نقاش ودي مع محمد بودهان- 3 ملاحظات انتقادية حول مطلب “من أجل دولة تستمد هويتها من الأرض الأمازيغية بالمغرب”
التوجه الأمازيغي الكفاحي
“من أجل دولة مغربية بهوية أمازيغية”. هذه هي اللازمة الغنائية الجديدة للجوق الموسيقي الذي يحتل فيه بودهان مرتبة المايسترو. جند لها الأعداد الثلاثة الأخيرة من جريدة ثاويزا، هذه الأخيرة التي تعتبر بمثابة لسان حال تيار “الاختيار الأمازيغي” الذي يقوده بودهان ، كما اسست جمعية “الهوية الأمازيغية” أعدت وثيقة تحت عنوان “من أجل دولة تستمد هويتها من الأرض الأمازيغية بالمغرب”.
جند الأستاذ بودهان كل ما في جعبته من لوازم الكتابة: حروف وكلمات وجمل وأقواس وفواصل، وكذلك حجج وبراهين، لكتابة مقالات مطولة لتوضيح وجهة نظره حول طبيعة الدولة المراد وجودها بالمغرب. لكن للأسف لا تعدد لوازم الكتابة ولا طول المقالات يشفي غليلنا كمناضلين داخل الحركة الأمازيغية، إنما وضوح الرؤية وتدقيق البرنامج وقابليته للتحقيق.
لطالما أكدت هيئات وفعاليات من الحركة الأمازيغية امتلاكها لمشروع مجتمعي كامل ومتكامل مستمد من المرجعية الأمازيغية، لكن هذا الإقرار بقي في حدود الشعارات العامة والإعلانات المبدئية. وقد انتقدت جمعية “الهوية الأمازيغية” في وثيقتها المنشورة في جريدة ثاويزا قطاعية وتجزيئية وطغيان الطابع الثقافي على المطالب الأمازيغية، مصرة على ضرورة مطلب مرجعي، رئيسي وأصلي يوحدها ويجمع بين قطاعاتها. وهو ما حاول بودهان إنجازه في مقالاته الافتتاحية المطولة؛ بمطالبته تأسيس دولة مغربية بهوية أمازيغية.
إذا كانت مطالب الحركة الأمازيغية مغرقة في تجزيئيتها وقطاعيتها، فإن مقترحات بودهان وجمعية “الهوية الأمازيغية” تسبح في سماء العمومية- هذا إن لم نقل المثالية. فبودهان لا يرى في الدول ومواقعها الجغرافيا، إلا كيانات هوياتية سرمدية ملامحها محددة منذ الأزل، لا يطالها تغيير ولا تبدل، كل غايات وجودها هو الحفاظ على نقائها الهوياتي المستمد من الأرض طبعا وليس من أي محدد آخر. كل هذا في اتجاه معاكس لمكتسبات العلم الحديث بكل فروعه، وبالمناسبة هذا العلم هو الركيزة الأساسية التي اعتمدها رواد ومؤسسو حركتنا لإضفاء المشروعية على خطاب الحركة ومطالبها، ويدل هذا على مدى التراجع الحاصل داخل الحركة.
ولكي لا نبقى بدورنا في سماء العمومية والشعارات الفضفاضة. دعونا نحلل جوهر فكرة بودهان، بإعطائها مضمونا ملموسا أكثر وإنزالها من سماء المثالية إلى أرض الواقع الحي.
ما الهوية؟
الهوية ليست ظاهرة طبيعية أو مؤسسة سياسية، وهي من بين المقولات الأقل تحديدا في معالمها وأقلها قابلية للاختزال في تعريف صارم. الهوية مفهوم إيديولوجي محض: نعني أنها ليست مغروسة في البنية التحتية للمجتمعات، ولا تتعلق بالبنية الاجتماعية للمجتمعات، مفهوم ينتمي إلى دائرة الإحساس الجمعي لدى مجموعة معينة (فئة، إثنية، قومية، دينية..)، بأنها تتميز عن ما عداها من المجموعات الأخرى. لذلك نتحدث عن الأبعاد المتعددة للهوية: ثقافية، دينية، طبقية، وجنسية.. إلخ. الهوية تعبر عن علاقة اجتماعية تتغير دوما، وترتدي في شروط مختلفة معاني مختلفة جدا. لا يمكن الحديث عن هوية معينة (باعتبارها مفهوما إيديولوجيا محضا) إلا بحضور الشرط أعلاه؛ أي الإحساس والشعور الجمعيين بتشكيل جماعة متميزة. لذلك فالهوية ليست- كما يتصورها بودهان- جوهرا لا تاريخيا سكونيا أعطي منذ الأزل بشكل جاهز وكامل غير قابل للانتقاص أو التغير حسب الزمان والمكان. هذا المنظور بعيد كل البعد عن المنهج العلمي التاريخي الدينامي، الذي يستبعد المطلقات والمسلمات الجاهزة والذي يؤمن بتاريخية الظواهر الإنسانية التي تتشكل في لحظة معينة من الزمان والمكان بسبب تضافر عوامل متعددة؛ وتخضع للتغير كلما امتدت في الزمان وانتشرت في المكان.
هذا الشرط لا ينفي الوجود الموضوعي لتلك الجماعات، فهذه الأخيرة موجودة حتى قبل ظهور مفهوم الهوية وقبل تشكل القوميات والأمم. فالأمازيغ موجودين موضوعيا منذ زمن طويل، لكن الوعي بهوية أمازيغية تميز هذا الشعب عن سائر الشعوب لم يتشكل إلا في الربع الأخير من القرن20. فالشعب أو الجماعة.. هي التي تبلور وتبني وتشكل هويتها وليس العكس؛ أي وجود هوية مشكلة سلفا هي التي تعطي وجودا موضوعي وماديا مستقلا لشعب أو جماعة أو فئة ما.
إن المفهوم البودهاني للهوية أقرب إلى مفهوم هيجل عن الفكرة المطلقة، التي تغترب وتذوب وتغوص في الموضوع (أي العالم المادي) لتعود وتتحد في الأخير مع الذات، وتشكل ما أسماه هيجل روح العصر مجسدا في الدولة البروسية. فالهوية الأمازيغية- على غرار الفكرة المطلقة- اغتربت وابتعدت عن الذات (أي الشعب الأمازيغي) وغاصت في العالم الواقعي الذي همشها بمؤسساته وبنياته وأفكاره، لكنها يجب أن تعود- بعد طول الاغتراب- لتتحد مع الذات وتكوين العالم المثالي الذي ما بعده عالم؛ أي دولة تستقي هويتها من الأرض التي تنتمي إليها: تامزغا.
بتأكيدنا أن الهوية ليست جوهرا لا تاريخيا أعطي مرة واحدة بشكل جاهز وإلى الأبد، فلا بد أن التعريف الأكثر قربا إلى الحقيقة للهوية سيكون عكس ما يعرفه به الأستاذ. فمفهوم الهوية وما يحيل إليه من دلالات لم يكن موجودا دائما، بل تكون تاريخيا ولا بد أن يتم تجاوزه تاريخيا.
الأمة الفرنسية الحالية مثلا لم تكن موجودة منذ الأزل بل تكونت في خضم التغيرات والتحولات الثورية التي عرفتها أوربا بعد انهيار النظام الإقطاعي وظهور النظام الرأسمالي. نفس الشيء يمكن قوله عن الأمة الأمريكية التي لم تكن موجودة منذ الأزل- ولا نجزم أنها ستبقى بهذا الشكل إلى الأبد- هذه الأمة تكونت بعد غزو القارة من طرف الأوربيين، وبعد نمو مصالح مستقلة عن حكوماتهم السابقة في أوربا لدى المعمرين الجدد خاضوا حرب الاستقلال وخاضوا بعدها حربا أهلية مدمرة بين الشمال (الصناعي والمانع للعبودية) والجنوب (الزراعي القائم على العبودية). كل هذه الأحداث التاريخية الكبرى هي التي شكلت الأمة الأمريكية الحالية، وليس بطريقة سلسة وغير ملحوظة تاريخيا كما حاول أن يخفي بودهان في مقاله المادح لأوباما: تحولت الولايات المتحدة “من امتداد هوياتي وبشري لأوربا” إلى كيان “ذات وجود هوياتي وسياسي قائم بذاته، وبهوية أمريكية.. مستقلة عن الهوية الأم، الهوية الأوربية). يمكننا أن نسترسل كثيرا في إيراد الأمثلة، لكننا نظن أن المثالين السابقين كافيين لتوضيح فكرة أن الهوية ليس معطى جاهزا، بل عملية تتشكل تاريخيا ويمكن أن نتنبأ بعصر تنتفي فيه حاجة البشر لتأكيد انتماءاتهم الهوياتية.
سيرورتين تاريخيتين مختلفتين:
تشكلت الهويات القومية في العالم عبر سيرورتين مختلفتين. الأولى مرتبطة بتشكل الدول الإمبريالية العظمى والثانية بالشعوب الصغيرة والتي تعرضت للاستعمار والتقسيم.
فالهويات القومية في أوربا الغربية تشكلت مع فجر النظام الرأسمالي وتشكل الطبقة البورجوازية الصاعدة وأفول الطبقات القديمة التي تعودت على الانعزال الإقليمي (كل داخل إقطاعيته الخاصة). كان من مصلحة البورجوازية أن تمد سيطرتها على البلاد كلها، لتضمن حرية تنقل البضائع والتزود بالمواد الأولية وحرية الاستثمار وجلب العمالة. هذه المصلحة الطبقية والمادية الخالصة هي التي دفعت بورجوازية كل بلد يتكلم لغة مشتركة تسعى لمد نفوذها على هذا البلد، وهو ما ولد حروبا استغرقت القرن 19 كله تغيرت فيه الحدود وضمت فيه قوميات وفصلت أخرى لتتشكل الدول- الأمم في أوربا الحديثة مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
وكانت المنطقة الأقوى في كل بلد (الأقوى اقتصاديا وعسكريا)، هي التي تمد سيطرتها على باقي البلاد وتفرض لغتها على المناطق الأخرى وبالتالي تشكل هوية باقي البلاد على صورتها الخاصة (منطقة باريس بالنسبة لفرنسا، قشتالة في إسبانيا..). ومع توطد هذه الدول ومعها علاقات السيطرة البورجوازية، واستنفاذ البورجوازية لطاقتها الثورية تحولت هذه العلاقات المتكونة تاريخيا إلى علاقات طبيعية. تحاول البورجوازية التي انفصلت مصالحها عن مصالح بقية الشعب- منذ أصبحت طبقة سائدة- أن توهمنا بأن القوميات والدول/ الأمم المتواجدة حاليا والتي تشكلت تاريخيا، بأنها موجودة دائما وستبقى كذلك إلى الأبد، وهي نفس فكرة بودهان.
تحاول البورجوازية بواسطة هذه الرؤية الإيديولوجية أن تخفي طبيعتها “الطبقية المهيمنة الانتقالية إلى طبقة أخرى (ثورية أي طبقة البروليتاريا) التي ستسقط الطبقة الأولى؛ تخفي طبيعتها الطبقية المتجاوزة تاريخيا وتتحول إلى طبقة طبيعية وغير متجاوزة تاريخيا”. (بوجمعة الهباز).
أما السيرورة الثانية فتعبر عن تشكل هويات الأمم الضعيفة التي تعرضت للاستعمار أو التقسيم (الدول الإفريقية، الأكراد، الأرمن، القوميات الصغيرة بشرق أوربا…)، وقد ساهم القهر القومي أساسا في بلورة الوعي القومي لدى هذه الأمم. فتبلور الهويات القومية وتشكل الدول/ الأمم في هذه البلدان لم يتم في سيروروة متماثلة، بل سيرورات متعددة وأحيانا متناقضة: حروب تحرر وطني، ثورات قطعت مع النموذج الرأسمالي، مساومات مع الإمبريالية… أفضت هذه السيرورة في نهاية المطاف إلى تشكل دول/ أمم من موقع تبعي لدول المركز، مع حرمان أغلبيات وأقليات قومية داخل حدود هذه الدول من حقها في تقرير مصيرها (الأكراد، الأرمن، النزاعات بالبلقان..).
ما هي الهوية إذن؟
قلنا إن الهوية هي ظاهرة أيديولوجية صرفة، وبات علينا أن نشرح ما هي هذه الظاهرة. إن هوية الشيء هي ماهيته: أي جملة خصائص تجعله متميزا عن سائر الأشياء المحيطة به، مع الاعتراف بنسبية هذا التميز. أي لا نتناول هنا شيئا سلبيا ومنغلقا على ذاته، بل عن تفاعل وتبادل لهذه الخصائص بينه وبين سائر الأشياء المحيطة به. فالهوية إذن جملة من الخصائص تجعل جماعة أو شعبا أو فئة اجتماعية متميزة عن غيرها من الجماعات والشعوب والفئات المحيطة بها، مع الاعتراف بالتبادل والتفاعل بين هذه المكونات.
جوهر هذه الخصائص المشتركة تتمثل في جامعة اللغة والمنشأ الجغرافي- التاريخي المشترك، هي الأساس الذي يقوم عليه الانتماء إلى هوية معينة دون أخرى. ولكنها لا تكفي لتحديد الهوية التي تنسب إليها الجماعات نفسها بله لتشكيل أمة. والأمثلة معروفة: فلا الأمريكيون الشماليون والإنجليز والأستراليون يشكلون امة واحدة أو يحسون بانتماء هوياتي واحد رغم جامعة اللغة والمنشأ الجغرافي- التاريخي المشترك.
ذلك أن الانتماء إلى هوية معينة وتشكيل أمة، إذا صح أنها لا بد أن تستند إلى جامعة اللغة والمنشأ المشترك، فهي، فوق أي شيء آخر، تقوم على الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة، أي الوعي القومي. إن الانتماء الهوياتي شعور بالدرجة الأولى: فليس من أمة بذاتها دون أن تكون لذاتها، وليس من انتماء هوياتي يسبق الوعي الهوياتي.
نأمل ألا يمل الأستاذ من طول هذا التحليل، لكننا نظن أنه ضروري من أجل وضع النقاش في سكته الحقيقية. فلننظر إذن في تحديد بودهان للهوية.
الأرض بتتكلم أمازيغي
يؤكد بودهان أن “أساس الهوية، ليس هو الانتماء إلى العرق كما في هوية الدولة بالمغرب، بل هو الانتماء إلى الأرض”. أي أن هويتنا لم تعد تتحدد بجامعة اللغة والمنشأ الجغرافي- التاريخي المشترك، بالإضافة إلى الشرط الذي لا بد منه أي الشعور بالانتماء إلى هوية محددة، بل الأرض التي أملك شقتي وعملي فيها (الأرض بتتكلم أمازيغي بدل الأرض بتتكلم عربي الذي انتقده مؤسسو الحركة الأمازيغية). وهذا يذكرنا بالمقولات الشعبية التي تؤكد أن “بلاد الواحد، هو فين تايصور طرف دالخبز”.
يخلط بودهان هنا بين مفهومي الهوية والجنسية. فآلاف المهاجرين ذوي الأوراق الثبوتية من أصول أفريقية أو أمريكولاتينية، هم أمريكيون بالجنسية. لكنهم يحسون بالولاء تجاه جماعاتهم أكثر من إحساسهم بأنهم أمريكيون، خصوصا وأن أوضاعهم الاجتماعية وطبيعة العمل الموفر لهم والاحتقار والقمع الذي يتعرضون له يجعلهم ينكفئون على جماعاتهم كملاذ من الكوارث الاجتماعية التي يفرضها عليهم المجتمع الأمريكي (ترسل الحكومة الأمريكية من السود إلى السجون أكثر ما ترسل إلى المدارس). ويمكن أن نسأل هنا بودهان- إذا قدر له أن استقر في فرنسا- فهل سيقوم بما قام به ساركوزي ذو الأصل المجري، أي هل سيتخلى عن هوته الأمازيغية. أظن أن ذلك من سابع المستحيلات بالنسبة للأستاذ.
مؤدى أطروحة بودهان هي: أنا أمازيغي لأنني أنتمي إلى بلاد تامزغا، بغض النظر عن منشأي ولغتي وثقافتي الأصلية. والآخر عربي لأنه ينتمي إلى العراق مثلا بغض النظر عن الاعتبارات أعلاه. بينما شخص آخر فرنسي لأنه يسكن في فرنسا. ويجب على كل واحد من هؤلاء الثلاثة أن يتمثل لغة وثقافة وهوية البلد المضيف، وألا يحاول أن يفرض عليه هويته الأصلية كما فعل ساركوزي المجري في فرنسا، وأوباما الكيني في أمريكا، وعكس ما قام به العلويون بالمغرب. واستجابة لطلب بودهان هذا، على الحكومة الفرنسية أن تقوم بحضر جميع الجمعيات المدافعة عن حقوق الأمازيغ التي تعج بها فرنسا.
نستاءل مع بودهان، ما مغزى التنازل الذي قدمه للولايات المتحدة الأمريكية في مطلع مقاله: “بغض النظر أن الولايات المتحدة هي في الأصل كيان أوربي استعماري أقيم على أرض الغير- أرض الهنود الحمر..”. لماذا تقبل “غض النظر” يا أستاذ بالنسبة لأمريكا، وترفضه بالنسبة لغيرها من البلدان بما فيها شمال أفريقيا. إن المنطق السليم يستدعي واحدا من أمرين:
– إما أن الاستيلاء على أرض الغير، من طرف شعب آخر يعتبر فعلا تأسيسا مشروعا، وبالتالي يجب ألا نلوم الحكام العرب على ما قاموا به في شمال أفريقيا، كما لم تتجرأ أنت على لوم الولايات المتحدة. • إما أن ذلك غير مشروع، وبالتالي فإن دولة الولايات المتحدة يجب عليها أن تتخلى عن هويتها الأمريكية، وتتبنى هوية الأرض المتواجدة فوقها، أي هوية هندية نسبة إلى الهنود الحمر. وهو ما لا أظنك ستدعو إليه.
ما نخلص إليه من مقالات بودهان أن المحدد هنا هو الأرض، أي أن الأرض هويتها أمازيغية وتسحب هذه الهوية على كل من سكن عليها. وقد عبرت وثيقة جمعية “الهوية الأمازيغية عن هذه الفكرة البودهانية أحسن تعبير “الهوية..لها مضمون ترابي مستمد من هوية الأرض الأمازيغية التي تمنح، بصفة تلقائية وطبيعية، هويتها للسكان الذين يعيشون فوقها على وجه الدوام والاستقرار، رغم أنهم قد ينحدرون، في أنسابهم، من أصول عرقية مختلفة..”. حسنا فلنقم بمحاورة بسيطة:
سين: ما هي هويتك أستاذ بودهان جين: أمازيغي طبعا سين: لماذا بالضبط اخترت أمازيغيا وليس عربيا جين: لأنني أسكن فوق أرض أمازيغية سين: ولكن لماذا أعتبرت هذه الأرض أمازيغية جين: لأن سكانها يتحدثون بالأمازيغية
إننا ندور هنا في حلقة مفرغة فهويتي تتحدد بهوية الأرض التي أنتمي إليها، وهوية هذه الأخيرة تتحدد باللغة التي أتحدث بها. وبالتالي فأنا من يحدد هوية الأرض التي انتمي إليها وليس العكس. آمل ألا تصابوا بالدوار.
ثم ماذا نقول عن القومية التي تعرضت للتقسيم والنفي، ومنعت من تشكيل وطن خاص بها كالأكراد. فالأكراد مشتتون في كل ربوع العالم ورغم ذلك يشعرون بانتمائهم إلى امة واحدة هي الأمة الكردية، رغم انعدام دولة بهوية كردية.
في البدء كانت الطبيعة…
كل ما تعلمناه من العلوم يدمر أساس محاكمات بودهان في مقالاته. فما تقره علوم الأرض، أن هذه موجودة منذ زمن بعيد جدا حتى قبل ظهور الأشكال البدائية للحياة فوق الأرض. وحتى الأرض لم تكن معطى جاهزا منذ الأزل بل تكونت وتغيرت ودام تشكلها ملايير السنين حتى استقرت على هذا الشكل المعروف حاليا، ولا زالت عرضة لإعادة التشكل وستنقرض الحياة ومعها الهويات واللغات والثقافات وتأملات أستاذنا بودهان ويبقى كوكب الأرض.
فماذا كانت إذن هوية هذه الأرض قبل ظهور الحياة عليها. وماذا كانت أيضا حتى بعد ظهور الحياة وقبل تشكل البشر عندما كانت الكائنات العملاقة سيدة الكوكب. وكيف نحدد هوية هذه الأرض حتى بعد ظهور جنس الإنسانيات، لكنها لم تتمكن بعد من التلفظ بكلمة “أزول” أو “تنمرت”.
إن بودهان يسقط مرة أخرى في ترهات المنهج المثالي الذي يقر بأسبقية الروح عن المادة، والفكر والوعي عن الوجود الموضوعي. أي أن الهوية الأمازيغية كانت موجودة في مكان ما في هذا الكون تتنزه وتصول وتجول، منتظرة تشكل شمال القارة الإفريقية وتطور الكائنات الحية بها من كائن أحادي الخلية إلى كائنات متعددة الخلية التي أعطتنا فصيلة القرديات، وتطور الإنسانيات وسيطرة الهومو سابينز على الكوكب وقضائه على سائر أنواع الإنسانيات منذ مليوني سنة مضت. وانتظرت أيضا استقرار الأفواج المهاجرة إلى شمال إفريقيا واختراعهم اللغة الأمازيغية، لتأتي هذه الهوية المغتربة في مكان ما في هذا الكون الفسيح، لتحتضنها أرض شمال إفريقيا (تامزغا) دون غيرها من قطع اليابسة. إنها قطعة جميلة لكنها لا تصلح في هذا المجال، فلكل مقال مقام.
… ثم جاءت الثقافة
تؤكد سائر العلوم الإنسانية أن البشرية قضت جزء كبيرا من عمرها، تائهة في الفيافي والغابات كباقي الحيوانات قبل أن تتشكل في جماعات بدائية وتطور تقاليد تضامن جماعية، لمواجهة قساوة الحياة وشظف العيش في وسط مليء بالمخاطر أخذا بعين الاعتبار الهيئة الجسدية للإنسان الذي لا تؤهله لمواجهة هذه المخاطر جسديا. هذا التحول بني على تطور بيولوجي دام ملايين السنين: ابتداء من المشي على قدمين وانتصاب القامة ما أدى إلى تحرير اليدين للقيام بأعمال منتجة، انتهاء إلى تضخم حجم المخ وتطور تشريح الحنجرة ما سمح بإخراج الأصوات وتطورها فيما بعد لتصبح لغات متطورة يقرض بها الشعر أو يطلب بواسطتها من البقال مد رغيف خبز.
أي أن الثقافة بمعناها الشمولي (عكس كل ما هو طبيعي)، ويدخل فيه هنا الشعور بالانتماء إلى هوية محددة، هو أرقى مستوى وصل إليه تطور الكائنات الحية متجليا في الإنسان العاقل (Homo Sapiens). أي أن الثقافة والفكر هي حركة المادة الواعية لذاتها. لذلك لا مجال هنا- من الناحية العلمية وليس الخرافية الخاصة ببودهان- أن نتحدث عن هوية مرتبطة بأرض معينة، أو سابقة عن تشكل الوعي لدى المنتمين إلى هذه الهوية.
العولمة وحركات الانكفاء حول الذات:
يجب ألا يظن صاحبنا أن هذه الأطروحة خاصة به، فهي متداولة في كل أقطار العالم حتى المتقدم منها. فاليمين الفرنسي يدعو إلى طرد المهاجرين ويرفع شعار “فرنسا للفرنسيين”، والحركات الدينية والعرقية تخترق كل بلدان العالم (متقدمة كانت أو متخلفة). والاختلافات الطائفية تهدد بتمزيق دول بكاملها. إنها لوحة الشطرنج العالمية التي يحتل فيها بودهان رقعة البيدق.
ما السبب يا ترى في ظهور هذه الحركات التي تدعو إلى الانكفاء حول الذات (الدينية أو القومية أو العرقية)، في زمن العولمة والقرية الكونية الصغيرة التي وحدت العالم إعلاميا واقتصاديا؟
يقال دائما أن السؤال نصف الجواب. فتوحيد العالم تحت سيطرة الرأسمال والشركات المتعددة الجنسيات، وما جره من ويلات اجتماعية (فقر ومرض وبطالة جماهيرية) هو السبب في بحث الجماهير عن ملاذات وهمية. فتدمير آليات التضامن الجماعية المؤسسية التي أقامتها الرأسمالية الظافرة بعد الحرب العالمية الثانية، جعلت المقصيين يبحثون بدائل وجدوها في دعوات الرجعيين للانكفاء حول الذات. إن للعولمة طابع تفكيكي، فقد جرت معها- في إطار التنميط الثقافي ذو المضمون الاستهلاكي- مجموعة من الثقافات الضعيفة إلى الهلاك، وهو ما دفع أبناء هذه الثقافات للدفاع عنها ولو بالمضمون الرجعي.
تكتيك هروب إلى الأمام
بعد تدجين قسم واسع من الحركة الأمازيغية، بإدخال جانب منه إلى المعهد وإفساد جانب آخر بالعمل التنموي، كثرت المبادرات الداعية “لتصحيح” مسار الحركة.
غلب طابع الهروب إلى الإمام على هذه المبادرات. فبدل تقييم مسار الحركة وتدقيق المطالب وملاءمتها مع المستجدات، تطرح بدائل مغرقة في العمومية ولم تستطع دفع النضال الأمازيغي إلى الأمام قيد أنملة. هذا الواقع أظهر أن الداخلين إلى المعهد أكثر واقعية من رافضيه، خصوصا باستعراضهم المنجزات- التافهة طبعا لكن الملموسة- التي أنجزوها داخل هذه المؤسسة.
فمن مبادرات التحزيب، إلى الدعوة للحكم الذاتي وانتهاء بالدعوة إلى قيام دولة بهوية أمازيغية- حتى ولو كانت تحت حكم الإسلاميين-، نستنتج خلاصة واحدة: عجز الحركة عن تحقيق مطالبها الأساسية، وعجز “الرافضين” لتكتيك النظام عن اقتراح بدائل ملموسة لواقع الحركة.
يدفع هذا الواقع هؤلاء إلى البحث عن بدائل تغري وتلعب على وثر الشوفينية المتفشية حاليا في صفوف الحركة. فعجزنا عن دسترة الأمازيغية كلغة رسمية ودمجها في الإعلام والتعليم، يحتم علينا رفع سقف المطالب إلى الدعوة بقيام دولة مغربية بهوية أمازيغية، ومجرد قيامها سيحل المشكل من أساسه. فلا فروع قبل الأصل حسب ما ورد في وثيقة جمعية “الهوية الأمازيغية”.
دولة إسلامية بهوية أمازيغية
لم يفوت بودهان في إطار حملته “الانتخابية” لإقامة دولة مغربية بهوية أمازيغية”، فرصة تقديم أوراق اعتماده للحركة الإسلامية بالمغرب.
طمأن بودهان شيوخ السلفية المغاربة بأن مشروع دولته المقترح، لا يتعارض مع مشروع دولتهم. وحاول تصحيح الفكرة المغلوطة التي كرسها القوميون واليساريون عن الأمازيغية لدى هؤلاء الشيوخ، وقدم لهم نماذج الحكم الإسلامي في العالم التي لم تتبن التعريب وحافظت على هويتها الأصلية. إن زغب لحية بودهان قد بدأ ينمو. إن تقديم بودهان لهذه النماذج، يعطينا صورة عن ضيق أفقه ومحدودية فكره. فهو لا يرى في هذه الدول إلا الجانب الذي يهمه، نبذها للتعريب وتبنيها لهوياتها الأصلية. أما كيف وصل الإسلاميون إلى الحكم والثمن الذي أدته الجماهير في هذه البلدان، فلا محل له في جملة إعراب بودهان.
إن تبني هذه الأنظمة لهوياتها الأصلية لا يضفي عليها طابع المثالية، لدرجة جعلها نموذجا في هذا المجال. فالجمهورية الإسلامية بإيران نموذج عن الفتك وإبادة الأقليات القومية والدينية (الأكراد، العرب السنة..)، وطالبان الأفغان أرسوا سلطة الباشتون، فيما قمعوا القوميات الأخرى. تصوروا فقط مثل هذا النظام في المغرب، لتدركوا قعر الهاوية التي يدفعنا نحوها بودهان.
مقارنات شكلية
على غرار امتداح ساركوزي المجري، واصل بودهان مقارناته الشكلية بمواجهة أوباما ذو الأصل الكيني بحكام شمال أفريقيا ذو الأصل العربي. يكمن أساس هذه المقارنات، في تركيز بودهان على المظاهر الخارجية والثانوية حسب علاقتها بمبدأ “الهوية كما يفهمه هو”. تكمن الصفة الأساسية لهذه المقاربات الشكلية في تجاهلها الكلي للمضمون الاجتماعي للسياسات التي يقترحها أوباما، وهي في الجوهر نفس السياسات التي ينفذها عملاء بلاده في شمال إفريقيا.
ينتشي بودهان باستعراض الفروقات بين الحكام، جاعلا أوباما أحسن من الحكام العرب، لأنه يدافع عن المصالح الترابية لأمريكا ولا يسعى لإلحاقها بكينيا. متناسيا أن المصالح التي سيدافع عنها أوباما مصالح البورجوازية الأمريكية والسياسة الخارجية الأمريكية التي تسحق حقوق الشعوب، بما فيها كينيا والمغرب وفلسطين…
لقد دعمت البورجوازية الأمريكية أوباما، لغرض في نفس يعقوبها، ففائدة أوباما لها، “فضلا عن كونه واحدا منهم، ما عدا في أصوله الاجتماعية، هو أنه جعل الحزب الديمقراطي جذابا من جديد لجماهير الطبقة العاملة والشرائح الوسطى. يمكن للبرجوازية في نظام ديمقراطي أن تسيطر بشرط تمكن حزبها أو أحزابها –في الولايات المتحدة وفي بلدان عديدة لها حزبان- من جذب قاعدة اجتماعية تتيح الفوز بالانتخابات والحفاظ على التماسك الاجتماعي الضروري لتبني سياسة محلية فعالة، أي تفادي الاضطراب الاجتماعي”.
يجب ألا ينسى بودهان أن مصالح أمريكا، التي سيخدمها أوباما بإخلاص، قائمة مع الحكام العرب الذين ينتقدهم بودهان. ولن يضحي أوباما بمصالح الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط لإرضاء تأملات ميتافيزيقية، لشخص أشك مليار مرة أن أوباما سمع باسمه ولو في الأحلام. أما الذين سيخيب أوباما أملهم، فهي القاعدة العريضة من السود والمهاجرين والمشمئزين من حصيلة إدارة جورج بوش، وليس الحكام العرب. وفي الطرف الآخر، الجماهير العريضة من مضطهدي الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية الذين ينتظرون تغييرا في السياسة الخارجية لأمريكا بوصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض. وخيبة الأمل هذه ستسرع حتما الحراك الاجتماعي بهذه البلدان لإسقاط أوباما ومعه الحكام العرب.
هل من رؤية ملهمة
يطرح السؤال هنا عن طبيعة المجتمع المأمول تشييده بالمغرب. لا بد أن السيرورة التي تكونت بها الدول/ الأمم بأوربا الغربية مستحيل تكرارها في البلدان ذات التطور البورجوازي المتأخر. كما أن تبعية هذه البلدان لمؤسسات المركز الإمبريالي (سياسي، واقتصاديا، وعسكريا..)، يطرح جملة مهام جسام لا تنحصر فقط في هوية الدولة المراد تشييدها في المغرب.
إن الدول القائمة حاليا في شمال أفريقيا، هي صنيعة الاستعمار. فالرغبة في الحفاظ على مصالحه الاقتصادية بالمنطقة دفعته إلى منحها استقلالات شكلية، مع تركة قابلة للانفجار في مجال الحدود وتدبير التعدد اللغوي والثقافي في هذه المنطقة.
كما أن الأنظمة المحلية تواطئت مع الاستعمار رسم معالم المنطقة بهذه الصورة، بشكل يخدم مصالحها. فمعاملة لغة وثقافة ما تعكس الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي الذي رمت فيه هذه الأنظمة السواد الأعظم من الجماهير، ثمنا لتنمية مصالحها الاقتصادية والسياسية.
إن الواقع جد معقد، وهو لا يحتاج إلى حلول سحرية من مثل “دولة مغربية بهوية أمازيغية”. بل إلى حلول عملية واقعية وملموسة، تتناول التعدد اللغوي بالمغرب لمعرفة كيف ستحدد العلاقة اجتماعيا بين هذه اللغات بشكل ديمقراطي. وأي نظام سيقوم بهذا التدبير هل نظام الفرد أم نظام السلطة الشعبية. كما تنطرح هنا العلاقة بين تمتيع الشعب المغربي بكافة حقوقه اللغوية والثقافية وباقي الحقوق الأخرى (الاجتماعية والاقتصادية..).
تتصارع حاليا رؤيتان طوباويتان: دولة عربية أو دولة بهوية أمازيغية. وكلاهما لا يجيب عن متطلبات الواقع بحلول ملموسة، كما أنهما رؤيتان إقصائيتان يختلفان في الشكل لا في الجوهر، مهما حاول بودهان أن يفرق بين “ما هو عربي وما هو أمازيغي في الطبيعة وليس في الدرجة”.
هناك رؤية أخرى طوباوية، لكنها ملهمة للنضال. إنها الرؤية التي ألهمت الملايين من الكادحين طيلة قرون (في روسيا والصين وفييتنام وكوبا، وكل بلدان العالم)، الرؤية الأممية الساعية لتشكيل مجتمع إنساني على المستوى العالمي على أسس اشتراكية. مجتمع لا ينتفي فيه الاضطهاد الطبقي فقط، بل كل أشكال الاضطهاد الملازمة للمجتمع الطبقي: الاضطهاد على أساس الجنس أو الدين أو اللغة، أو اللون… إلخ.
إن الانخراط في الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية والمناهضة للحروب، والحركة العالمية النسائية المناهضة للفقر والعنف وحركات النضال من أجل انعتاق العالم الثالث من تبعيته للمركز الإمبريالي، خطوة في هذا السبيل. ويجب أن تكون الحركة الأمازيغية واعية بهذا الواجب. يجب نبذ كافة أفكار التعصب والانكفاء نحو الذات، ففي عصر السيطرة العالمية للرأسمال يكون الحياد شطط. يجب أن تكون المقاومة جماعية وأممية، شاملة لكافة الأصعدة. يجب توجيه الاستياء الاجتماعي نحو مشاريع انعتاق بدل سلوك نهج الانكفاء الهوياتي أو الإثني أو الديني. علينا أن نتحدث عن اضطهادنا بلغة عالمية.
التوجه الأمازيغي الكفاحي
These fats can enhance tonerin kapseln kaufen LDL cholesterol levels.
اقرأ أيضا