نضالات الجماهير: مزالق يلزم الحذر منها
“إن البطولة هي فكرة قديمة. وقد صعد الأبطال في الماضي بأشخاصهم فوق الجماهير التي صعدوا على أكتافها… وقد حاولوا أحيانا استعبادها. إن الجيش الأحمر يجسد فكرة جديدة في البطولة، إننا نخلق أبطالا جماهيريين في الثورة، ليس لهم مصلحة ذاتية ويرفضون الوقوع في دبق الإغراءات وهم على استعداد أن يموتوا من أجل الثورة أو أن يحيوا ويقاتلوا حتى يتحرر شعبنا وبلادنا”. تشوده، رفيق ماو تسي تونغ في الثورة الصينية
لا تمتلك الجماهير الخبرة التنظيمية والوعي السياسي فطريا، بل تكتسبها في معمعان النضال. لا يؤمن بغير هذا إلا مقدس لعفوية الجماهير، وهو بدوره إما ناقص تجربة (حسن النية) أو ساع لاستعمال نضالية الجماهير لأغراض طبقية مغايرة (سوء النية).
لا تتعلم الجماهير من دروس يلقيها “معلم” تفقه في أمور النضال. ولا تكتسب الجماهير تجربتها من تكرار حقائق أثبتها التاريخ، وسجلت في كتب. تتعلم الجماهير بالدرجة الأولى من أخطائها، فهذه الأخيرة تعتبر كنزا مهما وأكثر أهمية من الحكم التي يتفوه بها خبراء البرجوازية القانونيين أو دروس بيروقراطيين ألفوا إطلاق الأوامر من وراء مكاتب.
لكن هذا لا يعني تقديس الأخطاء والدفع لارتكابها حتى باعتبارها حتمية الوقوع. فدور الطليعة السياسية ليس دفع الجماهير لتكرار أخطاء الماضي باسم عفوية الجماهير، بل تنبيهها إلى مغبة ذلك. وإلا ستتحول الطليعة إلى مؤخرة تقتفي آثار الجماهير بدل أن تقودها.
جزء من أخطاء نضالات الجماهير لا علاقة له بنقص تجربتها وضعف وعيها السياسي، بل بما كرست المعارضة البرجوازية طيلة سيطرتها على تنظيمات نضال الجماهير منذ فترة النضال ضد الاستعمار وبعد الاستقلال.
استعملت هذه الأحزاب في فترة معينة كفاحية الجماهير كطاقة متحكم فيها لمناوشة الملكية من أجل تنازلات سياسية، وبعد ذلك (منذ حكومة التناوب)، أصبحت هذه الأحزاب تتخوف من أي مناوشة قد تفجر برميل البارود الاجتماعي؛ فتحول الاستعمال إلى كبح.
وفي التحديد الأخير، إن ارتكاب الأخطاء إلى جانب الجماهير في معمعان القتال وحتى الهزيمة معها، أفضل بكثير بالنسبة لثوري، من إلقاء دروس العتب عليها من شرفات المقرات. هكذا فقط ستثق الجماهير في طليعتها وترتقي إلى مستوى وعيها السياسي والتجربة التنظيمية اللازمتين لدك نظام الاستغلال الطبقي والاضطهاد السياسي.
إحراج النظام
إن التشهير السياسي بجرائم النظام وإظهار أوجه استبداده، من أمهات المهام الملقاة على طلائع حركات النضال. على أن يتوجه هذا التشهير لإيقاظ المزيد من الكادحين وفتح أعينهم على طبيعة المجتمع الذي يستغلهم والدولة التي تضطهدهم.
لكن ترسخت في حركات النضال بالمغرب، عادة مفادها أن استعمال أن أوجه الاضطهاد والقمع والتشهير بها إعلاميا، وسيلة فعالة لإحراج النظام أمام الرأي العام العالمي. وسيدفعه هذا إلى الاستجابة للمطلب أو على الأقل التخفيف من قمعه.
هذا وهم راسخ طبعا. لكن النظام لا يخشى الأوهام، بل يرسخها في أذهان الناس. إن وجود نظام الحكم الفردي واستمراره في القرن الواحد والعشرين، إحراج بحد ذاته. لكن هذا النظام يتلقى كل الدعم من طرف الدول الغربية (وحتى جزء من رأيها العام)، لأن هذا النظام يخدم مصلحتها ويعتبر حجر زاوية في سياستها العالمية (محاربة الإرهاب، الهجرة، ضمان الاستقرار السياسي).
قد تستعمل هذه الدول بعض أوجه القمع والاضطهاد للضغط على النظام من أجل المزيد من التنازلات وإرضاء رأي شعوبها، ولكن هذا لن يتعدى حدود الضغط والابتزاز. فالدولة تطبق السياسات المملاة من طرف هذه الدول ومؤسسات الرأسمال العالمي، وحركات النضال بالمغرب تقوم ضد هذه السياسات بالذات. وكلما تقدم النضال سيظهر الاصطفاف الحقيقي للدول الغربية، وهو ما أثبته السيرورة الثورية بمنطقتنا منذ عام 2011.
على حركات النضال أن تضع نصب عينيها أن المسيطرين على السلطة والثروة، لا يخجلون ولا يقيمون وزنا للإحراج، إلا إذا فرضته حركة نضال جماهيري جبارة. فكل الطبقات الحاكمة في العالم تقمع شعوبها وتستغلها، بل تتنافس بينها في هذا المضمار. الإحراج الوحيد والمطلوب هو تطوير حركة النضال وتنظيمها من أجل إجبار الحاكمين على الاستجابة لمطالب هذه الحركة.
المواجهات مع الشرطة
ترسخت فكرة غير سليمة في أذهان حركات النضال، خصوصا الشبيبية منها. مفاد أن القمع يعني تقدم النضال وتجذره، في حين يعني تسامح النظام أن الحركة ضعيفة ولا تشكل له إحراجا.
تنبع تقديرات النظام فيما يخص التعامل القمعي مع حركات النضال، من تجربة مديدة منذ الاستقلال. لذلك من الخطأ حصر قمعه من عدمه على تجذر هذه الحركة أو ضعفها.
إن النظام يتعامل بجملة من أساليب تتراوح بين الإغفال وإدعاء الاستجابة للمطالب والتشويه الإعلامي، مرورا بالقمع المحسوب والمتدرج انتهاء بالقمع الشامل. وهو غالبا ما يتفادى القمع الشامل (على غرار نظام السيسي بمصر أو بشار بسوريا) حرصا منه على ما يمثل رأسماله السياسي: الاستقرار السياسي الذي يمثل استثناء في محيط من الخراب والحروب الأهلية وتفكك الدول، وهو ما يستغله لاستدرار مزيد دعم الدول الإمبريالية ومؤسسات الرأسمال العالمي.
اختيار النظام إحدى هذه الأساليب أو جملة منها، قائم على دراسته لمجمل أوجه تلك الحركة التي يتعامل معها، وإلا ما دور أجهزة الداخلية والاستخبارات التي حرص على ألا يمسها ما سماه مسلسل “الإنصاف والمصالحة”.
يؤدي هذا الخطأ إلى الوقوع في منزلق البحث عن المواجهات مع النظام وحتى استثارتها في بعض الأحيان، للظهور بمظهر المستهدف والمقموع. ويصل الانتشاء حدوده القصوى عندما تقع ضحايا واعتقالات.
المعضلة الأكبر أن النظام، في اللحظة التي يراها مناسبة، يقوم بزرع من يستثير هذه المواجهات كي يبرر قمعه الذي أعد له منذ زمن. ويقوم بتصوير المواجهات ونشرها إعلاميا لتشويه المناضلين وتبرير قمعه واعتقالهم “قانونيا”. إنها نفس الآلية التي قام بها أكثر من مرة، وكان آخرها في حراك الريف.
ينبت تكتيك المواجهة المباشرة مع رجال القمع، من تربة نفاذ الصبر واستسهال نيل المطلب. وما أن يظهر أن مسار النضال أطول من المتوقع، حتى يحل يأس الصعوبة محل أمل السهولة. وتطفو إلى سطح نفسية الجماهير عبارات “الموت ولا المذلة” الدالة على استحسان الموت على العيش تحت مذلة الحرمان من المطلب. وتندفع الجماهير (إما عفويا أو تحريضا) نحو اقتحام صفوف رجال القمع أو احتلال مقرات المؤسسات، اعتقادا منها أن ذلك سيجبر الدولة على الاستجابة للمطلب.
لا يسعى المناضلون إلى الصدام المباشر مع رجال القمع، قد يفرض عليهم الدفاع عن الذات، وتحصين المحطات النضالية. لكن هذا شيء وافتعال المواجهات (بشكل مخطط له) شيء آخر.
عرف تاريخ المغرب حركات سعت إلى إسقاط النظام بالكفاح المسلح. ولم يكن الخطأ في الأسلوب بحد ذاته، فقد أطاح ديكتاتوريات عاتية عبر المعمور. بل في كون هذه الحركات سعت إلى ذلك بمعزل عن الجماهير ودون اعتبار مستوى وعيها السياسي، ودون مراعاة تبدل الشروط الاجتماعية والاقتصادية بعد الاستقلال. بل قام النظام في لحظة معينة، باستثارة عملياتها المسلحة لتبرير تفكيك شبكات المناضلين السريين. (انظر/ ي كتاب “أبطال بلا مجد، فشل ثورة 1963- 1973″، المهدي بنونة، منشورات طارق، الرباط، يونيو 2005).
لا يخاف النظام من المواجهات العنيفة لفئات معزولة، بل يحبذها. يخشى النظام حركات النضال الجماهيري المنظم والواعي بأهدافه. يخشى النظام انخراط المزيد من الجماهير في الديناميات النضالية القائمة. يرتعب النظام من التحاق الأجراء (في الصناعة والنقل والإدارة) إلى النضال. فالحركة الإضرابية لجميع الأجراء هو ما سيجبر النظام على الاستجابة للمطالب الجزئية مخافة فقدان جوهر السلطة السياسية والاقتصادية.
وهذا ما علينا بناؤه وليس الدخول في مناوشات جانبية مع رجال القمع، لا يكون لها إلا مفعول الاعتداد بالنفس، وخلق رموز/ أبطال سرعان ما ينطفئون بانطفاء مفعول القمع.
البطل الفرد
يؤدي نقص التجربة لدى الجماهير وضعف تنظيماتها، إلى بحثها عن لحمة خارج هذا الوعي وهذا التنظيم.
وفي هذه الحالة يظهر أفراد إلى السطح، إما بشكل عرضي أو معد له سلفا. يتحول هؤلاء الأفراد إلى رموز قيادية، وترى فيهم الجماهير القدرة على قيادة نضالها إلى بر الأمان.
تدل ظاهرة الزعامة على وضع الضعف السياسي للجماهير وحدود اندفاعاتها النضالية. وغالبا ما يعبر القائد الفرد في هذه الحالة عن حالة الضعف هذه، ويعكسها كما تعكس صورة في مرآة.
رسخت الأيديولوجيا البرجوازية هذه الصورة. وغالبا ما يسعى إعلام السوق وإعلام الدولة إلى تسليط الأضواء على أشخاص بعينهم، وإعدادهم لأدوار مرسومة في المستقبل. فتقوم المواقع الإعلامية ومحطات التلفاز بتصوير حوارات معهم، وتطلق عليهم ألقابا ترسخ في ذهنية قاعدة حركات النضال حصر القيادة في أيديهم.
لا عيب في أن يظهر شخص يمثل الحركة في مرحلة من مراحلها، ربما لصفاته الشخصية ولمثابرته وإعداده السياسي المسبق قبل انطلاق حركات النضال. يقع المشكل حين يعي الأفراد القياديون مكانتهم المميزة ضمن ذاك النضال. حين يدركون أن الضعف السياسي للجماهير ونقص تجربتهم وقصور تنظيمهم هو أساس صعودهم فوق أكتاف هذه الجماهير. آنذاك لا يكون هدف هؤلاء الأفراد مساعدة الجماهير على تجاوز مكامن الضعف والقصور هذه، بل استدامتها وترسيخها، لأن هذا هو شرط بقائهم قادة.
آنذاك يسخر هؤلاء “القادة” كل براعتهم لخدمة هذا الهدف، وتحيط بهم دائرة من الأشخاص الباحثين بدورهم عن الأضواء، مسبحين بحمد القائد وهاجمين بشراسة كل من يشير بأصبع انتقاد إليه.
ولتبرير البقاء في مكانة القائد، تجري الإشارة إلى أن الجماهير ليست معدة بعد لتولي أمور معركتها بذاتها. ويتحول الخطاب فيما بعد إلى تبني نظرية القصور الفطري للجماهير، وأنها مثل قطيع شياه في حاجة دائمة إلى راع يرشدها.
تستقي نزعة تقديس القائد زادها من نظريات برجوازية وحتى رجعية. نظريات قائمة على احتقار الجماهير واعتبارها محض جموع منفعلة لا فاعلة، سلبية لا مقدامة. دهماء تحتاج دائما إلى من يقودها، وأي محرض استطاع أن يحتل مقعد القيادة يستطيع استغلالها مهما كانت آراء هذا القائد.
لا بديل أمام الجماهير إلا خوض غمار التجربة التنظيمية والسياسية، كي تتجاوز قصورها “المكتسب” وليس الفطري. وكل مبرر آخر ما هو إلا لاستبعادها من تملك هذه التجربة والاستعداد لتقرير مصيرها بنفسها: فتحرير الجماهير بيد الجماهير بنفسها.
على حركات النضال أن ترفض كل نزعة لتقديس البطل الفرد، فكما قال تشودة، أحد جنود الثورة الصينية: “إن البطولة هي فكرة قديمة. وقد صعد الأبطال في الماضي بأشخاصهم فوق الجماهير التي صعدوا على أكتافها… وقد حاولوا أحيانا- استعبادها. إن الجيش الأحمر يجسد فكرة جديدة في البطولة، إننا نخلق أبطالا جماهيريين في الثورة، ليس لهم مصلحة ذاتية ويرفضون الوقوع في دبق الإغراءات وهم على استعداد أن يموتوا من أجل الثورة أو أن يحيوا ويقاتلوا حتى يتحرر شعبنا وبلادنا”.
الالتجاء للأضاليل
غالبا ما يلجأ قادة حركات النضال، وهم يواجهون سلبية القاعدة التي رسخوها بأنفسهم، إلى استعمال الأضاليل قصد خلق تعبئات أو إبقاء الحماس مشتعلا.
يعرف هؤلاء أن فتح أعين الجماهير وتوعيتها يقتضي سياسة الحقيقة، وهذه لا يمكن أن تنبثق دون فتح باب النقاش الحر، وتبادل الآراء ودفع الحجة بالحجة. ولكن لهذه الأخيرة تداعيات، أهمها أن الجماهير وهي تشاهد المناقشات تتعلم ويرتقي وعيها، وستصبح في لحظة معينة في غير حاجة إلى نموذج القائد المرسخ، هذا الذي يفضل أسلوبا آخر لتعبئة الجماهير.
لكن كل معركة بنيت على الأضاليل مآلها الضلال. فحبال الأكاذيب قصيرة. والفظيع أن حركات النضال تواجه دولة تملك أكبر جهاز للتضليل والتخبيل.
لكن الجماهير تملك عقلا تحاكم به الأمور، ومن حسن الحظ أنه عقل جماعي وليس عقلا فرديا. إن الجماهير الواثقة في قادتها، تلتقط تلك الأكاذيب في البداية بكل ثقة ومصداقية. وتدافع عنها بشراسة طالما تعتبرها ركائز دفاع عن مطالبها. ولكن ما أن تكتشف كذبها حتى تتخلى عنها بنفس الشراسة التي صدقت بها. ويوم تكتشف الحقيقة إما تنفض يدها عن هؤلاء القادة الكاذبين (وهذا أمر محبذ) أو تنفض يدها عن النضال (وهذا أمر سيء).
“إن الحقيقة ثورية دائما”. وليس الكادحون في حاجة إلى مبررات مغلوطة تدفعهم إلى النضال، فواقع اضطهادهم وأشكال الاستغلال اليومي التي يتعرضون لها أكبر محرض.
لا حاجة للديمقراطية!
يؤدي كل هذا إلى تسييد مناخ من عدم التسامح وإعدام تقاليد النقاش الديمقراطي. فما دامت الجماهير قاصرة، وما دامت الأضاليل أسلوب تعبئة، فكل ما سيجعل الجماهير غير قاصرة وكل خطاب سيفضح الأكاذيب يعتبر غير مرحب به.
يبرر هذا بالحرص على صمود المعركة واستمرار النضال. لكن النضال الذي بني على هذه الأسس لا حظ له في الاستمرار. إنه قصر من قش.
يجري فرض الصمت على الأصوات الناقدة، أو تفرض هذه الأخيرة رقابة على ذاتها، باسم الحرص على وحدة الجسم المناضل. تتقبل الأصوات المنتقدة القرارات الخاطئة الصادرة من فوق، باسم تفادي الانشقاق.
لكن هذا حتمي ولا علاقة له برغبة ذاتية. إنه حتمي ما دام أسلوب تكميم الأفواه هو التكتيك السائد في الحياة الداخلية لحركات النضال. يلجأ المحرومون إلى قنوات أخرى للتعبير عن آرائهم المقموعة، ومع المدة تتحول هذه القنوات إلى مشاريع تنظيمية بديلة، ويحدث الشقاق المفروض تفاديه.
إن الديمقراطية هي الأسلوب الوحيد، السليم والصحي، لتقدم حركة النضال والحفاظ على وحدتها. وما دونها قد يعطي انطباعا بالوحدة، لكنه انطباع كاذب، لأنه وحدة على حساب حرية التعبير والرأي: أي في التحليل الأخير على حساب الديمقراطية.
عدو عدوي صديقي: تحالفات غير مبدئية
رسخت الحركة الوطنية البرجوازية في إطار مناوشاتها مع الملكية، أسلوبا سياسيا قائما على الدسائس في تسيير أحزابها وتدبير خلافاتها السياسية. وقد انتقلت هذه الأساليب إلى تنظيمات العمال والكادحين، بحكم سطوة هذه الأحزاب عليها منذ ما قبل الاستقلال.
عندما يقع خلاف، لا يجري تدبيره علانية بنقاش ديمقراطي صريح. بل بأساليب تعتمد فرض العزل السياسي، بناء على تحالفات غير مبدئية بين أعداء الأمس، الذين يتحولون إلى أصدقاء اليوم، والذين من المرجح أن يصبحوا أعداء الغد.
تقوم اصطفافات غير مبدئية، ليس بناء على اختلافات حقيقية في برامج وخطط النضال، أو بناء على تقدير الموقف ومستتبعاته العملية.
وعند العجز عن رد حجة الآخر، يتحول النقاش إلى تراشق بالكلام واتهامات مجانية بالولاء السياسي أو النقابي، إن لم يكن (وهذا أسوأ) العمالة للبوليس. يساعد هذا النوع من الأسلوب في إحراز نقاط على حساب الخصم، لكن أثره بعيد المدى بالغ الضرر، فهو يخلق جو انعدام ثقة داخل التنظيم، ينتقل إلى القواعد. وكم من مرة ساهمت هذه الأساليب في تفكيك تعبئات جماهيرية ضخمة.
يحول هذا الأسلوب التنظيم إلى شلل متعارضة، ومتشكلة بأشكال مختلفة حسب طبيعة الخلاف القائم. ويؤدي ذلك إلى شل التنظيم وإعاقة النضال، وقد ينتهي به الأمر إلى التفكك التام.
لا بديل داخل تنظيمات حركات الجماهير غير الصراحة والوضوح.
التضامن المطلق واللا مشروط
تتردد هذه العبارة كثيرا في بيانات التضامن. وتشير إلى تقليد ساد حركات النضال بالمغرب منذ زمن. مفاده أن المتضامن غير معني بنقاش مسار النضال ولا من حقه إبداء ملاحظات أو التعبير عن انتقاد.
يعبر هذا من جهة أخرى على نزعة الانغلاق والعصبوية التنظيمية السائدة في صفوف حركات النضال. فكل حركة ليست معنية بوضعية الحركات الأخرى. بنيت أسوار صينية صعبة الاختراق، ما يعيق أي وحدة نضالية ميدانية.
إن أولى واجبات التضامن هو التنبيه إلى نقاط القصور والتحذير من مزالق بعض التكتيكات. فحين تكون حركة نضال على خطأ يكون الواجب هو تنبيهها، وليس السكوت عن هذا الخطأ، بمبرر أن المعركة قائمة وسائرة.
إعلان التضامن المطلق واللامشروط نفاق ورياء سياسيين، وهما من شيم الأحزاب البرجوازية التي لا تهتم بتطوير حركات النضال وتصليبها. وكل ما تسعى إليه هذه الأحزاب هو استعمالها للضغط على النظام في حدود متحكم فيها، ومن أجل تصيد أصوات انتخابية.
لم يكن النفاق السياسي قط، ولن يكون أبدا، من شيم الثوريين.
الانبهار بالنفس
تبدأ حركات النضال بالأفراد وتتحول إلى مجموعات ثم تتضخم لتصل إلى الآلاف إن لم يكن الملايين. إن توسع الحركة والسعي لشمولها أوسع أقسام الكادحين شرط أساسي للحديث عن النضال الحقيقي.
لكن حركات النضال تضم أناسا من لحم ودم. وهي مثل كل مظاهر الحياة لا تتطور في خط مستقيم من الأدنى نحو الأعلى. بل تعرف مدا وجزرا. وهذا مرتبط بشروط خارج هذه الحركة ذاتها: الشروط السياسية والاقتصادية السائدة.
تعرف حركات النضال بالمغرب مظاهر من الانبهار بالنفس، الانبهار بأعداد الجماهير التي تضمها. يدفعها هذا إلى الاعتقاد بعدم حاجتها إلى تضامن حركات النضال الأخرى وقدرتها على تحقيق مطالبها لوحدها. ومن جهة أخرى تعتقد أن خلط ملفها مع ملفات حركات أخرى (التنسيق) قد يعقد أمر حل ملفها الخاص.
يؤيدي هذا إلى ترسيخ العصبوية الفئوية داخل حركات النضال: حركتي أفضل من حركة الآخرين. ويؤدي هذا إلى رؤية قطاعية لمطلب يتعدى حدود الفئة التي تناضل من أجله، وتغيب الرؤية الشمولية.
وعندما تجد حركة ما نفسها في مأزق (قمع، اعتقالات) تسارع إلى طلب الدعم من باقي التنظيمات والحركات، ولكن آنذاك تكون قد أحرقت سفن عودتها.
لقد شهد التاريخ انتصار حركات ذات قاعدة جماهير أقل، فقط لأنها استطاعت حفز دعم أوسع قطاعات الكادحين معها، ولملاءمة السياق السياسي والاجتماعي الذي ناضلت ضمنه. بينما انهزمت حركات جماهيرية جبارة لعكس هذه الشروط.
نزع التسييس
تعتقد بعض حركات النضال أن إبراز الطابع الاجتماعي لمطلبها واستبعاد طابعه السياسي قد يقنع النظام بالاستجابة له.
هناك حقيقة لا يجب إغفالها وهي: إن الدولة والبرجوازية تسعى دائما إلى إبقاء الجماهير خارج العمل السياسي. وتصور الأيديولوجيا البرجوازية الكادحين محض مخلوقات لا يهمها إلا ملء بطنها. وقد استبطنت حركات النضال هذه الصورة الكريهة، وجعلتها إحدى تكتيكاتها المفضلة في مواجهة الدولة.
إن عدم ممارسة السياسة، سياسة بحد ذاته. يقوم المجتمع على أسس اقتصادية تستند إلى احتكار الثروة، وهذا ينعكس في شكل احتكار سلطة. يستعمل المالكون السلطة السياسية لإنماء سلطتهم الاقتصادية وثروتهم. وكل استنكاف عن النضال السياسي يعني بالدرجة الأولى تفادي نقطة قوة من يضطهدنا ويديم استغلالنا.
إن مطلب الترقية بالشهادة مثلا مطلب سياسي في جوهره، إلى جانب طابعه الاجتماعي. فالترقية تعني تطويرا لقدرة الشغيلة الشرائية. وبالنسبة للدولة يعني هذا تحملات مالية إضافية، في الوقت الذي يطالبها فيها صندوق النقد الدولي بتقليص كلفة الأجور وإدخال المرونة إلى قطاع الوظيفة العمومية. وكل امتناع عن السياسية هنا يعني إغفال جذور المشكل، وبالتالي حصر مواجهته في مستوياته الدنيا المباشرة، وهو ما لن يساهم في تحقيق المطلب.
لا يعني هذا اشتغالا بأمور السياسة المباشرة، فهذا أمر يقوم به ويجب أن يقوم به الكادحون داخل أحزاب خاصة بهم. ولكن إغفال السياسة بشكل عام يعني حصر حركات النضال فيما تفضله البرجوازية ودولتها.
بقلم، وائل المراكشي
اقرأ أيضا