الدعارة [في معجم النسوية النقدي [*]
بقلم: كلودين لوغاردينييه Claudine LEGARDINIER
تمثل الدعارة أحد ابشع أوجه اضطهاد النساء في النظام الرأسمالي عبر العالم. وهي أحد مجالات النضال من أجل تحرر النساء. لكن قلما تحظى باهتمام يتناسب مع جسامتها، إذ يلاحظ أن الحركة النسائية المغربية، والحركة الحقوقية المحلية بوجه عام، لا تزال دون إيلاء الموضوع قدرا من الاهتمام متناسب مع أهميته. سعيا لتسليط الضوء على الأمر، ولاستجلاء منظور نسوي كفاحي بصدده، ننشر النص التالي، تليه نصوص من نفس الطبيعة وأخرى تتناول الحالة المغربية. [المناضل- ة].
غالبا ما جرت محاولات لتفسير الدعارة بشخص البغايا، الجزء الوحيد المرئي من جبل الجليد. وبعيدًا عن حصر البغاء في واقع شخص يتبادل خدماته الجنسية مقابل مكافأة، يمثل البغاء في المقام الأول التنظيم الوطني والدولي المربح للاستغلال الجنسي للآخرين.
الفاعلون المتورطون في نظام الدعارة كُثر: الزبائن والقوادون والدول ومجمل الرجال والنساء. هذا لأن هذه المؤسسة، الراسخة بقوة في البنيات الاقتصادية، هي في الآن ذاته جزء متجذرة في العقليات الجماعية. وتمثل مجموعة التمثلات والأساطير المحيطة بالدعارة، والتي تشجعها وتضفي عليها الشرعية، أحد عواملها الأساسية. يرى التحليل النسوي في الدعارة الوضع الأكثر تطرفًا لعلاقة السلطة بين فئات الجنس. وإذ توضع النساء في موقع أشياء، وبالتالي يُخضَعن للعنف، يجري تشييؤهن في خدمة جنسانية الرجل المعفاة من أي مسؤولية (اليونسكو/ UNESCO/FAI, ، ندوة مدريد، 1986). تاريخيًا، جرى اختزال الدعارة إلى كليشيه. فضلا عن حقيقة أن أقدم مهنة في العالم ليست كذلك – هي بالأحرى بمهنة الراعي أو القابلة – تكمن وظيفة هذا الكليشيه في الدعوة إلى القدرية وتجنب أي تساؤل حول موضوع مضايق. في الواقع، يرتبط البغاء بالتمدن الهائل، وظهور المجتمع التجاري، وكان دائمًا مصدر إحراج للحكومات التي كانت ممزقة بين الحظر والتنظيم، وميالة إلى إلقاء اللوم على البغايا وحدهن، المحبوسات والمدانات والمحتقرات. في هذا الصدد، كانت فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المنظّر الأكبر للحبس. فقد كانت السلطة البرجوازية، المسكونة بهاجس حماية الجسد الاجتماعي من المخاطر الصحية (الزهري) والفوضى الجنسية (الزنا)، جعلت من بيوت الدعارة أحد أعمدة سياستها (Corbin, 1978). بعد أن أطلقتها في العام 1870 المرأة الإنجليزية جوزفين بتلر Josephine Butler، التي صدمها نظام التفتيش البوليسي والطبي المفروض أيضًا على البغايا في بريطانيا، والذي يجعل كل امرأة عاهرة بالقوة، اكتسبت الحملة من أجل إلغاء تقنين البغاء أهمية دولية. في مطلع القرن العشرين، أصبح إلغاء البغاء أحد الأهداف الرئيسية للحركة النسوية، وجرى دمج المسألة في النضال العالمي من أجل حقوق النساء والسِّلم، قبل أن تزول من مجال الانشغالات في الأربعينيات. وفي العام 1975، مع تنظيم البغايا للدفاع عن حقوقهن، استعادت المسألة مرة أخرى حدتها. كان النقاش حيويًا. حارب العديد من النسويات البغاء باعتباره انتهاكًا لحقوق الإنسان وحتى جريمة ضد النساء (Barry, 1979).
عصر الابتذال
تظل الدعارة بنحو عميق من المحرَّمات. إذا كانت المسألة قد عادت إلى الظهور في الثمانينيات، فقد كان ذلك من وجهة نظر الصحة العامة، لأن ظهور مرض الإيدز بعث مخاوف تعيد إلى الأذهان تلك التي سادت في القرن التاسع عشر مع مرض الزهري. والدليل على ذلك العزم الواهن على إعادة فتح بيوت الدعارة المغلف بأسمال الحداثة. إن بعض الإجراءات التي جرى تنفيذها بتمويل من منظمة الصحة العالمية، مثل ”حافلة النساء“، تتجه نحو الاعتراف بالدعارة كمهنة، الأمر الذي نددت به في فرنسا حركة ”نيد Nid “ والجمعيات النسوية. كل شيء يصب في جعل الدعارة أمرًا مبتذلا. فالسوق الليبرالية الكبرى تعمل على احتواء وتسعير عام للملذات، والمنطق الاستهلاكي يغزو كل مجالات الحياة، وتعبير ”عاملة الجنس“ يضفي مصداقية على فكرة أن الجنس السلعة بات حقيقة لا جدال فيها في الاقتصاد الحديث. وهكذا يجري كنس كل فكرة أخلاقية، وتُطمَس كل علاقات السيطرة تحت المنطق الفرداني. وبهذا النحو جرى استبعاد الدعارة من العنف ضد النساء. وأدى وصول المزيد والمزيد من الفتيان إلى الدعارة إتمام طمس علاقات التفاوت، حتى لو كان الفتى العاهر مستبعَدًا في الواقع من مكانة الذكورة، مؤنثًا مثل المتخنث أو المتحول جنسيًا. وبالتدريج، تُحْرَف المطالب النسوية من قبل لوبي صناعة الجنس: يغدو الحق في التصرف في الجسد هو الحق في بيعه، ويُنظر إلى الحق في ممارسة البغاء كتعبير عن الحرية. وتتلاعب ”سوق الجنس“ بالجنس بتشجيع الطلب (الخلاعة والسياحة الجنسية)، ساعية اليوم إلى خلق طلب نسائي. النظام مغلق: لم تعد هناك ضحية، ولم يعد هناك جلاد. الجميع يستغل الجميع – إنها المساواة محقة أخيرًا!
عنف غير مرئي
إن تطبيع الدعارة في المجال الاجتماعي يجعل الأضرار التي تتعرض لها البغايا غير مرئية بشكل متزايد. وإن العنف بالكاد موضوع تنديد عندما يكون مرئيًا (الاتجار بالنساء والأطفال)، فإن انتهاك الحقوق الإنسانية والإساءة الكامنة في صميم علاقة البغاء لا يتم التطرق إليها أبدا، ما خلا من طرف حركات نسوية أو جمعيات مثل حركة نيد Nid: يشمل ذلك التخديرَ العاطفي، وانفصامَ الشخصية، وشعورَ عدم الأمان، والخوفَ المستمر، والإهانات، والقرف، وتدمير الصورة الذاتية. يحجب الصمتُ التدهورَ البطيء والعميق لحياة البغايا الجنسية والعاطفية. الدعارة عنف غير مرئي، على غرار ما كانت أشكال عنف أخرى (الاغتصاب، سفاح القربى، عنف الزوج)، وكلها تعبيرات عن حق الرجال في امتلاك النساء. ويلف نفس الصمت الزبائن الذين تم إضفاء الشرعية على سلوكهم تاريخيًا بناء على خرافات أكثرها انتشارًا ”تجنب الاغتصاب“. وتظل السرية التي تحيط بممارساتهم، باسم ”الخصوصية“، محمية جدا. ”السيطرة الذكورية، شأنها شأن كل سيطرة، مهيكلة حول غموض ممارسات المسيطرين»( Welzer-Lang, 1996). و هذا يؤكده الغيابُ شبه التام للدراسات والأبحاث. ومع ذلك، سيكون من الضروري قياس عواقب استخدام الدعارة على العنف الذكوري. وتجدر الإشادة هنا بالعمل الرائع الذي أنجزه السويدي سفين أكسل مانسون Sven Axel Månsson (1986) في هذا المجال.
أوروبا القوادين
على الصعيد الأوروبي، الرهانات حاسمة. نجحت هولندا، زعيمة نزعة التقنين، ونصيرة البغاء المنظم كخدمة عامة، في تكريس مفهوم «البغاء القسري» في النصوص الدولية، بدءًا من الإعلان الختامي لمؤتمر بكين العالمي (1995). وينطوي هذا المفهوم على وجود بغاء ”حر“، يجب فصاعدا إضفاء الطابع المهني عليه، كحجاب لإلغاء تجريم القوادة. إن هذا التمييز يختزل بذكاء أفعال نظامِ استغلال هائل في خيارات فردية، ما يصب في مصلحة القوادة بإعطائها شرعية أكبر مما كانت تجرؤ على الحلم به. والنتيجة، أن على الضحايا إثبات الإكراه الذي تعرضن له! وجرى وضع تمييزات بين بغاء البالغين وبغاء الأطفال، وبغاء النساء الأجنبيات والأوروبيات. فما يعتبر جريمة في سن 16 أو 18 سنة ناقص يوم واحد (حسب سن الرشد الجنسي المعمول به) يصبح بين عشية وضحاها عملاً تجارياً عاديا. ما هو مشروع في بلدان الشمال يجب أن يحارَب في بلدان الجنوب. إن كل التمييزات في مضمار محاربة بعض أشكال الدعارة لها وظيفة إضفاء الشرعية على الدعارة بحد ذاتها. ترفض ماري- فيكتوار لويس Marie-Victoire Louis (1997) أي تمييز بين البغاء الحر والقسري، قد يجرؤ على تبرير الفصل العنصري بموافقة البعض على استعبادهن، وتدافع عن مشروع سياسي حقيقي يرفض أي تسليع للجسد والجنس. ألا يمكن معارضة دعاة دعارة مهنية ”حرة“ الذين يتذرعون باستعادة كرامة المومسات، بــ”الكرامة“ الممنوحة للصناعة التي تستغلّهن (Raymond, 1995)؟ في الآن ذاته، يقترح مكتب العمل الدولي (ILO) إدراج البغاء في تنظيم العمل، موصيًا بإلغاء الجوانب الأشد صدما، أي بغاء الأطفال (Lim, 1998). وبهذا النحو، جرى الاعتراف بالبغاء رسميًا كحل قابل للتطبيق لمشاكل النساء. وموازاةً، جرى إقرار شرعية نظام الدعارة تدريجيًا من خلال القانون (القانون البلجيكي الصادر في 13 أبريل 1995)، ويتمثل انحراف القانون في التركيز فقط على حالات الإيذاء الشديد أو العنف الشديد. ويتنظم الاتحاد الأوروبي لمكافحة ”الاتجار غير المشروع بالأشخاص“، ممهداً بذلك طريق الاتجار ”القانوني“ ومتخلياً عن كل إشارة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1949 ”لقمع الاتجار بالأشخاص واستغلال بغاء الغير“، التي نصت في ديباجتها على أن البغاء ”يتنافى مع كرامة الإنسان وقيمته“. وهو النص الذي أبدت فرنسا نصيرة إلغاء البغاء تمسكها به حتى الآن.
من أجل نهج ثالث
ضمن هذا المشهد، حسمت السويد أمر الدعارة بعنف. فمنذ 1 كانون الثاني/يناير 1999، جرى حظر شراء ”الخدمات الجنسية». ويستهدف القمع الزبائن الخاضعين لعقوبة سجن لمدة ستة أشهر وليس البغايا، وهذا القرار مندرج من جملة طويلة من التدابير المتخذة ضد الدعارة، ومن أكثرها ابتكاراً توفير خطوط هاتفية لمساعدة الزبائن أو مقابلات مع أخصائيين نفسيين. السويد هي الدولة الوحيدة التي أعلنت أن الدعارة عنف ضد النساء، وتدمجه في عملها السياسي والتشريعي ”من أجل سلام النساء“. ووفقًا لوزيرة المساواة بين الجنسين، مارغريتا ويمبرغ Margaretha Wimberg، «تعد معاملة شخص ما كسلعة، حتى بموافقته، جريمة“. إنه انفتاح على نهج جديد. اليوم، تبرز فكرة جديدة وجريئة لمجتمع بلا دعارة – وهي فكرة لطالما أكدت عليها حركة نيد. هذا مشروع يجب أن تدعمه إرادة سياسية حقيقية، وتنفيذ تدابير وقائية وتربوية لمعالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية عميقة الجذور للدعارة، والقضاء على العادات الذكورية، ومكافحة الاعتداء الجنسي وصنوف سوء المعاملة… لطالما كان البغاء قدَر النساء لفترة مديدة جدًا، ما يثبت فكرة أن أجسادهن متاحة دائمًا لإمتاع الآخرين، وأنهن كائنات ”من طبيعة خاضعة لجنسها»، محكوم عليها بالخدمة والاحتقار، خاضعة لما يسمى بحاجات الرجل، مستبعَدة من ملكوت الفكر والثقافة. كيف يمكن النضال، في فجر القرن الحادي والعشرين، من أجل المناصفة دون محاربة الدعارة؟
ترجمة: المناضل-ة
►►Barry Kathleen, The Prostitution of Sexuality, New York, University Press, 1995, 382 p. Legardinier Claudine, La prostitution, Toulouse, Milan Les Essentiels, 1996, 64 p. Louis Marie-Victoire, À propos des violences, de la prostitution, de la traite, de la sexualité, Chronique feministe, mai-juin 1997, p. 12-21.Montreynaud Florence, La prostitution, un droit de l’homme ?, Le Monde diplomatique. Manière de voir, mars-avril 1999, n° 44, p. 19-21. Ray-mond Janice, Rapport au rapporteur spécial sur la violence contre les femmes, Genève, ONU, 1995, 24 p. UNESCO/Coalition against Trafficking in Women, The Penn State Report, 1991, 40 p.
اقرأ أيضا