دروس الانتفاضة الريفية
بقلم مهدي رفيق
تشهد منطقة الريف منذ ما يزيد عن سبعة أشهر مشاهد رائعة من التلاحم بين الجماهير الشعبية المنتفضة لأجل تحقيق كرامتها وحقها في حياة لائقة قوامها تشغيل وخدمات صحة وتعليم وبنيات تحتية ، ولكن أيضا ضد السلطة المستبدة التي سحقت محسن فكري، بائع السمك، بتلك الطريقة البشعة في حاوية أزبال، وتسحق كل يوم بترسانتها القانونية والقمعية كل مظاهر الحرية السياسية الحقيقية.
إن صمود الجماهير الريفية الكادحة وثباتها منقطع النظير في الدفاع عن مطالبها، وفي وجه القمع ومختلف المناورات التي سعى ويسعى بها النظام إلى إجهاض حركتها المطلبية سيكون له، و لاشك ، أثر إيجابي بالغ الأهمية على معنويات الكادحين وإقدامهم في مختلف ربوع البلد.
فإذا كانت هناك دروس ينبغي استخلاصها اليوم من الريف المنتفض بعد 7 أشهر على اندلاع الاحتجاجات المطالبة بتقديم المسؤولين الحقيقيين عن مقتل فكري للمحاكمة ورفع العسكرة عن الريف، فهي:
أولا: إن ما يقال عن مغرب الاستثناء وقدرة الدولة على الاستجابة لمطالب حركة 20 فبراير وتجاوزها لموجة الانتفاضات التي عرفتها منطقتنا في مطلع عام 2011 محض هراء، فما يجري في الريف يكشف بجلاء أن مطالب حركة 20 فبراير لا زالت قائمة وأن النضال الشعبي لأجل تحقيقها قد يتراجع مؤقتا لهذا السبب أو ذاك لكنه لا يمكن القضاء عليه بمحض إجراءات وتنازلات شكلية، لأن جذوره تمتد في صلب السياسات النيوليبرالية المتبعة وانعدام الحرية السياسية الفعلية؛
ثانيا: إن وحدة الجماهير الشعبية والتفافها حول مطالب موحدة واستنادها على تنظيمات قاعدية (لجان شعبية لتنظيم الحراك في معظم مناطق الريف) هي الكفيل بخلق ميزان قوى حقيقي في مواجهة عنف السلطة ومناوراتها، وتفنيد مزاعمها حول الفوضى والانفصال والتآمر الخارجي؛
ثالثا: إن انتفاضة الريف المستمرة تكشف أن الفوضى الحقيقية هي ما يعيشه عمال المغرب وكادحوه منذ عقود من قمع واستغلال وهدر لأبسط الحقوق، وهي أيضا النهب المخطط لثروات بلد بأكمله لصالح طبقة ضئيلة في المجتمع وتجويع الباقي، وأن التآمر الحقيقي حول مصالح البلد هو ما تقوم به الطبقة البرجوازية بتوقيعها على اتفاقات استعمارية جديدة (اتفاقات التبادل الحر، واتفاقات المديونية الخارجية،…) لرهن مقدرات الاقتصاد المغربي وجعله بيد الشركات الأوربية والأمريكية. الفوضى الحقيقية هي أيضا ما نعيشه من تدمير منظم لمعظم الخدمات الاجتماعية بتسليع الصحة والتعليم، وتكسير جماجم خريجي الجامعات والمعاهد العليا المطالبين بحقهم العادل في العمل؛
رابعا: إن مساحة الحرية التي انتزعتها الجماهير المنتفضة في الريف، وتحريرها للفضاء العام المحاصر منذ سنوات، ليسا شيئا خارقا للعادة، فالنظام الذي خلقته الجماهير بتنظيماتها المتعددة ولجانها الشعبية في حواضر الريف وبلداته وقراه، حيث تناقش مصيرها وتوحد وتنسق أعمالها وحركتها النضالية، هو الذي مكن الجماهير من تعبير حقيقي عن مطامحها وتطلعاتها وكشف زيف “المؤسسات التمثيلية” وكشف عورة الأحزاب والجمعيات الموالية للاستبداد؛
خامسا: إن الانتصارات التي حققتها الجماهير الكادحة في الريف على كل المؤامرات التي نظمها النظام وأزلامه لتحريف مسار هذا الحراك العظيم، بقدر ما تعيد الثقة للشعب الكادح، فإنها تبين للمرة الألف أنه لا يمكن العودة إلى مرحلة ما قبل حركة 20 فبراير، التي دشنت طورا جديدا من النضال الشعبي وأعادت الاعتبار لأشكال التنظيم الذاتي للجماهير، وزرعت ثوابت راسخة في الوعي الجماعي لكادحي المغرب: حرية كرامة عدالة اجتماعية، مشكلة بذلك هوية مطلبية تحررية سيكون لها الكلمة الفصل في معركة طويلة النفس ضد مركب الاستبداد والاستغلال والتبعية؛
سادسا: أمام الشباب الثوري في منطقة الريف بمختلف حساسياته اليسارية والأمازيغية فرصة تاريخية لتوطيد علاقاتهم بالجماهير المنتفضة، فهذه فرصتهم للقيام بأوسع تعبئة نضالية لشرح سياسات التقشف والتبعية والنهب والقمع بهدف رفع الوعي السياسي للمنتفضين وتصليب إراداتهم على مواصلة النضال لتحقيق المطالب؛
سابعا: تمتين الوحدة الشعبية وتعزيزها عبر حملة منظمة لإقناع قطاعات جماهيرية أخرى للانخراط في النضال وحماية وحدة المنتفضين، عبر ترجيح كفة الحوار والنقاش بين الرؤى السياسية والفكرية التي يختزنها الحراك، باعتباره صمام الآمان لاستمرار الحراك وتجذره وامتداده وكسبه لأكبر تضامن ممكن، وبالتالي قدرته على انتزاع مكاسب نوعية من شأنها تقوية ثقة الجماهير في قدرتها على إحداث التغيير المنشود وعلى تحسين ظروف عيشها المادية والمعنوية؛
ثامنا: ويبقى الدرس العظيم الذي أثبته انتفاضة الريف الجارية هو أن التغيير الجذري ممكن في المغرب بفضل وحدة الجماهير المستغلة والمضطهدة، وليس مستحيلا كما تصوره أجهزة الدولة البرجوازية والأحزاب الليبرالية الدائرة في فلكها، وأنه إذا كان هنالك من شيء مستحيل هو الاعتقاد بإصلاح هذا النظام وترميمه، فما بالك ببقائه، وأن استمرار هذا المركب المتعفن من التبعية والاستغلال والقمع ليس في نهاية المطاف سوى نتيجة حتمية لاختلال فادح في ميزان القوى بسبب غياب البديل المأمول، بفضل استمرار أزمة الحركة العمالية والجماهيرية وعجزها عن إعادة بناء منظماتها النقابية والشبابية وفي قلبها أحزابها العمالية الاشتراكية؛
تاسعا: ما يدركه أهالينا المنتفضون في ريف العزة والكرامة هو أن الويلات التي يعانون منها ليست قائمة حصرا في منطقة الريف وحدها. فسياسة التقشف والتهميش والبطالة وغيرها من المشاكل التي يكتوون بها، ليست نتاجا لفساد النخب المحلية في الحسيمة وغيرها من مناطق الريف، بقدر ما هي ويلات يعاني منها شعبنا برمته، فهذه المشاكل مرتبطة باستمرار السياسات النيوليبرالية، التي تخدم الارأسمال الاجنبي و الأقلية الرأسمالية المحلية، وببقاء نظام الاستبداد الذي ينهجها، والتخلص منها رهين بوحدة الكادحين وتضامنهم بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم أو انتمائهم العرقي أو الجغرافي…
وإذا كانت مطالب الريفيين جزأ لا يتجزأ من مطالب عمال المغرب وكادحيه، فإن تحقيقها على النحو الذي يأمله الكادحون في الريف غير متاح سوى بتوحيد نضال جميع المستغلين والمضطهدين ضد نظام الرأسمالية التابعة ببلادنا، لكن هذا لا يعني عدم مساندة ودعم نضالات الجماهير الريفية المنتفضة، ولا يعني أيضا بأن إصرارها وتشبثها بمطالبها لن يفضي إلى تحقيق مكاسب اجتماعية وديمقراطية نوعية على طريق التحرر الشامل والنهائي من قبضة الاستبداد والاستغلال والتبعية؛
عاشرا: إن انتفاضة الريف تثبت لنا، اليوم، كما أثبتته نضالات كادحي الريف عبر التاريخ، أن طريق مواجهة الاستبداد يمر عبر فرض سلطة الشارع، عبر الحركة الجماهيرية، التي قد تخفت أو تتراجع لفترات قد تطول نسبيا، لكنها لن تموت، فالمعارك الجماهيرية ضد الاستبداد والتقشف مهما كانت محدودة أو ضعيفة التأثير، من شأن تجذيرها والحرص على نموها وتقويتها أن يراكم شروط النصر وإلحاق الهزيمة بأعداء الشعب.
وفي نهاية المطاف فما على أعداء الجماهير الشعبية المنتفضة في الريف، إلا أن يدركوا بأن زمن تعبير الكادحين عن غضبهم بتكسير نوافذ الحافلات ومصابيح الإنارة العمومية وإضرام النار في عجلات السيارات قد ولى بلا رجعة. فهذا عصر التنظيم الذاتي واللجان الشعبية المسلحة بإرادة شباب وشابات في عمر الزهور، سلاحهم الوحيد هو اقتناعهم الراسخ بعدالة القضية وعزمهم على مواصلة النضال إلى آخر نفس لأجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية… وعلى تجار الكلمة من إعلاميين وصحفيين مأجورين أن يدركوا، أيضا، أن زمن تزوير الحقائق والكذب قد ولى، فقد فسحت الثورة المعلوماتية وشبكات التواصل الاجتماعي المجال أمام تدفق حر وسريع للمعلومات والأخبار، ومكنت الناس، بذلك، من متابعة الكفاحات الجارية دون حاجة إلى تدخل الأقلام المزورة المحترفة في تجميل صورة الاستبداد وطمس جرائمه.
كل السلطة والثروة للشعب… هذا هو النداء القادم من أصوات المنتفضين في الريف، فالشعب الذي استطاع أن يدفع عساكر الاستبداد على التراجع يوم 18 مايو 2017 بمدينة الحسيمة، متمكنا من فرض إرادته في الاحتجاج والتظاهر ضد خطة الدولة المدعمة من قبل أحزاب الحكومة، قادر على إسقاط هذا النظام…
إن عشرات الآلاف الذين أرغموا أجهزة النظام القمعية على التراجع في ذلك اليوم الرهيب وكسروا شوكة الاستبداد، وألحقوا به هزيمة هي الأولى من حيث أهميتها السياسية بعد تراجع حركة 20 فبراير، قد فعلوا ذلك على خلفية ما راكمه شعبنا من خبرات ونضالات وتجارب، وهذا أمر في غاية الأهمية… والمهم أيضًا هو العمل للحفاظ على استعداد الجماهير للتحرك ولكسب مساحات أوسع في هذا النزال بين معسكر التبعية والاستبداد والاستغلال ومعسكر الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة الفعلية… وهنا يكمن دور كل مناضل تحرري جدير بهذا الاسم.
لم يكن للنضال الشعبي الواعي والمنظم عبر التاريخ إلا أن يجلب الحرية…ولم يكن للاستبداد أن يجلب إلا الفوضى والجوع والهوان.. ولعل أهم رسائل الانتفاضة الريفية الموجهة اليوم إلى عموم كادحي المغرب هو أن وحدة النضال ضد العدو المشترك الذي يسحق الجميع هو طريق النصر… وهو طريق الحرية…فعلى هذا الطريق ينبغي أن نستمر جماعة متراصة في مساعدة شعبنا وعماله على إعادة بناء منظمات نضاله من نقابات وجمعيات واتحادات على أسس ديمقراطية وكفاحية، بهدف مراكمة الشروط الكفيلة بصهر أجود الطاقات المناضلة في منظمة سياسية ثورية جديرة بتنظيم النضال العمالي والشعبي للظفر بالحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.
23 مايو 2017
اقرأ أيضا