فتنتهم وكفاحنا
كلما رفع كادحو المغرب-وغيرهم من بلدان المنطقة-رؤوسهم للنضال ضد الاستبداد أو حتى من أجل تحسين طفيف في ظروف عيشهم، إلا وصبت عليهم صواعق التخويف والترهيب بمستقبل شبيه بحاضر سوريا وليبيا واليمن.
قاربت نضالات الكادحين بالريف أن تكمل عاما من الزمن، انضافت إليه موجة من التضامن الشعبي في كل ربوع الوطن، وشحذت أسلحة التهجم وتشويه هذا الوجه المشرق من نضال شعبنا؛ وانهالت على رؤوس الجماهير اتهامات العمالة للخارج وتلقي التمويل الأجنبي من طرف الذي لا يستحيون من قول ما شاؤوا خدمة للاستبداد، وفي نفس الوقت من طرف مدعي الغيرة على مستقبل “الوطن” واستقراره الذين يحاولون إرهاب الجماهير بخطاب الفتنة لثنيها عن النضال.
تتعدد الأقلام وتختلف الأبواق، لكنها تخدم مصلحة واحدة ووحيدة، دفع الجماهير لتفضيل زرائب الطاعة والخنوع، أي قبول الواقع القائم كما هو ولما لا السكوت عن المزيد من الاضطهاد والاستغلال وقضم الحقوق.
سيفضل العامل المغربي بناء على هذا المنظور كل أشكال تهشيش ظروف العمل ونزع التقنين عنها والهجوم على حقوق الإضراب والانتماء النقابي والحق في التقاعد… وهي على كل نتاج عقود من نضال كفاح أجيال سابقة لم يرهبها مناخ “الفتنة” في عهود الجلادين من أمثال أوفقير والدليمي والبصري، وهم ليسوا إلا خداما أوفياء للنظام المستبد.
إن خطاب الفتنة والحرص على الاستقرار والتخوف من مستقبل مظلم، خطاب رجعي، سواء تلفظت به أفواه أيديولوجيي النظام أو خطته أقلام التقدميين ومدعي المعارضة وشتى أصناف “المثقفين” والأكاديميين. إنه خطاب رجعي لأنه يقف في وجه التقدم التاريخي، ويكبل إرادة الكادحين في التخلص من نظام يجثم على أنفاسهم ويمنع تحررهم.
وهناك صنف آخر يستعمل “الفتنة” لا لتخويف الجماهير بل لابتزاز “تنازلات” سياسية من الاستبداد، معلنين استعدادهم لمساعدته على وأد تباشير النضال الشعبي في حالة تقديمه لهذه التنازلات، لكن كل تقدم للنضال سيدفع هؤلاء إلى ركوب موجة تحميل الكادحين مسؤولية القمع الشرس لأنهم بتطرفهم جعلوا الرجعية أكثر شراسة.
خطاب الفتنة خطاب رجعي لأنه يحمل مسؤولية ما وقع في سوريا وسائر البلدان التي عرفت توحل السيرورة الثورية للكادحين وللقوى الثورية بدل تحميلها للأنظمة المستبدة التي رفعت الشعار المفضل لدى شبيحة سوريا: “الأسد… أو نحرق البلد”، معلنين بذلك ما لم يستطع حاملو خطاب الفتنة في المغرب قوله صراحة: “الخنوع أو سنبصم للنظام بأصابعنا العشرة لحرق البلد”.
عرف المغرب منذ انطلاق حركة 20 فبراير والنضالات الاجتماعية المصاحبة لها، انتعاش خطاب الفتنة، وشجعه النظام بما يملك من خسة، بالتسامح أمام المظاهرات المضادة لنضالات 20 فبراير وحتى بحفزها، في الوقت التي قمعت فيه نضالات الحركة وسائر النضالات الاجتماعية.
من المسؤول عن “الفتنة” هل الجماهير والقوى المناضلة التي ترفع دوما شعار السلمية وتحرص على حماية المرافق العامة والخاصة أثناء التظاهرات، أم النظام وأجهزته القمعية الذين يتدخلون في حملات قمع جماعية لا تستهدف المناضلين والمحتجين فقط بل حتى غير المحتجين وتخرب الممتلكات، لإرهابهم ومنع التحاقهم بصفوف النضال.
من يحرض قسما من الشعب ضد القسم الآخر، ويعدد التهم الزائفة من زندقة وعمالة للخارج، لتبرير قمعهم وحتى لجعل الاعتداء عليهم من طرف “البلطجية” مقبولا؟ أليس من يقوم بهذا هو من يحرض على “الفتنة”، بل يعلن صراحة أنه مستعد لكل الاحتمالات بما فيها حرق البلد للحفاظ على مصالحه الطبقية والسياسية؟
حينما يوضع الكادحون أمام خيار: الاستقرار أو الفوضى والرعب والإرهاب، ألا يعني ذلك أن الذي يضع هذا الخيار أمام الجماهير، هو المسؤول والمستعد للجوء إلى الرعب والإرهاب في حالة تفضيل الجماهير النضال من أجل تحسين حاضرها.
لا غبار في أن هذا النظام القائم هو من يفضل إدخال البلاد في مجاهل الفوضى والتفكك، ولا عجب في ذلك ما دام وريث من فضل القضاء على ثلثي الشعب الرافض لحكمه للعيش مع الثلث القابل به.
ساهم انطلاق السيرورة الثورية نهاية 2010 والسقوط السريع والمدوي لنظامي بن علي ومبارك في حفز النضال السياسي والاجتماعي بالمغرب، لكن توحل السيرورة الثورية والانتصار الساحق للثورة المضادة في سوريا ومصر واليمن، أعادا الجماهير المغربية إلى سلبية لا تعني أنها قابلة بالوضع كما هو عليه، ولكن إلى انتظارية قائمة على تصديق شعار “الإصلاح في ظل الاستقرار”.. وتفضيل الحاضر القائم على الأمن والاستقرار مع الحرص على التقدم السلمي نحو مستقبل أحسن من الحاضر.
لكن النظام وواجهته الحكومية تجعل من هذا شيكا على بياض لاستئناف ما جمدته من هجومات في أثناء مد النضال الجماهيري، وتمعن في احتقار هذه الجماهير “السلبية والمنتظرة”، وهو ما يكون أساس انبعاث النضال الجماهيري مستقبلا.
صدقت جماهير المغرب منذ المصادقة على دستور يوليوز 2011 وتغيير واجهة الاستبداد الحكومية بإدماج الاحتياط الإسلامي، أوهام التغيير في ظل الاستقرار، وطيلة الست سنوات الماضية، لم يتحقق من المعادلة إلا الاستقرار بينما الإصلاح استبدل بحرب طبقية حقيقية ضد الشعب ومدمرة لمكاسب عقود النضال.
انجلاء هذه الأوهام هو الذي يدفع الجماهير حاليا للاحتجاج، وليس فقط مشهد الموت المروع لضحية الطحن الهمجي بالحسيمة في أكتوبر 2016، ولا فيديوهات التحريض على شبكات التواصل الاجتماعي.. ولن يستطيع التمويل الخارجي مهما بلغت أحجامه أن تدفع آلاف الكادحين للاحتجاج.
إن التمويل الخارجي الحقيقي والذي يجري تحت الأنظار الراضية للنظام ويشجعها، هو الموجه لدفع الكادحين خارج سكة النضال والبحث عن طريق أخرى لتلبية الأساسي من حاجياتها اليومية؛ ويتعلق الأمر هنا بالعمل التنموي الذي يشجعه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
إن ما يدفع الجماهير للنضال ليس حفنة محرضين قادرين على بث الأفكار في أذهانها، فواقع القمع السياسي ومحاصرة حرية التعبير وضعف إن لم نقل ضمور اليسار الجذري بالمغرب، لا يترك فرصة أمام تحقق هذا الخيار، ولا يستطيع اليسار الآن مخاطبة ملايين الجماهير، ولن يكون بوسعه ذلك بوسائله البسيطة، خصوصا أنه محروم من الولوج إلى الإعلام ويفضل قطب آخر منه عدم استعمال منبر البرلمان لمخاطبة الشعب وتحريضه.
إن الجماهير تتدفق إلى النضال غصبا عنها وفي نفس الوقت بإرادتها، غصبا عنها لأنها لا ترى أي طريق آخر لتحقيق مطالبها باستثناء الاحتجاج والنضال بعد أن سدت أبواب “الإصلاح” أمامها، وبإرادتها لأنها تصمد أمام القمع والتخويف بخطاب الفتنة.
تخاف الجماهير من خطاب الفتنة وتتراجع أمام خطاب الترهيب والتخويف، لسبب بسيط جدا، هو أنها لا ترى أمامها قوة سياسية حقيقية قادرة على موازنة أعدائها المنظمين والأقوياء.. إنها لا ترغب في المجازفة بحاضر رديء ولكنه آمن، لصالح وعود مستقبل مزهر لكن مهدد بمخاطر التوحل والفوضى كما رأت بأم عينيها في سوريا وليبيا واليمن.. الخ.
ستخرج سوريا وليبيا من هذا المستنقع فتية، وستخرج جماهيرها من هذه الكبوة قادرة على المضي بإصرار نحو مستقبل أكثر ازدهارا، بينما ستبقى الشعوب التي تفضل الاستقرار اللحظي- وهو على كل حال استقرار مغشوش مبني على الحرب الطبقية- رازحة في “زرائب العبيد”.. وكلما تأخر شعب في دخول غمار الاحتجاج والثورة كلما كان الثمن أكثر قسوة.
ليس خطاب الفتنة إلا انعكاسا مقلوبا لرعب الطبقة السائدة ونظام حكمها من نضال الجماهير المنظم والواعي، فتحت النضالات الجبارة تضطر البرجوازية ونظام حكمها على تقديم تنازلات [لنتذكر تنازلات 20 فبراير]، لدرء تطور نضال الجماهير إلى مستوى تدمير مجمل النظام السياسي والاقتصادي.
سبب خوف الكادحين من الفتنة كما ورد أعلاه هو غياب قوة سياسية ذات مصداقية تطمئن الكادحين بأن النضال سيضمن تحقيق مطالبهم، وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى تكبيل أيدي الطبقة العاملة المغربية وتنظيماتها النقابية بقيود التخبيل الليبرالي والقمع البيروقراطي.
يصر المستبدون وأقلامهم- المأجورة وحتى المقتنعة- على تسمية نضال الجماهير بالفتنة. لنجعل فتنتنا منظمة وواعية؛ إن مهمة المناضلين اليساريين والتقدميين هو العمل على بناء القوة السياسية التي ستعمل على إطلاق المارد العمالي من القمقم الذي حبس فيه لعقود، ولن تكون هذه القوة سوى حزب العمال الاشتراكي المستند على نقابات مكافحة.
وائل المراكشي
اقرأ أيضا