في علم الاجتماع القروي
ماذا تمثل الأرض والماء… بالنسبة للإنسان المغربي؟
*إن [هذا السؤال] سؤال عام جدا، إذ من الصعب إعطاء إجابة وحيدة تصلح للمغرب كله. فهناك مناطق –في الجنوب- يكون توفر الماء فيها حيويا تماما، وفي مناطق أخرى –في الشمال- تكون التساقطات الطبيعية غزيرة بما فيه الكفاية وموزعة بشكل جيد بحيث تصير الأرض هي العامل الاستراتيجي في الإنتاج. بل إن هذه الطريقة في تقديم الأشياء لا تعبر جيدا عن أوضاع ملموسة وبالغة التنوع: ففي المناطق الجبلية، مثلا، يمكن لتوزيع المياه أن يكون جماعيا وجد متعادل في الظاهر. لكن الأرض –وقد احتلها الإنسان بعد مجهود جبار- هي التي تم توزيعها بطريقة غير متساوية إطلاقا. وقد نجد حالات أخرى أيضا، بحيث تكون الأرض والمياه جد مركزة بين أيد قليلة، لكن ليس بين نفس الأيدي بالضرورة.
وإذا انطلقنا من وجهة نظر تاريخية نقول بأن الماء كان يمثِّل ومنذ أقدم العصور عاملا مهيمنا في المناطق القاحلة والصحراوية، في حين لم تصبح الأرض ثروة نادرة إلا بعد تفوق الزراعة على تربية الماشية. ومع ذلك فأنا لست من أولئك الذين يعتقدون أن الملكية الفردية للأرض واقعة حديثة عهد في كل أنحاء المغرب. لقد ترجمت في الأيام الأخيرة لوحا متعدد المصاريع يرجع تاريخه إلى نهاية القرن 16، يتعلق بملكيات سيد في الجنوب الغربي، في قلب المنطقة القاحلة، ويوضح أن ملكية الأرض كانت أمرا مطلوبا مثل الماء تماما. ويتعلق الأمر في مثل هذه الوثائق، بطبيعة الحال، بأراض تقع قرب منابع الماء، لكن في إمكاننا، مع ذلك، أن نسجل:
1.التمييز بين نوعين من الملكية.
2.إيلاء نفس الاهتمام المتساوي للحصول على عاملي الإنتاج الرئيسيين معا في تلك الحقبة.
وخارج بعض الحالات التي بدأنا بالكاد نحصل على بعض خيوطها المضيئة (امتيازات عقارية للسلطة السياسية، تملكات باهضة الثمن في ضواحي المدن، عطايا مجانية، ممتلكات موقوفة…) يجب الإقرار بأن الملكية الخاصة التي أوجدت عقودا يمكن التأكد نمن صحتها ومعارضتها بغيرها [من الوثائق]، كانت أكثر انتشارا في مجال الماء والأشجار منها في [مجال] ملكية الأرض قبل القرن العشرين. وهذا لا يعني أن الأرض لم تكن محتلة أو مزروعة ومملوكة ملكية خاصة على وجه الاحتمال، بل إنها كانت كذلك ضمن جماعات متجاوزة بكل تأكيد. ومنذ 1912 –بداية الحماية- ومنذ 1956 بصفة خاصة، مع الاستقلال، أصبح الأمر مختلفا تماما. إذ أصبح المغرب بلدا تتغلب فيه الزراعة بصفة متنامية على تربية المواشي –وهو تطور مبالغ فيه بالتأكيد- وتهيمن الملكية الخاصة للأراضي حتى في المناطق الشبه قاحلة والشبه رطبة. ويصبح هذا واضحا إذا اكتفينا بالنظر إلى النمو الخارق لقيمة العمليات العقارية وإلى مستوى الريع العقاري كذلك. إن الريع السنوي للأرض العارية، في مغرب السهول الأطلسية الشاسعة كان يمثل، في العشرينات، سُبع أو سُدس الإنتاج الإجمالي. أما اليوم فقليلة هي الأراضي التي تؤجَّر بأقل من ثلث المحصول الإجمالي، وإن كانت غير ذات جودة، وغالبا ما يصل الريع إلى النصف بل ويتجاوزه.
ومع قيام الدولة بإنشاء السدود الكبيرة لتجميع المياه فقدت المياه، على عكس ذلك، أو أخذت تفقد تدريجيا، خصلتها القديمة كعامل استراتيجي في المناطق القاحلة والصحراوية، لأن المياه وُضعت اليوم رهن إشارة الخواص وفقا لحصصهم من المساحة الأرضية التي في حوزتهم. ولا يمكن لهذا سوى أن يعزز تفوق الملكية الخاصة للأرض داخل التنافس الاجتماعي.
وفيما يخص العمل البشري، وإن كان في الماضي عاملا نادرا، فقد عرفت إمكانيته التداولية تعديلا قويا بسبب النمو الديموغرافي وتجدد شباب السكان. لكن هناك أشياء أخرى كثيرة يجب أن تقال عن هذه الإجابة الخطاطية الأولى، وأتمنى أن أعود إليها لاحقا حتى أتمكن من تفسيرها بشكل أفضل.
وأخيرا فإن الرأسمال يمثل عاملا متواضعا في الإنتاج الفلاحي، ما عدا في الضيعات الرأسمالية الحديثة التي تمثل حوالي 10% من الأراضي المحروثة. ولا زالت الفلاحة المغربية، اليوم، فلاحة فلاحين. لكن الأمور في طور التغير بسرعة كبيرة. وقد نستعمل لغة مغايرة [حول هذا الموضوع] بعد عشر سنوات.
+إلى أين وصل الوضع الزراعي في المغرب منذ الاستقلال؟
*إذا كان لا بد أن نفهم من سؤالك أن نعت «زراعي» يرتبط، صراحة، بتوزيع الأراضي الفلاحية فإنه من الممكن أن نلخص التاريخ الزراعي للثلاث والعشرين سنة الأخيرة في تعاقب أربع ظواهر:انتقال [ملكية] الأراضي [من يد] المعمرين، وظهور «معمرين» مغاربة جدد، وإنشاء قطاع للإصلاح الزراعي، وسباق حديث عهد لم يتوضح بعد نحو [امتلاك] الأرض.
عند الاستقلال كان في حوزة المعمرين الأجانب ما يقرب من مليون هكتار من الأراضي الزراعية في السهول الواقعة شمال جبال الأطلس وفي منطقة سوس. وعلى عكس ما حدث في تونس، وفي الجزائر خاصة، مع ظاهرة «شغور» المعمرين، فإن المغرب لم يسترجع ملكية الأراضي التي كانت في حوزة الأجانب إلا بكثير من الحذر ومن الوقت والاستدراكات. فقد تطلب استرجاع الدولة لآخر الأراضي التي كان يستغلها المعمرون ما يقرب من سبعة عشر عاما (2 مارس/آذار 1973)، وذلك لدوافع يمتزج فيها الحسن بالسيء. يعتبر المغرب، وقد كان كذلك في الماضي على نحو أكبر، بلدا تهيمن فيه الفلاحة على الاقتصاد. ولا شك أن المعمرين كانوا يصدِّرون –بطريقة قانونية أو غير قانونية- فائض استغلالاتهم، وقد كان ذلك هو القاعدة، على كل حال، بالنسبة للمستعمرات الكبرى. وكانت للدولة المغربية دوافع جيدة للإسراع باسترجاع الأملاك التي تصدِّر الثروة. لكن حكّام البلد كانوا يخشون أن ينهار التتقين، من أعلى مستوى، مع رحيل المعمرين الذين كان من الممكن أن ينتج عنه انهيار في الإنتاجية وفي الاقتصاد عموما. ولم تفكر الأحزاب السياسية جيدا –من جهة ثالثة- خارج بعض الشعارات غير الدقيقة، في الحلول والأطر عند استرجاع هذه الأراضي. والتجربة الوحيدة التي كانت متوفرة لدينا هي تجربة… البلدان الأخرى –الاشتراكية في معظمها- أي [أنها تجربة تمت] في شروط اجتماعية وسياسية جد مختلفة وبوسائل سياسية ونفسية عكسية تماما، تستتبع، بكل بساطة، ثورة اجتماعية. إن انجاز ثورة زراعية اشتراكية في مغرب 1960 يعتبر نوعا من الخيال السياسي. ورغم أن سخاء اليوطوبيات الاشتراكية كان يفتن الأشخاص الفاعلين في ذلك العهد، فإن عددا منهم كان يشك في فعاليتها العملية إذا لم يكونوا يضعون تأثيراتها الاجتماعية مجددا موضع سؤال. وفي غياب صناعة وإنتاج منجمي كاف كان الاحتراس يقتضي حماية الفلاحة من كل مغامرة غير محسوبة العواقب. هذه هي الدوافع «الحسنة» التي أخرت استرجاع الأراضي.
أما الدوافع «السيئة» فهي غير معروفة كلها في تفاصيلها. فلم يعدم المعمرون نفوذا في الأوساط الحاكمة التقليدوية والمحافظة، وإذا لم تكن السفارة الفرنسية تثبط عزمهم فإن مساندة وزارة الخارجية الفرنسية لهم كانت في تناقض. فقد نصحت السلطات الفرنسية المعمرين، في البداية، بالبقاء بل وبالاستثمار بعد سنة 1963، وبألا يقعوا تحت إغراء رحيل متسرع. وبعبارة أدق كان الحكم قد نبه، أو نُبِّه، إلى أن هذا المليون من الهكتارات يمكنه أن يكوِّن القاعدة الاقتصادية لطبقة اجتماعية قادرة تمام القدرة على تأطير البادية وخلافة النُّخب التقليدية المحلية القديمة التي فقدت حظوتها مؤقتا. إلا أنه كان يجب، في مغرب الستينات، إيجاد مقاولين عصريين –وبالتالي مدنيين في تلك الحقبة- قادرين على لعب هذه الأدوار. وسيتم العثور، حينئذ، على المضاربين أكثر مما عثر على المزارعين المهذبين (gentelmen farmers) [الذين] يتطلب إيجادهم وقتا طويلا. ومن هنا [مصدر] التردد المتكرر في «استرجاع» العقار الذي يتملكه المعمرون وفي تجزئته إلى قوانين عقارية متعددة، وفي تكثيف الاسترجاع حسب القانون وحسب الجهات للتمكن من مراقبة واختيار وتوجيه وخلق هذه الطبقة من الملاك العقاريين الكبار. وقد أصبح ذلك واقعا اليوم، فـ 45% من مساحة أراضي المعمرين أصبحت في حوزة ملاك مغاربة كبار رأسماليين إن لم يكونوا «عصريين» حقا، وهم، في كل الأحوال، يتجهون، بثبات، نحو فلاحة المزارع الكبرى الموجهة نحو استخلاص ربح أقصى.
+والإصلاح الزراعي؟
*كان [الاصلاح الزراعي] في البداية، مع الاستقلال، شعارا ثوريا [رفعته] الأحزاب الوطنية: الأرض لمن يحرثها… وكانت [هذه الأحزاب] ترمي إلى مصادرة الملكيات الكبيرة وأراضي المعمرين لإعادة توزيعها على المزارعين والعمال [الزراعيين]. وابتداء من سنة 1961 استعادت الإدارة، بالتدريج، هذا التطور –الذي فقد طعمه بصفة تصاعدية- ضمن مشاريعها: الميثاق الفلاحي والإصلاح الفلاحي وقانون الاستثمار الفلاحي. وفي سنة 1966 كُلِّفت وزارة الفلاحة بإجراء إصلاح زراعي، لكن الأمر لم يكن يعني سوى توزيع أراض استرجعتها الدولة من المعمرين واحتفظت بها. واقتصر الإصلاح على إجراء تجزئة [الأراضي] في «أحسن الظروف التقنية الممكنة»، دون [أن تعقب ذلك]، إذن، اضطرابات اجتماعية ما دام الهدف هو «إغناء الفقراء دون إفقار الأغنياء». كانت الإدارة تسعى، بشكل عملي أكبر، إلى خلق طبقة مماثلة لطبقة الملاكين الرأسماليين الجديدة تكون مرتبطة بها أيضا، إنها طبقة المستغلين الزراعيين الصغار المحظوظين ربيبي الدولة. وهي طبقة/حاجزة بين طبقة [أصحاب] الضيعات الكبيرة وبين جمهور العاطلين القرويين. وهكذا وزعت بين سنة 1966 وسنة 1978 ما يقرب من خمسمائة ألف هكتار [من الأراضي المسترجعة]، عن طريق الكراء-البيع، على حوالي ستين ألف فلاح بدون أرض. وقد كان هناك سنة 1971 حوالي سبعمائة ألف بالغ ذكر بدون أرض. هكذا تمكن الإصلاح الزراعي من تشغيل أقل من 10% منهم بقليل. وكانت الخمسة آلاف من أصحاب الحصص السنوية المحظوظين، خلال تلك الفترة، تمثل أيضا، في المعدل، أقل 10% من عدد القرويين الذكور الذين يبلغون سن العمل سنويا. فالإصلاح الزراعي ليس إذن عملية اجتماعية، ولا يمكن أن تكون له تأثيرات اقتصادية حاسمة: إنه عملية سياسية وإن كانت مضمرات قانون الإصلاح الزراعي تسعى [لتحقيق] أهداف إنتاجية. [هي عملية] سياسية فعلا نظرا للعدد القليل من الأرقام المطلقة والنسبية للمستفيدين الفعليين من هذه التوزيعات ونظرا لإطار الاختيار بصفة خاصة فالترشيحات للحصول على الأراضي المجزأة تجري داخل الجماعات القروية (من ألفين إلى خمسة آلاف أسرة تقريبا منها ألف إلى ثلاثة آلاف أسرة «لا تتوفر على ما يكفي من الأرض»، و[يكون أصحابها]، بالتالي، مستفيدين محتملين). وغالبا ما يُحتفظ في النهاية بـ10% من الترشيحات المعلنة انطلاقا من مقاييس موضوعية سخية (السن، الفاقة، الحرفة، عدد الأبناء، معرفة القراءة والكتابة…). ومفعول [هذه العملية] السيكولوجي هو [نفس] مفعول اليانصيب: كثيرون يتمنون الحصول على الأرض في النهاية… في المرة المقبلة إذا بقي من الأرض ما يوزع. وهذا يُبقي على جو الانتظار ويُبقي الإبصار موجهة نحو السماء.
وحول الخمسة آلاف هكتار الموزعة –التي تمثل 7% من الأراضي المحروثة- لا يمكن التغاضي، رغم ذلك، عن [بعض] النتائج الاقتصادية ولا عن بعض المظاهر الاجتماعية والسياسية اللامنتظرة. ولدليل يقدمه قطاع الإصلاح الزراعي الذي أعطت الاستثمارات والقروض فيه لصالح المنتجين الصغار الذين كانوا يعتبرون، في السابق، تقليديين يتبعون أسلوبا عتيقا، نتائج حسنة، أي أن الإنتاجية فيه متساوية إن لم تكن أعلى من إنتاجية القطاعات التي لا تستفيد، أو تستفيد قليلا، من رعاية الدولة. زيادة على أن الذين حصلوا على قطع أرضية من الإصلاح الزراعي تعلموا عند اضطرارهم للانخراط في «تعاونيات» خدماتية، [أساليب] تضامنية جديدة ووسعوا أفقهم الاقتصادي والاجتماعي وبدأوا يشكلون قوى محلية لا يستهان بها في بعض الجهات التي كانت الظاهرة فيها أقدم. لم يكن ذلك أمرا مذهلا، بدون شك، لكن هل نجد مثل هذه الجِدَّة في مكان آخر؟
+هل نحن اليوم، في رأيك، أمام مركزة لـ[ملكية] الأرض أم أمام إعادة معينة لتوزيعـ[ها]؟
*إنه لمن الصعب أن نحدد نتائج هذه الظاهرة المزدوجة: مركزة/توزيع، وذلك لأن الإحصاءات العقارية، أولا، محدودة جدا. نحن نعرف جيدا ماذا حدث للمليون هكتار المسترجعة من المعمرين، أما عن الباقي فليس لدينا سوى معطيات جهوية مجزأة وقديمة. ففي جهة معينة توجد مركزة لا تناقش بمعية بلترة [للسكان]: إني أفكر في [منطقة] الغرب خاصة وفي [منطقة] تادلة. وفي جهة أخرى تخلق عمليات التوزيع والخروج من المشاعية والبعد عن المدن والمراكز الصناعية شروط توازن المعاملات العقارية لصالح الملاكين الكبار. ولا أعتقد أن أحدا يملك، حقا، إجابة عامة قابلة للتبرير مع مصادر وثائقية مقبولة. إنها، إذن، وضعية تناسب التصريحات العاطفية ولا توافق المناقشات الموضوعية.
زد على ذلك أننا في فترة نمو ديموغرافي قوي جدا. ورغم التمدين والهجرة القروية والهجرة إلى الخارج فإن عدد الأسر البدوية يتزايد باستمرار وبسرعة كبيرة. إن الصناعة المغربية لا تخلق حاليا سوى عدد قليل من فرص الشغل، وهي، على كل حال، لا تستطيع امتصاص الفائض من الأفراد النشيطين في البادية.
إن الخطر الذي يتهدد استصلاح الأراضي مع مركزة [ملكيتـ]ها ووجود أكثر من مليون هكتار من الأراضي خاضعة لقانون عُرف بأنه جماعي، يجعلان الاستغلالية الفلاحية المغربية غير ثابتة على أكثر من ثلث المساحة الوطنية للأراضي المحروثة على الأرجح. إن تشريع «الأراضي الجماعية» الذي ينحدر من قانون مهمل لسنة 1919، لكنه غير ملغى، يهدد أصحاب الحق الذين يستغلونها عمليا بإعادة إعدادها عقاريا. فشيوع القطع الأرضية المجزاة وشتاتها والمبادلات والدعامات تضاعِف عدد الاستغلاليات المُدارة سنويا كما تضاعف مساحتها. ومن المحتمل أن تكون هذه [الوضعية] العرضية هي السبب الرئيسي –مثلها في ذلك مثل ضعف أسعار [المنتوجات] الفلاحية للقطعة الأرضية [الواحدة]- في ركود الإنتاجية على أكثر من ثلاثة أرباع التراب الوطني، أي ما عدا قطاع الإصلاح الزراعي والقطاع الرأسمالي.
+إن عدد السكان في تزايد وليس في استطاعة الصناعة أن تمتص الفائض الديموغرافي في البوادي بكامله. فهل تتحسن إنتاجية الأرض على الأقل؟
*بكل يقين. هناك تحسن لا يناقش في الإنتاجية بالنسبة للهكتار. أما بالنسبة للعمل البشري والشغل على مستوى الأفراد فيصعب إثبات [هذا التحسن]. إن الإنتاجية بالنسبة للهكتار الواحد قد ارتفعت من حيث الحجم المادي على أراضي المعمرين المسترجعة بعد تراجع [معين] بل وبعد انخفاض حقيقي عرفته في بعض الأماكن. وعرفت بقية جهات البلاد تحسنا أيضا. لقد تجاوزنا، حاليا، العهد الذي كنا نحتاج فيه إلى إقناع المزارعين بفائدة استعمال الأسمدة والبذور المختارة. فالفلاح المغربي، اليوم، يتطلع إلى استعمال وسائل الإنتاج الحديثة. إن الدولة والسوق هما اللتان لم ترقيا إلى مستوى هذا الطموح. فتركيز السلطات على التقنية وعلى تنظيم الوسائل الحديثة تجعل انتشار هذه الأخيرة خاضعة لقرارات بيروقراطية، في حين أنه من المؤكد والمجرَّب أن الجمعيات الفلاحية والمهنية قادرة، على مدى بضع سنوات، على أن تنوب عن المنظمات التي تجاوزها التطور العام اليوم. هذه أفكار تروج في كل مكان تقريبا لكنها لم تكتسب بعد التأثير [الكافي] على الواقع.
ولا تفتأ شروط الحصول على تقنيات أكثر إنتاجية تشغل بال المزارعين بشكل أعمق: إذ تجعلهم أسعار الوسائل التقنية التي ترتفع باستمرار خاضعين للسوق الدولية أكثر فأكثر. وهذه الوضعية ليست وضعية خاصة بالمغرب، طبعا. لكن نظرا لكون شراء نفس الجرَّار يتطلب قنطارات متزايدة من القمح وكون ارتفاع المصاريف لا يماثله ارتفاع في المداخيل التي تتناقص باستمرار، فإن المزارعين باتوا مضطرين للجوء إلى عوامل الإنتاج الأقل فاعلية.
لنأخذ مسألة الطماطم. إن المغرب يستفيد من امتياز مناخي [يجعل الطماطم] تنضج مبكرا قبل [طمطم] جنوب فرنسا بمدة تتراوح بين خمسة عشر وثلاثين يوما بل وأحيانا بمدة أطول. وسيؤدي دخول اسبانيا والبرتغال واليونان إلى السوق الأوربية إلى انجراف هذه الامتياز. لقد كانت الطماطم المغربية، لحد الآن، تنتج أساسا على الحقل بكامله (en plein champ) مع إنتاجية هي بالتأكيد أقل من الإنتاجية الأوربية، لكن امتياز التبكير كان حاسما وكافيا في كل الأحوال. وسيكون المغرب، غدا، مضطرا لأن ينتج تحت الضغط –وقد بدأ ذلك فعلا وبفعالية- أي سيكون مضطرا للزيادة الهائلة في الاستثمار وفي تبعيته لأوربا لأن قسما هاما من الوسائل التقنية سيتم استيراده. إن نموا من هذا النوع سيخلق، في فرنسا كذلك، صعوبات للمزارعين، لكنه يخلق، على الأقل، مناصب شغل في القطاع الصناعي على نفس الفضاء الاقتصادي الوطني.
أما في المغرب فإن التبعية الاقتصادية للقوى الصناعية الكبرى قد وصلت حدا لا يمكن أن يكون معه الطلب الإضافي للوسائل التقنية إلا مناقضا للاقتصاد العام للبلد، ما دامت هذه الوسائل لا تُنتََج على الترب الوطني.
+لقد قمتَ، منذ عشر سنوات خلت، بتحقيق حول الشباب القروي، وأبرزت تقززا من، إن لم يكن رفضا لـ، الوضعية التي خُلقت للشاب في البادية. ألا زلتَ موافقا على هذا الخلاصة؟ وبعبارة أخرى ما هي وضعية الشباب في بادية اليوم؟
*اكتشفنا، أنا والمكي بن الطاهر وبعض الباحثين [الآخرين]، منذ عشر سنوات، ظاهرة جديدة تتعلق بالشباب القروي في المغرب: [هي ظاهرة] تنقيد علاقات الإنتاج [جعل هذه العلاقات خاضعة للنقود (المترجم)] وخاصة كون عدد هام ومتزايد من الشبان يرفضون العمل عند آبائهم لأن [هذا العمل] غير مأجور. كانت هذه الظاهرة –آنذاك- في حالة إنبات، ولا أملك، اليوم، وسائل فعلية لقياس نموها، لكني أستطيع القول إن القاعدة [العامة] في السهول الكبرى شمال [جبال] الأطلس هي أن الشاب لا يعمل في الاستغلالية العائلية بعد سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة.
إن التطور العجيب للمراكز الصغرى وتأثيراتها على نماذج السلوك، والحرية النسبية –المهدَّدة- السائدة فيها، والسينما والتلفزة والتبغ… وهي طاقة كامنة إن لم يكن من السهل بلوغها فهي تمارس جاذبية تامة على الشبان الباحثين عنها بكل الوسائل. وتميل الأجور في القرية إلى أن تستقر في المستوى [الذي وصلت إليه] في المدينة، دون أن تتمكن من ذلك تماما. وإذا كان في استطاعة الاستغلاليات الكبيرة تحمل هذه الأجور بسعة فإنها تعتبر، بالنسبة للملكيات الصغرى، أو ببساطة بالنسبة للاستغلاليات الفلاّحية مناقضة لشروط تقومي الإنتاج، إذ يتمكن الآباء من الاحتفاظ بأبنائهم، إلى حدود سن الخامسة عشرة، بكلفة إعالتهم فقط. ولا يعود التضامن العائلي كافيا كل الكفاية، بعد السن، لمنع الشاب من البحث عن مكان آخر [للعمل].
لكن الاعتبارات الاقتصادية، مهما بدت هنا رئيسية، ليست وحدها المؤثرة، إذ هناك ممارسات جديدة قيد الولادة. فالشبان يَقْبَلون أقل فأقل أن يستغلوا على مسمع ومرأى أولئك الذين يعرفونهم، إلا أنهم مستعدون –في أماكن أخرى لا يُعْرفون فيها- لأن يتعرضوا لاستغلال أكبر تحت تأثير الحاجة المباشرة، لكنهم لا يقبلون ذلك في بلدتهم.
ونتائج ذلك هي تشبيب العمل الزراعي [جعله شابا (المترجم)] مع ما يرافق ذلك من تهديد ضاغط على مستوى التقنية والتمدرس من جهة، وتنقيد العلاقات الاجتماعية بسرعة تفوق سرعة تنظيم سوق الإنتاج، من جهة ثانية. وهاتان الظاهرتان تُنَمِّيان حساسية الاستغلاليات الفلاَّحية تجاه مشاكل المالية والتوازن الاقتصادي.
+أنت تقوم، إذن، بصفتك عالم اجتماع، بتسجيل ملاحظات حول البوادي المغربية، ما هي تأثيرات هذه الملاحظات؟ وبصفة أعم ما هو الدور الأساسي الذي يلعبه عالم الاجتماع في بلد من بلدان العالم الثالث؟
*إن علم الاجتماع القروي بالمغرب، [لعهد] الاستقلال، [أي] علم اجتماع الوطنيين، لا زال [علما] فتيا، ولا يتعدى تأثيره الحلقات الضيقة للجامعيين وأطر الإدارة ورجال السياسة الحضريين في معظمهم، فلم يتمكن بعد من التخلص من محيطه الجامعي بحصر المعنى ولا من أن يكون مستقلا عن السلطات العمومية. ولا يعني هذا أنه مجبر [على ذلك] بالقوة، بل لِكَوْن الدراسات الوحيدة الممكنة، أخيرا، هي الدراسات المرخص بها أو بالأحرى الدراسات المطلوبة [من طرف السلطات].
إن التأخر الجسيم يمكن في الصعوبة القصوى التي يصادفها علماء الاجتماع القروي بالمغرب [في محاولتهم] لدفع الفلاحين للمساهمة في تحديد المشاكل المدروسة ذاتها. ونحن نود، في العمق، أن يكون القرويين هم أنفسهم الذين يطرحون الأسئلة ويطلبون منا أن نوفر المعلومات الأعم التي تنقصهم. إننا نلعب، اليوم وبصفة مفرطة، دورا معكوسا، وهي في الحقيقة لعبة خطيرة، لكن بدونها لن يكون لنا علم اجتماع قروي إطلاقا. إن دراساتنا تعمل، في الواقع –جيدة كانت أم سيئة- على تدعيم سلطة المهندسين والبيروقراطيين ورجال السياسة. فجمع المعلومات وبناء نماذج التفسير التي تتجاوز الاعتبارات الجزئية والتي تستطيع –وحدها- أن تضبط أغلبية القرويين في مغرب اليوم، كل هذا يخلق وقائع جديدة و«حقائق» جديدة من المفروض أن تكون أكثر عقلانية، لكنها تنفصل أكثر فأكثر عن العقلانية الشعبية. إن علماء الاجتماع مسؤولون عن استخراج مادة أولية خام: [تمكن في] الإخبار وعودته المحتملة على هيئة ناجزة من الأفعال الصادرة عن الدولة. أقول قد يكون من الصعب، في الطور الراهن، أن نعمل غير هذا، [لأن] علم الاجتماع المغربي لا يزال علم اجتماعي طبقي لصالح السائدين، و[هو] في نهاية المطاف لا يختلف كثيرا عن علم الاجتماع الاستعماري. لكن يبقى علينا الاختيار بين العدول [عن ذلك] انطلاقا من وقائع مع اللجوء إلى سفسطة عقائدية وبين المجازفة الملازمة لمقاربة الواقعي داخل وضعية سياسية عامة ليست في صالح الجماهير الشعبية. قليلون منا من يعتقدون أن هذه هي الطريق الفضلى في انتظار أن يسمح ميزان القوى الاجتماعية باستخلاص فائدة أكبر من الحجم الهائل من الوثائق المجموعة. في انتظار لذلك سيستفيد آخرون من هذه الوثائق؟
ونحن لا نخشى أن يفرطوا في استعمالها استعمالا مستمرا: [لأن] علماء الاجتماع يزعجون، في الواقع، أكثر مما يقدمون خدمة. والمسؤولون يحبون الوصفات رخيصة الثمن [لكن] ذات المفعول العاجل. ولن نجد قط هذا النوع من السلعة/المعجزة في الدراسات المنشورة لحد الآن.
+لكن علام يرتكز عملك أنت شخصيا؟ وما هي مشاريعك؟
*انأ مدرِّس بمعهد للزراعة والبيطرة. ويقوم تدريسي على علم الاجتماع القروي المغربي، وأنا أتابع أبحاثا شخصية في هذا الميدان وأغذِّي دروسي من هذه الأبحاث، وأحاول –رفقة بعض [الباحثين] الآخرين- خلق شروط مقاربة شخصية أفضل لمشاكل البادية يقوم بها طلبتي وزملائي وذلك بتنظيم فترات تدريب ميداني في إطار المعهد. ويوفر معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، من جهة النظر هذه، شروطا نادرة في بلد كالمغرب: ففي إمكان الطلبة، فعلا، أن يقيموا لفترات عديدة وطويلة عند المزارعين في حرية كبيرة وفي غيبة أية شكلية إدارية. إننا لم نتمكن بعد من استخلاص كل الفوائد التربوية البشرية من مثل هذه الوضعية، لكننا نتقدم، كما أظن، في هذا الاتجاه.
+هل يتزايد عدد الباحثين والطلبة الذين يتوجهون نحو دراسة المجتمع القروي؟
*نعم، إن القطاع القروي، حاليا، هو القطاع الذي يجذب الباحثين أكثر في علم الاجتماع وبلا منازع. وأنا، شخصيا، مرتاح جدا [لهذا]، لكني آسف، في نفس الوقت، لكون القطاعات الأخرى التي لا تقل عنه أهمية غير نشيطة.
ولهذه [الوضعية] أسباب تاريخية وسياسية. فقد هيمن العالَم القروي لمدة طويلة على المجتمع المغربي. وكانت الاثنولوجيا والانثربولوجيا أيام الاستعمار، تفضلان دراسة البادية ودراسة –لنقل ذلك- الأشكال «الأعتق» في المجتمع. وقد ورثنا هذا التيار أصلا. ومع الاستقلال تم التصريح مبكرا جدا بأن الفلاحة هي القطاع ذو الأولوية. ولم تتناول الدراسات الأولى [قطاعات] السكن أو الصناعة أو السياحة بل تناولت تطور البادية. وكانت فرق البحث الأولى التي شكلتها حكومة [العهد الأول من] الاستقلال تضم، منهجيا، عالم اجتماع واحد [في كل فريق]. ويتوفر المغرب اليوم على [حوالي] اثني عشر عالم اجتماع قروي. وهو عدد ضعيف في بلد تملك البادية فيه وزنا كبيرا داخل المجتمع المدني، لكن ليس هناك عدد مشابه في الاختصاصات الأخرى.
إنه لمن المستعجل، اليوم، إخراج علم الاجتماع القروي من الأوضاع الهامشية وتوجيهه، بقوة، نحو القطاعات القروية التي تشهد تحولا شاملا.
+ما هي اختصاصات علم الاجتماع الأخرى التي يبدو لك تطويرها واجبا؟
*[هذه الاختصاصات] هي علم الاجتماع الحضري طبعا، وعلم الاجتماع السري أيضا. فقد أخذ هذان الاختصاصان يصيران جذابين مع [ظهور] الدراسات حول وضعية المرأة. وأنا أستغرب لكون علم اجتماع الإدارة والدولة لم يفتتح بعد وكذا علم اجتماع الممارسة الدينية. لقد افتتح باحث مغربي [ميدان] علم اجتماع الأحزاب السياسية لكن هذا الميدان ينقصه الكثير. وينتظر علم اجتماع التواصل [باحثا] طليعيا يحركه، [وكذا الأمر بالنسبة لـ] ميادين أخرى مثل الشبيبة والاجتماعيات والجنوح…
+كيف تستقبل البلاد مستتبعات السياسة العامة التي تُقرَّر بعيدا عنها؟
*إن معظم القرارات الاقتصادية ممركزة جدا طبعا. ماذا أقول؟ بل هي ممركزة وتًتَّخَذ خارج التراب الوطني. إن المغرب خاضع على نحو كبير جدا للتمويل الدولي. إذ لا يقتصر الأمر على اقتراض رؤوس الأموال فقط. فقبل الاستثمار وخلاله وبعده هناك «خبراء ينكبون على [دراسة] المشاريع» وهم مكلفون، على الأقل، بتقديم المقترحات، وعلى الأكثر بأن يحرروا هم أنفسهم «الطلبات» وشروط هذه الطلبات… فيتم، إذن، اقتراض الأفكار أيضا. من المحتمل أن يكون هناك ترابط منطقي معين بين تعاقب الأفكار التي ينقلها البنك الدولي وكل تمويل من التمويلات الثنائية للبلدان المصنعة والنفطية بشكل منفصل ومتعاقب، لكنه ترابط لصالح من؟
لا يتمكن السكان «المستفيدون» على مستوى التنفيذ الأعجل، حتى من إدراك هذا الترابط، ولا تقل الإدارة المنفذة عنهم جهلا في ذلك. فهناك سلسلة من الأفعال يتعدى تبريرُها الأفراد الخصوصيين والزمَر المحلية ويتجاوزهم. وتقوم اللعبة كلها، بالنسبة للفاعلين الاجتماعيين، على الإفادة الشخصية –وبشكل أفضل- من هذه النِّعم ومن هذه الضغوطات والصُّدف. وسيكون من العبث أن نتساءل كيف يمكن للسكان المعنيين، مع قلة المعلومات التي يتوفرون عليها، أن يكوِّنوا عن ذلك رأيا عقلانيا.
+لكن هل المنتخبين القرويين مجرد صور؟ ألا يمكنهم أن يكونوا الناطقين باسم السكان؟
*إن أغلبية [هؤلاء] النواب لم يُنتخَبوا على أساس برنامج عمل، بل على أساس الانتماء إلى شبكات من الولاء. وقليلون هم المرشحون الذين قاموا بحملتهم [الانتخابية] على أساس مشروع سياسي عامٍ. لا تخطر على بالي [الآن] أرقام محددة، ولنقل إن ثلثهم فقط هو الذي انتخب باسم أحزاب سياسة معلَنة. لكن الأخطر من ذلك أن القليلين جدا هم الذين أقاموا حملتهم على أساس برنامج عمل محدد لصالح دائرتهم [الانتخابية]. وبصفة أدق، أيضا، كان المصوتون، في البادية وفي معظم الأحوال، يجهلون [أو يتجاهلون] البرامج ولا يهتمون سوى بالشخصيات وعلاقاتها –المصرح بها أوْ لا- بهذا الاسم أو ذاك. وبهذه الكيفية لا يكون المنتخبون مطالبين بانجاز أدنى مشروع.
ومع ذلك فإن الأمر يحتاج لما هو أكثر من ذلك بكثير، حتى يقوم المنتخبون ولو كانوا قريبين من الحكومة بالموافقة عن طيب خاطر على اختيارات الأعمال الفعلية التي تهيئها الإدارة في غالب الأحيان بسرية كبيرة بل وبدون خبث أو مكر. فالمشاريع موجودة! وقابلة للتمويل ومُقتَرحة دفعة واحدة ضمن ميزانية [ما]. ولن يكون الوقت [ملائما] أبدا لإعادة النظر فيما تم التداول بشأنه في مكان آخر. وسيكون الأمر بلا أساس وغير فعال تماما بالنسبة للمنتخَبين لو رفضوا المشاريع [المقدمة] ما داموا بعيدين عن مصدر السلطة ولا يملكون قرار مباشرة الأعمال. ويفسَّر [هذا الوضع] بكونه مجرد وضعية مؤقتة وطورا تمهيديا للعمل، وبأنـ«هم» سيساهمون بعد أن يهيئوا أنفسهم أحسن وبعد أن يتدربوا بشكل أفضل، حقا.
+تعودنا أن نسمع الناس يقولون بأن سكان البادية مسلمون ممارسون لشعائرهم الدينية أكثر من سكان المدن. هل تعتقد أن الإسلام يتعزز في البوادي أكثر مما يتقوى في المدن؟
*اسمع، أنا لست مختصا في [مثل] هذه الأمور ولست مؤهلا، شخصيا، لإطلاق حكم في هذا الموضوع. ولا أملك، في الواقع، عن هذه المسألة سوى أفكار عامة و…. اعتقادات ذاتية. أظن أن القرويين يمارسون إيمانهم على نحو مختلف عن الحضريين، وهذا لا يقدم أي حكم على [حجم] إيمانهم بالزيادة أو النقصان. إن الأنشطة القروية تنسجم مع الأعراف الممارسة في هذه المنطقة الإسلامية القصية أكثر مما تنسجم معها الأنشطة الحضرية الجديدة. فأوقات العمل وإيقاعه وحضور الطبيعة والحياة الثقافية والأفق اليومي للبنايات والأماكن هي أنسب للتدين التقليدي. وهذا أمر يصدق على المدن القديمة التقليدية، إلا أن [تطور] العصر يهددها أكثر فأكثر. أما المدن الجديدة ومدن الصفيح والمراكز الصغيرة فإن الوضع فيها مؤلم تمام الإيلام اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا ومن الطبيعي أن يكون مؤلما من الناحية الدينية كذلك. وليس لدى المتدينين الصادقين أي نموذج يقترحونه، محليا، سوى [نموذج] الشكل التقليدي. لم تحدث لحد الآن تجديدات ولم توجد أشكال نوعية لإعطاء ممارسة مختلفة لنفس الإيمان وتقديم إجابة ذات مصداقية عن أسئلة العصر. والإسلام لا يمكن أن يمارس إلا كما مورس قبل قرن أو قرون: كل شيء قد تغير تغيرا كبيرا إلى حد أن أولئك الذين لازالوا يعيشون كما [عاش الناس] في الماضي هم وحدهم القادرون على احترام التقليد في الأفعال التي يقبلها الدين.
ولاستبقاء [الناس] العصريين في الممارسة الدينية لا تكفي الكلمات الطيبة [حدها]. إذ يجب إيجاد نماذج فاتنة جديدة وأنشطة وأماكن جديدة وإرادات تطوعية… وقد يفسر غياب هذه الأمور الإنباتات العميقة والخفية للمتشددين المتزمتين.
+ما رأيك في الطريقة التي تستخدم بها [أضرحة] الأولياء، اليوم، كبدائل عن مستشفيات الأمراض العقلية؟
*أظن أنني أعرف إلى أية أوضاع محددة تشير، وأعتقد أنه يجب وضع ذلك في إطار أعم هو إطار وظائف الأنشطة الصوفية-الدينية داخل المجتمع المسمى تقليديا، أي داخل المجتمع الذي تُرك على هامش التحديث، داخل المناطق المبلترة، حيث تقوم الجمعيات الدينية، بحق، ببعض الوظائف التي تعجز الدولة الحديثة –التي من المفروض فيه أن تكون مطلقة السلطة- عن القيام بها. ولا يمكن اختزال فهم الظاهرة، بلا شك، في مظاهرها النفعية وحدها، لكني سأكتفي، أخيرا، بهذا القدر في إطار هذا الحوار.
إن السكان القرويين بالمغرب، كغيرهم من الناس، يبحثون عن إجابات لأسئلتهم. وهم لا يستطيعون، أمام هذا التحول المذهل الذي عرفه العالم، أن يؤوِّلوا النصوص المقدسة لوحدهم، إذ يجب أن يمروا بشروح الاختصاصيين إن صح القول. لا وجود لكهنوت حقيقي في الإسلام، وكل إنسان حائز على ما يكفي من العلم يمكنه، من الناحية النظرية، أن يقوم بتفسير الرسالة. لكن الشرفاء والأولياء هم الذين يقومون، إلى حد الآن ومن الناحية العملية، بذلك، لا عن طريق عقد «الجلسات» التعليمية بل بواسطة سلوكهم ومواقفهم ونصائحهم. فهؤلاء الأولياء الذين ورثوا هالة [القداسة] عن أسلافهم يعالجون القلق الشعبي عن طريق الكشف والشطح والاحتفال والقربان. وتوجد في كل منطقة سلسة كاملة وتامة كل التمام تقوم بمنح التعاويذ والهبات اللدنية، وكل بدوي يعرف إلى أين يتوجه إذا كانت زوجه عاقرا وإذا تأخرت الأمطار عن السقوط… وإيضاح هذه التعاويذ ليس واقعة يحدثها الولي بشكل أحادي، وإنما هي نتيجة –نابعة من عمق التاريخ- لعلاقات جدلية بين المريدين الذين يطلبون وبين الأولياء الذين يمنحون نعمهم في شروط معينة لاختبارات يرونها مواتية للقضاء على القلق أو البلبلة. وأن يكون بعض خُدَّام الأضرحة قد استغلوا هذا الوضع فذلك [أمر] واضح ولم يُفضَح قط فضحا كافيا، إني أفكر، مثلا، في حجز المصابين بالعاهات العقلية حجزا فاضحا وسريا. ويجب كذلك فضح استغلال بعض «المواسم» لأهداف سياسية، وهي أيضا مسألة يجب أن تناقش، خاصة وأننا لا نعرف جيدا ما إذا كان بعض المسؤولين لا يشجعون، أوْ لا يضعون أنفسهم على رأس الهيجانات التي لن يتمكنوا قط، على كل حال، من منعها. لكن أن ندين التصوف لأنه ليس دينا حقيقيا ولا علاجا عقلانيا، فأمر اعتقد أنه لا يجب فعله إلا إذا قدمنا حلولا بديلة له. وهو يسهل الحديث عنه ويصعب تنفيذه.
+ما هي الثقافة الغالبة، اليوم، في البادية؟
*ما أصعب أن نعطي إجابة عامة هنا أيضا، إذ أن ذلك يتوقف، بشكل كبير، على المنطقة التي نحيل إليها. سأكون ميالا للتأكيد على [وجود] «تجريد من الثقافة» وكأن غياب الثقافة كان ممكنا. وبصفة عامة لم تتمكن الصحافة المكتوبة والتلفزة من اختراق البادية بما يكفي لخلق أوضاع جديدة.
وتمثل الإذاعة والأعياد التقليدية المظاهر الثقافية الأوضح. [كما] تعتبر المدرسة «»العصرية التي لم تُكَيَّف مع الشروط التي يعيش فيها سكان البادية عائقا على نحو ما [يتمتع بـ] حصانة تأتيه من خارج المنطقة تقريبا، وهي لا يمكنها، في كل الأحوال، أن تكون مصدرا ثقافيا هاما. أما المدارس التقليدية (المسيد والمعاهد الدينية) فتفقد أهميتها تدريجيا إلا في بعض المناطق الخاصة: في سوس والريف ومنطقة جبالة… إن الثقافة تقوم، في قسمها الأكبر، على النقل الشفوي والصوتي. وهذا أمر قديم جدا لكنه لم يحَارَب في الماضي من طرق الحياة الجديدة.
إن فيض وفوران الثقافة الشعبية، حاليا، في الحكايات والقصص والأغاني والكنايات الحادة والأحكام الخادعة عن [تلك] الحقبة وأهل الحل والعقد ومحدَثي النعمة، أمر لا جدال فيه. إنها ثقافة مسودة وشبه سرية وتحريضية تطفح أحيانا في الجولات الخفيفة للفرق الفولكلورية أو المجموعات الغنائية [التي تسير] وفق الموضة، إنني أفكر في الأيام الأولى لجيل جيلالة وناس الغيوان. فهناك [عدد من] الشعراء الغنائيين والشعراء الجوالين والمدَّاحين الذين يزرعون واديا بأكمله، [يزرعون] جهة بأتمها في بضعة أيام كلما استدعى حدث هام حُكما شعبيا. ولا يبرز هذا كله قط في الأدب المكتوب، فأهل البادية ليسوا منغلقين داخل ثقافة تقليدية موقوفة جامدة، وبعيدا عن هذا كانت الثقاف.
بقلم: بول باسكون
اقرأ أيضا