مخطط التعاقد: هل يمكن تصور حل يرضي الطرفين؟
في اللحظات الفاصلة من النضال تنبعث أوهام إمكان التوفيق بين حركات النضال من جهة وبين الدولة من جهة أخرى. يمر النضال ضد مخطط التعاقد من مرحلة دقيقة جدا، حيث يحشد كل طرف قواه لما يعتبره المعركة الفاصلة: الدولة [بجهازها القعمي وأبواقها الإعلامية] والتنسيقية الوطنية للمفروض عليهن/ هم التعاقد وشركائها في المقاومة [نقابات وتنسيقيات تعليمية، طلاب وتلاميذ.. الخ].
بين حجري الرحى هذين تنبعث أصوات واهنة، يرعبها مدى الصراع وشدته، وتحاول التوفيق بين قطبين يعدان العدة كاملة لإنهاء النزال الحاسم. تسعى التنسيقية الوطنية جاهدة للاستمرار في النضال وحشد كل أنصار المدرسة والوظيفية العموميتين لانتزاع المطالب كاملة، بينما تسعى الدولة من جهتها إلى إنزال هزيمة قاسية بالتنسيقية الوطنية، هزيمة تجعلها عبرة لكل من سيرفع عقيرته مستقبلا احتجاجا على تدمير القطاع العمومي وخوصصته.
إن حدة الصراع تلقي الرعب في نفوس الخائفين من كلا الطرفين وتدفعهم إلى رفع علم استجداء الوصول إلى “حل توفيقي يرضي الطرفينّ، ولكن ما انتهى قط النضال يوما، بمثل هذا الحل.
يخدم دعاة الحلول التوفيقية- بسوء نية أو بحسنها- الطرف الأقوى في معادلة الصراع، أي الدولة. إذ يساوي ادعاء مثل هذا الحل بين طرفي صراع متفاوتي القوة ومتناقضي المنطق والهدف. وغالبا ما انتهى دعاة التوفيق إلى مناصرة موقف الدولة، بمبرر كونها ضامن الاستقرار السياسي، ويطالبون حركات النضال بتليين الموقف ومراعاة حرص الدولة على هيبتها.
لجان وساطة!
ستتناسل مبادرات لجان وساطة بين الدولة والتنسيقية الوطنية، وقد بدأ الأمر بلقاءات دعت لها الأحزاب والفرق البرلمانية، لفتح باب الحوار بين الطرفين. وغالبا ما يكون منطق لجان الوساطة العمل على نزع فتيل النضال كي لا يمتد الحريق ليشمل باقي شرائح الشعب.
تسعى لجان الوساطة للقضاء على نموذج المقاومة والتضحيات الذي تقدمه حركات النضال، والغاية هي الحفاظ على نفس مجتمع الاستغلال والاضطهاد.
هل يعني هذا رفض أي محاولة وساطة تأتي من أمثال هؤلاء؟ طبعا لا. فقبول دعوات التفاوض معركة بحد ذاتها، وتنزع من يد الدولة مبررات تشويه حركات النضال. ولكن قبول مبادرات الوساطة لا يعني التماهي مع منطقها واستبطان حججها أي: الحرص على استقرار مجتمع الظلم الطبقي والاضطهاد السياسي.
تضطر حركات الاحتجاج إلى قبول التفاوض لسبب بسيط: انعدام إمكانية الاستمرار في النضال بشكل مفتوح. فالحاجة إلى التقاط الأنفاس وإعادة تجميع الصفوف وتقييم المحطات السابقة وتوسيع دائرة الحلفاء، تدفع إلى خوض المعركة بأشكال أخرى: وهي التفاوض.
تفاوض لا حوار
لا تحاور الدولة حركات النضال. يجري الحوار بين المنتمين إلى نفس الخندق: خندق النضال الطبقي. الدولة ليست في نفس الموقع مع الشغيلة. الدولة عدوة الشغيلة، إنها أداة القمع الطبقي في يد البرجوازية، أداة إدامة الاستغلال والاضطهاد. لذلك لا حوار مع الدولة. حركات النضال تفرض التفاوض على الدولة. يجري التفاوض بين الدولة وحركات النضال، تماما كما يجري بين عدوين يتحاربان.
لا تتوقف المقاومة لحظة التفاوض، بل تستمر بأشكال أخرى. وتفرض لحظة التفاوض يقظة سياسية كبيرة من طرف ممثلي حركات النضال، يقظة من مناورات الدولة ومن يدعي الوساطة. والدولة من جانبها لا توقف القمع والهجوم حين تتفاوض، وتستغل لحظة التفاوض لإعداد هجوم أشد بعد التوصل إلى “اتفاقات”: من عادة الدولة الانتقام من طلائع النضال، وانتظار خفوت الحراك لاستعادة ما اضطرت إلى التنازل عنه.
الحلول الجزئية لا تعني توقف النضال
غالبا ما ينتهي العمل النقابي بمساومات. ولكن هناك مساومة ومساومة. نحن من أنصار المساومات الشريفة: الاضطرار إلى قبول تنازلات لا تلغي النضال من أجل الهدف النهائي. بل استثمارا لهذه التنازلات لإعادة تنظيم الصفوف وتعبئة باقي أقسام الشغيلة للالتحاق بالمعركة.
لا تعني المساومة الشريفة القبول بمنطق الدولة ولا بمنظور لجان الوساطة المرتكز على: وقف النضال نهائيا والقبول بالفتات مقابل التنازل عن المطلب الجوهري.
يتحكم ميزان القوى القائم في حجم التنازلات التي تضطر الدولة إلى تقديمها والتي تضطر حركات النضال إلى قبولها. ما دام صف النضال مقتصرا على حركة دون الأخرى، وما دام المعسكر الشعبي مشتتا، فلا يمكن لحركة بمفردها تحقيق مطلبها الجوهري. لذلك تضطر هذه الأخيرة إلى قبول التنازل، قبول نضالي وليس انتهازي، في انتظار أفضل فرصة لاستئناف النضال.
هل يمكن تصور حل يرضي الطرفين؟
ماذا تريد التنسيقية الوطنية؟ تسعى التنسيقية إلى إسقاط مخطط التعاقد وإدماج المفروض عليهن/ هم التعاقد ضمن أسلاك الوظيفة العمومية تحت نظام أساسي واحد يجمع كل موظفي قطاع التعليم العمومي.
ماذا تعد الدولة؟ تريد الدولة تفكيك الوظيفة العمومية وتعميم أشكال تشغيل بالغة الهشاشة، سواء تعلق الأمر بصيغة التعاقد أو التوظيف الجهوي.
هل يمكن التوفيق بين الهدفين؟ طبعا مستحيل. لذلك، ليست مهمة التنيسقية الوطنية البحث عن صيغ للتوفيق بين متناقضات مستحيلة التوفيق. ليست مهمة التنسيقية اقتراح صيغ على الدولة، بل مطلوب منها الإصرار على مطلبها الرئيس: إسقاط التعاقد والإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية.
هل يعني هذا أن التنسيقية لن تضطر إلى القبول بتنازل معين من الدولة؟ هذا رهن بميزان القوى والقدرة على الاستمرار في النضال حتى تحقيق الهدف النهائي. إذا تبين فعلا، أن الاستمرار في المعركة غير ممكن في لحظة معينة، فسيفرض على التنسيقية حل ما من الحلول التي تعمل الدولة على تنزيلها، تماما كما فرض التعاقد على الأساتذة منذ البداية.
وكما ناضلت التنسيقية الوطنية ضد التعاقد، فإن نضالها ضد أي صيغة من الصيغ التي ستفرضها الدولة، سيستمر لا محالة في المستقبل.
لذلك فكل دعوة إلى حل يرضي الطرفين، تعني تدمير المصداقية النضالية التي حازتها التنسيقية الوطنية بعد عام من الكفاح والقتال. القبول بحل يرضي الطرفين تعني- بكل بساطة- مساومة غير شريفة، ستعاني التنسيقية تداعياتها مستقبلا.
التوقف الاضطراري عن المعركة وقبول تنازلات لا تعني توقيفا نهائيا للنضال، بل استعداد لأشواط أخرى قادمة، أكثر ضراوة. لذلك فالحفاظ على التنسيقية الوطنية وتقوية هياكلها وتمتين التفاف القواعد الأستاذية حول هياكلها، والبحث عن شركاء نضال ضد تفكيك الخدمات العمومية والوظيفة العمومية، هي إعداد لاستئناف النزال في شروط أفضل.
بقلم، شادية الشريف
اقرأ أيضا