هل يستطيع الشعب إسقاط النظام والدولة لا تزال قائمة؟
النص التالي هو تطوير لمحاضرة ألقيت يوم 22 كانون الثاني/ يناير 2016 في ندوة انعقدت في الجامعة الأميركية في بيروت تحت عنوان “خمس سنوات على الثورات العربية: عُسر التحوّل الديمقراطي ومآلاته” بدعوة من معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية والمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات. وقد نُشر النص يوم 24 آب/ أغسطس على موقع المعهد.
لا شك في أنّ الشعار الأكثر شهرةً بين الشعارات كافة التي ردّدتها ملايين الحناجر في ميادين وساحات المدن العربية خلال الانتفاضة التي عمّت المنطقة العربية في عام 2011، إنما هو عينه أكثر شعارات الانتفاضة جذريةً على الإطلاق: “الشعب يريد إسقاط النظام”. والحال أنّ هذا الشعار ينطوي على لغز سياسي بالغ التعقيد، غفلت عنه بالتأكيد الأغلبية العظمى من الذين ردّدوه، وهو اللغز المتعلّق بتشخيص ما يريد الشعب إسقاطه، أي “النظام”.
فما هو “النظام”؟ وكيف يتميّز عن “الدولة” التي لم يدعُ أحدٌ إلى إسقاطها، بل أصرّ بعض المشاركين في الانتفاضات على حرصهم على صيانتها ورغبتهم في إنقاذها من براثن “النظام”. هذا السؤال الوجيه والبديهي يحيل بدوره إلى سؤال مصيري: هل يمكن إسقاط النظام من دون إسقاط الدولة معه؟ وبكلام آخر، هل “النظام” حالة متميّزة عن “الدولة” ومنفصلة عنها، أم تربط بينهما علاقة عضوية تجعل من إسقاط الأول حدثًا لا يمكن حصوله بلا انفراط عقد الثانية؟
فلنتأمل إذًا المصطلحَين وما ينطويا عليه من معنى. أوضحهما بلا شك مفهوم الدولة، وقد أجمع على تحديده عملاقا علم الاجتماع الحديث، كارل ماركس وماكس فيبر. فقد أشار كلاهما إلى أنّ وظيفة الدولة الأوّلية هي القمع وأنّ عمود الدولة الفقري قوامه، من ثمّ، أجهزتها المسلحة من جيش وشرطة، بينما تأتي في المرتبة الثانية الوظائف الإدارية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي التي يتولّاها الجهاز البيروقراطي، فضلًا عن الجهاز القضائي والأجهزة الأيديولوجية. وإذا اتفق فيبر وماركس في تحديد الجهة التي خدمتها الدولة في الأنماط الاجتماعية-السياسية السابقة للرأسمالية – عندما كانت الفئة الحاكمة طبقة وراثية ترأسها سلالة مالكة – فقد اختلفا في تحديد طبيعة الجهة التي تخدمها الدولة الرأسمالية “الحديثة” التي لم تعد السلطة الفعلية فيها ملكًا شخصيًا وراثيًا (أما محور الخلاف المنهجي بين المفكّرين فهو رفض الليبرالي فيبر لتحليل ماركس الطبقي). والحال أنّ علاقة الحكام بالدولة هي بيت القصيد في ما يتعلّق بالتمييز بين الدولة والنظام كما سوف نتبيّن بعد قليل.
أما النظام، فإنّ أول استعمال تاريخي للتعبير ارتباطًا بالثورة ذلك الذي اشتهر مع الثورة الفرنسية، بحيث بات مصطلح “النظام القديم” (ancien régime) يشير إلى المَلَكية المطلقة بتعارضها مع الشرعية الانتخابية “الديمقراطية” (سيادة الشعب). وقد انسحب المصطلح على مجمل الأنظمة المماثلة التي كانت قائمة في أوروبا وتصادمت مع القوى الثورية المطالِبة بالديمقراطية الانتخابية (“الثورة البرجوازية”) سواء جاءت في إطار جمهوري أو مَلَكي دستوري. وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ تعبير “النظام” في اللغة العربية يغطّي جملة المعاني التي تخصص لها اللغة الإنكليزية تعبيرين هما regime وsystem. فتعبير “النظام” ذاته يُستخدم بالعربية في الإشارة إلى النظام الاقتصادي (الرأسمالي، على سبيل المثال) – system بالإنكليزية (système بالفرنسية) – كما إلى أصناف النظام الديمقراطي الانتخابي (برلماني أو رئاسي) – system بالإنكليزية (régime بالفرنسية) – فضلًا عن النظام (order) في تعارضه مع الفوضى.
أما “النظام” الذي أراد الشعب ذات يوم إسقاطه، فيحيل إلى معنى خاص آخر تشير إليه الإنكليزية والفرنسية على حدّ سواء بتعبير regime، خاصة عندما يتم استعمال هذا التعبير بلا نعت إضافي، فيجري الكلام عن “the regime” (le régime، أي النظام مع إحالة “أل” التعريف إلى حالة بعينها) تدليلًا على نظام حكم سلطوي معيّن، سواء أكان استبدادًا جماعيًا (حكم طغمة عسكرية) أم فرديًا-عائليًا. والحالة الأخيرة هي الأكثر انتشارًا في منطقتنا العربية؛ إذ تشيع الإشارة إلى صاحب فردي للنظام، فيجري الحديث عن “نظام فلان”: نظام بن علي ونظام مبارك ونظام القذاقي ونظام الأسد، وهلمّ جرّا.
وهنا تكمن المشكلة الرئيسية في علاقة النظام بالدولة في منطقتنا. فحرص الجمهور على الدولة هو حرصٌ على وظائفها المفيدة للعموم من حفظ للنظام (order) كنقيض للفوضى، وإدارة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية بما فيها الخدمات العامة (صحة، تعليم، نقل … إلخ). ويسهل الفصل بين تلك الوظائف والمصالح الطاغية في التسيير العام للدولة عندما تنتمي الدولة المعنية إلى فئة “الدولة الحديثة” كما ميّزها فيبر عن دولة النظام القديم، أي دولة لا يمتلكها أحد، بل يكون جميع العاملين فيها من أسفل الهرم إلى أعلاه مأجورين لديها، ويتمتع أصحاب القرار السياسي فيها بتفويض مؤقت مصدره انتخابي في أساسه. ومع ذلك، أكّد ماركس أن تلك الدولة “الحديثة” هي في جوهرها كما في شكلها دولة الطبقة الرأسمالية، وشدّد على ضرورة استبدالها بدولة قائمة على الديمقراطية المباشرة مستوحيًا من كومونة باريس لعام 1871 التي أشاد بإنجازاتها (في كتابه الحرب الأهلية في فرنسا).
أما ضرورة إطاحة دولة “النظام القديم” واستبدال جميع أجهزتها بأجهزة من النمط الحديث، فأمر لا يختلف عليه الليبرالي والاشتراكي من حيث المبدأ؛ إذ إنها دولة في خدمة طغمة حاكمة تمتلكها وتتناقل ملكيتها وراثيًا. وهي دولة تتلاءم مع الدور المناط بها في صيانة الحكم الاستبدادي. إزاء تلك الدولة، يكون الليبرالي البرجوازي نفسه ثوريًا عندما لا تكون لديه خشية من أن تجرف الثورة النظام (system) الرأسمالي برمّته مع النظام (regime) الاستبدادي. وهنا المعضلة: فإن إحدى أهم خاصيات المنطقة العربية (كما حاولت أن أبيّن في كتابي الشعب يريد) هي أنها أكبر تركّزٍ معاصرٍ لدول من نمط “النظام القديم” القائم على السلطة المطلقة الوراثية. وتتميّز المنطقة العربية بطغيان “الدولة الميراثية” (Patrimonialstaat) حسب تصنيف فيبر، وهي دولة يعتبرها حكامها ملكًا خاصًا لهم ويتناقلونها وراثيًا سواء كان شكلها مَلَكيًا أو جمهوريًا زائفًا (ما أُطلق عليه تعبير “الجملوكية” الموفّق). ويضمن حكام الدول الميراثية في المنطقة العربية ولاء
أجهزة دولهم لأشخاصهم وعائلاتهم باستغلال العصبيات القبَلية والطائفية والإقليمية (الجهوية، بالتعبير الشائع في البلدان المغاربية). ومن نتائج استمرار نموذج هذه الدول في منطقتنا أننا لا نزال نحتاج إلى ابن خلدون في تحليلها بقدر ما نحتاج إلى ماركس وفيبر. وهو ما يجعل النظام والدولة متلاحمين إلى حد أن “إسقاط النظام” في الدول الميراثية يستحيل بغير التصادم مع أجهزة الدولة بدءًا بأجهزتها المسلحة وهزمها.
هذا ما يدركه فطريًا سكان الأنظمة المَلَكية، وهو ما يفسّر بقاء الشعار الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام” هامشيًا في حراكات تلك الدول. فقد فطن الناس لخطورته وأدركوا أن تحقيقه يقتضي ميزان قوى أو ظروف استثنائية لم تكن متوفّرة في أي من المَلَكيات عام 2011 (هذا هو السبب الرئيسي في كون الملَكيات، باستثناء البحرين، لم تشهد موجة ثورية عارمة على غرار تلك التي غمرت تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وليس السبب في أن تلك الأنظمة تحوز على شرعية أكبر، كما ادّعى مستشرقون غربيون سطحيون). وأما سكان الجملوكية الليبية، التي كان زعيمها يدّعي أنها “جماهيرية”، فإن إدراكهم التام للأمر قد أدّى إلى تحوّل انتفاضتهم بسرعة إلى عصيان مسلح، ومن ثم حرب أهلية. وأما سكان الجملوكية السورية، فقد توهّموا بأنهم يستطيعون إسقاط نظام الأسد، كما أسقط أهل تونس نظام بن علي وأسقط شعب مصر نظام مبارك، من دون التغلبّ على دولة الأسد (اعتقد بعضهم أن التدخل الغربي في ليبيا سوف يردع أجهزة الدولة السورية عن ارتكاب مجزرة)، وقد استفاقوا من هذا الوهم ليواجهوا أكبر مآسي التاريخ العربي المعاصر.
والحال أن الدولتين اللتين بادر سكانهما إلى العصيان في بداية الانتفاضة العربية، إنما تنتميان إلى فئة غير ميراثية من الدول العربية، هي فئة الدول “النيوميراثية” (neopatrimonial، وهو مصطلح من ابتكار العلم السياسي المعاصر) التي يستغل فيها الحكام الدولة وينهبونها في ظل حكم دكتاتوري، لكنّها ليست مُلكًا لهم وليس توريثها لأفراد عائلتهم بالمضمون (وإن جرى التخطيط له كما حصل في مصر مبارك). وسبب ذلك أن جهاز الدولة سابقٌ بتركيبه لحكمهم، ومستقلٌ عن شخص الحاكم الذي وصل إلى سدّته، في حين تتميّز الدول الميراثية بأن أجهزة الدولة فيها قد جرى تشييدها من الأساس أو إعادة تركيبها من قِبَل الأسرة الحاكمة بما يلائم إدامة سلطتها. في كلٍ من تونس ومصر، حاز جهاز الدولة استمرارية تاريخية وتقاليد سبقت نظامي بن علي ومبارك بعقود طويلة. وهذه الميزة هي التي تفسّر كون الدولة في البلدين هي التي أطاحت “النظام”، بأضيق معاني هذا التعبير الأخير، أي بحصره بشخص الرئيس وعائلته وأبرز محاسيبه، تلبيةً لضغط الانتفاضة الشعبية العارمة. لا بل رأينا “الشعب” في مصر يطالب العمود الفقري للدولة المصرية، ألا وهو الجيش، بأن يتولّى “إسقاط النظام”، ورأيناه من ثمّ يهلل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة عندما أقال مبارك وتولّى الحكم.
إلا أنّ السكرة ما لبثت أن راحت لتجيء الفكرة، كما نقول بالعامّية. وكانت الاستفاقة مريرة بالنسبة إلى الشبيبة التي شكّلت صميم الانتفاضة في البلدين، وقد وجدت نفسها في مصر أمام عودة لما هو أسوأ من النظام القديم برئاسة وجه جديد، وفي تونس أمام عودة ملطّفة للنظام القديم برئاسة أقدم وجوهه؛ رجل يناهز عمره التسعين. والدرس جليّ في الحالتين: فبينما يتمحور “النظام” بشكل مطلق حول شخص الحاكم وحاشيته في الدول الميراثية ويرتبط ارتباطًا عضويًا بالدولة، بحيث يصعب جدًا إسقاط النظام بلا إسقاط الدولة معه على غرار ما حصل في ليبيا وكما سيحصل في أي دولة من الدول الميراثية قد يتمّ فيها إسقاط النظام، فإن “النظام” في الدول النيوميراثية يتعدّى الحاكم وحاشيته بحيث يغدو طاقم الحكم أشبه بقمة جبل الجليد: عندما تسقط، تطفو فورًا فوق سطح الماء بفعل مبدأ أرخميدس قمة جديدة لا تختلف نوعيًا عن سابقتها.
هذا لأنّ “النظام” في الدولة النيوميراثية – باستبداده الذي يقلّ بوجه عام عن استبداد الدولة الميراثية وبفساده ونهبه اللذين يفوقان بوجه عام فسادها ونهبها، وذلك لسبب بسيط هو أنّ حكام الدولة النيوميراثية أقل اطمئنانًا لبقائهم المديد في الحكم – إنما يقوم على دولة ينخر أجهزتها الاستبداد والفساد بقدر ما ينخران أجهزة الدولة الميراثية. والفارق الوحيد بين الحالتين هو أنّ سلطة الحاكم مطلقة إزاء الأجهزة في الدولة الميراثية بينما هو مضطر إلى المساومة مع الأجهزة في الدولة النيوميراثية. وبكلام آخر، فالأولوية هي للطغمة الحاكمة في الدولة الميراثية ولأجهزة الدولة في الدولة النيوميراثية. ومؤدّى ذلك أن “النظام” في هذه الأخيرة، إن تم فهمه كنمطٍ استبدادي من الحكم وليس كحكم جماعة (عائلة) بعينها، لا يقلّ ارتباطه بالدولة عن ارتباط “النظام” بها في الدولة الميراثية، وكلا الارتباطين عضويان.
وبهذا نكون قد عدنا إلى معضلتنا الأساسية: لا يمكن إسقاط النظام بالمعنى الأشمل للتعبير بغير تفكيك الدولة، ما دامت الدولة والنظام المرتكز إليها قائمين على الاستبداد والتملك الفردي للملك العام، سواء أكان الأمر في إطار ميراثي أم نيوميراثي. وهذا الواقع هو ما بات يشكّل المعضلة الرئيسية للانتفاضة العربية، كما للسيرورة الثورية العربية الطويلة الأمد؛ إذ إنّ هاجس الفوضى المدمِّرة بات على أشدّه في المنطقة العربية على ضوء المآسي الجارية في ليبيا وسورية واليمن. وقد أصبح هذا الهاجس الحجة الجديدة التي يحاول الاستبداد العربي شرعنة نفسه بها، وذلك بتخيير الشعب بين الاستبداد والفوضى المسلّحة على الطرازين الليبي والسوري.
وهي حيلة قديمة نظّر لها في القرن السابع عشر أحد مشاهير الفلسفة السياسية، الإنكليزي توماس هوبز (في كتابه لوياثان)، مبررًا المَلَكية المطلقة بتخيير الناس بينها وبين “حالة الطبيعة” (state of nature) التي تسود فيها “حرب الجميع ضد الجميع” (bellum omnium contra omnes، باللاتينية). ولم تنطل الحيلة على ليبراليي ذلك العصر، وفي طليعتهم جون لوك، الذين ردّوا بتأكيدهم أنّ الإنسان أقل أمانًا في ظل استبداد جبّار، لا يقدر عليه، مما هو في ظل حالة طبيعة يستطيع فيها الدفاع عن نفسه بحيث تكون “حالة الطبيعة” أقل فوضى وخطورة من تلك التي صوّرها هوبز متعمدًا المبالغة.
أما في منطقتنا العربية، فحيلة تشريع الاستبداد بالمفاضلة بينه والفوضى المسلّحة هي على أقواها؛ إذ إن سيناريو هوبز الكارثي يكاد يكون محققًا بالفعل وبلا مبالغة، وقد تكاثرت لدينا بالفعل نماذج “حرب الجميع ضد الجميع”. فلا يفيد أو لا يكفي دحض الحيلة فلسفيًا أو بأي نوع من الحجج الفكرية، بل لا بدّ من مواجهتها على أرض الواقع. إّن الاقتناع بالتلازم التام بين النظام والدولة في البلدان التي يسود فيها نظام دكتاتوري متزاوج مع رأسمالية محاسيب – وهي حالة الأغلبية العظمى من البلدان العربية (باستثناء لبنان والعراق وتونس مؤقتًا، وهي بلدان غير دكتاتورية لكنها تواجه تعقيدات من نوع آخر) – من شأنه أن يضاعف قوة المحاجّة المذكورة.
فلنعُد إلى السؤال الذي انطلقنا منه: هل يمكن إسقاط النظام من دون إسقاط الدولة معه؟ ولنوضّح السؤال في ضوء ما ناقشناه حتى الآن؛ فقد بينّا أنه لا بدّ من إعادة تركيب الدولة بصورة جذرية من أجل القضاء فعلًا على النظام بالمعنى الأشمل للتعبير، أي بما يتعدّى إطاحة رأس الدولة وحاشيته التي لا تحول وحدها دون عودة نظام مماثل. فلا بدّ من إسقاط جميع المتربّعين على مواقع القرار المتعلقة بالاستبداد والفساد، وكذلك تفكيك تلك المواقع تلازمًا مع إشاعة الشفافية والرقابة الديمقراطية في أجهزة الدولة كافة. والحال أن هذه المعضلة إنما تشبه المعضلة التي تناولها المفكر الماركسي النمساوي – الألماني كارل كاوتسكي، أبرز قادة الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الألماني والأممية الثانية في عصرها الذهبي، في مناقشته للتجربة البلشفية (في كتابه الثورة البروليتارية وبرنامجها) في مجال الاقتصاد. فقد ردّ كاوتسكي على الاستعارة التي تقارن المجتمع إزاء الثورة بالبيت الذي يحتاج إلى إعادة بناء من أساسه، بقوله إنّ الشعب ليس لديه مكان آخر يقطنه أثناء إعادة البناء تلك، فلا يستطيع من ثمّ أن يهدم البيت بكامله ويشرع في إعادة بنائه، بل ينبغي أن يعيد بناءه تدريجيًا بحيث لا ينفك ينعم بغرف يسكنها. فالاستعارة تلك تنطبق على الدولة بقدر ما تنطبق على الاقتصاد.
إن الوظائف الرئيسية للدولة في حفظ الأمن وإدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، وظائف لا غنى عنها في أي مرحلة انتقال من نظام استبدادي إلى نظام مغاير، سواء أكان ليبراليًا تقدميًا أم اشتراكيًا (فإن ضرورة الدولة في طور الانتقال إلى الاشتراكية هي الحجة المركزية في دحض الماركسية للفكر الأناركي). وإذا كان يمكن تصوّر انتقال سلس تضمحل فيه وظائف الدولة القمعية وتكون فيه عملية تشييد دولة من نوع جديد ميسّرة في ظروف بلدان اعتادت شعوبها على الديمقراطية واحترام القانون التلقائي ومراعاة قواعد العيش الاجتماعي، وذلك من خلال تجربة تاريخية مديدة وبفضل الحيازة على مستوى معيشي وثقافي رفيع نسبيًا، فإن مثل هذا التصوّر مستحيلٌ في ظروف بلدان تعمّدت أنظمتها تجهيل شعوبها وتلويث عقولها بشتى العصبيات والخرافات، وحقنها بأشدّ درجات الكبت بحيث يقوم المجتمع برمّته على العنف بدءًا من خلاياه الأساسية (العوائل، ويسود فيها العنف الأبوي والجندري) وحتى رأسه، وحرمانها من أبسط مقوّمات العيش الكريم. إنّ حالة “الفلتان” بمثل مجتمعاتنا حالة مشحونة بخطر الانزلاق إلى “حرب الجميع ضد الجميع” وتفشّي العنف الموضعي سدًّا لفراغ العنف المركزي، واستشراء النهب محلّ احتكاره من قبل الحكام، فضلًا عن الأخطار الخارجية في منطقة تتميّز باستدامة حالة الحرب بين الدول الإقليمية وحروب العدوان الإمبريالية والصهيونية.
ولا حلّ لهذه المعضلة سوى بوجود تنظيم قادر على قيادة عملية التغيير الثوري بحيث يجري الانتقال بشكل مضبوط ولا يؤدي إسقاط النظام إلى انهيار الدولة برمّتها ومن ثمّ الانحدار إلى الهاوية على غرار ما حصل في ليبيا، البلد العربي الوحيد الذي جرى فيه إسقاط النظام بصورة جذرية عام 2011. وهذا يعني أنّ القضاء التاريخي على “النظام القديم” العربي يتطلب قيادة قادرة على إدارة عملية التغيير بشقيها: شق التفكيك وشق إعادة البناء. أما الشرط الذي لا بدّ من توفّره إذا كان لتلك القيادة أن تنجح في تأطير عملية التغيير بتفادي الأخطار الملازمة لها، فهو الركن الأساسي في الإستراتيجية الثورية كما نظّر لها المفكّر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، ألا وهو تحقيق هيمنة (egemonia) سياسية – ثقافية في المجتمع والدولة مضادة لهيمنة الطبقة السائدة والنظام القائم، وذلك من خلال “حرب مواقع” (بالمعنى المجازي للحرب) تسبق “حرب المناورة”، أي العملية الثورية.
هذا يقتضي أن تسعى القيادة الثورية إلى كسب الهيمنة في قاعدة الهرم الاجتماعي كي تتمكّن من إطاحة قمته – الأمر الذي يتطلب استبدال الانشطار العمودي للمجتمع المدني (قبائل، أقاليم/ جهات، طوائف) بانشطار أفقي (الشعب ضد النظام، الكادحون والمحرومون ضد المحاسيب ولصوص السلطة) – وتسعى كذلك إلى مدّ هذا الانشطار الأفقي من المجتمع المدني إلى داخل أجهزة الدولة بالذات. وتصبح القضية المفصلية في هذا السياق قدرة القيادة الثورية على بسط هيمنتها المضادة في صفوف الأجهزة المسلحة من جيش وشرطة، ونقل الانشطار الاجتماعي إلى داخلها، وذلك بكسب عطف القاعدة والمراتب الدنيا المؤلفة من أبناء الشعب الكادح، وسلخها عن هيمنة القمة المنتفعة من النظام. هذا هو الشرط المصيري الذي يتيح أن تنشطر الأجهزة المسلحة أثناء الثورة وتنتقل صفوفها القاعدية إلى جانب الثورة ضد النظام. ومن نافل القول إنّ قيادة ثورية كالتي وصفنا لا توهم الشعب بوقوف القيادة العسكرية إلى جانب الثورة كما أوهمت شعب مصر القوى المهيمنة في انتفاضة 25 يناير 2011، وكانت تقصد بهتاف “الجيش والشعب يد واحدة” الجيش بأكمله وعلى رأسه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بينما قصدت أقلية ثورية بالجيش جنوده الموجودين في ميدان التحرير، أملًا منها بأن يتمرّدوا على قيادتهم في حال أمرتهم بقمع المحتشدين.
إنّ تحقيق جملة الشروط المذكورة هو ما يسمح بقلب النظام جذريًا بأقل الخسائر المادية والبشرية الممكنة وبلا انهيار كامل لوظائف الدولة الرئيسية. وهو ليس أمرًا سهلًا بالتأكيد، لكنه ليس مستحيلًا أيضًا. وقد شهد تاريخ الثورات عدة حالات من هذا القبيل، منها في منطقتنا الثورة الإيرانية في عام 1979، حتى لو كانت قيادتها أصولية إسلامية بما أدّى بالمخاض الثوري إلى توليد نظام رجعي حلّ فيه رجال الدين محلّ الشاه وحاشيته. وإذا نظرنا إلى التاريخ الحديث لدولة مصر التي تطغى فيها أجهزتها المسلحة، رأينا أنّ الانتفاضتين الأهم اللتين سبقتا “ثورة 25 يناير” هما “انتفاضة العيش” لسنة 1977 في عهد السادات وانتفاضة الأمن المركزي (“أحداث الأمن المركزي”) لسنة 1986 في عهد مبارك. وكانت هذه الأخيرة انتفاضة لمجنّدي الأمن المركزي ذات طابع طبقي جليّ. وحتى في ظل الردّة الاستبدادية العنيفة التي تعيشها البلاد الآن، فقد شهدت مصر حركات تمرّد في صفوف رجال الشرطة في صيف 2015، تجلّى فيها مرة أخرى الانشطار الطبقي الذي يمرّ داخل الأجهزة المسلّحة مثلما يمرّ داخل المجتمع بأسره (انظر كتابي أعراضٌ مَرَضية).
إن مستقبل السيرورة الثورية الطويلة الأمد التي انطلقت من تونس في كانون الأول/ ديسمبر 2010 واجتاحت عموم المنطقة العربية مرهونٌ بقدرة القوى التقدّمية على تحقيق هيمنة مضادة في المجتمع، أو إحياء هذه الهيمنة المضادة إذ سبق أن تحققت خلال انتفاضة سنة 2011 قبل أن تتلاشى في مرحلة الثورة المضادة التي تلت. وهو مستقبل مرهونٌ على الأخص بقدرة تلك القوى التقدمية على مدّ هيمنتها المضادة إلى داخل أجهزة الدولة، ولا سيما الأجهزة المسلحة، بحيث تستطيع شلّ النظام وهزمه بأقل تكلفة بشرية ممكنة وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة تحوز مقوّمات الدولة الأساسية، من دون انفلات أمني وانهيار اقتصادي وأزمة معيشية حادة. هكذا فقط يمكن إسقاط النظام والشروع في إعادة تركيب الدولة من دون أن تنهار وظائفها التي يحرص عليها المجتمع.
اقرأ أيضا