احتجاجات كادحي/ ات تزنيت ضدّ تردّي قطاع الصّحة وفَساده، ومنْ أجل خدمات صحّية مجّانية وجيّدة: حصيلةٌ وآفاق
شهدت مدينة تيزنيت، طوال العام الجاري 2018، جملة وقفات ومسيرات احتجاج على ما تعرض له الطبيب المهدي الشافعي (جراحة الأطفال) من مضايقات وتهميش، من قبل مسؤولي المستشفى والقطاع، بلغ حد منع مرضاه الأطفال وكذا آبائهم من الاتصال به.. لم تشهد المدينة مسيرات شبيهة عددا ونوعا منذ نزال حركة 20 فبراير.
لاشك أن قضية الطبيب الشافعي مجرد شرارة أخرجت الناس إلى الشوارع، بيد أن أصل الداء أعمق، هو نفسه ما دفع الجماهير لتحتج في بويزكارن و بن كرير وبني ملال وأزيلال و غيرها. إنه سياسة الدولة في قطاع الصحة العمومية وغيره من قطاعات اجتماعية، منذ عشرات السنين، رضوخا لإملاءات المؤسسات الاستعمار الجديد (بنك العالمي، صندوق النقد الدولي، اتحاد الأوربي…) القاضية بتقليص نفقات الخدمات الاجتماعية الضرورية لغالبية الشعب المُفقر، ودفعه إلى مصاصي الدماء في القطاع الخاص. وقد كان مرسوم 30 مارس 1999 قد ألغى آخر ما تبقى من مجانية خدمات الصحة العمومية.
إن الدولة المغربية منضبطة حرفيا للسياسة النيوليبرالية القائمة على الربح بدل خدمة صحية مجانية وجيدة للمواطنين بما هي حق. إن هذه السياسة المدمرة لمكاسب الجماهير الشعبية، وما تولد عنها من استشراء الفساد بكل أشكاله في المؤسسات الصحية، من رشوة و بيع للأدوية و استدراج المرضى إلى عيادات القطاع الخاص، عوض المستشفيات العمومية، وغيرها كثير… كلها مجتمعة هي التي أدت إلى الانفجارات الاجتماعية التي تشهدها ربوع المغرب، ومنها تيزنيت، وستظل هذه الاحتجاجات، بل ستتعاظم ما دامت علة اشتعالها قائمة.
دينامية نضالية واعدة
نقص مهول في نظام الصحة العمومية بالإقليم على الأصعدة كافة، شبيه بالقائم في كل ربوع البلد، تزيده استفحالا جغرافية المنطقة الوعرة، ونقص الطرقات. هذا فضلا عن سوء الإدارة وفسادها، واستشراء كل مظاهر الرشوة والابتزاز والمتاجرة بصحة المواطنين. واقع يواجهه الكادحون بحلول فردية إلى أن ظهر فتيل تفجير الغضب وتحويله إلى فعل نضالي بالموقف المشرف للدكتور الشافعي.
بدأت دينامية الاحتجاج بوقفة أمام مستشفى الحسن الأول يوم 4 مارس 2018، و قد سبقتها وقفة نظمها بعض أمهات وآباء أطفال مرضى أمام مندوبية الصحة، وصولا إلى آخر مسيرة هي الأكبر يوم 9 سبتمبر 2018. وما بينهما توالت بعد ذلك وقفات ومسيرات تجوب الشارع الرئيسي وتنتهي غالبا أمام بناية عمالة الإقليم. و تتمحور الشعارات حول محاربة الفساد بمستشفيات المدينة والمطالبة بخدمات صحية مجانية وجيدة، وفضح بعض رموز الفساد مثل مدير مستشفى الحسن الأول والمافيا المحيطة به، و إعلان التضامن مع الطبيب الشافعي. شاركت كادحات وكادحون من مختلف قرى الإقليم، إلى جانب من قدموا من أقاليم قريبة ومن مدن أخرى. وكان حضور النساء لافتا، إذ مثلن أكثر من ثلثي المشاركين في بعض المسيرات، وهو أمر طبيعي بحكم أنهن الأكثر تضررا من تردي خدمات الصحة.
مكاسب أولية
خشية الدولة من امتداد الحراكات الشعبية المحلية والمعزولة إلى مناطق أخرى، وخوفها من قيام حراك وطني موحد الأهداف والخطوات، يدفعانها إلى الإسراع إلى محاولة احتواء التحرك المحلي بالوعود، وبتنازلات جزئية، وبالقمع أو التهديد به عند الاقتضاء. ويتوقف قدر تنازلات الدولة وجرعة القمع على السياق الوطني العام.
وقد تمكن حراك تزنيت من أجل المطالب المتعلقة بالصحة من انتزاع مكاسب أولية ستكون ولاشك رافعة لزيادة ثقة الكادحين في قدراتهم النضالية، ومن ثمة إنماء الحراك الشعبي المحلي. هذا طبعا إذا قامت طلائع الكفاح الفتية بالتعريف بهذا المكاسب على أوسع نطاق، وحفز انضمام مزيد من الكادحين إلى الحركة:
ثمار كفاح كادحي تزنيت الاولى:
أقدمت وزارة الصحة على تعيين 6 طبيبات بالمستشفى الإقليمي الحسن الأول، في التخصصات التالية: القلب، الأطفال، الكلي وتصفية الدم ،الجهاز التنفسي ،الغدد والسكري ، طب الإنعاش والتخدير؛ وهي دفعة أولى من التعيينات ستليها دفعة ثانية .
ومن جانب آخر فتحت الوزارة مناصب للتباري لنفس المستشفى ، تهم طب النساء والتوليد ،وجراحة العظام، والصحة النفسية والعقلية. ومناصب أخرى للأطر شبه الطبية تتضمن (10) اطر متعددي التخصصات ،(2) إطارين في التخدير والإنعاش ،(1) إطار في الصحة النفسية ،(1) تقني المختبر والتحليلات الطبية ،(1) تقني الفحص بالأشعة.
هذه ثمار مباشرة لحراك تزنيت، ونتائج غير مباشرة لحراكات الريف وجرادة وغيرها لأنها هي التي بثت الرعب في دولة الرأسماليين، وجعلتهم يصلون الليل بالنهار لوقف امتداد الاحتجاجات الشعبية، بكل السبل، منها التنازلات. وتجدر الإشارة إلى أن حراك بيزكارن من أجل خدمات صحة جيدة أثمر هو الآخر مكاسب، حيث قامت وزارة الصحة بتعين أطر طبية بالمستشفى المحلي همت التخصصات التالية:
* طبيبين تخصص ولادة* طبيب جراح* طبيب تخدير وانعاش* طبيبين تخصص طب الأطفال* طبيب عام* تقني إسعاف.
وكذلك كان في إيفني حيث تم مؤخرا تزويد المستشفى المحلي لإيفني ،بتجهيزات طبية همت:* اقتناء وتركيب جهاز السكانير* الرفع من قوة المحول الكهربائي* اقتناء وتركيب العاكس الكهربائي* اقتناء معدات طبية لمركز الترويض الاستشفائي* تهيئة قاعة الترويض الطبي* اقتناء وتركيب جهاز الفحص بالأشعة* اقتناء جهاز عمود التنظير الهضمي.
لا يمكن تثبيت المكاسب وتطويرها سوى بمواصلة التعبئة والتنظيم. المطلوب ضم قوى نضال جديدة في تزنيت، والسعي إلى بناء تنسيق على صعيد جهة سوس ماسة، في طور أول. لاسيما أن بالجهة بؤر كفاح عديدة من أجل الحق في صحة عمومية جيدة ومجانية ، فضلا عن كون هذا أحد المطالب الخمس لحراك ايفني المجيد في 2005-2008.
تنظيم التعبئة والاحتجاج
يقوم شباب يلج معظمهم ميدان النضال لأول مرة بدور فعال في تنظيم الاحتجاجات. ولا شك أن تجارب سابقة مثل حراك 20 فبراير، وتجربة المعطلين والباعة المتجولين، وخبرة النضال الطلابي، قد أفادت الحراك الجاري حول الصحة. وأول دلالات هذا الحراك هو حجم الاستعداد النضالي القائم في الأوساط الشعبية، فحملات القمع التي تنظمها الدولة ضد الحراكات الشعبية بمناطق مختلفة، من ريف وجرادة …، لم تمنع كادحي تزنيت من النزول إلى الشارع، مع أن مبرر عدم قانونية الاحتجاج [الترخيص] قد يستعمل ضدهم.
إن الطابع الأولي لتنظيم الاحتجاج جلي في اقتصار التعبئة له على وسائل التواصل الاجتماعي [الأثير] دون التقاء واسع مباشر بين الفاعلين لنقاش مجريات النضال وتحديد المطالب، وتنظيم التعبئة بأحياء المدينة وبربوع الإقليم. وهذا ما أعطى عنه حراك جرادة، وقبله حراك الريف، مثالا مفيدا جدا. شباب وسائل التواصل الاجتماعي قام بدوره، يبقى دور المناضلين المنظمين. المقصود النقابات العمالية وقوى اليسار بأطيافه. مع الأسف لا اثر لهؤلاء. وهذا تخاذل أدانه المتظاهرون مرارا، مع العلم أن عددا من مناضلي القواعد في النقابات يشاركون كأفراد في حراك تزنيت.
نقابات الأجراء: أول معني بمشكل الصحة هو النقابات العمالية، فهي تنظم الكادحين الأكثر قابلية للتنظيم، أي الأجراء بأماكن العمل التي تجمعهم. ومطلب الصحة مطلب نقابي بامتياز لا يخلو منه دفتر مطالب أي نقابة أو بيانات مؤتمراتها. لكن في تزنيت غابت النقابات العمالية دون تبرير. فبافتراض وجود مانع لمشاركتها أو ضرر فيها، فما عليها إلا أن تعلم المحتجين وتقنعهم. أما أن يناضل الناس وتختفي منظمات النضال، فهذا يسمى إفلاسا تاريخيا. يطرح هذا مهمة إنقاذ النقابات من المستنقع الذي هوت إليه، وتلك مهمة الجيل الفتي من الأجراء والأجيرات، فقد دلت تجارب النضال عبر العالم أن نضالا بلا تنظيم عمالي بدور فعال أكثر عرضة للفشل.
مزيد من إنزال التعبئة إلى الواقع: مع الإقرار بالمكسب العظيم الذي تمثله وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تمكن الكادحين من توحيد جهودهم، ما يجعل النظام يتربص بها ويسعى للحد من ممكناتها، يتطلب تطوير الكفاح الشعبي التعبئة المباشرة في أماكن العمل والسكن، على شاكلة تجربة جرادة والريف. وهذا دورنا جميعا في قاعدة النقابات والجمعيات الحقوقية وجمعيات الأحياء والقوى اليسارية المناضلة، المنظمة وغيرها. ولسنا هنا بصدد وضع وصفة جاهزة بل إثارة الانتباه إلى سبل التعبئة الشعبية القاعدية ذات الفعالية الأشد في بناء حركات النضال: لجاء كادحين وكادحات في الأحياء، تشكل منهم مباشرة ، وليست تمثيلية لمنظمات قائمة (جزبية ونقابية …) تناقش جماعيا وتقرر بديمقراطية، وتنتدب ممثلين قابلين للعزل، يقدمون كشوف حساب للجموع العامة.
إلى الأمام
تم تحقيق المكاسب المنوه بها أعلاه، لكن سياسة الدولة العامة في قطاع الصحة لم تتغير، وستبرز من جديد ميزانية العام 2019 استمرار التقشف في الإنفاق الاجتماعي وإغداق الامتيازات على الرأسمالية، ومواصلة استنزاف البلد بخدمة الديون، الخ.
إن ميزان قوى إجمالي على صعيد البلد كفيل دون سواه بإجبار الدولة على تقديم مزيد من التنازلات الفعلية، كالتي انتزعها حراك 20 فبراير في العام 2011. وبلوغ ميزان قوى من هذا القبيل يستوجب بناء التعبئة بالمنهجية الكفاحية في القاعدة الشعبية، وتدقيق المطالب، ونسج علاقات الـتضامن والتعاون إقليميا وجهويا ووطنيا.
ليست الخدمة الصحية العمومية والمجانية سوى مطلب ضمن التطلعات الإجمالية لكادحي المغرب وكادحاته بمختلف المناطق. فثمة مشاكل البطالة المستشرية وهشاشة الشغل، ومعضلات السكن والتعليم، وهلم جرا.
لق بات المغرب مرجلا يغلي بالاحتجاج ، وإن هو ما يزال غير منسق وطنيا، فقد حقق تراكمات عظيمة منذ حراك طاطا-2005- و ايفني 2005-2008، وصفرو 2007، و20 فبراير والريف وجرادة. إننا نسير نحو بناء حركة نضال يفرض عليها منطق الحاجات والمطالب الشعبية أن تبلور مشروع مجتمع بديل يبنى على أنقاض الهمجية الرأسمالية السائدة. وقد دخلت تزنيت تاريخ هذا الكفاح من باب مطلب الصحة العمومية المجانية والجيدة، فلنواصل… وإلى الأمام
بقلم ي.غ
اقرأ أيضا