صحافي ليبرالي كاره للشعب: يونس دافقير مهاجما نضالات المفروض عليهم/هن التعاقد
ترعب نضالات الجماهير مثقفي البرجوازية، فهي تخلخل توازن الحياة السياسية وروتينها القائم على خمول الجماهير. يخاف هؤلاء من الخضات الجماهيرية المنبعثة من أسفل، لأنها تهدد بتدمير الأساس الاقتصادي ومجمل البنية السياسية القائمة فوقه.
عكس ليونتهم الفائقة تجاه الاستبداد، يكشر مثقفو البرجوازية عن أنيابهم حين ينتصب المارد الشعبي عازما على القطع مع سياسة الاستجداء.
كتب يونس دافقير في صحيفة “الأحداث المغربية” مقالا بعنوان “رسائل الرباط… الواجب والحسابات والأوهام”، مهاجما مسيرة 20 فبراير 2019 بالرباط حيث واجهت فصائل الاستبداد المسلحة أجساد مناضلي/ ات التنسيقية الوطنية للأساتذة/ ات المفروض عليهم/ هن التعاقد.
ليست هذه أول مرة يناصر فيها هذا الصحافي الاستبداد، فتلك حرفته، حتى لما كان يتعلم تدبيج المقالات في جريدة “المنظمة” اليسارية (أصدرتها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بعد توقف جريدة أنوال). فقد دافع بشراسة في مقال بتلك الجريدة، في يوم كفاح العمال – فاتح مايو 2000، عن تقنين حق الإضراب مكررا مبررات الدولة سلاح الطبقة العاملة في وجه غطرسة أرباب العمل: حق الإضراب.
نفث هذا الصحفي سمومه، معبرا عن سخط الطبقة الحاكمة وارتعابها من إمكانات النضال التي فتحتها التنسيقية الوطنية للمفروض عليهم/ هن التعاقد، مرددا كل الآراء الرجعية المسبقة حول الجماهير.
جماهير منقادة؟
ينظر الساسة البرجوازيون إلى الجماهير نظرة احتقار، تجعلها محض جموع منقادة بلا وعي وقدرة على التمييز والتفكير. لهذا لم يستحي من التأكيد على وجود قلة محرضة تلعب بمشاعر قواعد التسيقية “عن قصد وسوء نية” نحو القصر الملكي.
يصور هذا الصحفي جماهير الأساتذة كأغبياء يتلاعب بهم/ هن “محرضون/ ات يعرفون ما يريدون، يدفعون “الأفواج البشرية… أن تتجه ودون أن تعرف الوجهة نحو القصر الملكي بتوجيه من فاعل يعرف أين يذهب الناس”.
إن “الأفواج البشرية” للأساتذة/ ات تملك عقلا، ومن حسن الحظ أنه عقل جماعي، يزن القرارات بناء على المصلح الجماعية لطبقة الشغيلة. إذا كانت هذه الجماهير غير متفقة مع مسار المسيرة، فإنها ستنفض بكل بساطة حول الشكل وتكمل المسار المسطر. وهذا ما لم يقع، إذ صمدت تلك “الأفواج البشرية” في وجه القمع، محاولة إكمال المسار الذي يدعي هذا الصحافي أنها لا “تعرف وجهته”.
ماذا عن الوجهة؟
يدرك الكل، بما فيه الليبراليون، أن مركز القرار لا يوجد في مبنى البرلمان ولا في مقر الحكومة. فما هذه إلا واجهات لا حول لها ولا قوة، لمركز القرار الحقيقي: القصر الملكي.
وطيلة عقود والأحزاب البرجوازية توجه مذكرات إلى القصر الملكي تستجديه إصلاحات دستورية وتنازلا عن طفيف صلاحيات يعطيها هامشا أكبر في مؤسسات الواجهة.
لا يقتصر التوجه إلى القصر على هذه الأحزاب، فالحركة الجماهيرية في أطوارها الأولى تعتقد واهمة أن التوجه بالتظلمات إلى القصر قد يسهل تحقيق المطالب، وقد حدث هذا في كل البلدان حيث الاستبداد السياسي السافر.
سياسة التعاقد لتشغيل الأساتذة مفروضة من مركز القرار الحقيقي في البلد، وتوجه مسيرة المفروض عليهم التعاقد نحو القصر سليم من الناحية المبدئية. قد نختلف حول التوقيت الملائم والقدرة على تنفيذ تلك الخطوة، لكن لن نهاجم التنسيقية مبدئيا لأنها توجهت إلى مقر الحاكم الحقيقي، بدل التركيز على الكراكيز والدمى.
الفصل بين الطليعة والقواعد
ترسخت في وعي مثقفي البرجوازية خرافة مفادها أن الجماهير تنقاد عن غير وعي لأي طليعة منظمة. وتترجم أحزاب البرجوازية هذا في سلوكها الانتخابي، إذ تكذب في برامجها الانتخابية لتصيد أصوات الجماهير. لكن الجماهير في حال السلبية، ليست هي نفسها حين تقوم للنضال والثورة.
من تكتيكات الدولة المنتهجة لهزم الاحتجاج محاولة فصل الطليعة الأكثر إقداما عن القواعد الملتحقة حديثا بالنضال والمثقلة بأوهام إمكان تحقيق المطلب في ظل نفس النظام.
لذلك عمل الصحافي على إظهار جماهير الأساتذة/ ات كجسم غير واع لما تقرره “القلة المحرضة” التي تسعى إلى “تصفية الحساب السياسي مع رموز السيادة والدولة”. غاية ما كتبه الصحافي هو تصفية الحساب السياسي مع حركة نضال جماهيري منبعثة من قاع المجتمع أرعبته أيما رعب، فسعى إلى ترهيب قاعدة التنسيقية بادعاء أن لمن “يقود” نضالها غايات أخرى غير تحقيق مطلب الإدماج.
إنها نفس الآلية السياسية التي نجحت الدولة في استعمالها لإخماد كل الحراكات الشعبية منذ انتفاضة إفني سنة 2005 انتهاء بحراكي الريف وجرادة.
الوعي بخطورة هذه الآلية السياسية التي تتقنها الدولة واجب، كي يستمر نضال التنسيقية ويتفادى العثرات التي وقعت فيها الحراكات المذكورة.
تضليل سياسي
كرر الصحافي أضاليل الدولة حول مخطط التعاقد، معيدا خرافة: “ما دمتم قابلين بالتعاقد فـِلـمَ تحتجون ضده”. كتب: “آلاف الشباب الذين اختاروا بمحض إرادتهم أن يشتغلوا في إطار عقود، قبل أن يتدخل من يقنعهم بأن معركتهم يجب أن تكون من أجل الترسيم”. لا يحتاج الكادحون لمن “يتدخل لإقناعهم” بما يرونه صالحا لتحسين وضعهم الاجتماعي.
إن المتعيش من قلمه، خادم الاستبداد، يتغافل عن جحيم البطالة الذي يدفع ملايين الكادحين لقبول أي عمل هربا من الموت جوعا. يظن هذا الصحافي أنه ينتقد المفروض عليهم/ هن التعاقد، لكنه ومن حيث لا يدري يعري أحشاء المجتمع الرأسمالي القائم على إجبارية القبول بعبودية العمل المأجور هربا من البطالة والإملاق.
ينضح هذا المقتطف بنظر مثقفي البرجوازية، رجعيين وتقدميين على السواء، القاضي بوجوب قبول الكادحين ما يجود به الرأسماليون ودولتهم، دون النضال من أجل تحسين ظروف العمل والحياة.
لو كانت هذه فلسفة السياسة عند البشرية لما تخطت قط مرحلة العبودية، وهو ما يسعى إليه الصحافي: إدامة عبودية الرأسمالية. لكن التاريخ لا يسير على هوى الصحافيين، فله قوانينه الخاصة، وحتما سينتصر الكادحون رغم الأوهام العاجزة للأقلام الرجعية.
سياسة قبول الأمر الواقع
كرر الصحافي، لتبرير رفض الاستجابة لمطلب الإدماج في الوظيفة العمومية، نفس مبررات البنك العالمي: “وكل عاقل يعرف أن ميزانية الدولة لن يكون بإمكانها ترسيم عشرات الآلاف في وظيفة عمومية منهكة وتنهك معها ميزانية الدولة، وحتى الهوامش المالية المتاحة لا تسمح بتحمل عبء يهدد بنسف التوازنات المالية الهشة أصلا”.
إن “كل عاقل” الذي يتحدث عنه الصحافي، هو من يستعمل قدراته العقلية لإقناع الكادحين بقبول الاستغلال. أما من يسخر قدراته العقلية من أجل استنهاض رد الفعل الشعبي ضد مخططات الدولة فلن يقبل هذه المبررات.
كيف تستطيع ميزانية الدولة تحمل خدمة ديون عمومية لم يستفد منها الشعب؟ كيف استطاعت هذه الميزانية تحمل نفقات إعداد بنية تحتية ضخمة لاستقبال استثمارات أجنبية معفية من الضرائب وترحل الثروة إلى الخارج؟ كيف استطاعت هذه الميزانية تحمل الأجور المرتفعة لكبار الموظفين وتقاعدهم المجزي؟ كيف استطاعت هذه الميزانية تحمل تهرب ضريبي وإعفاءات جبائية مغرية لأصحاب رأس المال؟ لكن هذه الميزانية المحكومة بأوامر البنك الدولي تستطيع تحمل كل هذا، لكنها لا تستطيع تحمل إدماج آلاف من الأساتذة/ في الوظيفة العمومية.
يتناقض هذا مع ردود الحكومة ووزارة التربية الوطنية المؤكدة على تمتع “موظفي الأكاديميات” بنفس حقوق موظفي وزارة التربية الوطنية. لكن المدافع عن الباطل لا يأبه بالتناسق المنطقي لحججه. كل ما يهمه هو تبرير الواقع والحفاظ عليه. لذلك اجتهد- رغم أن اجتهاده لم يتعد تقليد سابقيه- ووضع سقفا لما يجب على الأساتذة المفروض عليهم/ هن التعاقد المطالبة به: “المطالب لها سقف واقعي وممكن التحقق، وليست أوهام تعجيزية لن تخدم لا مصلحة الأساتذة ولا مصلحة الدولة، ولكنها تهدد بمزيد من الاحتقان الذي يخدم أجندة التخريب المعروفة عناوين أصحابها”.
يعتقد الصحافي أن حركة الجماهير ملزمة بما كانت أحزاب المعارضة البرجوازية تلزم به نفسها طيلة استجدائها إصلاحات من الملكية. وضعت هذه الأحزاب سقفا لمطالبها، سقف لا يضرب جوهر سلطة الفرد المطلق، بكل بساطة لأن هذا الحاكم كان يحافظ على الاستقرار السياسي، أي أنه كان يمسك بقرون الشعب بينما البرجوازية تحلب منه الأرباح. لذلك حرص الصحافي على وصف مطلب الإدماج بـأوهام تعجيزية… تهدد بمزيد من الاحتقان الذي يخدم أجند التخريب”.
ليس للكادحين/ ات أي مصلحة مشتركة مع قامعيهم/ هن ومستغليهم/ هن. إن الخراب الذي يحذر منه الصحافي هو خراب أرباح البرجوازيين. أما حياة الكادحين فقد حولتها عقود تطبيق السياسات النيوليبرالية إلى خراب وجحيم منذ زمان .
تعتيم أصل المشكل
أصر الصحافي على أن ما وقع عبارة عن “تصفية حساب سياسي” مع الدولة، دفعت إليه أطراف سياسية غير جريئة على مواجهة الدولة مباشرة.
لكن الصحافي لم يتورع عن استغلال ما وقع لتصفية حسابات سياسية خاصة به مع خصوم سياسيين خاصين به.
فسر الصحافي مخطط التعاقد قائلا: “الذي حدث هو أن تحالفا انتهازيا وقع بين السياسي والتقنوقراطي: اعتقد رئيس الحكومة السابق المهووس بالخطابة في البؤس أنها فرصة أخرى للتواصل الانتخابي فوافق على توظيف الآلاف بالتعاقد، ووجدها وزيره في التربية الوطنية فرصة ذهبية لتيار التقنوقراط في إبراز مهاراتهم في وضع الأرقام حول تراجع الإنفاق واستعادة توازنات الميزانية”.
وهكذا فإن مخطط التعاقد ليس إلا نتاج عقل رئيس الحكومة السابق (السياسي) ووزيره في التعليم (التكنوقراطي). يبرئ الصحافي سياس الدولة في التعليم التي بدأ الإعداد لها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وشرع في تنفيذها منذ المصادقة على الميثاق سن 1999. وفي هذه المرحلة كان حزب رئيس الحكومة السابق في “المعارضة” بينما كان أصدقاء الصحافي السياسيين في “حكومة التناوب التوافقي” آنذاك، وتحملوا، ولا يزالون، قسطا من مسؤولية تدمير الوظيفة والمدرسة العموميتين.
تضمنت كل مخططات الدولة في التعليم سياسة التعاقد صراحة. وعملت على طبخها على نار هادئة وإعداد الشروط الملائمة لتنزيلها. وذنب رئيس الحكومة السابق الوحيد، هو تحمل مسؤولية التنفيذ وليس التقرير.
سخرية رجعية تتنبأ بالثورة من حيث لا تدري
سخر الصحافي قلمه اللاذع للاستهزاء بالمقموعين/ ات في مسيرة 20 فبراير، قائلا: “ربما كان بعضهم ينتظر أن يصطف الأمنيون على جنبات شوارع الرباط ويوزعوا الورد”. ربما لم يلاحظ هذا الصحافي أن الجماهير هي من تبادر إلى توزيع الورود على رجال القمع، إشارة إلى تفضيلها طريق السلمية، بدل المواجهات العنيفة التي يبذل النظام كل جهوده لاستثارتها قصد تبرير القمع.
لكن الجماهير تدرك جيدا، بناء على تجربة مديدة، أن رجال القمع لن يوزعوا الورد بل الضربات يمينا ويسارا. ولكن ما لم يصرح به الصحافي هو خوفه الدفين من حلول مرحلة سيتخلى فيها رجال القمع عن الهراوات ويرفضون قمع الجماهير وينضمون إليها: إنها آلية تقليدية شهدناها في كل الثورات، وآخرها ثورات تونس ومصر.
لم ينتبه هذا الصحافي أنه تنبأ في مقاله المتحامل على نضال الأساتذة/ ات بما سيقع مستقبلا حين يتقدم نضال شعبنا: “كان لزاما ربما، حسب هذا البعض الجبان في كشف هويته دائما، أن تخفر سيارات الشرطة ودراجيها وخيالتها، وعلى أنغام الجوقة النحاسية، المئات من الأساتذة المتعاقدين وهم في طريقهم إلى اقتحام المشور السعيد”.
نعم، حين يثور الشعب ويثبت أنه لن يرجع مهما كلفه ذلك من تضحيات، ستنسلخ شرائح كبيرة عن جهاز القمع لتنضم إلى الجماهير الثائرة. آنذاك، ليس المفروض عليهم/ هن التعاقد، بل الشعب الثائر هو من ستخفره “سيارات الشرطة ودراجيها وخيالتها، وعلى أنغام الجوقة النحاسية” في طريقها لاقتحام كل مؤسسات الاستبداد.
ربما لم يتبادر إلى ذهن الصحافي، أن هذا الوصف الشيق، هو ما حدث في كل الثورات عبر التاريخ، من الثورة الإنجليزية مرورا بالثورة الفرنسية وصولا الى الثورة الروسية، والحبل على الجرار..
وإذ تسير شروط ذلك إلى النضج، نرد على الصحافي مطالب الأساتذة المفروض عليهم/ هن التعاقد بالتحلي بـ”الواقعيةّ”، بالشعار الذي رفعته الجماهير في ثورة ماي 1968 بفرنسا: “لنكن واقعيين، ولنطلب المستحيل”.
بقلم، شادية الشريف
اقرأ أيضا