المسألة اللغوية بالجزائر: مقابلة مع ياسين التملالي [*]
يتناول ياسين التملالي، في هذه المقابلة مع جريدة Libre Algérie، وبدون أي مداورة، المسائل الاساسية للغات وللهوية الوطنية. فيما تعود مسألة “تامازيغت” لتكون تحت الأضواء الكاشفة بفعل التعديلات الدستورية الأخيرة في فبراير 2016، ينبه التملالي بوجه خاص الى الميل القائم داخل السلطة، وحتى بين المدافعين الحازمين عن “اللغة البربرية”، إلى خطر السعي الى فرض نوع من “فصحى تامازيغت”.
- ينص الدستور المعدل مطلع هذا العام، في مادته الثالثة، على أنه “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة”. وتشير المادة 3 مكرر إلى أن ” الأمازيغية هي ايضا لغة وطنية ورسمية”. وتؤكد المادة 178 على أن “كل تعديل دستوري لا يمكن ان يمس … العربية كلغة وطنة ورسمية”. وإن غياب إشارة صريحة الى تامازيغت في هذه المادة يوحي بالعكس بأن تعديلا محتملا للدستور قد يعيد النظر في وضعها الجديد بما هي ” لغة وطنية ورسمية”.
ياسين التملالي: لا أظن ان هدف هذه الصيغة هو ترك الباب مفتوحا أمام عودة ممكنة إلى الوراء بصدد ترسيم “الأمازيغية”. لكن، جلي ان النظام يستجيب بقطرات محسوبة للمطالب اللغوية للناطقين بالأمازيغية. لقد صيغ مطلب “ترسيم الأمازيغية”، كمطلب شعبي، أول ما صيغ، في العام 1980. واستلزمت تلبيته بهذا النحو، محض الشكلي لحد الآن، عبور مراحل عدة، كانت كلها مماطلات: فتح “معهد للثقافات الشعبية”، ثم “شُعب اللغة البربرية”، وإدخال “تامازيغت” الى المدرسة، وديباجة دستور تدمج “الأمازيغية” ضمن “الثوابت الوطنية”، ثم الاعتراف بها لغة وطنية.
غياب إشارة صريحة إلى “تامازيغت” في المادة 178 أمر يكشف بنظري سعيا إلى ترك شيء ما للتفاوض في العلاقة مع الحركة الشعبية في منطقة القبايل، في حال انتفاضة جديدة، مثلا. كأن ذلك يُوحى إلى مناضلي القضية اللغوية البربرية بالنضال فصاعدا، خلال 10 أو 20 سنة المقبلة، من أجل “عدم قابلية التراجع عن ترسيم تامازيغت”!
يحب النظام إظهار الاحتجاجات في منطقة القبايل على أنها دوما محض عرقية لغوية، وطبعا بقصد السماح لنفسه بالاستجابة لها على الصعيدين الثقافي واللغوي حصرا، بتقديم تنازلات جوهرية إلى هذا الحد أو ذاك تبعا لقوة الحركة ومستوى تنظيمها. ويحب إظهار القبايل كمنطقة لا تتمرد سوى من أجل اللغة، كأنها غير مخترقة بنفس التقصفات التي تخترق بقية البلد: بين الأغنياء والفقراء، وبين الفئات المدمجة في نظام الانتاج والهامشيين أبد الدهر…
إن سبيل حل المسألة اللغوية هو ترسيم مكتمل الأركان للغات البربرية. إن كان ممكنا إنفاق 1,5 مليار دولار في مسجد كبير بالجزائر العاصمة، فبالوسع إنفاق القدر ذاته بالأقل للشروع في تسوية مشكل مركزي، المشكل اللغوي، الذي يهدد البلد بالتفجر. النظام يريد، مع الأسف، أن تتأبد هذه المسألة: فطالما لم تحل، يبقى بوسعه الصياح الداعي الى الوحدة الوطنية المهددة بقصد إسكات منتقدي سياساته. لكن، إن كانت الوحدة الوطنية مهددة، وهي فعلا كذلك على نحو متنام، فله يد طولى في الأمر.
- ليس للغة الفرنسية، التي تمثل “لغة رسمية ثانية”، حسب تعبيرك،أي وضع اعتباري قانونيا .. ومع ذلك يجري استعمالها على نطاق واسع. بنظرك كيف يتعين تدبير حضورها القوي في الحياة الوطنية ؟
إن قوة حضور اللغة الفرنسية بالجزائر ثمرة تاريخ وسياسة ثقافية خاصة. لو جرى الاعتراف بها رسميا حيث يجب أن تكون قطعا رسمية، في التعليم العالي مثلا، فسيتيح ذلك التحرر مما نشهد من إصلاح مُرمق (بريكولاج)، مع تلك الشُعَـب العلمية المعربة رسميا، لكن المشتغلة أساسا باللغة الفرنسية، دون أن تكون كلفة هذه الازدواجية اللغوية شبه الرسمية على كاهل الجماعة. سيتيح ذلك تخصيص ميزانيات أمتن للتكوين والتوثيق، الخ بكل شرعية، وتنظيم دروس “لغات تخصص” للطلاب و للمدرسين، بقصد تكوين أطر جامعية متعددة اللغات فعلا…
ليس المقصود إزاحة اللغة العربية من التعليم العلمي الجامعي، بل جعلها تتعايش مع اللغات الأجنبية، في إطار محدد بوضوح، ومحين باستمرار، أخذا بالحسبان حق اللغة العربية في أن تصبح لغة علوم حقيقية، وكذا حق الطلاب في تكوين جيد وفي ولوج افضل للإنتاج الأكاديمي باللغات الأجنبية. ويجب هنا التذكر دوما أن تمكن اللغة العربية في الماضي من دور لغة علوم لا يعود الى فضائلها الذاتية بل إلى كون الامبراطورية الاسلامية كانت تنتج المعرفة.
أخذ قوة حضور اللغة الفرنسية بالجزائر بالحسبان لا يعني ضرورة حلولها مكان اللغات الوطنية. يمكن حماية هذه اللغات بالقانون، وجعل التمكن من ناصيتها اجباريا لولوج الوظائف العامة والنجاح في المباريات والامتحانات الوطنية… بهذه الطريقة يمكن الدفع بها قدما وليس بالمزايدة الكلامية.
- بماذا توحي لك طريقة السلطات الجزائرية في مجال السياسة اللغوية؟ ماذا تكشف عنه؟
يفضل النظام مواصلة دور الحَكَم بين معسكرين خصمين يعمل كل منهما لإضعاف الآخر وحفظ امتيازات مادية ورمزية: معسكر غلاة المتفرنسين ومعسكر المستعربين المتطرفين. اتخذ هاذان المعسكران البلد رهينة، ويضيعون لنا وقتا ثمينا في سجالات عقيمة. وهما يشتركان رؤية.. نسميها ” مؤدلجة” للغتين الفرنسية والعربية، وملؤها تمثلات استيهامية ومحددة تاريخيا للغتين وليس لواقع استعمالهما.
كيف يمكن تفسير أن “متفرنسين” مفترضين لا يحسنون اللغة الفرنسية و”مستعربين” مفترضين يضعضعون لغة يدعون التولع بها؟ لا تفسير ممكن للأمر غير أن اللغات في الحالتين ليست أنظمة تواصل بقدر ما هي أدوات لتمييز هويات اجتماعية ثقافية مرغوبة كثر مما هي فعلية. نكاد نرى من يفاخر بجهله للغة العربية أو من يستعيذ بالله عند سماع كلام باللغة الفرنسية كما لو كانت لغة الشيطان.
لا تقبل بعض النخب الفرنكفونية، مثلا في الإدارة الاقتصادية، والمالية، الخ فكرة إمكان اشتغال هذه الإدارة يوما ما باللغة العربية. وقد تقبل بدرجة أقل إمكان أن يكون ذلك باللغات البربرية ! تعبر الفرنكفونية هنا، منظورا اليها من زاوية جيوسياسية، عن أفضلية مضمرة لتوطيد الروابط مع أوربا، رمز الازدهار الاقتصادي على حساب روابط من صنف “جنوب-جنوب”، في إطار المنطقة المغاربية اوالناطقة بالعربية. وحتى بافتراض أن تعزيز التعاون مع العالم الغني، أي بعبارة أخرى تعميق تبعيتنا إزاء شركاته ومؤسساته، هو الخيار الوحيد المتاح لنا، فلماذا يجب أن يستتبع اشتغال الإدارة، في الجزائر ذاتها، بلغة أخرى غير اللغات الوطنية؟
يكشف رفض دخول اللغة العربية عالم الاقتصاد، والمالية، عن دوغما لغوية بالغة التصلب وعن جهل مؤسف لاستعمال اللغة العربية في المجال اللغوي الناطق باللغة العربية. لقد كانت اللغة العربية، طيلة قرون، لغة الإدارة في امبراطورية برمتها، فضلا عن لغة التجارة، والعلوم، والفلسفة… وها هي الإدارة تشتغل جيدا بالشرق الاوسط باللغة العربية دون اي مشكل خاص.
ومن جهة أخرى، بوسع للغات البربرية، عبر سياسة لغوية جريئة وتقدمية، أن تصبح هي أيضا لغات إدارة، ومالية، وتجارة …
لننظر الآن إلى “مستعربي النظام” – أؤكد “مستعربي النظام” كي لا نعيد انتاج تعميمات بعض الدوائر التي ترى في مجرد استعمال اللغة الفرنسية أمارة تقدم، ومجرد أن يكون المرء مكونا باللغة العربية دليلا على التأخر. يهمين “مستعربو النظم” هؤلاء على قسم من الإدارة، والتعليم ووسائل الاعلام… و يدينون أحيانا بموقعهم لمجرد دراية باللغة العربية و ليس لمؤهلات ما، أيا كانت.
إن لديهم مصالح يخشون عليها، أقلها أن الانتاج الثقافي باللغة العربية قد يصبح سوقا ضخما، على شاكلة السوق الاعلامي الناطق بالعربية. لا يقبلون كون تطرفهم لم يساعد على تقديم اللغة العربية في صورة جيدة للناطقين بالفرنسية المتشككين (عن حق أحيانا)، وللناطقين بالبربرية المتعبئين من أجل “تامازيغت”، أي للناطقين بالقبايلية بشكل رئيسي. لقد تصوروا دوما اللغة العربية كلغة-هوية حصرية، واعتبروا الناطقين بالفرنسية عملاء الاستعمار الجديد، والمدافعين عن اللغات البربرية محبين لفرنسا مقنعين. هذا رغم ان الأسلاف السياسيين لمستعربي النظام هؤلاء، أي رجال الدين دعاة الاصلاح، لم ينبغوا دوما بميل جذري مناهض للاستعمار.
- تشيرون الى “المتفرنسين المتطرفين” و إلى “المستعربين المتطرفين”. فماذا عن “البربَرَوِيين المتطرفين”؟
ثمة، فضلا عن هاذين المعسكرين المحسومين، معسكر البربرويين . أوضح أن لفظ “بربَرَوي” لا يعني، بنظري، كل المدافعين عن الثقافة واللغة البربريتين؛ بل يُقصد به حصرا، في نظري، من يستوحي منهم عقيدة الأكاديمية البربرية أكثر من عقيدة الحركة الثقافية البربرية. على عكس العقيدة شبه العنصرية لدى الأكاديمية البربرية، كانت عقيدة الحركة الثقافية البربرية، كما تبلورت في العام 1980، تبعث عقيدة التعدد الثقافي المنفتح لدى اغلبية الوطنيين البربريين لحزب PPA-MTLD.
البربرويون يوجدون خارج النظام، لكن يعوزهم مشروع لغوي ديمقراطي وتوافقي: يرفض الكثير منهم اللغة العربية باسم “البربرية الحقيقية” لكنهم، في الواقع، يمنحون المكانة الدستورية كلغة رسمية أولى للغة الفرنسية لا للبربرية. إن بقيت للغة الفرنسية مكانة في الجزائر، فمت بالك باللغة العربية التي لها حضور دام 15 قرنا بهذا البلد.
يتعين على هؤلاء البربرويين أن يركزوا تفكيرهم على الدفع قدما باللغات البربرية، باستعمالها هم انفسهم في مجالات جديدة ليبرهنوا للمتشككين أن بوسعها أن تصبح لغات عصرية، أكثر مما يخصصون لرفض اللغة العربية وتعداد أوجه تأخرها، الفعلية مع ذلك.
يجب بوجه خاص ألا ينسوا أن حديثهم عن عجز اللغة العربية عن إيصال ما يسمونه، بكيفية غير دقيقة، “الحداثة”، تعبير غير واع من قبلهم عن شكوك في مقدرة اللغات البربرية عن ايصال تلك الحداثة ذاتها: إن كانت لغة مكتوبة منذ 15 قرنا، واُستعملت لغة علوم وفلسفة في امبراطورية ممتدة من الاندلس الى تخوم الصين، عاجزة عن بلوغ “الحداثة”، فكيف يتأتى ذلك، والحالة تلك، للغات البربرية التي تخرج بالكاد من الشفاهية؟
- فيما يـدّعي المسعى الرسمي تهدئة التوترات وإبعاد تامازيغت من التسييس، حسب تعبير الوزير الأول، نراه يؤدي الى إعادة اطلاق الاحتجاج على نحو أشد في منطقة القبايل. بأي شرط يمكن لإحداث اكاديمية جزائرية للغة الامازيغية أن يتيح الدفع قدما باللغات البربرية؟
ستكون لهذه الأكاديمية فائدة جمة إن بدأت حيث يجب البدء، أي القيام ببحث سوسيولغوي كبير في المناطق الناطقة باللغات البربرية لتحديد (ضمن أمور أخرى) ما إن كانت لغة بربرية موحدة هي رغبة أغلبية الناطقين باللغات البربرية، أو أنها ستكون مخلوقا مصطنعا بلا جدوى.
اللغات البربرية عندنا حاملة لمشاعر انتماء اقليمي مميز. إن لم تكن تلك المشاعر تبدو مناقضة للشعور الوطني الجزائري، فليس ثمة ما يدل على أنها من نوع شعور بربري جامع pan-berbère متقاسم. والحال أن هكذا شعورا بربريا جامعا لا بد منه للدفع قدما بلغة أمازيغية معيارية موحدة. لم يكن النطق بالبربرية قط عامل وحدة جامعة للبربر في الجزائر، لا في الحقبة الاستعمارية، و لا بعد الاستقلال.
يجب ألا يكون الهدف الأولوي لكل عمل على اللغات البربرية هو توحيدها. أسجل هنا أن رفض التنوع الذي يؤاخذ به المستعربون يعاد انتاجه هنا بالكامل بمنطق: يجب أن تكون لدينا لغة بربرية وحيدة! و الحال ان المحتمل، وإن تشابهت اللغات البربرية، هو انه لم توجد، قط، في الماضي، “تامازيغت” مشتركة. لا اتحدث عن فرضيات بحث عند مختصي اللسانيات، بل عن الواقع، في حدود معارفنا الراهنة. لقد تعمقت الفروق بين اللهجات البربرية بفعل القطيعات الجغرافية بين مختلف المجالات الناطقة بالبربرية. هذا ما جعل التفاهم التلقائي بين مزابي و قبايلي وشاوي و وتوارغي غير كامل، إن لم يكن شبه منعدم، و المفارقة أن العربية الدارجة هي التي تتيح ذلك التفاهم.
بدل صوغ لغة بربرية مشتركة في مختبر، يجب بالأحرى اتاحة فرص التطور لكل واحدة من اللغات البربرية الواقعية في بلدنا، وترك متكلميها يختارون بحرية حرف كتابتها، وتشجيع دراستها واستعمالها في مجالات جديدة… لأنه فيما تجري الاستفاضة في الكلام عن أفضل “فصحى تامازيغت”، إن امكن التعبير هكذا، او عن حرف كتابتها، يستمر تراجع النطق بالبربرية في بعض المناطق.
إن أمكن تلاقي عمليات تحديث اللغات البربرية، فذلك سيكون أفضل. لكن تلاقيها المفتعل، والقسري، يهدد بجعل النتيجة النهائية ،”فصحى تامازيغت”، ضربا من الاسبرانتو محكوم عليه بمصير اللغات المصطنعة.
رب قائل يقول إن اللغة العربية المعيارية هي أيضا ليست اللغة الأم لأي شخص. طبعا، لكن لها ، عبر نسبها مع العربية الكلاسيكية، قرون من الاستعمالات متنوعة الاشكال، وتراثا مكتوبا غنيا، يكتبه ويتقاسمه مجمل العالم الناطق بالعربية. ولديها ايضا زهاء قرنين من الاستعمال بما هي لغة تواصل عصري، وهي إحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة، وهذا امر ليس بالهين.
- هل ترون إحداث اكاديمية كافيا لتمكين اللغات الأمازيغية من من تبوأ المكانة للازمة؟
ليس الاكاديمية وحدها ما تحتاج اللغات البربرية. انها بحاجة إلى ميزانيات تتيح إخراج استعمالها، على الصعيد الشعبي، من المجالات الاعتيادية، واللاشكلية و/أو ضئيلة الاعتبار. انها بحاجة الى امتداد استعمالها إلى أقصى ممكن – ليس في التلفزيون و الراديو وحسب، حيث هي اليوم محل تقليد مكثف ومكدر للفرنسية و للعربية المعيارية – بل ايضا في العدالة و الإدارة و الإعلان التجاري، الخ.
من المثير للاستغراب استمرار غياب جريدة إخبارية اجمالية خاصة باي من اللغات البربرية. ليس لنقص في التمويل، فلن ينقص الداعمون إذا توافرت إرادة النخب السياسية و الثقافية الناطقة بالبربرية.
ومن المفارقة، في بلد يضج بضرورة تشجيع المبادرة الخاصة، ان تكون وسائل الاعلام الرئيسية الناطقة بالبربرية تابعة للدولة. واشير هنا إلى أن الموقع الالكتروني للوكالة الرسمية (وكالة الانباء الجزائرية) تقدم الاخبار ب”تامازيغت” مكتوبة بثلاث انواع من الحروف. يدل هذا على ان الدولة لا تعوزه الوسائل، عندما تريد.
لا تكفي المطالبة بـ”ترسيم الأمازيغيى”، ثم المطالبة بعد تحقيق ذلك بـ”ترسيم فعلي ” و ربما غدا بـ”ترسيم فعلي فعلا”! لا، يجب ان تكون اللغات البربرية مستعملة حيث هي لا تزال مستعملة بشكل نادر، ولا يمكن ان يبدأ هذا سوى بتعبئة الناطقين بالبربرية انفسهم. إذا أراد الناطقون بالبربرية ان تخرج هذه اللغات من غيتو الشفاهية، فيجب ان يبدؤوا هم انفسهم باستعمالها في مجالات جديدة، على نحو متحرر من العقد. لقد بدأت الكثير من اللغات بهذه الطريقة: اللغة العربية إزاء اللغة السرياينة؛ واللغات اليونانية والفرنسية والاسبانية والايطالية ، الخ إزاء اللاتينية…
يجب حفز الناطقين بالأمازيغية ليكفوا عن الاحساس بالعار عند التكلم بلغاتهم في اوضاع تواصل جديدة، لاسيما الشكلية: فهذا ما فعل الكاتالونيون في سنوات 1980 وهذا دور النخب المؤيدة للمطلب اللغوي البربري التي يتعين عليها مرة اخرى ان تكون قدوة. يجب حفز الناطقين بالبربرية أيضا ألا يخجلوا من ارتكاب أخطاء عند الكلام بلغاتهم في أوضاع تواصل جديدة: هنا ايضا تمثل كاتالونيا حالة منيرة بحملاتها لتحرير من لا يحسنون استعمال اللغة الكاتالونية من عقدهم كي يعبروا في اوضاع تواصل جديدة عليهم كليا. تستلزم حملات من هذا القبيل التزام الدولة لدعم اللغات البربرية، لكن، مرة أخرى، يتعين على الناطقين باللغات البربرية ان يتعبؤوا كي تتحمل الدولة مسؤولياتها في هذا المضمار.
- تعالت صيحات الاستنكار الصيف الماضي ردا على إمكان استعمال “العربية الدارجة” في التعليم الابتدائي. و اضطر وزير القطاع لتكذيب “الشائعات” المسيئة. كيف يمكن، في هذه الشروط، “إعلاء شأن العربية العصرية… مسترشد بالبحث في اوجه شبهها مع الدارجة بتنويعاتها”؟
بودي، قبل الإجابة، إبداء ملاحظة. ليست العربية الدارجة بأي مكان تلك اللغة المحظورة كما جرت العادة بوصفها. حتى في عهد الحزب الوحيد، لم يكن ثمة محرم يتعلق بهذه اللغة: فقد انتجت السياسة الثقافية الرسمية العديد من التجليات الثقافية مكرسة لشعر الملحون مثلا؛ وكانت ثمة دوما دراسات جامعية حول الانتاج الثقافي والأدبي باللغة الدارجة، ولم تكن لغة ممنوعة في وسائل الاعلام، وفي العدالة، الخ. لم يكن لوضعها آنذاك، وحتى حاليا، أي شبه بوضع اللغات البربرية.
مجال استعمال الدارجة اليوم واسع الى حد ما، بعكس ما يزعم بعض انصار إدخالها إلى المدرسة، هؤلاء الذين لا يستعملونها عندهم هم أنفسهم! لا بل إنها في الاعلان التجاري لغة مكتوبة في تعايش مع الفرنسية و حلول مكان العربية الفصحى. ولها استعمال على نطاق واسع في العدالة في التواصل الشفهي، أي في الاستنطاقات والشهادات،الخ. وربما يكشف بحث سوسيولوجي أنها باتت مستعملة في المناطق الناطقة بالعربية في إطار تناوب لغوي code-switch مع العربية المعيارية.
لكننا نعلم أن التواصل الشفهي الشكلي يجري داخل المدرسة أيضا بنسبة كبيرة بالعربية الدارجة (وبالبربرية)، ولن يخطر على بال أي مدير ثانية مخاطبة التلاميذ بالعربية الفصحى.
إن إدخال العربية الدارجة في التعليم لا يعني وجوب حلولها مكان العربية الفصحى. ومن جهة أخرى إن كان القصد الدفع بها كلغة رسمية، وبصراحة ليس هذا مطلبا لأحد، فلا بد من لجوء كثيف الى العربية المعيارية. العربية الدارجة لغة حقيقية، لكن لغة حقيقية قد تكون غير لائقة للاستعمال في بعض المجالات بفعل ضغوط سوسيوتاريخية: المالطية هي فعلا فرع من أسرة العربية الدارجة الكبرى، وهي لغة رسمية لدولة عضو بقوة عظمى هي الاتحاد الاوربي.
الممكن فورا هو العمل كي لا تضيع، عند ولوج المدرسة، مكاسب الدارجة قبل التمدرس لدى التلاميذ الناطقين بالعربية. لماذا استعمال فعل “رأى” فيما يمكن استعمال فعل “شاف” الذي لا يقل عنه عربية؟ ولماذا لا نستعمل “زوج” بينما هو لا يقل عربية عن “إثنان”؟ ثم لماذا لا نستعمل، ببساطة، اللفظين ؟
ليست غاية مبادرات من هذا القبيل، يتخذها المسؤولون عن الكتب المدرسية، إزاحة العربية المعيارية، بل جعل التلاميذ لا يرون فيها لغة جديدة كليا وحتى أجنبية.
- ما الذي يجعل متكلمي الدارجة أنفسهم لا يعتبرونها “لغة حقيقية”؟
إنهم يرونها محبوسة في مجالات التواصل اللاشكلية عموما، والاعتيادية أو ناقصة الاعتبار. وفضلا عن هذا يمثل وجود تقليد مكتوب، في بلد عانى طويلا من الأمية، عنصر مجد، والحال أن الدارجة فاقدة الحظوة إجمالا بالجزائر.
وربما يفسر تاريخنا أيضا ذلك التعارض الجذري بين العربية المعيارية والدارجة. اللغة التي تعرضت للتعسف الاستعماري، لدرجة اعتبارها لغة اجنبية، هي العربية المعيارية و ليس الدارجة. كان القصد منع تطور لغة منافسة للغة الفرنسية، وبوجه خاص، الحد من ضرب من العدوى الوطنية، جامعة للعرب وجامعة للمسلمين، تروج بالعربية المعيارية التي هي لغة النهضة.
كان تمسك فقهاء الدين بإحياء اللغة العربية في الجزائر يرمي إلى جعلها حامل هوية ثقافية اجمالية غير الهوية الثقافية الفرنسية المفروضة بالحديد والدم. ليس قابلا للفهم ذلك الرفض لأي َمعْـبر بين العربيتين الفصحى والدارجة فيما نحن لم نعد تحت احتلال أجنبي منذ نصف قرن.
يحدثنا خصوم كل محاولة جزأرة algérianisation، ضئيلة ما كانت، للغة التعليم الأساسي عن الفرق بين “لغة” و”لهجة”. و الحال ان لفظ “لهجة”، بنظر المختصين بالألسنة، يشير إلى تنويع اقليمي خاصة للغة معينة، لا أكثر. ما يسمى “لهجات” هي لغات كباقي اللغات. كون قواعد نحوها ليست دوما مكتوبة لا يعني أنها عديمة النحو. هل نحن أشد تمسكا بالعربية من مصر؟
لن ترى وزيرا مصريا يدلي بتصريحاته باللغة الفصحى إن كان لا يتقنها، وإلا خاطر بتسفيه نفسه ووظيفته. الدراجة لغة كاملة الأركان في مصر، وكلية الحضور، يستعملها رؤساء الجمهورية، والوزراء، والمثقفون، والصحافيون، والمناضلون السياسيون، اعتياديا، شفهيا وحتى كتابيا أحيانا. الدارجة المصرية المستعملة في أوضاع التواصل الشكلية، والرسمية، و/أو العالمة، تستعير قسما كبيرا من قاموسها من العربية العصرية المعيارية.
ربما يمثل هذا نموذجا لنا. وعندنا أيضا بدأ انتشار استعمال عربية وسيطة، بقاعدة نحوية دارجية، تستعير قسما من قاموسها من العربية المعيارية.
- ينص الخطاب الرسمي على أن ثالوث ” الإسلام والعروبة، والأمازيغية” أساس الهوية الوطنية الجزائرية. ويشاطر هذا التصور معظم القوى السياسية والاجتماعية. وثمة إجماع عريض حول المسألة. بيد أن هكذا تعريف للهوية الوطنية يظل أسير المنطق الإثنوي للاستعمار الذي كان يختزل – و لا يزال- الهوية الوطنية للشعوب المُخضعة في مراجع اثنية (لغوية، دينية،…). ما تفسيركم لهذه الاستمرارية وما سبيل الخروج من هذا الفخ الذي تحبسنا فيه “الهيستيريات الهويتية”؟
نفس الجزائريين الذين كانوا يسخرون من النقاشات الساركوزية حول الهوية الفرنسية قادرون تماما على إعادة انتاج الوساوس الهوتية ذاتها عندما يتعلق الأمر ببلدهم! ليس المفترض في دستور أن يحدد هوية. كان مفهوما أن يقوم الجزائريون، بوجه المس الاستعماري بهويتهم الثقافية، بتأكيد مغايرتهم الثقافية في علاقة بالفرنسيين، حتى بإضمار اختلافاتهم عند الحاجة. وليس ثمة اليوم ما يبرر استمرار التهوس بـ”هويتنا” لدرجة انتاج تلك التعابير الجديدة من قبيل “إسلامية” الجزائر و”عروبتها” و”أمازيغيتها” مع ياء النسبة تلك التي تحول الاسلام والعربية وتامازيغت الى صفات داخلة في الانتماء الوطني. كان أسلاف الجزائريين وثنيين، وأحيائيين، ومسيحيين،… قبل الاسلام؛ وكانوا بربرا قبل الغزو الاسلامي، وكانوا قبل البربر شيئا آخر لا نعرفه بيقين! ترون جيدا كيف يصعب تحديد “هوية حقيقية” (“أصيلة”).
كانت الهوية، في الحقبة الاستعمارية، شعورا جماعيا فعليا: نحن لسنا فرنسيين. وهي غالبا اليوم نوع من الايعاز: انتم مسلمون، عرب، بربر.
كما أن الايعازات ليست صادرة عن الدولة وحدها. إذ يُنكر المستعربون على الناطقين باللغات البربرية حق الاّ يشعروا بأنهم عرب. وينكر البربرَويّون – حسب التعريف السالف- على الناطقين بالعربية حق الشعور بانهم عرب، وينكر الاسلاميون على الجميع حق ان يشعروا انهم غير مسلمين. ولا نَـنْـسَينّ قبايليي الحركة من أجل تقرير مصير القبايل الذين ينكرون حق الشعور بالانتماء الى الجزائر!
قد يشعر المرء بنفسه بربريا أو لا، عربيا أو لا، مسلما أو لا، ويكون مع ذلك جزائريا. كما يمكن أن يشعر المرء أنه جزائري وقبايلي في الآن ذاته. من حسن الحظ أن الجنسية الجزائرية غير مشروطة، قانونيا، بأي من هذه “الثوابت” المتحركة: يمكن الحصول على الجنسية الجزائرية دون أن يكون المعني عربيا ولا مسلما و لا بربريا.
ما يشعر به المرء، في مضمار الهوية الثقافية، يجب أن يندرج، مثل الدين، في نطاق الشأن الخاص. يجب الا يحدد لنا الدستور هوية أو هويات: يحق للجزائري أن يشعر أنه بربري دون تعريض نفسه لتوبيخ من المستعربين، وأن يشعر أنه عربي دون اتهام البربَرَويين له بـ”انعدام الاصالة”. ويحق له الشعور أنه مسلم دون اتهامه بإنكار أصول مفترضة وثنية أو أحيائية أو مسيحية. كما يحق له الاّ يشعر مطلقا أنه معني بمشاكل الهوية الثقافية هذه. يجب أن يقتصر الدستور على تعريف اللغات، فهذا وجه عملي أساسي من أوجه الحياة الوطنية، وذلك باحترام حقوق الاقليات واعتبار “المصالح العليا للأمة”. وهذه “المصالح العليا” مغايرة للأمور غير المعلنة التي عادة ما يحيل اليها هذا التعبير. انها باختصار العدالة والتقدم المتقاسم والديمقراطية.
[*] العنوان الأصلي للمقابلة : قد يشعر المرء بنفسه أمازيغيا أو لا، عربيا أولا، مسلما أو لا، ويكون مع ذلك جزائريا
استجوبه : رمضان عاشور
المصدر : جريدة Libre Algerie
التعريب: المناضل-ة
==============
ياسين التملالي ، مولود بالجزائر في العام 1969، صحافي ومترجم وباحث في التاريخ و اللسانيات. تابع دراسات في الآداب الفرنسية واللسانيات في القسطنطينية و مدينة الجزائر ، ويحضر حاليا دكتورة دولة في التاريخ. متعاون مع منابر إعلامية عدة بالجزائر و بالخارج. ألف كتب:
La genèse de la Kabylie. Aux origines de l’affirmation berbère en Algérie 1830-1962 (Alger : Barzakh, 2015)
Algérie. Chroniques ciné-littéraires de deux guerres (Alger : Barzakh, 2011)
كما أسهم في مؤلفات جماعية منها:
L’histoire de l’Algérie à la période coloniale : 1830-1962 (Alger : Barzakh/Paris : La Découverte, 2012).
اقرأ أيضا