ردنا على قمع احتجاج التلاميذ: التضامن والتنظيم
انفلت النضال التلاميذي من قمقمه مرة أخرى، إنه واقع يبشر باستمرار المقاومة الشعبية، واقع لا داعي للتخوف منه ومن تداعياته المزعومة على “استقرار الوطن” كما تفعل صحافة المعارضة البرجوازية (ليبرالية ودينية) إلى جانب أبواق النظام الإعلامية. بالعكس، يجب الالتحام بهذا الاحتجاج الفتي وتخصيبه بتجارب الأجيال السابقة وتنظيمه وتسليحه بالوعي اللازم لتطوره.
يناضل التلاميذ نيابة عن بقية الكادحين، وهذا ليس عيبا في حد ذاته، كما يعتقد سيل التعاليق الانطباعية السخيفة على صفحات التواصل الاجتماعي. ويجري وضع التلاميذ المحتجين في كفة وبقية الكادحين في كفة أخرى.
ليست هذه أول مرة تهب فيها شريحة للاحتجاج نيابة عن الجميع: طلاب، ومعطلين، وأساتذة متدربين، وأساتذة التعاقد، والمدعوين للتجنيد الإجباري… العيب هو دق إسفين بين التلاميذ وبقية الكادحين، والعزوف عن حفز التضامن الشعبي مع الاحتجاج التلاميذي، وعن دعوة الجميع للالتحاق بالنضال.
“فجأة” غصت الشوارع بحناجر فتية تصب جام غضبها على واجهة الاستبداد، لكن الذي تفاجأ هو من اعتقد أن الاستبداد منتصر دائما. أراد الاستبداد أن يجعل التنكيل بكادحي الريف وجرادة عبرة للجميع، تثني عن الاحتجاج بعد الأحكام القرقوشية في حقهم. ولكنه واهم، ففي عز تداعيات هذه الأحكام تدفق آلاف الأساتذة المفروض عليهم التعاقد على مراكز البلد، وتلاهم هذا الدفق التلاميذي الأول من نوعه بعد احتجاجات ضد منظومة “مسار”.
رفض التلاميذ/ ات التحكم في شروط جزء من حياتهم/ هن اليومية. لكن فرض التوقيت الصيفي ليس إلا وجها آخر لمجمل النظام الرأسمالي، حيث يفقد الأجراء والكادحون التحكم في شروط الإنتاج والتبادل، شروط تحول الإنسان من خالق ثروة إلى مجرد تابع ذليل لآلة داخل مصنع، من إنسان يحمل هوية، إلى هوية ورقية تثبت وجوده كإنسان.
إن مدى احتجاج التلاميذ- رغم عدم وعيهم بهذا- أوسع بكثير، ينطلق من أبسط الجزئيات ولكنه يستهدف مجمل النظام الاقتصادي (الرأسمالي) وخادمه السياسي (الاستبداد).
رغم حرص “المعارضة” البرجوازية للملكية، على التأكيد أن الدولة غير واعية لمخاطر قراراتها، ودأب هذه المعارضة على تنبيهها إلى مغبتها، الدولة واعية تماما بالمنظور السياسي والاجتماعي المحتمل لهذه الاحتجاجات لو تسامحت معها حتى النهاية.
ليس الأمر عدم وعي الدولة بمغبة تشددها. يعي الاستبداد أن أصغر الانتصارات تدفع الشعب لتوسيع الثغرة التي انفتحت على إثر هذا الانتصار، والمطالبة بالمزيد، ومن المطالبة بالمزيد ينتقل الشعب إلى المطالبة بالكل.
لذلك تتعامل الدولة مع الاحتجاجات بمنطق قدماء الحرب المجربين الذي تلتجأ إليهم هيئة الأركان كلما استجد أمر في ساحة القتال. تبدأ بتكتيك إبداء تفهم المطالب وادعاء التعاطف معها مع التأكيد على ضرورة سلمية الاحتجاجات وفق “القانون الجاري به العمل”. ثم تنتقل إلى الحوار والدعاية لنتائجه في وسائل إعلامها من طرف جزء من الفئة المحتجة قابلة لنتائج الحوار. الخطوة الأخرى في الخطة هي إظهار أن البقية المحتجة ليست إلا أشخاصا “خارج الفئة المحتجة” لها مصالح وأجندات مستقلة تسعى لاستغلال النضال قصد تحقيقها، ثم تقوم بتصيد ما تسميه “انفلاتات” (قد تكون هي ذاتها من يفتعلها) لتشويه الاحتجاج وتبرير قمعه. وفي اللحظة المناسبة يجري استبدال القفاز المخملي بالقفاز الحديد ويبدأ القمع. يتوارى الصحفي والوزير ويتقدم رجل القمع بحذائه الثقيل وهراوته. هذا هو ما وقع في الاحتجاجات الشعبية الأخيرة: حراكي الريف وجرادة.
تستعد الدولة، بعد تريث لتفادي تأجيج النضال، للانتقال إلى الخطوة الأخيرة. فقد صرح سعيد أمزازي وزير التربية الوطنية واصفا نضال التلاميذ: “هناك أشخاص لا علاقة لهم بالمنظومة التربوية يقومون بتشجيع التلاميذ على عدم الالتحاق بأقسامهم ويدفعونهم للخروج إلى الشارع، داعيا الآباء والأساتذة لتأطير التلاميذ بهدف الالتحاق بالمؤسسات”.
يكمن وراء هذا الاتهام منظور قدحي يصور الجماهير محض جموع منفعلة، تنتظر محرضا “لا علاقة به بالمنظومة”، كي يدفعها إلى الاحتجاج. لا تحتاج الجماهير لمن يحرضها على الاحتجاج، فأوضاعها الاجتماعية المزرية أكبر محرض، لكنها تحتاج لمن ينظمها ويوجه نضالها ضد نظام الاستبداد والاستغلال، وهذا ما تتخوف منه البرجوازية ودولتها.
لا يوجد نضال لا تتواجد فيه “عناصر لا علاقة لها” بالفئة المناضلة. فالمجتمع هو جمع العلاقات القائمة بين الأفراد وبين الجماعات. وحين يندلع احتجاج في قطاع معين سيتأثر به قطاع آخر وقد يعم مجمل المجتمع. ألم تلجأ الوزارة إلى “عناصر لا علاقة لها بالمنظومة التربوية” لإرغام التلاميذ على “الالتحاق بمؤسساتهم”: رجال القمع من بوليس وقوات مساعدة التي اقتحمت المؤسسات التعليمية ودنست حرمتها.
حين تطلب الدولة من الأحزاب والجمعيات والنقابات والصحافة تأطير المواطنين، أليس هذا استعمالا لـ”عناصر لا علاقة لها” بـ”منظومات المجتمع”؟ طبعا، ولكنه استغلال يخدم مصالح سياسية وطبقية مغايرة، للمصالح التي يخدمها المحرضون الشعبيون ومنظمو النضال. مأساة النضال العمالي والشعبي في المغرب ليست هي تواجد عناصر لا علاقة لهم بل في عدم تواجدهم، يلزم المزيد من التحام اليسار الثوري بهذه الفئات من أجل تنظيمها وتسليحها بالوعي.
ليس تصريح الوزير إلا قرع طبول حرب ستشنها فيالق الاستبداد المسلحة ضد التلاميذ المحتجين، وقد زادت صحافة الإثارة والموالية للاستبداد الطبول قرعا بنشر صور تعكس مشاهد “تخريب” و”حرق العلم الوطني” أمام البرلمان. بلغت الحملة مستوى مستفزا بعنوان أكثر استفزازا في أحد المواقع الالكترونية: “”هادي ولات بسالة… تلاميذ شعلوا العافية فالراية قدام البرلمان”.
يحتاج العنف دائما إلى تبرير لجعله مقبولا، وهنا يأتي دور وسائل التخبيل الأيديولوجي. تركز هذه الصحافة على ما يخدم أهدافها، فتكبر صور “التخريب” لتوهم الكادحين (خاصة غير الملتحقين بعد بالنضال) وتخويفهم من أن النضال يعني دائما رمي البلد في مهاوي الفوضى والتدمير. وكأن لا خيار ثالث بين القبول بالاستبداد والفوضى الكارثية.
بهذا الخيار تغض هذه الصحافة بصرها عن الجوانب العظيمة من نضال التلاميذ: مسيرات مشيا على الأقدام لمسافات طويلة دون أدنى حادث، ظهور أجنة قد يتطور منها تنظيم، شعارات تظهر تفاعل التلاميذ مع مستجدات الوضع السياسي والاقتصادي، تحد وإصرار على تجاوز حواجز القمع دون التصادم مع أفراده…
كل هذا تغطيه هذه الصحافة بحجاب ثقيل، بكل بساطة لأنه قد يشكل منارة لباقي التلاميذ وباقي الكادحين، لأنه سيكون درسا ونموذجا يتبعه الآخرون. تستعد الدولة لقمع الاحتجاج التلاميذي لأنه يلقي أضواء كاشفة على الخيار الثالث الآخر: تنظيم الكادحين من أجل تقويض الاستبداد وتفادي الانزلاق في الفوضى.
تقوم مهمة صعبة على الإعلام المناضل، في فك هذا الحصار وترويج صور وتقارير عن الجوانب المشرقة في نضال التلاميذ القائم حاليا. وتقع مهمة أخرى على تنظيمات اليسار المناضل والنقابيين الكفاحيين وكل طلائع النضال العمالي والشعبي؛ حفز التضامن مع النضال التلاميذي وكسر العزلة التي تريد الدولة فرضها عليه.
المزيد من التضامن والمزيد من تنظيم الاحتجاج التلاميذي هما مفتاح نصر هذه المعركة المجيدة لجيل جديد من شباب المغرب يقتحم ساحة النضال الاجتماعي، جيل كله عزم وإصرار لاقتحام السماء.
بقلم، وائل المراكشي
اقرأ أيضا