الإنتفاضة الريفية: لمحة حول جذورها الاقتصادية والاجتماعية
بقلم: مهدي رفيق
تمكنت انتفاضة الريف، لحد الآن، من الصمود في وجه مناورات شتى للنظام، المضطر بعد فشل رهانه على إخماد الغضب الشعبي، تارة بالتجاهل، وطورا بتحريك لوبي جمعياته وأحزابه ونخبه وأبواقه الإعلامية، إلى خوض حملته القمعية المستمرة، ضد مناضلي/ات الحراك الشعبي في الريف والمناطق المتضامنة. هذا بعد تمكنه من تهميش مطالب الحراك السياسية وتطويق أفقه السياسي، بهجوم منقطع النظير على الحركة بتهم خدمة أجندات خارجية ترنو تهديد “أمن المملكة واستقرارها”، والنزوع الانفصالي لمجرد إعلاء راية الشرف الوطني، راية مقاومة الاستعمار الإسباني، “معترفا” مقابل ذلك، تحت ضغط المقاومة الريفية، بمشروعية مطالبها الاقتصادية والاجتماعية. غير أن تطور الأحداث يكشف الطابع المناور لهذا الاعتراف الرامي إلى ربح الوقت والمراهن على استنزاف الحركة ودفعها إلى آخر خطوط الدفاع (إطلاق سراح المعتقلين ووقف المتابعات…)، في ظل تزايد مظاهر العسكرة بالريف واقتحام البيوت وحملة الاعتقالات الواسعة ضد النشطاء.
وقد كان لعامل التنظيم الذاتي، بتشكل لجان شعبية في معظم مدن الريف وبلداته، دور حاسم في استمرار الالتفاف الشعبي حول المطالب التي بلورها المحتجون بشكل واضح، منذ يناير الماضي، مع أن تلك اللجان مقتصرة على مناقشة المطالب مع السكان، وتقرير أشكال النضال، وتنظيم الصمود في وجه أجهزة القمع وبلطجيتها، دون أن تتطور إلى إدارة ذاتية قاعدية تتولى تنظيم مختلف نواحي الحياة بشكل ديمقراطي.
وفيما ركزت الدولة على حصر مطالب المنتفضين في حدود اجتماعية، وكأن لسان حالها يقول؛ بأن لا مشكلة للمنتفضين مع ركائز الحكم في المغرب، ومطالبهم مشروعة، ستُلبى عبر مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، هاهي ذي تثبت،عبر حملة القمع المسعورة، حاجة الجماهير ليس للشغل والصحة والتعليم وحسب بل للديمقراطية الفعلية أيضا. هذه الديمقراطية التي تتطلب إسقاط الاستبداد وانتزاع الشعب الكادح القرار السياسي والاقتصادي من أيدي الطغمة الحاكمة التي تفرض سياسات تفكيك القطاع العام والتقشف في الإنفاق الاجتماعي، بمبرر ضبط التوازنات الاقتصادية والمالية، كما تتطلب توظيف ثروات البلد لإرضاء الحاجات الفعلية لغالبية المغاربة الساحقة.
وعليه يلزم أن ننظر إلى موجة النضال الهائلة الجارية في سياق الأزمة البنيوية التي تنخر الاقتصاد المغربي أمام عجزه عن تلبية حاجات ملايين الناس الفعلية والحيوية. إن كفاح الريف هو في العمق تجلي قوي لظاهرة انتفاضية واحتجاجية ممتدة في الزمن والمكان، تمر عبر جملة مراحل تتخللها موجات صعود وهبوط، تتمكن فيها الجماهير الشعبية من مراكمة خبرات ودروس عظيمة بهزائمها وانتصاراتها (انتفاضات شعبية ووجهت بقمع دموي، نضالات اجتماعية مستمرة للطلاب والمعطلين، نضالات تنسيقيات مناهضة الأسعار، نضالات في مناطق جغرافية محدودة، مثل طاطا وبوعرفة وسيدي افني، نضالات نقابية، نضالات مدينة طنجة ضد شركة أمانديس الاستعمارية على خلفية غلاء فواتير الكهرباء، نضالات طلبة الطب والأساتذة المتدربين، نضالات حركة 20 فبراير وغيرها).
بالطبع، لا يوجد أسهل من أن نزعم بأن هذا الانفجار الشعبي، غير المتوقع على الإطلاق، المتواصل ما يزيد عن نصف عام، مجرد انفجار نتيجة لغضب استمرت ضغوطه العميقة على مدار عقود، دون الوقوف عند أسبابه المادية العميقة. وهذا ما تسعى إليه هذه المقالة المتوخية سبر الجذور الاقتصادية والاجتماعية لتحرك جماهير الريف بكل ذلك الزخم النضالي، مع التأكيد على اقتناعنا الراسخ بأن هذه الموجة الجديدة من نضال شعبنا الكادح بقدر ما تكشف عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بقدر ما تطرح أزمة البدائل الممكنة، لأن نتائج أية معركة سياسية أو اجتماعية لا تحدد بناء على الحالة المزاجية للجماهير واستعدادها البطولي للنضال، وليس على ظروفها الاقتصادية والاجتماعية فحسب، وإنما يتوقف مصيرها، بالأساس، على “قوة تنظيمها الجماعي، وعلى الأيديولوجيات المختلفة التي تؤثر عليها، وعلى الأحزاب السياسية التي تتنافس من أجل قيادتها.”(1) فحسب ماركس “من الضروري أن نفرق دائما بين التحول المادي للظروف الاقتصادية للإنتاج، التي يمكن تحديدها بدقة تماثل دقة العلوم الطبيعية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية ـ في كلمة واحدة “الأيديولوجية” ـ التي يصبح الإنسان بواسطتها واعيًا بهذا الصراع ومشاركًا فيه”. وبالتالي فإن “تحديد التناقضات البنيوية المتسببة في زعزعة استقرار مجتمع معين أمر مختلف تماما عن تحديد متى وكيف سوف تتفاعل هذه التناقضات وتؤدي إلى انفجار سياسي”.(2)،
وفي المقابل؛ يصعب في غياب فهم للجذور المادية؛ الاقتصادية والاجتماعية، لأية معركة طبقية، بلورة الاستراتيجيات والتكتيكات وأشكال التنظيم والتحالفات الكفيلة بحلها، في ضوء موازين القوى بين الطبقات وحالة النضال الجماهيري (حالة دفاع أم حالة هجوم)، ما قد يؤدي إلى هزيمة المعارك المتفجرة.
التهميش الاقتصادي للريف: لمحة تاريخية
لقد ظل هاجس الاستعمار الإسباني، المتدخل عسكريا في الريف، منصبا على استغلال موارد المنطقة، ولم يتأت له ذلك إلا بعد قضائه على المقاومة الريفية بدعم حربي هائل من قوات الاستعمار الفرنسي (3). وعلى إثر ذلك، طرحت سلطات الاستعمار الاسباني مبادئ الاستيطان الرسمي بإصدار ظهيرين في يونيو 1929 يهمان إحصاء ممتلكات الأهالي، وتحديد المساحة المخصصة للاستيطان، و نتج عن هذه السياسة تشكل برجوازية محلية، في حين كانت نتائجها كارثية على غالبية الفلاحين الذين اضطروا إلى الهجرة تجاه الجزائر ومنطقة الحماية الفرنسية، أو إلى الانضمام للجيش الإسباني (4).
وفي ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة (5) انصب اهتمام الرأسمال الاسباني على استغلال المواد الأولية، ولاسيما معدن الحديد لمناجم الريف الشرقي، الموجه إلى الصناعة الأوربية. وقد استعمله قائد الفاشية الإسبانية الجنرال فرانكو عملة مقايضة للحصول على السلاح، وخاصة من ألمانيا التي كانت أول مستورد لحديد الريف مقابل تزويدها فرانكو بالأسلحة والمواد المصنعة والغذائية (6).
بالإضافة إلى استغلال معدن الحديد، انصب اهتمام الاستعمار الإسباني على الثروة الغابوية (بلغت 138 ألف هكتار في سنة 1938) بأخشابها النادرة وعالية الجودة. وقد وضعت سلطات فرانكو مخططا ممنهجا لاستغلالها، جاعلة جبال الريف بشكل سريع جدا أحد أبرز المناطق المصدرة للأخشاب، إذ بلغ متوسط إنتاجه السنوي، في فترة 1936-1957، زهاء 18500 متر مكعب من الأخشاب المقطعة. وقد ساهم استنزاف غابة الريف هذا في الفقر النباتي الطبيعي للمنطقة بعد انسحاب إسبانيا، بفعل عدم تعويض الأشجار المقطوعة.
وقد كان للحرب الأهلية الإسبانية ومخلفات الحرب العالمية الثانية عواقب وخيمة على سكان الريف، حيث تراجع النمو الديمغرافي نتيجة فقد عشرات آلاف القتلى في الحرب أو بسبب المجاعة، وهجرة عشرات الآلاف إلى مناطق المغرب المحتلة من قبل فرنسا أو نحو الجزائر، ما كان له بالغ الأثر في تفكك البنيات الاجتماعية والاقتصادية بالريف، كما شهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، توافد عدد كبير من المستوطنين الإسبان الذين حصلوا على تسهيلات أدت إلى امتلاكهم أراضي واسعة بجهة اللكوس الخصبة.
خلاصة القول، إن حصيلة الاستعمار الإسباني بمنطقة الريف كانت كارثية بكل المقاييس، فعلى مستوى البنيات التحتية لم تعمل إسبانيا إلا على إنجاز 230 كلم من السكك الحديدية (منها 17 كلم لنقل معدن الحديد من الريف الشرقي نحو مليلية) وبناء أقل من 326 كلم من الطرق المعبدة (سيارة واحدة لكل 400 نسمة في الريف، مقابل سيارة واحدة لكل 30 نسمة في المنطقة الاستعمارية الفرنسية)، وعلى العموم يتضح من الميزانية العامة التي كانت تخصصها إسبانيا لمنطقة الريف أن .592 % منها كانت توجه للجانب العسكري، مقابل 7.5 % فقط للجانب المدني والاقتصادي (7)، الأمر الذي كانت له عواقب وخيمة على تفكك البنيات الاقتصادية بالمنطقة وعلى الأوضاع الاجتماعية للريفيين.
ماذا عن تنمية الريف بعد “الاستقلال”؟
ترتبت عن سياسة الدولة الاقتصادية في ما بعد سنة 1956 تفاوتات طبقية ومجالية صارخة، إذ ركزت جهودها “التنموية” على القطاعات والمجالات التي توفر شروط الاستثمار المربح والتراكم المالي، بينما ظلت باقي المناطق على الهامش. وهي سياسة مبنية على منطق اقتصادي يؤدي في النهاية إلى توزيع المجال إلى مناطق منتجة نافعة قابلة لأن تدمج في الاقتصاد العصري، ومناطق هامشية لا تتوفر فيها هذه الشروط، وبالتالي ظل التقسيم الاستعماري للمجال (المغرب النافع والمغرب غير النافع) قائما. ما أدى، في نهاية المطاف، إلى تركز الأنشطة الاقتصادية في الساحل الأطلنطي من القنيطرة إلى الدار البيضاء، وتهميش باقي المناطق، وفي مقدمتها الجبلية التي تحتاج إلى استثمارات ضخمة على مستوى البنيات التحتية وبناء المرافق العمومية، ما أثر بشكل كبير على التوازنات الاقتصادية والبشرية بمنطقة الريف.
ومن تبعات ذلك، أن منطقة الريف شهدت بفعل عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية معروفة، تنصل شبه تام للدولة من لعب أدوارها التنموية. فإذا استثنينا المشروع الصناعي الطموح لحكومة عبد الله إبراهيم لإنتاج الصلب في سنة 1959، ضمن أدوار مكتب الدراسات والمساهمات الصناعية، بقصد إنتاج 245 ألف طن سنويا، وقد اعتبره وزير الاقتصاد آنذاك، عبد الرحيم بوعبيد، “داربيضاء جديدة بمحاذاة المتوسط” . هذا المشروع لم ير النور بفعل إقالة حكومة عبد اله إبراهيم والتراجع عن سياسة التصنيع، وتمت الاستعاضة عنه بتشييد مصنع صوناصيد SONASID بمدينة زايو في سنة 1984 من قبل شركة بريطانية (Davy Loweyltd). ونفس الشيء حصل مع خط سكة الحديد ومطار الناظور اللذين كانا مبرمجين منذ سنة 1970 ولم يريا النور إلا بعد 20 سنة .
وقد انتبه أحد الباحثين إلى أن المنطقة لم تعان من غياب استراتيجية إنمائية واضحة وحسب، بل اتسمت معظم “المبادرات التنموية” بطابع الاستعجال. فمشروع التنمية القروية للريف الغربي المعروف ب”الديرو” أتى بعد الانتفاضة الشعبية في الريف لعامي 1958-1959 بدعم خاص من الأمم المتحدة والمنظمة العالمية للتغذية والزراعة، وذلك في إطار سياسة القروض التي كانت تمنحها المؤسسات المالية في شكل برامج أو مشاريع “تنموية”. وقد ساهم هذا المشروع، الذي اهتم بالتشجير، بقصد إدخال زراعات جديدة تحسن ظروف السكان الاقتصادية والاجتماعية، في الإضرار بصغار الفلاحين، بحرمانهم من استغلال أراضيهم، ما دفع بعضهم منهم إلى قلع الأشجار المغروسة ضمن المشروع وتعويضها بزراعة الكيف في كتامة والشاون لرفع مدخولهم. أما مشروع PAIDER-MED، وما تبعه من إنشاء وكالة إنعاش أقاليم الشمال، فقد انطلق جراء تزايد الضغوط الأوربية بعد استفحال وتوسيع زراعة القنب الهندي. وقد منيت إستراتيجية الوكالة بفشل ذريع، إذ لم تحقق أهدافها الأربعة المتمثلة في إحداث مشاريع كبرى مهيكلة، وخلق توازن بين الموارد والسكان و إحداث فرص عمل، وأولوية التنمية المحلية. والأنكى أن الوكالة راجعت أولوياتها مطلع سنة 2000 في ضوء نتائج ما سمي، وقتئذ، بالحوار الوطني حول إعداد التراب الوطني، حيث ركزت جهودها على مشروع طنجة المتوسط والمشروع السعيدية السياحي ، بينما تم تهميش الريف مرة أخرى.
وكان على الريف انتظار فاجعة زلزال الحسيمة وبلدات مجاورة في 24 فبراير 2004، ليعود الحديث عن ضرورة تهيئة المنطقة في إطار البرنامج الاستعجالي لإعادة إعمار وتنمية المدينة، الذي انصب على 3 محاور همت فك العزلة عن المنطقة ودعم القطاعات المنتجة (السياحة، الصيد البحري)، والاهتمام بالتنمية القروية والمحافظة على البيئة، إضافة إلى تحسين الخدمات المقدمة السكان والتأهيل الحضري للإقليم.
هكذا يتضح أنه بعد عقود لا زالت دار لقمان على حالها، و المحتجون بمنطقة الريف يرفعون المطالب ذاتها الواردة جميع البرامج الكلامية حول تنمية الريف. وهاهي ذي السلطة من جديد تلوك نفس الكلام في إطار ما أسمته بمشروع: “الحسيمة منارة المتوسط”.
اقتصاد هش ومتخلف
تعد منطقة الريف من أكثر المناطق تضررا بالأزمة الاقتصادية التي يشهدها المغرب، ليس بالنظر للعوامل الاقتصادية والتاريخية الآنفة، ولكن أيضا بالنظر إلى وضع المنطقة الاقتصادي الحالي، المتسم بضعف الاستثمارات الصناعية (8). فليس بإقليم الحسيمة، على سبيل المثال، سوى 95 مؤسسة صناعية، من ضمن 7365 مؤسسة إنتاجية، توفر ما لا يزيد عن 1093 منصب شغل. في حين تهيمن التجارة الصغيرة على المدينة، حيث يبلغ عدد المؤسسات والحوانيت التجارية 6000، وهي متضررة بدورها بسبب الركود التجاري جراء نقص تحويلات المهاجرين المالية ، وتعاني من هيمنة المؤسسة التجارية الضخمة “مرجان”. كما أن الصناعة التقليدية لا توفر سوى حوالي 10300 فرصة عمل.
ورغم توفر منطقة الريف على 72 كلم من السواحل وميناءين في الحسيمة و”كالا إريس” بجماعة بني بوفراح، لا يتيح قطاع الصيد البحري سوى 3288 فرصة عمل مباشر (و206 غير مباشر) ومعظمه صيد تقليدي يحوز 582 رخصة صيد من مجموع 659 رخصة. وتبقى إنتاجية هذا القطاع ومردوده المالي ضعيفين جدا قياسا بمناطق أخرى، ففي سنة 2013 تم تفريغ إنتاج لم يتجاوز 10 آلاف طن بقيمة حوالي 110 مليون درهم، مقابل حوالي 41 ألف طن بقيمة ناهزت 490 مليون درهم في جهة طنجة تطوان، فضلا عن كون القطاع يئن تحت وطأة النهب الذي مارسته الأساطيل الأجنبية خاصة الإسبانية، والاحتكارات وعدم توجيه منتجاته نحو تلبية حاجات سكان المنطقة (ثمن السمك مرتفع جدا في مدينة الحسيمة مقارنة مع مدن داخلية).
ورغم غلبة الطابع القروي والنشاط الفلاحي، لا تتجاوز مساحة الأراضي الصالحة للزراعة 171 ألف هكتار، 75% منها مخصصة لزراعة اللوز والزيتون والشعير والقمح الطري. وتظل هذه النسبة ضعيفة مقارنة مع إقليم تاونات مثلا الذي تبلغ فيه المساحة المخصصة للزراعة أزيد من 340 ألف هكتار. هذا، بالإضافة إلى تراجع النشاط الفلاحي في سهل النكور الذي أصبح وجهة مفضلة للوبيات العقار، ما جعل المنتفضين في الريف يضمون إلى مطالبهم “جعل سهل النكور منطقة فلاحية لا منطقة إسمنتية تتسابق إليها لوبيات العقار”. أضف إلى ذلك التقلص المستمر للأراضي الصالحة للزراعة بسبب طبيعة التضاريس وضعف نوعية التربة، وانتشار التعرية المائية التي تتسبب في تدهور التربة بين 30 و70 طن في الهكتار كل سنة، وهو ما يمثل إحدى أعلى النسب المسجلة على الصعيد العالمي، كما أن الثروة الغابوية تفقد سنويا آلاف الهكتارات بفعل استعمال مكثف للخشب في إنتاج الطاقة إضافة إلى الرعي المكثف. (9)
ويبقى القطاع البنكي والمالي من أهم الأنشطة في المنطقة، بالنظر للرواج التجاري الذي تعرفه المنطقة خاصة مدينة الناظور، بفعل التجارة المهربة مع مدينة مليلية المحتلة، وبفضل تحويلات المهاجرين المتحدرين من الريف. لكن مساهمة القطاع البنكي في تنمية المنطقة تظل منعدمة، بحيث يكتفي بقروض الاستهلاك وتمويل بعض الأنشطة الفردية المحدودة(10)، مع تحويل رأسماله نحو المركز لإعادة استثماره في المدن الكبرى (الدار البيضاء وطنجة وغيرهما). كما أن جل استثمارات المغاربة المهاجرين تتجه نحو العقار بنسبة 84% من الاستثمارات منها 71.3 % للعقار المبني و12.38 % للعقار غير المبني (11).
وحتى السياحة قد يكون دورها مهما في الريف بفعل مؤهلات طبيعية مهمة (12 شاطئ تمتد على مسافة 15 كلم)، تظل غير مستثمرة على الوجه المطلوب، بسبب ضعف بنيات النقل التحتية، وعزلة المنطقة، بالإضافة منافسة أقطاب سياحية اخرى مثل طنجة، ومحور مراكش أكادير.
أوضاع اجتماعية كارثية وحقوق مهدورة
تتخذ الأزمة الاجتماعية بمنطقة الحسيمة أبعادا خطيرة بفعل تهميشها طيلة عقود من الزمن، وغياب أنشطة اقتصادية منتجة مستوعبة لليد العاملة، لاسيما الشباب الذي قدر ب 170 ألف (15 و39 سنة) حسب نشرة الإحصاء لمندوبية التخطيط في سنة 2012، منهم زهاء 54 ألف بالوسط الحضري، يعيش معظمهم أوضاع اجتماعية صعبة، حيث بلغ مستوى البطالة، في نفس السنة 46 % في صفوف حاملي الشهادات المتوسطة والعليا، ما يعادل تقريبا ضعف المعدل الوطني ( 26% )، ما يفسر تصدر الشباب للمظاهرات وقيادتها. بعد أن استنفدوا كل أشكال المطالبة بالشغل، سواء بالاحتجاج في الشارع، أو تقديم طلبات عمل إلى الوكالة الوطنية للتشغيل وإنعاش الكفاءات، إذ من أصل 495 طلب عمل تمت الاستجابة ل20 طلب فقط؟.
كما تشهد المنطقة خصاصا مهولا في مؤسسات التعليم لاسيما في البلدات والمداشر الريفية (بلغت نسبة الأمية في منطقة الحسيمة حوالي 53% مقابل 36% في جهة طنجة -تطوان)، بالإضافة إلى غياب مؤسسات جامعية، ما يدفع الأسر إلى تحمل نفقات تعليم أبنائها بمدن جامعية نائية. هذا دون الحديث عن تخلف البنيات الصحية ونقص عدد الأطباء، بحيث لا توفر مؤسسات الصحة بالإقليم سوى 488 سرير و142 طبيب لأزيد من 400 ألف نسمة، أي سرير لكل 820 نسمة وطبيب واحد لحوالي 2817 مواطن، مقابل سرير واحد لكل 130 نسمة وطبيب واحد لكل 214 نسمة في الرباط. أضف إلى ذلك أن مؤسسات التعاون الوطني لا توفر بإقليم الحسيمة أية دار للأمومة أو مراكز اجتماعية أو تربوية أو إقامات للطلبة او مؤسسات للتكوين المهني (12).
خاتمة:
خلاصة الأمر، أنه مما لا شك فيه أن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم بطالة الشباب خريجي الجامعات، هو سبب تصدر المطالب الاقتصادية والاجتماعية للحراك الشعبي بالريف، والذي كشف عن عمق التناقض بين طموحات ومطالب الجماهير الريفية المسحوقة، وطبيعة سياسات الولة الاقتصادية والاجتماعية. فجماهير الريف المنتفضة تطالب بالتشغيل والصحة والتعليم والماء الصالح للشرب وخفض تسعيرة الماء والكهرباء وتشييد الطرق وتوزيع عادل للثروة والحفاظ على الثروات البحرية والمائية والغابوية، ورفع التهميش ووقف نزع أراضي الفلاحين الصغار. وهي مطالب لا يمكن، في نهاية المطاف، للنظام الاقتصادي الحالي أن يستجيب لها بشكل فعلي تام ودائم، إذ يستوجب تحقيقها تغييرا جذريا للسياسات المتبعة، بل إن مجرد التعبير عنها يستلزم وجود ديمقراطية فعلية تسمح للمتضررين بالتظاهر والاحتجاج وتنظيم أنفسهم في هيئات ولجان، وهذا ما انتبه إليه الحراك الريفي الذي طالب برفع العسكرة عن الريف بكل ما يعنيه ذلك من احترام فعلي للحريات الديمقراطية في التظاهر والاحتجاج والتنظيم، ورفع الحواجز الأمنية الكثيرة التي تعج بها المنطقة، وكذا إطلاق سراح معتقلي حركة 20 فبراير (12 سنة سجنا نافذا في حق الرفيق بنشعيب)، وكشف حقيقة جريمة التي حرق 5 شبان في وكالة بنكية في اليوم الأول لخروج حركة 20 فبراير للتظاهر في معظم مدن المغرب (20 فبراير 2011)، بالإضافة إلى محاكمة الجناة الحقيقيين المسؤولين عن مقتل الشاب محسن فكري.
إن الانتفاضة الريفية، على الرغم من الآمال العميقة التي رسختها في نفوس كل التواقين لمغرب حر وديمقراطي، يبدو على أنها تصطدم، مرة أخرى، على غرار معارك شعبية سابقة، بغياب القوة السياسية التي تبلور مطالبها في برنامج سياسي يمزج بين المطالب السياسية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية، بشكل يضع سلطة الرأسمالية التابعة ونظام حكمها الفردي موضع اتهام من قبل المنتفضين ويطرح إمكانية تجاوزها عمليا، وهذا كله متوقف على تدارك الفجوة الهائلة بين وضع اليسار الثوري والمهام الجسيمة التي تلقيها على عاتقه دينامية الصراع الطبقي التي لا ترحم، إن هو أراد أن تكون له الكلمة الفصل في المعارك القادمة.
مهدي رفيق
23 يونيو 2017
هوامش:
(1)- ألكس كالينيكوس؛ أساطير حول ماركس؟ يونيو 1999، ترجمة سمر علواني – مجلة الشرارة.
(2)- ألكس كالينيكوس؛ عودة الثورات العربية، أبريل 2011.
(3)- كان هاجس الفرنسيين، بتدخلهم إلى جانب الإسبان بالريف، هو خشية قيام حرب في المغرب ضدهم، كالتي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي، فجندوا 325 ألف عسكري من فرنسا ومن المستعمرات و400 ألف مغربي. وقد أشار وزير خارجية فرنسا في عهد إدجار فور إلى أهمية الترسانة العسكرية التي واجهت بها فرنسا حرب الريف بقوله: “كان لدينا على خط النار 32 فرقة عسكرية و44 سربا و60 جنرالا بقيادة المارشال بيتان”. أنظر علي بنطالب؛ آثار التدخل الأجنبي على التنمية بمنطقة الريف؛ الريف وإشكالية التنمية، سلسلة الندوات والمناظرات رقم 36، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛2014.
(4)- تشير الإحصائيات المتوفرة إلى تجنيد حوالي 35 ألف من سكان الريف في بداية الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب حركة فرانكو الفاشية، وقد كان العسكريون الإسبان يرغمون، بالقوة، الريفيين على الانضمام للجيش ، ولتحقيق هذا المبتغى تم فرض حصار على بعض القبائل وحرمانها من التزود من المواد الأولية ومطاردة الممتنعين في الأسواق والحقول والمراعي للزج بهم في حرب لا تهمهم. أنظر بوبكر بوهادي ” منطقة الريف خلال الحرب الأهلية الإسبانية” ص16.2006
(5)- لم تكن إسبانيا قوة اقتصادية كما حال فرنسا، وقد أثر هذا الجانب بشكل سلبي على مناطق نفوذها في المغرب، ولاسيما في الريف ” بحيث كان الرأسمال الإسباني رأسمالا متخلفا يعاني من مشاكل متعددة، وقد زاد من هذا التخلف فقدان إسبانيا لمستعمراتها القديمة في امريكا اللاتينية سنة 1898″. أنظر علي بنطالب؛ آثار التدخل الأجنبي على التنمية بمنطقة الريف؛ الريف وإشكالية التنمية، سلسلة الندوات والمناظرات رقم 36، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛2014.
(6)- تم تأسيس شركة ألمانية-إسبانية لتنظيم مقايضة حديد المنطقة بالسلع الألمانية، مقرها بتطوان. وتجاوز ما حصلت عليها ألمانيا أكثر من مليون طن سنويا. أنظر بوبكر بوهادي ” منطقة الريف خلال الحرب الأهلية الإسبانية”.2006
(7)- Chaara, 1994, L’héritage colonial espagnole dans le Maroc du Nord, une contrainte majeur au développement du rif ; in Revue de la Faculté des lettres, N7 , Tétouan, P128.
(8)- النشرة الإحصائية حول جهة تازة- الحسيمة- تاونات ز المندوبية السامية للتخطيط . سنة 2013.
(9)- محمد مهدان، مساهمة وزارة الفلاحة في تنمية المناطق الريفية، ص240.
(10)- أنظر وثيقة مطالب الحراك الشعبي بإقليم الحسيمة.
(11)- محمد حمجيق؛ الهجرة الدولية والتنمية بإقليم الحسيمة. الريف وإشكالية التنمية، سلسلة الندوات والمناظرات رقم 36، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛2014.ص189
(12)- النشرة الإحصائية السنوية للمندوبية الاسمية للتخطيط لسنة 2014.
اقرأ أيضا