولكن الفرصة واسعة من أجل ردم الهوة بأسرع زمن.
المجلس العسكري
هو تجمّع لقوى النظام القديم، وصل للسلطة عبر عملية تسليم وتسلّم قام بها البشير لصالح وزير دفاعه عوض بن عوف، وأدى الرفض الجماهيري لهذه اللعبة إلى الإطاحة به ووصول عبد الفتّاح البرهان إلى رئاسة المجلس، إنقلاباً. إن كبار جنرالات الجيش هم النواة الصلبة للثورة المضادة، بفعل سيطرتهم على الاحتكار الاقتصادي للجيش وأذرعه الاستثمارية، وقدرتهم على تحريك مليشيات النظام البائد التي أعلنوا أنهم ضد حلّها، إن المنافسة بين جهاز الأمن والجيش واضحة للمراقبين منذ زمن ليس بالقصير، لقد وجد جنرالات الجيش في الثورة فرصة لتوجيه كل اللوم ضد جهاز الأمن والاستيلاء على أصوله لصالحهم، ولكن دون أن يخاطروا بفقدان سلاحهم في مواجهة الجماهير الثورية.
لننظر إلى الصورة من على البعد قليلاً:
يسيطر المجلس العسكري على معظم الموارد الإقتصادية، وفي حالة تمكّنه من الإمساك بزمام السلطة السياسية أيضاً فالسودان موعود بوضع فاشي تسيل فيه الدماء كالأنهار، ولا زالت قوى الثورة في الطبقة العاملة في حالة نمو متصاعد ولكنها لم ترتق بعد لمهماتها التاريخية، وستصل لها بسرعة هائلة يصعب تقديرها، قد تقدّر بالشهور فقط، وحتى تلك اللحظة، ينبغي القتال بكل وسيلة ممكنة من أجل منع المجلس العسكري من الاستئثار بالسلطة، إمساكه بكل المفاتيح خطر ينبغي ردعه، حتى لو تم ذلك عبر دعم طلب تحويل السلطة لفئات البرجوازية الصغيرة، وجدت بعض القبول من الجماهير المخلصة، وفي نفس الوقت، تعمل قوى الثورة بصبر وجدّية على تبديد الأوهام حول السلطة الطبقية سواءاً كانت مدنيّة أم عسكرية، وطرح شكل ومحتوى السلطة الثورية الموضوعي، ومطالبها غير القابلة للتفاوض.
الإمبريالية
يوجد موقفان مختلفان من المجلس العسكري: فبينما وقف بوضوح لصالحه محور السعوديةالإماراتمصر، ومن المتوقع أن يتلقى مساعدات تعينه على كبح حركة الجماهير، أبرزت هذه الدول دعمها الكامل لسلطة المجلس العسكري وتأييدها لإجراءاته. إن المصالح الاقتصادية والسياسية لهذه الدول في السودان تبقى مهددة دائماً حتى تحت الحكم البرلماني البرجوازي، رغم هزالته، ولا يمكن الحفاظ عليها إلا تحت دكتاتورية دمويّة. أما موقف الامبرياليات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فقد يبدو مفارقاً: لقد دعت المجلس العسكري لتسليم السلطة للمدنيين في أقرب وقت ممكن، ولكن السفراء والقناصل المعتمدين لم يتوقفوا لحظة واحدة عن زيارة قادة المجلس في مقرّاتهم.
إن هدف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أبعد مدى من حلفائهم الإقليميين: هو الحفاظ على علاقة جيّدة مع الشارع الثوري، بدرجة تسمح بالتدخل ولعب دور معقول إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة بفعل إندفاع ثوري مفاجئ، إنهم يريدون اختراق عقول الثوار وقلوبهم، ويتركون لحلفائهم المحليين كالسعودية مهمة التأثير على المجلس، إن اختلاف الأساليب بين الطرفين لا يعني سوى أمر واحد : تتعدد وسائل التأثير، الهدف هو القضاء على الثورة.
فترة جديدة
إن الثورة في السودان، منظوراً إليها من جانب القوى الاجتماعية التي قامت بها، تتماثل مع تلك التي جرت في الشرق الأوسط في 2011، ولكن يأتي الفرق من الموقع الخاص الذي يلعبه السودان في التقسيم العالمي للعمل، إن السودان واقع بالكامل تحت سيطرة رأس المال المالي الخليجي، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً وحتى عسكرياً، مما يجعل إنهيار نظامه السياسي كارثة على الرأسمالية الخليجية كلها، وبسبب هذا، دخلت قوى العمل الثورية في السيرورة الثورية متأخرة، قبل إزاحة البشير، وسيتسبب الضغط الخارجي عليها في تمتين صفوفها إن استعملت التكتيك السليم وحظيت بدعم أممي معقول. إن قوى الثورة المضادة في حالة ارتباك كبير، وقد استنفذت قواها في دعم أنظمة معادية للشعوب في كل مكان ممكن، ويدخل الإقتصاد العالمي في أزمة جديدة تلوح في الأفق، إنهم في حالة هبوط، بينما قوى الثورة السودانية قد بدأت، وللتو، في الصعود بسرعة الصاروخ.
إن بناء حزب ثوري مجهّز بالنظرية التي ينتجها من خضم الحرب الطبقية الجارية الآن، هو مهمة المهام الآن، الأمل الوحيد حال حضور الثورة، هو في العمل، العمل، والمزيد من العمل.

بقلم؛ رفيق سوداني

شارك المقالة

اقرأ أيضا