الحراك الشعبي بالريف: حصيلة وآفاق
قضى الحراك الشعبي بالريف 9 أشهر، منها اثنين الأخيرين المطبوعين بتنظيم الدولة حملة إعتقالات بقصد شل الحراك. اختار النظام مصادرة الحريات وتصعيد القمع، بمواصلة الإعتقالات، وبإضافة تهم جديدة لأفواج المعتقلين. كما استمرت الحملة التضليلية الرسمية للنيل من مصداقية الحراك ومشروعيته.
حصيلة أولية
عمدت الدولة إلى تضييق الخناق على التعبئة الشعبية بتعنيف متظاهرين مسالمين عزل، وبسعي حثيث لتجسيد ما يمكن اعتباره ملبيا للمطالب الإجتماعية مع إظهار أنه مقرر قبل الحراك وضحية عدم تنفيذ. وقد يُبذل جهد إستثنائي لتشغيل أكبر عدد من الشباب بالنظر إلى كونه أحد المحركات القوية للمقاومة الإجتماعية الراهنة. إضافة إلى إجراءات أخرى سيجري إظهارها على أنها محض تنزيل لعمل حكومي مقرر سابقا، مع نفخ إعلامي في كل ما سيبدو إستجابة لمطالب الحراك.
غاية هذا كله تبرئة السياسة النيوليبرالية (سياسة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) المسؤولة عن الأهوال الإجتماعية التي ألقيت فيها غالبية الشعب، وتبرئة الإستبداد السياسي الذي يرعى نهب مقدرات البلد، وإغتناء الأقلية بإفقار الأكثرية.
وقد تلي هذا تَضحية بأكباش فداء من مُستويات مختلفة، سيرا على عادة الملكية المتمثلة في إلقاء جرائر سياسة الدولة على الأحزاب السياسية لتُعلي مكانتها هي.
ويَكون هذا مخرجا مفيدا للنظام بتبرئة ساحة الحاكمين الفعليين، وصَون صورة الملكية التي إهتزت بقوة بفعل الجذرية السياسية للحراك الريفي الذي أعاد الإعتبار لجمهورية محمد بن عبد الكريم الخطابي، ونزْع كل مصداقية عن مُؤسسات ديمقراطية الواجهة وأحزابها.
تتمثل نقطة الضعف الأساسية في تَخلف التعبئات بالمدن الكبرى لاسيما التي سبق أن شهدت تعبئات قوية مثل مراكش وطنجة حول خدمة الكهرباء. ولم ترق المقاومة الإجتماعية، بفعل تشتتها وافتقاد تنظيم على صعيد وطني، إلى مستوى إرغام الدولة على وقف عدوانها النيوليبرالي المدمر للمكاسب الاجتماعية، ولا إعادة نظر في التزاماتها مع المؤسسات المالية الدولية. ما سيجعل أي تنازلات لكادحي الريف ترقيعا محليا، فماذا يعني المستشفى في ظل تغطية صحية من قبيل رميد (المساعدة الطبية للمعوزين) أو حتى انعدامها، مع إلغاء ما تبقى من مجانية خدمات الصحة.
أكبر مساندة حظي بها النظام في تصديه للحراك الشعبي جاءته من بيرقراطيات النقابات العمالية. فهذه تدعي كلاما مساندتها لمطالب الحراك، لكنها عمليا تنزل بثقلها الى جانب النظام باستنكافها عن إقران دعمها اللفظي المنافق بأفعال نضالية حقيقية: كانت مسيرة شموع الكدش يوم 20 يونيو محض تضامن رمزي وطقس من طقوس إحياء الذكرى (انتفاضة 1981 بالبيضاء). لا غرابة في الأمر فقد سبق أن أسْدت للدولة الخدمة ذاتها إبان دينامية 20 فبراير 2011/2012. كما أن هذا الموقف المُتخاذل استمرارٌ لخذلان تلك البيروقراطيات لكل التعبئات العمالية والشعبية للسنوات الست الأخيرة، لا شك أن أبرزها وأقدرها على الضغط إضرابُ شغيلة اوتوروت الذي تم إيقافه يوم 30 مايو 2017 بمناورة من وزارة الداخلية إنطلت على القيادة النقابية للقطاع لضعفها السياسي. إلى جانب مجاراة تلك البيروقراطية لكل الهجمات التي استهدفت مصالح الأجراء (صندوق الموازنة، التقاعد، اقتطاع من أجور مضربي الوظيفة العمومية، حق الإضراب، تفكيك نظام الوظيفة العمومية…) هذه البيروقراطيات يحكمها ارتباط مصالحها بالنظام (دعم مالي مباشر، فرص إغتناء، إمتيازات، تمثيل بعدد من مؤسسات الدولة…) علاوة على حرصها على دوام نظام الإستغلال المقنع بخطر انهيار “الاستقرار”، حيث لا تتردد في استعمال فزاعة مآسي الوضع بأقطار مثل سوريا واليمن لإبتزاز القاعدة النقابية. تتحمل قسطا من المسؤولية السياسية عن هذا الخذلان أحزاب فيدرالية اليسار لأنها ماسكة بزمام الأمر في جهاز الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
بعد أن كسب النظام دعم البيروقراطيات النقابية، ومع قلة التعبئات الشعبية الوازنة خارج الريف، باتَ بإمكانه المراهنة على الوقت لإنهاك الحراك.
وأخشى ما يخشاه النظام هو أن تَكون تنازلاته، وإن الضئيلة، حافزا لتعبئات شعبية بمناطق أخرى. هذا لأن عتبة واضحة قد تخطاها الإستعداد النضالي لدى الجماهير الكادحة التي باتت تَرُد على كل عدوان يهم مناحي حياتها اليومية.
آفاق النضال
أجبر حراك الكادحين الدولة على الركض في كل اتجاه للرد على المطالب الشعبية، ما يؤكد أن مواصلة النضال دون سواه طريق لإنتزاع مكاسب فعلية، أي الإستجابة الكاملة للملف المطلبي، ومن أجل هذا يقع على كاهلنا:
- توحيد جهود كل أنصار حراك الريف والمطالب الإجتماعية عامة. وبالدرجة الأولى معالجة القصور النقابي بتوحيد جهود معارضي التواطؤ البيروقراطي مع النظام على قاعدة الدفاع الفعلي عن مصالح الأجراء وَرَد الهجمات القادمة (قانون الإضراب، مواصلة الإجهاز على مكاسب التقاعد، ….) ومَد جُسور التعاون مع حركة النضال الإجتماعي برمتها.
- التعبئة وطنيا على صعيد الحريات العامة، فمَع تصاعد المقاومة الإجتماعية سيمتد قمع الدولة ويشتد. والتصدي لسعي الدولة إلى عَزل النواة الطليعية وجرجرتها في المحاكم والسجون لتكريس قاعدة أن الدولة المستبدة لا تتساهل ولا تنسى كل من تحداها (تجربة سيدي افني- تجربة الأساتذة المتدربين ونكث بوعود وزير الداخلية الحالي بوساطة ما سمي الائتلاف المدني…)، وذلك بالنضال /ن أجل إطلاق المعتقلين وإسقاط تام للمتابعات وسحب قوى القمع بكل تشكيلاتها.
- مواصلة التعبئة التحتية، وبناء الحراك تنظيميا (اللجان المنتخبة وذات سلطة القرار الجماعي) لتحصين المكاسب وممارسة الضغط لتنفيذ الوعود، فقد كان غياب هذا النوع من التعبئة و البناء أحد اسباب هزم النظام لحراك ايفني- ايت باعمران في العام 2008، وحَرف ديناميته نحو مخرج انتخابي سرعان ما تبين مأزقه.
لا يمكن إرغام الدولة على تقديم تنازلات حقيقية دون نضال موحد على صعيد وطني. توحيد من هذا القبيل يتطلب هياكل ديمقراطية من أسفل إلى أعلى: لجان منتخبة قابلة للعزل، وجموع عامة ديمقراطية، وحرية كاملة في التعبير.
إن التوجس من أي هيكلة للمقاومة الإجتماعية ناتج عن تجارب مريرة دمرت تجارب نضالية سابقة، أسهم فيها قسم من اليسار. تقاليد الديمقراطية من تحت ضعيفة جدا ببلدنا: لا لجان إضراب منتخبة إبان الكفاحات العمالية، فيما يجري تدبير معارك شعبية بأجهزة فوقية معظمها عبارة عن تنسيق بين أجهزة منظمات قائمة (أحزاب نقابات ، جمعيات ..)
- أما على الجبهة النقابية، فمهمة النقابيين الكفاحيين هي الضغط لتجسيد التضامن مع حركة النضال الإجتماعي في مبادرات عملية قوية، لا سيما الإعداد لإضراب عام وطني من أجل المطالب العمالية والشعبية. ويُعد التنصل من هذه المسؤولية طريقا سريعا نحو إفلاس تام بعد المصير البئيس الذي شهدته تجربة “التوجه الديمقراطي” بالإتحاد المغربي للشغل.
- توطيد أواصر التعاون وتبادل الخبرات بين قوى اليسار الجذري المنخرطة في الحراك الشعبي، وطرح مسألة بناء أدوات النضال العمالي والشعبي للنقاش الرفاقي. فشروط تقدم هذا النقاش وذلك التعاون الميداني باتت أفضل بفعل الاختمار النضالي الذي يشهده البلد.
- الحذر والتحذير المُستمر من مناورات النظام الساعية إلى الإلتفاف على مطالب الحراك بتنازلات تنفخ فيها الدعاية الرسمية بقصد تدويخ الأقسام المتأخرة سياسيا وشل اندفاعها النضالي وتقسيم صف الجزء الأكثر وعيا.
- النضال لانتزاع حق المواطنين في اتخاذ قرار قبول أو رفض ما يعرض عليهم كتلبية لمطالبهم، وذلك بإتاحة تنظيم تجمعات عامة بالساحات والقاعات العمومية. إن تضحيات جماهير الريف وتشبثها بمطالبها تجعل حقها في التقرير بصدد مآل نضالها وتقييم رد الدولة على مطالبها حق حصري لها وغير قابل للتفويض لأي جهة أو أشخاص عوضا عنها.
بقلم : المناضل-ة
اقرأ أيضا