ستالين – سيرة سياسية، بقلم اسحاق دويتشر
نقدم للقارئ كتاب دويتشر : سيرة ستالين.
الكتاب للتحميل: ستالين-سيرةسياسية- لـ اسحق دويتشر
وهذا نعي لإسحاق دويتشر كتبه غداة وفاته أحد تلامذته، مارسيل ليبمان.
وفاة اسحاق دويتشر
مارسيل ليبمان
تحرم وفاة اسحاق دويتشر المفاجئة الاشتراكية من أحد مثقفيها الأرفع هيبة. لا شك انه كان بالمقام الأول مؤرخا، وفرضت عليه تقلبات حياته أن يواري الى الخلفية نشاطه النضالي. مع ذلك، ليس عالم علم التاريخ وحده من يفتقر بفقدانه؛ فالعالم الاشتراكي متضرر بقدر مساو إن لم يكن أكثر.
انسان وحيد
مجرد قراءة عناوين كتبه تعطي فكرة ناقصة عن حجم أعماله: كتاب عن النقابات السوفييتية، وسيرة لستالين، وثلاثيته عن تروتسكي، هذا كل شيء تقريبا إذا استثنيا ما لا يحصى من مقالات ودراسات نشرها بالصحافة وبمجلات عديدة. ليس هذا مدهشا جدا من الناحية الكمية. هذا لأن مساره كمؤرخ بدأ متأخرا الى حد ما حيث صدرت سيرة ستالين ودويتشر في عمره 43 سنة. وبوجه خاص لأن كتبه كانت تحظى بإعداد مديد ودقيق، ولأنه كان يستهدف الكمال، على صعيد الشكل كما المضمون. وهذا ما أمن لها، في الآن ذاته، كلاسيكية لغوية وعمقا فكريا قل معادلهما في الأدب المعاصر. في أثناء مراهقته، في ظل تربية يهودية، “تدرب” دويتشر على الكتابة بنظم أشعار باللغة العبرية. وإن تخلى كليا على السبل التلمودية التي كانت مشرعة أمامه، فقد حافظ طيلة مساره على مواهبه الأدبية ووسعها. هاجر في عمر الثلاثة والثلاثين الى بلد يجهل لغته، واكتسب في بضع سنوات قليلة فهما عميقا للغة الانجليزية لدرجة ان مواطنيه الجدد، حتى الاشد تطلبا منهم، اعتبروا انجازه معجزة. ولم يكن دويتشر المحاضر يقل جذبا وفتنة من دويتشر الخطيب.
وكان بوسع أعماله أن تكون أغزر لو لم تمارس إزاءه المؤسسة الانجليزية نوعا من الإبعاد. طبعا أسندت اليه جامعة كامبردج، احتفالا بخمسينية الثورة الروسية، كرسيا عرضيا كي يلخص إسهام المشروع السوفييتي في العالم المعاصر. لم تتسع قاعة دروسه لحشد الطلاب المتزاحم للاستماع اليه. فقد كانت مواهبه التعليمية مثيرة. ومع ذلك، لما تعلق الأمر بمنحه كرسي تدريس بجامعة برايتون عند افتتاحها، كان ثمة اعتراض (فيتو) حرم العالم الأكاديمي البريطاني من شرف وجود دويتشر في صفوفه. بعد ذلك، عاد الى العمل مع زوجته تامارا كمعاونة وحيدة. لم يكن لدويتشر، في حقبة يصعب فيها تصور البحث بدون عمل جماعي – وحيث يستعصي جهد علمي جدي دون دعم مالي، أن يعول سوى على نفسه. كيف لنا ألا ناسف لعواقب ذلك الموجعة؟ فقد خلف غير مكتملة سيرة للينين كان يشتغل عليها منذ سنوات، وحتى تاريخا للثورة الروسية كان نشره سيمثل حدثا بالغ الأهمية.
التاريخ والالتزام
في المحصلة، سيرة ستالين وأخرى لتروتسكي. هذا قليل ( بالنظر خصوصا الى ما كان ممكنا أن يسهم به). وهذا هائل، ويظل دويتشر فريدا غير قابل للتعويض بفعل تأليفه هذه الكتب في اللحظة وبالطريقة التي كتبت بها. ما يفعل، في الواقع، هذا المؤرخ الماركسي؟ أي نوع من الاشغال يقتحم؟ بالضبط تلك التي تبدو أقل قابلية للبحث التاريخي الجدي والشامل: السيرة. ففيما تتعلق السيرة، على نحو محتم تقريبا، وبالتعريف، بمسار وشخصية انسان، مركزة انتباهها على فرد وتنتهي أخيرا في نوع من “عبادة (أو تحقير) الشخصية”، لا شيء من هذا القبيل لدى دويتشر. طبعا يجعله حسه الانساني متأثرا بمأساة شخص هو بصدد ابراز كامل قيمته ؛ لكنه يعيد للعوامل الاجتماعية ما هو لها. وتمثل ثلاثيته عن تروتسكي، بهذا الصدد، نموذجا في المضمار: إنها لوحة جدارية حقيقية للتاريخ السوفييتي منذ الثورات السابقة للعام 1917، تتيح، أفضل من أي مؤلف آخر، تتبع وقياس وفهم ألاهمية العظيمة للثورة الروسية ومستتبعاتها.
وثمة شيء آخر وأعظم أهمية: فضمن جيل بكامله، كان دويتشر ويظل الكاتب الوحيد الذي نجح في الإلمام بهذا الموضوع المليء بالعقبات: الظاهرة الشيوعية. هذا ما جعل الصحافة البرجوازية الكبيرة، رغم تباينها وتحفظاتها، تلجأ اليه لتفسير تطور السياسة والمجتمع السوفييتيين. وفيما كانت الكتابات التاريخية عن الاتحاد السوفييتي تنحط الى تزوير مزدوج – تشهير مفعم بالحقد و عبادة ملؤها التأليه والافتراءات- كان اسحاق دويتشر ينجح في تفادي فخاخ عدم التأثر والحياد، مع البقاء على الوفاء للعقل وللحقيقة. كان دويتشر مشبوب العاطفة لكنه يتحكم بانفعالاته. لم يكن يحب ستالين، لكن السيرة التي كتب للديكتاتور السوفييتي تقييم متوازن ومترو ومدقق للرجل ولعالمه. وكان معجبا بتروتسكي. لكن السيرة التي كتب عنه تبدأ بجملة معبرة جدا عن الروح التي تصورها بها: ” حاولت أن أعيد ضبط ميزان التاريخ ،غير مهتم بأي تقديس، وغير مبال بأي وفاء لأي كان”.
كذلك فعل، مثيرا حقد الستالينيين، وأيضا نقدا غير قليل من قبل الأوساط التروتسكية، وهاجم العديد من الكليشيهات والتبسيطات. وأخيرا، تمثل أعماله تفسيرا للستالينية أكثر مما هي تنديد أعمى ومحاولة، من امتن المحاولات، للنظر فيما يظل حيا من ثرات ثورة اكتوبر في الدولة الناشئة عن الثورة الروسية.
هذا عن دويتشر المؤرخ. لكنه كان أكثر من مؤرخ. إذ ظل التزامه الاشتراكي كاملا. أسهم في العديد من حلقات النقاش السياسي بالجامعات الأمريكية، وكان يحارب، بوسائله الخاصة، الامبريالية الأمريكية. وكان عضوا بمحكمة راسل (حول جرائم الولايات المتحدة الامريكية في فيتنام).ولما سألته الاذاعة والتلفزة البلجيكية، ابان محاكمة دانيال و سينيافسكي (كتاب سوفييت منشقين)، لم يتخلف عن نقد موقف السوفييت في تلك القضية، لكنه حرص أمام الميكروفونات الرسمية على إضافة أنه لا يفهم جيدا الاستياء الانساني الذي ينصب على الاتحاد السوفييتي دون أن يندد بجريمة أشد سفورا، جريمة العصر السياسية الحقيقية المتمثلة في العدوان الامريكي على فيتنام.
“المعجزة دويتشر”
أخيرا، كان دويتشر ضمن كل المختصين بالدراسات عن الاتحاد السوفييتي، الوحيد الذي يمكن التوجه اليه بكل ثقة. ليس لصحة توقعاته على الدوام. كان بُعيد وفاة ستالين، وفي أثناء الطور الأول من نظام خروتشوف، ينظر بتفاؤل الى مستقبل الاتحاد السوفييتي. كان يقع، بلا شك، في هذا التحليل أو ذاك، في إساءة تقدير عوامل تقييمية. لكن إجمالا كان لرؤيته للأحداث عمق وسعة نظر ومنظور مثيرة للإعجاب. وفضلا عن ذلك، لم ينس قط إدخال المقاييس التي يستلهمها التقييم الاشتراكي و المتصلة بتحرر الانسان. وكان يفهم، أفضل من غيره، ومن كافة “زملائه”، الاتحاد السوفييتي لأنه متحرر من موقف مسبق و محافظ في الآن ذاته على تعاطف حار، وعلى الحماس المشروع، أي الادراك العميق للظاهرة الثورية. إن ظل عمله كمؤرخ غير مكتمل، فسيشعر الكثيرون بجسامة الخسارة التي يمثلها غيابه كملاحظ للعالم السوفييتي.
كانت ثمة «معجزة دويتشر” تعطي عنها الترجمات الفرنسية الناقصة لأعماله صورة غير مكتملة. كيف يمكن الجمع بين ذلك القدر من الصرامة في التحليل وذلك القدر من الحس المرهف، مع ذلك القدر من الغنائية المنبجسة في اللحظات الحاسمة من سرده؟ يدرك من سعدوا بلقائه ان تلك “المعجزة” تعود الى ما حافظ عليه من طراوة دهن خارقة للمألوف. كان يعطي الانطباع أنه ينتمي إلى “المدرسة القديمة”، ربما بسبب اللطف البالغ المتجلي في كامل سلوكه، وبسبب رزانة تمالك النفس لديه. لكن الى جانب هذا أي شباب ذهن، أي نار، أي شعلة! هل هذا مجرد ثمرة شخصية ثرية على نحو خارق للمألوف؟ او أيضا ثمرة حفاظه حتى النهاية، رغم الخيبات والتقلبات وخيبات الامل والمآسي، على الإيمان بانتصار الاشتراكية ومن ثمة بقدر الانسان؟
إنها ريشة لا تعوض حطمها الموت. انه صوت كبير يخبو. لقد فقدنا مرشدا وصديقا.
جريدة La Gauche عدد 33 -9سبتمبر 1967
تعريب: المناضل-ة
اقرأ أيضا